الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) وهي مع خالص المؤمنين كرامة خاصة ك «إنني معكما اسمع داري».

ف (إِنَّ اللهَ مَعَنا) لا يعني إلا أصل المعية الرحمانية المشتركة واقعيا بينهما ، أو والرحيمية الرسالية للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخرى كما تناسب صاحبة في الغار ، وقد لحقه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه المعية ليعلم أنه محافظ عليه تحت ظله برعاية الله الخاصة به فلما ذا ـ إذا ـ يحزن؟.

هذا ومسارح هذه النصرة الربانية مبينة من مصارح الآية كالتالية :

(إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ..) حيث خرج بخارقة العادة الربانية ، وستر على باب الغار بسترة العنكبوت حيث أنحوها إلى ما قبل ولاده (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ونكب من نكب فاحصا عنه.

(إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ) حيث نصر حينذاك بسكينة ربانية غالية استمرت طيلة حياته الرسولية ، وتستمر رسالته إلى يوم الدين.

(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) وهي نصرة رابعة منه تعالى لجنابه (صلى الله عليه وآله وسلم) كقلب لما احتفت بها من نصرة ، وقد تكون هذه السكينة المتميزة لمكان «سكينته» هي هي النصرة الموعودة ب (نَصَرَهُ اللهُ) و «إذ» ثلاثا دون عطف هي ظرف مواطئة مؤاتية لنزول هذه النصرة ، كما وأن (وَأَيَّدَهُ ...) من مخلفاتها ، فهي هي بعد خاصة بصاحبه في الغار سلبا عنه النصرة الموعودة له!!!.

(وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) من ملائكة وما أشبه حيث فصلوا بينهم وبينه عند خروجه عن بيته وفي الغار وعند هجرته ، وكذلك في حرب بدر وحنين والأحزاب وما أشبه.

(وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) وهي كلمتهم الخبيثة بدار الندوة حيث أجمعوا على قتله باغتياله ليلا في فراشه.

(وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) على مدار الزمن دون حاجة إلى جعل ،

١٠١

والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «بقرآنه المبين وبرهانه المتين هو من كلمات الله العليا والله عزيز حكيم».

ذلك فلم يكسب صاحبه في الغار من تلك الصحبة فضيلة إن لم تكن عليه رذيلة ، فإنه هو الذي لحقه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الغار دون اختيار منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم حزن لحد نهاه (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه واحتسب ذلك النهي نصرة له وما هي له نصرة إلا إذا كان حزنه خطرا عليه ، ثم أنز الله سكينة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) دون صاحبه وهو نصرة له (صلى الله عليه وآله وسلم) أخرى إيجابيا ، ثم سلبيا أن صاحبه ما كان في حقل الإيمان بدرجة يليق أن تشمله السكينة الربانية وهو أحوج إليها منه (صلى الله عليه وآله وسلم).

هذه مسارح سبعة لنصرته (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) دون انتصار فيها لصاحبه في الغار ولا افتخار اللهم إلا عار فوق عار لمكان (لا تَحْزَنْ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ).

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٤١).

«انفروا» لجهاد عدوكم حالكونكم «خفافا» غير مثقلين بأهلين وأموال وبنين «وثقالا» بهم مثقلين ، أو و «خفافا» يسهل لكم النفر لشبابكم وما أشبه «وثقالا» يثقل لشيخوختكم وما أشبه ، فعلى أية حال انفروا دون تثاقل إلى الأرض وأية عاذرة غادرة مما يبين أن لا عذر إطلاقا عن ذلك الجهاد من خفة أو ثقل ، اللهم إلا الأعذار القاطعة ، فقد كان ذلك استنفارا عاما لا يستثنى منه.

(وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ) التي تأخذونها معكم إلى جبهات القتال ، والتي تقدمونها إليها «وأنفسكم» هي الأخرى المقدمة لها (فِي سَبِيلِ اللهِ) دون سواه ، لغزوة الروم في تبوك أما أشبهها (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) من تثاقلكم إلى الأرض رضى بالحياة الدنيا من الآخرة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما أعد الله لكم من خير في الدارين.

