الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

على الضرورية الحيوية الجماعية.

وكما أن من (سَبِيلِ اللهِ) سائر السبل الربانية ، كذلك سبيل الحاجة الحيوية الشخصية فرضا وندبا كالتوسعة على العيال ، إلا أن تكون هناك سبيل هي أوجب للسالكين إلى الله.

ذلك ، فأين الكانزون ، والبخلاء عن حقوق الفقراء ، المسرفون والمبذرون في أموال الناس من أحبار ورهبان ، وأين أئمة الحق الذين يخشون الله في ظلم الناس بأموالهم ، وكما عن إمام المتقين علي أمير المؤمنين (عليه السلام).

«والله لئن أبيت على حسك السعدان مسهّدا ، وأجرّ في الأغلال مصفّدا ، أحب إلي من أن ألقي الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد ، وغاصبا لشيء من الحطام ، وكيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى قفولها ، ويطول في الثرى طلولها ـ

والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعا ، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما سوّدت وجوههم بالعظلم ، وعاودني مؤكدا ، وكرر على القول مرددا ، فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقا طريقتي ، فأحميت له حديدة ، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها ، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها وكاد أن يحترق من ميسمها ، فقلت له : ثكلتك الثواكل يا عقيل ، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه ، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه ، أتئن من الأذى ولا أئن من لظى ، وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعاءها ، ومعجونة شنئتها ، كأنما عجنت بريق حية أو قيئها ، فقلت : أهبة أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت ، فقال : لا ذا ولا ذاك ، ولكنها هدية ، فقلت : هبلتك الهبول ، أعن دين الله أتيتني لتخدعني ، أمختبط أم ذو جنة أم تهجر ، والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته ، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ، ما لعلي

٦١

ونعيم يفنى ، ولذة لا تبقى ، نعوذ بالله من سبات العقل ، وقبح الزلل وبه نستعين» (الكلام ٢١٥).

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ

٦٢

اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ

٦٣

فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)(٥٢)

٦٤

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(٣٦).

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) لكل سنة (عِنْدَ اللهِ) قرارا تكوينيا وآخر تشريعيا (اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) في تكوينه وتشريعه ، منذ (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وأدار الأرض والشمس والقمر ، عوامل حركية ثلاثة لمظاهر الزمن أياما وشهورا وسنين (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ).

ذلك ، وأساس هذه الشهور هي الأهلة دون الشهور الشمسية ، فقد (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (٢ : ١٨٩) كما والشهر بمختلف صيغة الواردة في القرآن عشرين مرة أخرى لا يعني به إلّا القمري لا سواه ، ومن نصوصها (شَهْرُ رَمَضانَ) (٢ : ١٨٥).

ذلك ، وقد تتأيد عناية القمرية منها بأن حساب الشهور الشمسية حديث ، وهنا (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) يحول عدة الشهور إلى بداية الخلق.

وهنا (كِتابِ اللهِ) هو أولا كتاب التكوين لمكان (يَوْمَ خَلَقَ ..) ثم التشريع على هامشه في كل شرائع الله ، لا فقط الشرعة القرآنية.

وهكذا (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) (١٠ : ٥) حيث قرر تقدير منازل القمر وسيلة ظاهرة محسوسة لمعرفة السنين والحساب.

وهنا المناسبة لهذه المحاسبة الثقيلة أن المؤمنين أمروا بجهاد الروم وحلفاءهم من نصارى العرب في شمال الجزيرة ـ غزوة تبوك ـ وكان ذلك في رجب المنسأ وهو جمادى الآخرة ولكن ملابسة ماكرة كانت تمنع عن هذه الغزوة وهي أن رجب في هذا العام لم يكن بسبب النسيء في موعده الحقيقي بحساب الأشهر القمرية ، فكأن رجب كان في جمادى الآخرة ، أو كان محرما كان في صفر ، على اختلاف بين رجب ومحرم من حيث

٦٥

كونه من الأشهر الحرم.

فلذلك بزغت الآية بتثبيت الأشهر القمرية كأوقات شرعية ثم التالية حملت على النسيء.

وهنا (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) كيوم واحد ، ثم في آيات أخرى (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) مما يبرهن على أن «يوم» هنا وهناك هو مطلق الزمان المقدر بأقداره حسب مختلف المقدارات فيه ، ف (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) يعني مجموعة الأيام الستة اعتبارا بجمع الخلق ، ثم الستة اعتبارا بأجزاء الخلق ، المفسرة المفصّلة في فصّلت فراجع.

(مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) فما هي؟ هي طبعا أربعة محترمة لساحة الحج فهي إذا «رجب ـ ثم ـ شوال ـ ذو القعدة ـ ذو الحجة» كما يروى (١) فالأول لحرمة خاصة العمرة مهما عمت في سائر الشهور ، والثلاثة المتواصلة لمجموع الحج والعمرة ولا سيما حج التمتع.

أم والمحرم بديل شوال ، كما يروي في أخرى (٢) ، واستثناء شوال

__________________

(١) كما في نور الثقلين ٢ : ٢١٤ في الكافي عن تفسير القمي بسند مسندا عن زرارة قال كنت قاعدا إلى جنب أبي جعفر (عليه السلام) وهو محتب مستقيل الكعبة فقال : أما إن النظر إليها عبادة فجاءه رجل من بجيلة يقال له عاصم بن عمر فقال لأبي جعفر (عليه السلام) إن كعب الأحبار كان يقول : إن الكعبة تسجد لبيت المقدس في كل غداة فقال أبو جعفر (عليه السلام) : فما تقول فيما قال كعب؟ فقال : صدق القول ما قال كعب فقال أبو جعفر (عليه السلام) كذبت وكذب كعب الأحبار معك وغضب ، قال زرارة ما رأيته استقبل أحدا يقول : كذبت ـ غيره ثم قال : ما خلق الله بقعة في الأرض أحب إليه منها ـ ثم أومى بيده نحو الكعبة ـ ولا أكرم على الله تعالى منها ، لها حرم الله الأشهر الحرم في كتابه يوم خلق السماوات والأرض ثلاثة متوالية للحج : شوال ـ ذو القعدة ـ ذو الحجة وشهر مفرد للعمرة : رجب.

(٢) في الدر المنثور ٣ : ٢٣٤ عن أبي بكرة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب في حجته فقال : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي ـ

٦٦

لا يضر بزمن من الحج والعمرة ، ولأن (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) هي الثلاثة الأولى ، ثم و «رجب» غرة العمرة فقد ترجّح الأربعة الأولى على الأخيرة ، وما لفظة «المحرم» بالتي تدمجها فيها ، ودعوى الإطباق بين الفريقين على الثانية لا نعرف لها وجها إلا نفس الإطباق المدعى ، إلّا أن المتواتر معنويا في الآثار عدّ المحرم من هذه الأربعة ، إضافة إلى تظافر النقل عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من عترته (عليهم السلام) على ذلك ، فالأشبه إذا عد المحرم منها بديلا عن شوال ، ومما يرجحه أن الحجيج بعد ختام شعائرهم يظلون أياما أم أكثر بعد ذي الحجة في الحرم ، فقد يناسب كون المحرم من الأربعة الحرم ، وأما شوال فالوافدون فيه للمناسك قلة ، أم هم لأقل تقدير أقل بكثير من الباقين بعد ذي الحجة.

وقد يفضل المحرم مرة أخرى لمكان (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) بعد (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) حيث الظاهر منها هو التلاحق فيها.

وعلى أية حال فقلب الأشهر الحرم هو ذو الحجة الحرام ، وقد خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه خطبته الغراء قائلا أيها الناس هل تدرون في أي شهر أنتم وفي أي يوم أنتم وفي أي بلد أنتم؟ قالوا : في يوم حرام وشهر حرام وبلد حرام ، قال : فإن دماءكم وأموالكم

__________________

ـ بين جمادي وشعبان ، وفيه عن ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مثله.

وفي نور الثقلين ٢ : ٢١٥ في تفسير العياشي عن أبي خالد الواسطي عن أبي جعفر (عليه السلام) حدثني أبي علي بن الحسين عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما ثقل في مرضه قال : أيها الناس أن السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ، ثم قال بيده : رجب مفرد وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاث متواليات ...

أقول : فهاتان روايتان حول (أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) وهنا ثالثة في الخصال عن أبي عبد الله (عليه السلام) تقول : منها أربعة حرم : عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر وتأويلها أنها حرم خاص ب (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ... فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ).

٦٧

وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه ثم قال : اسمعوا مني تعيشوا : ألا لا تظالموا ، ألا لا تتظالموا ، إنه لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه ، ألا إن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة(١).

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) وقد تعني إلى (أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (عِدَّةَ الشُّهُورِ ..) فالدين القيم الثابت الذي لا حول عنه في شرعة الله هو اعتبار الشهور هكذا إثنا عشر شهرا ، ثم و (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) والقدر المعلوم من مرجع ضمير الجمع هو (أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) حيث حرم فيها القتال هجوميا أو انتقاميا اعتداء بالمثل ، وإنما (قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) فيهن دفاعا مضيقا وفي غيرهن موسعا (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) إياه في سلبية القتال وإيجابيته بحدوده ، وهكذا في كافة السلبيات والإيجابيات.