١٠٢

هذا ، وذلك استنفار منقطع النظير من هذا البشير النذير لحرب منقطعة النظير ، وفي جو مظلم من الدعايات المضللة ضدها ، المثقلة إلى الأرض فيها.

فهنا (خِفافاً وَثِقالاً) حالان تشملان كافة الأحوال لكل المسلمين حينذاك ، قطعا لكل المعاذير غير العاذرة ، ف (جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) تستنفر كل الأموال والأنفس ، من جامع بينهما في ذلك الجهاد ، ومن معذور في أحدهما ، فرضا عليه الجهاد بالآخر ، حضورا في المعركة بهما كليهما ، أم بأموالكم إن لم تقدروا بأنفسكم ، أم بأنفسكم إن لم تكن لكم أموال ، استقطابا لكافة الطاقات والإمكانيات في ذلك الاستنفار العام لكافة القوات الإسلامية عن بكرتها.

أجل (انْفِرُوا خِفافاً) : ناشطين ـ قليلي العيال ، خفافا من السلاح ، مشاة ، شيوخا ، شبابا ـ ومهازيل ومراضا أما أشبه «وثقالا» يقابلها : شاقة عليكم ، ثقيلي العيال ، ثقيلي السلاح ، ركبانا ، شيوخا وسمانا وصحاحا.

وقد قدمت (خِفافاً وَثِقالاً) تأكيدا على النفر ، أو كان النفير الخفاف متقدمين كما «رجالا» في الحج على (كُلِّ ضامِرٍ) تشجيعا للاتجاه إلى المفروض وكأنه على الضعفاء قبل الأقوياء.

إذا ف (خِفافاً وَثِقالاً) تعم الجميع نفرا في كل حال دون التماس حجج ومعاذير أو خضوع للعوائق والتعلات ، وكما عن ابن أم مكتوم انه قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعلي أن أنفر؟ قال : ما أنت إلا خفيف أو ثقيل ـ فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه فنزل قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ)(١).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ١٦ : ٧٠ وفيه قال مجاهد : إن أبا أيوب شهد بدرا مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يتخلف عن غزوات المسلمين ويقول قال الله : «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً» فلا أحدني إلا خفيفا أو ثقيلا ، وعن صفوان بن عمرو قال : كنت واليا على حمص فلقيت شيخا قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو ، قلت يا عم ـ

١٠٣

وقد خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له : إنك عليل صاحب ضرر ، فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل فإن عجزت عن الجهاد كثّرت السواد وحفظت المتاع (١).

ذلك ، ولأن الآية في موقف الاستنفار العام فلا تنسخ ولا تنسخها آيات العذر من عمى وما أشبه ، فلكلّ دور يخصه دونما تناسخ.

ذلك ، والروايات المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحق الجهاد والمجاهدين تبلغ مئات ومئات وإليكم عناوين منها : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا» و «أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله» و «الجهاد أفضل العمل» و «غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها» «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله» «لا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق حتى تقوم الساعة» «المجاهد في سبيل الله حق على الله عونه» و.. (٢).

أترى الإسلام يأمر أو يسمح بقتال من لا يقاتلنا ولا يضارنا بشيء؟ كلّا فإن قتال من لا يعتدي اعتداء محظور كضابطة : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ

__________________

ـ أنت معذور عند الله ، فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا ، ألا إن من أحبه ابتلاه.

(١) المصدر عن الزهري : خرج .. وفيه قيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو : أنت معذور ، فقال : أنزل الله علينا في سورة براءة : انفروا خفافا وثقالا. وفي تفسير «في ظلال» ٤ : ٢٢٦ : قرأ أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال : أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبانا جهزوني يا نبي ، فقال بنوه : يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى مات ومع أبي بكر حتى مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك ، فأبي فركب البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام فلم يتغير فدفنوه بها ، وفيه روى ابن جرير باسناده عن أبي راشد الحراني قال : وافيت المقداد ابن الأسود فارس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة وقد فضل عنها من عظمه يريد الغزو فقلت له : قد أعذر الله إليك ، فقال : «أتت علينا سورة البعوث» أقول : وهي من اسماء هذه السورة.