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٣٤ ـ أخرج أحمد والباوردي وابن مردويه عن أبي حمزة الرقاشي عن عمه وكانت له صحبة قال : كنت آخذا بزمام ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أوسط أيام التشريق أذود الناس عنه فقال : أيها الناس ... وأن أوّل دم يوضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل ـ ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوع ، وإن الله قضى أن أوّل ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، ألا إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السماوات والأرض ، ألا وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا أن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكنه في التحريش بينكم واتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم لا يملكن لأنفسهن شيئا وان لهن عليكم حقا ولكم عليهن حقا لا يوطئن فراشكم أحدا غيركم ولا يأذنّ في بيوتكم لأحد تكرهونه فإن خفتم نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف وإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من أئتمنه عليها وبسط يديه وقال : اللهم قد بلغت ألا هل بلغت ، ثم قال : ليبلغ الشاهد الغائب فانه رب مبلغ أسعد من سامع.

٦٨

ذلك ، ولتحليق «فيهن» على كل (اثْنا عَشَرَ شَهْراً) وجه على هامش (أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) فالظلم فيها مضاعف وفي سائر الأشهر موحّد غير مضاعف ، إلّا أن يضاعف بملابسات أخرى.

وقد يدل (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) على وجوب الحفاظ على عديد (اثْنا عَشَرَ شَهْراً) دون تبديل للسنة إلى غيرها ، وكذلك قمريتها ، وحرمة (أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) دين قيم في حقل الزمن بمثلث الزوايا ، فالمتخلف عنها كلها أم بعضها متخلف عن (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) المكتوب في كتابي التكوين والتشريع ، ومن التخلف في (أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) النسيء بحساب الأشهر غير القمرية على حساب الشمس.

ذلك ، ومن (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) الأئمة الاثنى عشر الذين هم تأويل الشهور الاثنى عشر حسب المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «الأئمة بعدي اثنا عشر» (١)

«حجج الله على الخلق بعدي إثنا عشر» (٢) «أوصيائي بعدي إثنا عشر أولهم علي وآخرهم المهدي» (٣) «يملك من ولدي إثنا عشر خليفة» (٤) «اثني عشر كعدد نقباء بني إسرائيل» (٥) فقد «نص بإمامتهم وهم إثنا عشر» (٦) «فنظرت فرأيت إثنا عشر نورا وفي كل نور سطر أخضر عليه اسم وصي من أوصيائي» (٧).

ذلك ، وقد نجد مواصفاته التي لا تحدّ ولا تحصي في ألفين من مؤلفات إخواننا أو تزيد ، كما فصلت في ملحقات إحقاق الحق.

__________________

(١) ملحقات إحقاق الحق ١٣ : ١ ـ ٧٤ و ١٩ : ٦٢٨ ـ ٦٣٢.

(٢) المصدر ٤ : ٩٤.

(٣) المصدر ٤ : ١٠٣ ، ٣٦٥ و ١٣ : ٦٩ و ٢٠ : ٥٣٨.

(٤) المصدر ١٣ : ٧٤ و ٧ : ٤٧٧ و ١٣ : ١ ـ ٨ ، ١٦ ـ ١٧ ، ٢٠ ـ ٢١ ، ٣١ ـ ٣٢ ، ٣٥ ، ٤٧ ، ٧٤.

(٥) المصدر ١٣ : ٤٤ ـ ٤٥ و ١٩ : ٦٢٩ ـ ٦٣٠.

(٦) المصدر ١٣ : ٥٦ ، ٧١ و ١٣ : ٤٩ ـ ٧٤.

(٧) المصدر ٥ : ٩٣.

٦٩

(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) قتلا يكف عنكم بأسهم ، وعلّ تاءها للمبالغة عناية إلى مبالغة الكف في ذلك القتال (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) قتلا يكف عنهم بأسكم ، فلا تعني «كافة» الجميع ، وإنما هي القتال الكافة حيث تكف عنكم بأسهم ، فهي ـ إذا ـ حرب دفاعية.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) على أية حال وهنا في مسرح القتال ، في أصله وفي زمنه وفي كمه وكيفه ، تجنبا عن قتال الذراري والعجزة والصبيان ومن ألقى إليكم السلام (١) وقتال من لا يقاتلكم ولا هو فتنة عليكم.

وهنا «المشركين» كما المشركين (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) سواء دون شمول لأهل الكتاب حيث الصيغة الصالحة للشمول «الكافرين» و «المشركين» تعني في مصطلح القران العبّاد الرسميين للأوثان دون كل المنحرفين عن التوحيد ككفرة أهل الكتاب ، وقد قوبل بينهما في البينة : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ).

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٣٧).