(٢) مفتاح كنوز السنة نقلا عن عشرات من كتب السنة.

١٠٤

الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٢ : ١٩٠) وليس الاعتداء في حقل القتال بالذي يقبل النسخ حتى يظن نسخ الآية بما يظن ، وأما (قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ ـ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (٢ : ١٩٣) و (٨ : ٣٩) فقد تعني قتال المفتتنين على المؤمنين والمستضعفين ، سواء أكانت فتنة نفسية أم عقيدية أماهيه من فتن مدمرة مزمجرة.

ففيما يقول الله (اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) (٢ : ١٩١) فقد يعني (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) كما في سابقتها ، وأحيان يقول : «قاتلوهم» فالمفاعلة تعني مادة الفعل المتداول بين طرفيه ، فلا تعني إلا قتال الذين يقاتلوننا أم هم يريدون قتالنا فندافع إذا عن أنفسنا.

وليس المعني من الفتنة التي لأجلها يسمح في قتال الفاتنين ، إلا الأخطار المتجاوزة من أهليها ، وأما هؤلاء الكفار الذين لا يفتنون المؤمنين ولا سائر المستضعفين فلا أمر ولا سماح لقتالهم أبدا.

فالقتال الإسلامي هو فقط قتال كافّة ، تكف بأس الذين كفروا (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (٩ : ٣٦).

فالتقوى في القتال هي الاتقاء عنه في غير الكف والاعتداء بالمثل ، كفا عن فتنتهم واعتداء كما اعتدوا ، ثم لا قتال بعد! وإنما (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (٢٢ : ٣٩).

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(٤٢).

العرض هو العارض الزائل دون أصالة ذاتية ، فهو مقابل الذات الأصيلة : (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) (٤ : ٩٤) (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا)(٧ : ١٦٩) (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)(٨ : ٦٧).

١٠٥

والعرض القريب هو السهل التناول ، قربا في زمان ومكان ومكانة دون أي بعد وأية صعوبة.

ف «لو» أن ذلك الجهاد (كانَ عَرَضاً) : غنيمة «قريبا» : بمتناول أيديهم طمعا فيه (وَسَفَراً قاصِداً) قريبا سهلا يسيرا فيه غنيمة وغلبة ، لكان يقصد بطبيعة الحال ـ فلا تعني «مقتصدا» حيث الأقل من المقتصد أقرب للإتباع ، إنما «قاصدا» يقصد وكأنه بنفسه يقصد ، إذا «لاتبعوك» في جهاد العدو (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) في هذه السفرة إلى تبوك الروم شقة في المسافة وشقة في المصافة حيث شاع بالمدينة أن الروم قد اجتمعوا يريدون غزو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عسكر عظيم ، وأن هرقل قد سار في جنوده وجلب معهم غسان وجذام وبهراء وعاملة ، وقد قدم عساكره البلقاء ، ونزل هو حمص فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التهيؤ إلى تبوك .. (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٢٢ عن تفسير القمي في قوله تعالى (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) يعني إلى تبوك وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسافر سفرا أبعد منه ولا أشد منه وكان سبب ذلك أن الضيافة كانوا يقدمون المدينة من الشام معهم الدرموك والطعام وهم الأنباط فأشاعوا بالمدينة .. فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التهيؤ إلى تبوك وهي من بلاد البلقاء وبعث إلى القبائل حوله وإلى مكة وإلى من أسلم من خزاعة ومزينة وجهينة وحثهم على الجهاد وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعسكره فضرب في ثنيته الوداع وأمر أهل الجدة أن يعينوا من لا قوة به ومن كان عنده شيء أخرجه وحملوا وقووا وحثوا على ذلك وخطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه : أيها الناس أن أصدق الحديث كتاب الله ... قال : فرغب الناس لما سمعوا هذا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقدمت القبائل من العرب من استنفرهم وقعد عنه قوم من المنافقين وغيرهم ولقى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الجد بن قيس فقال له : يا با وهب ألا تنفر معنا في هذه الغزاة لعلك أن تحتفد من بنات الأصفر؟ فقال : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن قومي ليعلمون أنه ليس فيهم أحد أشد عجبا بالنساء مني وأخاف أن خرجت معك أن لا أصبر إذ رأيت بنات الأصفر فلا تفتني وائذن لي أن أقيم ، وقال لجماعة من قومه : لا تخرجوا في الحر ، فقال ابنه : ترد على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

١٠٦

فهذه الشقة مسافة ومصافة خاوية عن عرض قريب ومرض غريب كانت تمنعهم عن هذه الغزوة ، وهنا المندّد بهم هم جمع منهم لا كلهم أو كثير منهم لمكان : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) إذا رجعتم إليهم : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) فهم الذين في قلوبهم مرض من المنافقين وأضرابهم ، و (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) تعمهم دون صالحي المؤمنين المناصرين إياه على أية حال.

هؤلاء الهلكى الأنكاد (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) إعذارا لا يقبل ، وتخلفا عن المفروض واستحقاقا للعذاب (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قالتهم : (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) وأمثالها (١).

وهذه السلسلة من آيات الجهاد هي منقطعة النظير في مسارحه ، إذ كانت غزوة تبوك هي من أشد الغزوات عليهم وأحدّها فيهم ، حيث

__________________

ـ وتقول ما تقول ثم تقول لقومك : لا تنفروا في الحر والله لينزلن الله في هذا قرآنا يقرءه الناس إلى يوم القيامة فأنزل الله على رسوله في ذلك : ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني إلا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين ، ثم قال الجد بن قيس : أيطمع محمد أن حرب الروم مثل حرب غيرهم؟ لا يرجع من هؤلاء أحد أبدا.

(١) نور الثقلين ٢ : ٢١٢ في كتاب التوحيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : أكذبهم الله عزّ وجلّ في قولهم : (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) وقد كانوا مستطيعين للخروج ، وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله في الآية ، انهم يستطيعون وقد كان في علم الله لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لفعلوا.

وفي الدر المنثور ٣ : ٢٤٦ ـ أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قيل له : ألا تغزو بني الأصفر لعلك أن تصيب ابنة عظيم الروم؟ فقال رجلان : قد علمت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن النساء فتنة فلا تفتنا بهن فائذن لنا فأذن لهما فلما انطلقا قال أحدهما إن هو الأشحمة لأول آكل فسار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم ينزل عليه شيء في ذلك فلما كان ببعض الطريق نزل عليه وهو على بعض المياه (لَوْ كانَ عَرَضاً ..) ونزل عليه (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ..) ونزل عليه (لا يَسْتَأْذِنُكَ ..) ونزل عليه (إِنَّهُمْ رِجْسٌ ..).

١٠٧

(بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) كل البعد من جهات عدة تمنع هؤلاء عن تلك العدّة.

ولقد ركزت الآيات السورة منذ الثامنة والثلاثين حتى الأخيرة ـ وهي أكثر من ثلثي آياتها ـ ركزت على حث الجهاد والتنديد بالمتكاسلين عنه من المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، مما يبين شدة وطأتهم وتواطئهم ضد الإسلام ، وتباطئهم عن مشاركة الجهاد.

فهؤلاء هم المندّد بهم طيلة هذه الآيات ومنها «إلا تنصروه» دون كافة المؤمنين كما قد يزعمه أصحاب صاحب الغار ، تبجيلا لصاحبهم وتخجيلا لسائر الأصحاب ، فما أجهلهم في ذلك التفسير التعتير التعيير ، إزراء بكافة المؤمنين بمن فيهم من أفاضلهم كالإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن أشبه.