النسيء هنا هو الشهر المؤخر حيث تعودت الجاهلية لتنسئ من الأشهر الحرم مصلحية تحليل القتال فيها أو سماح الحج ، حيث كانت تعرض حاجات لبعض قبائل العرب تتعارض مع تحريم هذه الأشهر ، وهنا تتلاعب الأهواء ويقوم من يفتي باستحلال أحد الأشهر الحرم عن طريق تأخيره في عام وتقديمه في آخر ، فطالما عديد الأشهر الحرم يبقى أربعة

__________________

(١) خلاف ما قتل خالد في حنين امرأة فأرسل إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينهاه مشددا ، وقتل رجالا قد اسلموا من بني جذيمة فتبرء النبي إلى الله من فعلته ثلاثا ، وقتل أسامة يهوديا أظهر له الإسلام فنزلت : «وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ..» (٤ : ٩٤).

٧٠

ولكن أعيانها كانت تتبدل بتبديل الأسماء في ذلك النسيء التأخير (١).

ولقد كان في العام التاسع من الهجرة رجب الحقيقي غير رجب ، وذو الحجة غير ذي الحجة ، فرجب واطئ جمادي الآخرة وذو الحجة واطئ ذو القعدة ، وكان نفر الجهاد فعلا في جمادي الآخرة واقعا وفي رجب مختلفا ، فرشقت سهام هذه النصوص على تلك الجاهلية الحائرة المائرة إبطالا للنسيء عن بكرته حيث كان خلاف سنة التكوين والتشريع (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ)(٢).

ولقد زاد هذا الكفر ركاما على جاهلية الإشراك فأصبح (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) حيث كانوا (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) كأنهم هم المشرعون أمام الله ، والقصد من تراوح التحليل والتحريم (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) فيه القتال (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) بذلك النسيء.

فقد جمعوا إلى تحويل موضوع التحريم بذلك النسيء أصل التحليل والتحريم به ، احتيالا حائلا عن تحليل الله وتحريمه ، ولذلك استحقوا ذلك التنديد الشديد المديد.

وليسوا هم فحسب ، هكذا كل المحتالين في الأحكام والموضوعات

__________________

(١) في مجمع البيان قال مجاهد : كان المشركون يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي الحجة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكذلك في الشهور حتى واقفت الحجة التي قبل حجة الوداع في ذي القعدة ثم حج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في العام القابل حجة الوداع فوافقت ذا الحجة فذلك حين قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته : ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض السنة إثنا عشر شهرا منها أربعة حرم .. حيث أراد بذلك أن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء ، وفي كتاب الخصال عن عبد الله بن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كلام من خطبة له (صلى الله عليه وآله وسلم) (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) فإن النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا ... وكانوا يحرمون المحرم عاما ويستحلون صفر عاما ويحرمون صفر عاما ويستحلون المحرم ، أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلادكم ، أقول : وهذا النسيء داخل في طليقه خارج عن مورده في الآية (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ).

٧١

الشرعية تسميته لها بالحيل الشرعية ، ولا حيلة للشرع في تحليل ما حرم أم تحريم ما حلّل ، وإنما الحيلة لهذه الأغباش الأنكاد الذين ينسبون حيلهم المحرمة إلى الشرع نفسه استرواحا في جريمتهم البشعة المتصورة بصورة الفتوى ، أو العملية الشرعية مثل الحيل المختلقة في حقل الربا وما أشبه ، هزء سافرا بأحكام الله!.

والنسيء الكافر على نوعين ، أحدهما احتساب الأشهر حسب سير الشمس ، وثانيهما تناسي بعض الأشهر في العدّ وتسمية البعض باسم الآخر إنساء قاصدا ليواطئوا عدة ما حرم الله.

وتعودا على ذلك النسيء خيل إلى ضعفاء من المؤمنين أن الحرب محرمة اعتبارا بأن جمادي الآخرة المحمولة إلى رجب هو في الحق رجب فاستحرموا فيه القتال ، ولذلك تشدّد النكير عليهم وعلى مختلقي النسيء هكذا ، وهكذا (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) حيث زين لهم الشيطان أعمالهم وكانوا مستبصرين كما وزين الله جزاء وفاقا أن لم يصد الشيطان عن ذلك التزيين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)(٣٨).

رغم أن قضية الإيمان بالله الترقب لأمر الله تحقيقا له حقيقا بالإيمان ، نرى جماعة من الذين آمنوا يتثاقلون عن أمر النفر في سبيل الله إلى أرض الحياة الدنيا المتاع (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ).

ذلك ، ومع العلم أن متاع الحياة الدنيا في الآخرة لا كثير ولا قليل إذ لا ينفع أصحابه ما لم يقدموه لها ، وما قدموه فهو كثير غير قليل ، فكيف يعتبر هنا في الآخرة قليلا.

__________________

(٢) الدر المنثور ٣ : ٢٣٧ ـ أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال : فرض الله الحج في ذي الحجة وكان المشركون يسمون الأشهر ذوا ـ

٧٢

علّ «في» هنا لظرف القياس دون واقع لمتاع الحياة الدنيا في الآخرة ، فهو قياسا إلى متاع الآخرة قليل ضئيل وكما (فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) (١٣ : ٢٦).