ولأن شؤون نزول الآيات ليست لتحددها بحدودها السابقة ، فهي ـ إذا ـ مطلقة منطلقة ـ مطبقة على كافة الموارد المشابهة من الحروب القاصية العاصية ، فكلما كان الخطر أعظم فالمسئولية لدفعه أهم وأضخم على مدار الزمن الرسالي ، دون اختصاص بالزمن الرسولي.

لذلك لا تجد في ذلك المسرح الطائل ولا لمحة لخصوص غزوة تبوك ، مع العلم أن الله صرح بمسرح بدر وحنين والأحزاب وما أشبه ، على أن هذه المصرح بها أيضا ليست لتقف بخاصة مواقفها ، حيث التاريخ يتجدد دونما وقفة أبدا ، فلتجدّد المسؤوليات أمام حوادثها وكوارثها على طول الخط.

أجل و (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً) معروضا عليهم من قرب (وَسَفَراً قاصِداً) يقصد لكل قاصد «لاتبعوك» لمكان الأريحية القاصدة لهؤلاء المنافقين ، وسترا على كفرهم كأنهم من الموافقين (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) الشقة الشاقة البعيدة التي تتقاصر دونها الهمم الساقطة وتتعاسر العزائم الهابطة.

فكثيرهم أولاء الذين يتهاوون في صاعد الطريق وسامقه إلى الآفاق

١٠٨

الفائقة ، ويميلون إلى تفاهة الأعراض الدانية الفانية ، عائشين على هوامش الحياة وغوامشها : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) وهم مستطيعون واقعيا ، ولا يستطيعون بأعذار غادرة مائرة ، كذب ماكر حاكر يدل على ضعف خامر ، مهما خيّل إليهم أنهم أقوياء ، كلا وانهم ضعفاء أغوياء (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) كما وأهل الله يعلمون.

لقد حاولوا ماكرين ليأذن لهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكونوا مع القاعدين المعذورين فأذن لهم ظنا منه أنهم صادقون في اعتذارهم حسب المرسوم من تصديق ظاهر الاعتذار ممن يدعي ويبرز الإيمان ، ولكنه كان عاجلا فعفي الله عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) :

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ)(٤٣).

هنا يتساءل قائد القوات المسلحة الرسولي (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى ...) قرينا ب (عَفَا اللهُ عَنْكَ) دون أن تبرز توبة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) واستعفاء ، فهل هو بعد عصيان بقرينة (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)؟ أم ليس عصيانا بنفس النص ، حيث لم يقرن بتوبة؟.

قد تعني «عفى» دون «يعفو» عفوا سابقا سابغا على إذنه كما له سابقة في : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ) (٢ : ١٨٧) فإنه عفو عن حكم الصيام ليلا أن الله نفى بما عفى حكم صيام الليل ، فليس ـ إذا ـ عفوا عن عصيان رفعا ، وإنما هو عفو دفعا ، وكما الاستغفار والغفر حيث يجمعان الدفع إلى الرفع ، فقد عفى الله عنه قبل إذنه إياه لذلك الإذن ، ثم أنبه دون تأليب (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) وبيّن سبب التأنيب «حتى تعلم ..» ولكنه تعالى عرفهم إياه فلم يكن ـ إذا ـ إذنه عصيانا.

وما أحسنه تعبيرا أدبيا أديبا يحافظ على كرامة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبدأ بالعفو قبل ظاهرة المعاتبة ، مما يدل على أنها معاتبة ودية أدبية ، دون أية معاقبة أم مسّ من كرامة العصمة.

١٠٩

كما وأن «حتى تعلم» تبيّن أن ذلك لم يكن محظورا في أصله ، وقد يتبين من آيات تالية أن في حضورهم محظورا ، إذ (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(١).

ومن عفوه تعالى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه تعالى عرّفهم خلال هذه الآيات البينات ، فاستأصل ـ إذا ـ حظر إذنه لهم ، حيث النتيجة من عدم إذنه حصلت بهذه الآيات ، ونتيجة إذنه أنهم كانوا خبالا وفتنة لو حضروا ، فلا مبرر إذا لتكلّفات فارغة عن الحق المرام ، وكأن «هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة ، خاطب الله تعالى بذلك نبيه وأراد به أمته» (٢) فمن ذا الذي أذن لهم من الأمة حتى يفسر ذلك الخطاب تأويلا إليهم دونه؟! ، وهو ـ فقط ـ قائد القوات المسلحة ، وليس لأحد أن يأذن لأحد دون إذنه.

وغاية ما هنالك أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أذن عاجلا دون تثبت ، فلم يتبين له الذين صدقوا ويعلم الكاذبين ، فإن لم يأذن كانوا يقعدون كما أذن ، فكان يعرفهم أنهم كاذبون (٣).

ذلك ، فلم يكن إذنه ـ إذا ـ بإذن الله ، مهما كان معذورا لم يكن في إذنه عاصيا لله ، ولكنه كيف يتلائم إذنه هذا ـ إذا ـ مع (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٢٣ في عيون الأخبار باسناده إلى علي بن محمد بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا (عليه السلام) فقال له المأمون : يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟ قال : بلى ، قال : فما معنى قول الله عزّ وجلّ ـ إلى أن قال ـ : فأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) قال الرضا (عليه السلام) : هذا مما نزل ... كذلك قول الله عزّ وجلّ (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) وقوله (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) قال : صدقت يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٣) الدر المنثور ٣ : ٢٤٧ ـ أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (عَفَا اللهُ عَنْكَ) قالوا : استاذنوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فان أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.

١١٠

بِما أَراكَ اللهُ) (٤ : ١٠٥) و (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٥٣ : ٤) وأضرابهما من الحجج على عصمته الطليقة؟!.

إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على عصمته الطليقة قد يطلقه الله تعالى فيفلت فلتة يسيرة ، لكي يعلم وتعلم معه الأمة أنه ليس مكتفيا بنفسه : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (١٧ : ٧٤).

وهكذا تفسر كافة المظاهر من تأنيبات الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الرسل ، أنها لصالح الرسالة ، كيلا يزعم زاعمون أنه يقول ما يقول من عند نفسه ، دون صدام بينها وبين عصمته الطليقة (١).

وقد يجيب الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) عن سؤال الزنديق بحق هفوات الأنبياء بقوله : «وأما هفوات الأنبياء وما بينه الله في كتابه فإن ذلك من أدل الدلائل على حكمة الله عز وجل الباهرة وقدرته القاهرة وعزته الظاهرة ، لأنه علم أن براهين الأنبياء تكبر في صدورهم ، وأن منهم من يتخذ بعضهم إليها كالذي كان من النصارى في ابن مريم ، فذكرها دلالة على تخلفهم عن الكمال الذي تفرد به عز وجل ، ألم تسمع إلى قوله في صفة عيسى (عليه السلام) حيث قال فيه وفي أمه» : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) يعني من أكل الطعام كان له ثفل ومن كان له ثفل فهو بعيد عما ادعته النصارى لابن مريم (٢).

ذلك ، فليس ليفيض الله عصمته الخاصة الطليقة على أحد من عباده ، والعصمة الرسالية لا تعني إلّا تلقيا رساليا وبلاغا وتطبيقا رساليين ، ومن البلاغ الرسالي تبيين أنهم ليسوا إلّا رسلا لا يستقلون عن الله ولا يستغلون رسالة الله ، فلا بد ـ إذا ـ لهم من هفوات تدليلا على قصوراتهم

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٤٧ ـ أخرج عبد الرزاق في المصنف وابن جرير عن عمرو بن ميمون الأودي قال : اثنتان فعلهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يؤمر فيهما بشيء ، إذنه للمنافقين وأخذه من الأسارى فأنزل الله : عفا الله عنك ...

(٢) بحار الأنوار ٩٠ : ١١٢ باب رد المتناقض في القرآن.

١١١

الذاتية ، ثم الله يبينها لذلك ولكي لا يبقى نقص في شرعته.