أم و «قليل» في واقعة ، فإن قليلا من المؤمنين يقدمون متاع الحياة الدنيا بكاملها أو أكثرها إلى الآخرة كمتاع فالمتاع الأول متعة بعيدة (١) ككل

__________________

ـ الحجة والمحرم إلى ذوا الحجة ثم يحجون فيه ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه ثم يعودون فيسمون صفر صفر ثم يسمون رجب جمادي الآخرة ثم يسمون شعبان رمضان ورمضان شوال ويسمون ذا القعدة شوال ثم يسمون الحجة ذا القعدة ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم يحجون فيه واسمه عندهم ذو الحجة ثم عادوا مثل هذه القصة فكانوا يحجون في كل شهر عاما .. ثم حج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حجته التي حج فيها فوافق ذو الحجة فذلك حين يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته : إن الزمان قد استدار ...

وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال : كان رجل من بني كنانة يقال له جنادة بن عوف يكنى أبا أمامة ينسئ الشهور وكانت العرب يشتد عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغير بعضهم على بعض فإذا أراد أن يغير على أحد قام يوما بمنى فخطب فقال : إني أحللت المحرم وحرمت صفر مكانه فيقاتل الناس في المحرم فإذا كان صفر عمدوا ووضعوا الأسنة ثم يقوم في قابل فيقول : إني قد أحللت صفر وحرمت المحرم فيواطئوا أربعة أشهر فيحلوا المحرم.

(١) ويؤيده ما في الدر المنثور ٣ : ٢٣٦ ـ أخرج الحاكم وصححه عن المستورد قال : كنا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتذاكروا الدنيا والآخرة فقال بعضهم : إنما الدنيا بلاغ للآخرة فيها العمل وفيها الصلاة وفيها الزكاة وقالت طائفة منهم : الآخرة فيها الجنة وقالوا ما شاء الله فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم فادخل أصبعه فيه فما خرج منه فهي الدنيا ، وفيه أخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله جعل الدنيا قليلا وما بقي منها إلا القليل كالثقب في الغدير شرب صفوه وبقي كدره. وفيه في وصف الدنيا كأصل عن ابن مسعود أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نام على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو اتخذنا لك فقال : ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها ، وفيه عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب أخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى ،

٧٣

عن الآخرة ، والثاني متاع التجارة أن تشترى به الآخرة ، والفارق أنه للكافرين (مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٦ : ١١٧) : متعة قليلة ، وللمؤمنين متاع في الآخرة حسب مساعيهم إن كثيرا فكثير وإن قليلا فقليل ، ومما يقلّل متاع الحياة الدنيا للمؤمنين أن يتثاقلوا عن الجهاد في سبيل الله بأرض المعركة ، إلى أرض الحياة تطويلا لها بزعمهم ، أم تطاولا فيها بمال ومنال! إم أنه قليل بجنب متاع الآخرة وإن كان للمؤمنين الصالحين الذين يشترون به الآخرة ، متاع قليل يشترى به متاع كثير وقد يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته حتى يرضي ربه ، وبئست الدار لمن صدّته عن آخرته وقصرت به عن رضى ربه وإذا قال العبد قبح الله الدنيا قالت الدنيا قبح الله أعصانا لربه (١).

ذلك ، فما الذي أثقلهم حينذاك عن النفر لقتال الروم؟ إنه شدة الحر ، وطيبة ثمار المدينة وقتذاك ، وبعد المسافة وشقة الطريق واستعظام الروم ، فاثّاقلوا ـ إذا ـ إلى الأرض كأنهم رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة ، وإنها ثقلة أرض الحياة الدنيا ومطامعها ومطامحها ، ثقلة الخوف على حياة وزخرفاتها ولذائذها ومصالحها ومتعها ، ثقلة الدعة والأريحية المستقرة المستغرّة ، والعبارة تحمل لكل ثقلة كهذه وما أشبه بجرس اللفظ وقرص المعنى «اثاقلتم» : افتعال الثقل إلى السفل الثفل ، رغم الإيمان بالعلو ، غلبا لجاذبية الأرض على السماء ، وسلبا لرفرفة الأرواح وانطلاقة الأشواق.

__________________

ـ وعن أبي مالك سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : حلوة الدنيا مرة الآخرة ومرة الدنيا حلوة الآخرة.

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٣٨ عن سعد بن طارق عن أبيه قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ... وفيه عن سهل بن سعد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغط رجلا فقال : ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس ، وعن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الدنيا سجن المؤمن وسنته فإذا خرج من الدنيا فارق السجن والسنة.

٧٤

فالنفرة للجهاد هي انطلاقه من ثقل الأرض وقيدها ، تطلعا إلى علو السماء عن كيدها وميدها ، فما من مؤمن اثاقل إلى الأرض عن نفر الجهاد إلّا وفي إيمانه دخل وخلل ، حيث الحياة الإيمانية كلها جهاد ، ولقد (قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) (٩ : ٨١) فما دائكم وما دواءكم؟!

(إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٣٩).

وهنا تهديد مديد بعد تهديد ، متواصلا في آيات عدة ليعدوا للجهاد عدّة وعدّة ، ف «إلا تنفروا» للجهاد (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) هنا وفي الأخرى ، فهنا تقلبون فتغلبون أما أشبه ، (١) وهنالك تعذبون ، ومما هنا «يستبدل» بكم (قَوْماً غَيْرَكُمْ) ممن لا يتهاون في الجهاد. ثم (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) فإن الله ليس ليغلب في المعارك فإنما أنتم تغلبون (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ف «انفروا رحمكم الله إلى قتال عدوكم ولا تثاقلوا إلى الأرض فتقروا بالخسف وتبوءوا بالذل ويكون نصيبكم الأخس ، إن أخا الحرب الأرق ـ لا ينام ـ ومن نام لم ينم عنه»(٢).

وهنا علّ (قَوْماً غَيْرَكُمْ) هم المعنيون ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٥ : ٥٤).

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٣٩ عن ابن عباس في الآية قال : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استنفر حيا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه فأنزل الله هذه الآية فأمسك عنهم المطر فكان ذلك عذابهم.

(٢) نور الثقلين ٢ : ٢١٧ عن نهج البلاغة عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام).

٧٥

فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٤٠).

لقد تعلق بآية الغار هذه متعلقون كثير بين موجبين لفضيلة غالية ل «صاحبه في الغار» لحدّ يسملون عليه في زيارتهم إياه ب «السلام عليك يا صاحب الغار» تثبيتا مبيّتا لصحبته الوحيدة بين صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك النص الجلي والقص العلي ، وكأنه هو صاحبه دون من سواه ، وآخرين سالبين عنه أية فضيلة مائلين إلى أن آية الغار عار على صاحب الغار دون افتخار ، موغلين إياه في الكفار.

ولكلّ ـ على ضوء المذهبية آراء ، علينا أن نرفضها ، ثم نقرض على ضوء الآية ما قصه الله ، سواء أكان لصاحبه في الغار أم عليه.

ذلك ومن قالات الموجبين ما ينقله صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه ويرد عليه رأسا على عقب (١) ، ومن مقالات السالبين الثالبين

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٢٠ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده إلى سعد بن عبد الله القمي عن الحجة القائم (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه (عليه السلام): يا سعد! وحين ادّعى خصمك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أخرج مع نفسه مختار هذه الأمة إلى الغار إلا علمنا منه أن الخلافة له من بعده وانه هو المقلّد أمور التأويل والملقى إليه أزمة الأمة وعليه المعول في لم الشعث وسد الخلل وإقامة الحدود وتسرية الجيوش لفتح بلاد الكفر ، فلما اشفق على نبوته اشفق على خلافته وإذ لم يكن من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشر مساعدة من غيره إلى مكان يستخفي فيه ـ

وإنما أبات عليا (عليه السلام) على فراشه لما لم يكترث له ولم يحفل به لاستثقاله إياه وعلمه انه أن قتل لم يتعذر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها! ـ فهلا نقضت دعواه بقولك : أليس قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، فجعل هذه موقوفة على أعمار الأربعة الذين هم الخلفاء الراشدون في مذهبكم ، وكان لا يجد بدا من قوله لك : بلى ، قلت له حينئذ : أليس كما علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الخلافة من بعده لأبي بكر ، أنها من بعد أبي بكر لعمر ومن بعد عمر لعثمان ومن بعد عثمان لعلي (عليه السلام) ، فكان أيضا لا يجد بدا ـ

٧٦

__________________

ـ من قوله لك : نعم ـ ثم كنت تقول له : فكان الواجب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخرجهم جميعا على الترتيب إلى الغار ويشفق عليهم كما اشفق على أبي بكر ولا يستخف بقدر هؤلاء الثلاثة بتركه إياهم وتخصيصه أبا بكر وإخراجه مع نفسه دونهم ، وفي الدر المنثور ٣ : ٢٤٠ ـ أخرج ابن عساكر عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال : خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخرج أبو بكر معه لم يأمن على نفسه غيره حتى دخلا الغار ، وفيه عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي بكر : أنت صاحبي في الغار وأنت معي على الحوض وفيه عن ابن عباس عن أبي هريرة مثله ، وفيه عن أنس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لحسان : قلت في أبي بكر شيئا؟ قال : نعم ، قال : قل وأنا أسمع ، فقال :

وثاني اثنين في الغار المنيف وقد

طاف العدو به إذ صاعد الجبلا

وكان حب رسول الله قد علموا

من البرية لم يعدل به رجلا

فضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى بدت نواجذه ثم قال : صدقت يا حسان ، وفيه عن ابن عساكر عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال : إن الله ذم الناس كلهم ومدح أبا بكر فقال : إلا تنصروه ... وفيه أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : لما كانت ليلة الغار قال أبو بكر الصديق يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعني فلأدخل قبلك فإن كانت حية أو شيء كانت في قبلك؟ قال : أدخل ، فدخل أبو بكر فجعل يلمس بيديه فكلما رأى حجرا قال بثوبه فشقه ثم ألقمه الحجر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع وبقي حجر فوضع عليه عقبه وقال : أدخل فلما أصبح قال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأين ثوبك ، فأخبره بالذي صنع فرفع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يديه وقال : اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة ، فأوحى الله إليه أن الله قد استجاب لك.

وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أبو بكر أخي وصاحبي في الغار فاعرفوا ذلك له فلو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، سدوا كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبى بكر.

وفي الدر المنثور ٣ : ٢٤١ ـ أخرج البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن ضبة بن محصن العبري قال قلت لعمر بن الخطاب أنت خير من أبي بكر؟ فبكى وقال : والله لليلة أبي بكر ويوم خير من عمر ، هل لك أن أحدثك بليلته ويومه؟ قال قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : أما ليلته فلما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هاربا من أهل مكة خرج ليلا فتبعه أبو بكر فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما هذا يا أبا بكر؟ ما أعرف ـ

٧٧

المتألبين حضرة صاحب الغار ، أنه حزن في الغار و «أخذته الرعدة وهو لا يسكن ، فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حاله قال له : تريد أن أريك أصحابي من الأنصار في مجالسهم يتحدثون فأريك جعفر وأصحابه في البحر يغوصون؟ قال : نعم ، فمسح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيده على وجهه فنظر إلى الأنصار يتحدثون ونظر إلى جعفر وأصحابه في البحر يغوصون فأضمر في تلك الساعة أنه ساحر» (١) وأنه «ما ذكره فيها بخير» حيث تقرء الآية (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ)(٢) خلاف القراءة المتواترة المثبتة في القرآن.

__________________

ـ هذا من فعلك! قال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اذكر الرصد فأكون أمامك واذكر الطلب فأكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك ، قال : فمشى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه فلما رآه أبو بكر قد حفيت حمله على كاهله وجعل يشد به حتى أتى خم الغار فأنزله ثم قال : والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك فدخل فلم ير شيئا فحمله فأدخله وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاعي فخشي أبو بكر أن يخرج منهن شيء يؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فألقمه قدمه فجعلن يضربنه وتلسعه الأفاعي والحيات وجعلت دموعه تنحدر ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول له يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته لأبي بكر فهذه ليلته وأما يومه فلما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ...

(١) المصدر في روضة الكافي مسندا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقبل يقول لأبي بكر في الغار ، اسكن فإن الله معنا وقد أخذته ...

(٢) المصدر في تفسير العياشي عن عبد الله بن محمد الحجال قال : كنت عند أبي الحسن الثاني (عليه السلام) ومعي الحسن بن جهم فقال له الحسن : انهم يحتجون علينا بقول الله تبارك وتعالى : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) وما لهم في ذلك فو الله لقد قال الله : فأنزل الله سكينته على رسوله وما ذكره فيها بخير ، قال : قلت له أنا : جعلت فداك وهكذا تقرؤنها؟ قال : هكذا قد قرأتها ، وفيه عن الرضا (عليه السلام) في الآية هكذا نقرءها وهكذا تنزيلها ، أقول : هكذا قد قرأتها يلمح بأنه قراءة التفسير لا التنزيل ، وأما «هكذا نقرءها» فقد تكون مبدلة عن الأولى ، أم كذلك يعني نقرءها تفسيرا وهكذا تنزيلها تفسيرا لا أصلا لفظيا ، وإلا فتطرح لمخالفتها لنص القرآن.

٧٨

وهنا مقالة هي عوان بينهما تجعل كلا من هذين الفرقدين عليا (عليه السلام) وأبا بكر في مكانته اللائقة به (١) تفضيلا فضيلا لفرقد

__________________

ـ وفي البحار ١٩ : ٥٥ عن مجاهد قال : فخرت عائشة بأبيها ومكانه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار فقال عبد الله بن شداد بن الهاد وأين أنت من علي بن أبي طالب حيث نام في مكانه وهو يرى انه يقتل فسكتت ولم تحر جوابا ، وفيه (٨٠) قال زرارة قال أبو جعفر (عليهما السلام) (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ) ألا ترى أن السكينة إنما نزلت على رسوله (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) فقال : هو الكلام الذي يتكلم به عتيق ، رواه الحلبي عنه.

(١) البحار ١٩ : ٨٠ عن تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) إن الله تعالى أوحى إلى النبي يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إن العلى الأعلى يقرأك السلام ويقول لك : إن أبا جهل والملأ من قريش قد دبروا يريدون قتلك وآمرك أن تبيت عليا في موضعك وقال لك : إن منزلته منزلة إسماعيل الذبيح من إبراهيم الخليل يجعل نفسه لنفسك فداء وروحه لروحك وقاء ـ

وآمرك أن تتصحب أبا بكر فإنه ان آنسك وساعدك ووازرك وثبت على ما يعاهدك ويعاقدك كان في الجنة من رفقاءك وفي غرفاتها من خلصائك ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) أرضيت أن أطلب فلا أوجد وتوجد فلعله أن يبادر إليك الجهال فيقتلوك؟ قال : بلى يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رضيت أن يكون روحي ونفسي فداء لأخ لك أو قريب .. وهل أحب الحياة إلا لخدمتك والتصرف بين أمرك ونهيك ولمحبة أوليائك ونصرة أصفياءك ومجاهدة أعدائك ، لو لا ذلك لما أحببت أن أعيش في هذه الدنيا ساعة واحدة فأقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي (عليه السلام) فقال له : يا أبا الحسن قد قرأ علي كلامك هذا الموكلون باللوح المحفوظ وقرءوا علي ما أعد الله لك من ثوابه في دار القرار ما لم يسمع بمثله السامعون ولا رأى مثله الراءون ولا خطر مثله ببال المتفكرين ـ

ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي بكر : أرضيت أن تكون معي يا أبا بكر تطلب كما أطلب وتعرف بأنك تحملني على ما أدعيه فتحمل عني أنواع العذاب؟ قال أبو بكر : يا رسول الله أما أنا لو عشت عمر الدنيا أعذب في جميعها أشد عذاب لا ينزل علي موت مريح ولا منهج متيح وكان ذلك في محبتك لكان ذلك أحب إلي من أن أتنعم فيها وأنا مالك لجميع ممالك ملوكها في مخالفتك وهل أنا ومالي وولدي إلا فداءك؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا جرم أن اطلع الله على قلبك ووجد ما فيه موافقا لما جرى على لسانك جعلك بمنزلة السمع والبصر والرأس من الجسد ومنزلة الروح ـ

٧٩

الفراش على صاحب الغار ولا يظلمون فتيلا ، فإلى تحقيق الحق المعني من آية الغار بكل تجرد وحرية ، وكما يستفاد من نفس الآية دون وصيل ودخيل من رؤية مذهبية أم رواية لا تتحملها الآية :

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ) أنتم المنافقون وسائر ضعفاء الإيمان ، في خصوص الاستنفار لحرب الروم ، أم وفي عامة المجالات على مدار الزمن الرسالي الإسلامي ، (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ ..) ومن هنا المحصور الأصيل في مسرح النصرة الربانية هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مهما لزق به لازق وصحبه صاحب (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) ماضيا هو مستمر على طول الرسالة ، نصرة حقة حقيقية منقطعة النظير ، اللهم إلّا ما كان للرسولين موسى وعيسى (عليهما السلام) ، ولكن موسى كان وليدا نجّاه الله عن أليمّ بيد عدوه ، والمسيح (عليه السلام) رفع إلى السماء ، وأما محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد هاجر إلى تأسيس دولة الإسلام عالية مرفرفة الأعلام حتى فتح مكة المكرمة.

(نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) حيث عزموا على قتله فخرج أمامهم ولم يبصروه بما نصره الله ، فهو المنصور المخرج بهذه الخارقة الربانية دون سواه ، وهو (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) ولما ذا (ثانِيَ اثْنَيْنِ) دون «أول اثنين» وهو أوّل في الفضيلة ، أول في الهجرة ، وأول في كل منقبة؟!.

(ثانِيَ اثْنَيْنِ) حال من ذلك المنصور المهجّر المهجور (صلى الله

__________________

ـ من البدن كعلي الذين هو مني كذلك وعلي فوق ذلك لزيادة فضائله وشرف خصائله ، يا أبا بكر إن من عاهد ثم لم ينكث ولم يغير ولم يبدل ولم يحسد من قد أبانه الله بالتفصيل فهو معنا في الرفيق الأعلى ، وإذا أنت مضيت على طريقة يحبها منك ربك ولم تتبعها بما يسخط ووافيته بها إذا بعثك بين يديه كنت لولاية الله مستحقا ولمرافقتنا في تلك الجنان مستوجبا ... ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) يا علي أنت مني بمنزلة السمع والبصر والرأس من الجسد والروح من البدن ، حببت إلي كالماء البارد إلى ذي الغلة الصادي ثم قال له : يا با حسن تغش ببردتي ...

٨٠