فلو أن الله عصمهم كما هو لضل كثير رغما أنهم آلهة ، ولو أنه لم يبين قصورهم الذاتي لم يتبينوا أنهم ليسوا بآلهة ، ولا ما هو الحق فيما قصروا.

إذا فهفوات النبيين فيما دون العصيان هي ضرورات ذوات أبعاد.

فكما أن قضية الحكمة الربانية أن يعصم رسوله بعصمة طليقة ، كذلك الحكمة من واجهة أخرى حفاظا على الرسالة من الغلو فيها أن يطلقه الله طرفة بعد طرفة ، ثم يمسكه على طول الخط وفي كل طرفة ، تدليلا على (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً. إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) (١٧ : ٨٧) وليس فيه تضليل للأمم حيث يبين الله لهم موارد هفواتهم ، وأنها ما كانت عصيانا له تعالى إلا خطأ قاصرا دون تقصير.

ذلك وكما أبطأ عنه الوحي ردحا حتى ظن ظانون أن ربه ودّعه وقلاه فنزلت : (وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) فكما الضحى صالحة للحياة ، كذلك الليل إذا سجى ، وهكذا سجى ليل انقطاع الوحي ، كضحى الوحي ، هما صالحان لهذه الرسالة ، مهما اختلفت صورة عن صورة ، حيث السيرة واحدة تعني تبني هذه الرسالة السامية ألّا يظن بالرسول أنه يملك وحي الله ، أو أنه يصدر بوحي من عقليته البشرية.

كما وأن (ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٢٩ : ٤٨) نموذج آخر من هذه الحائطة ، فرغم أن التلاوة وخط الكتاب هما من الفضائل ، قد يصبحان خارجة عنها إلى الرذائل ، حيث (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ).

وبعد كل ذلك فقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مأذونا أن يأذن لمن شاء من المؤمنين : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ

١١٢

شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٤ : ٦٢).

فظاهر إقرار هؤلاء المنافقين من ناحية ، وظاهرة الاستئذان ـ وهي حسب هذه الآية إمارة أخرى على الإيمان ـ من أخرى ، قد سمحت له أن يأذن لهؤلاء بمجرد استئذانهم ، دون أن يعرف كذبهم حتى عرّفهم الله إياه.

فلما لم يكن الصادق بينا له عن الكاذب ، فهل له أن يحملهم دون معرفة على الكذب؟ كلّا! ولكن الحائطة في ذلك المسرح الخطير كانت تقتضي أن يؤجل إذنهم نظرة تبيّنه ، وقد كفى الله أمره أن عرّفهم إياه فعرفهم في هذه الإذاعة القرآنية.

إذا ف (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) بعد (عَفَا اللهُ عَنْكَ) وقبل (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) قصاراه التأنيب بما لا ينبغي وهو في نفسه غير محظور ، أم إن إذنهم بين محظور ومحبور ، محظور إذا لم يتبين كذبهم ، ومحبور إذ (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) ولكنهم ما كانوا يخرجون وإن لم يأذن لهم ، ثم الله بين له (صلى الله عليه وآله وسلم) كذبهم فلم يبق في البين محظور ، ولا سيما أن عدم إعدادهم عدة هو من ملامح كذبهم : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) إذا ف «حتى تعلم» كان حاصلا دون تمام بعدم إعدادهم عدة ، ولم يخسر هنا إلا تمام العلم بكذبهم ، وقد جبر الله كسره بما أخبره.

ذلك ، إضافة إلى أنه كان يعرفهم في لحن القول : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (٤٧ : ٣٠) ومنه هنا (ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) وسائر قالهم القال الغائل.

ذلك ، ومن لطيف جبر الكسر ـ في إذنه ـ من الله ، أنه تكفل فضحهم بعلامات كذبهم ودلالاته في ثلثي آيات السورة ، أو ليس بيان الله بعد إذنه أبين من تبيّنه إن لم يأذن لهم؟!.

وبعد ذلك كله فلم يثبت بعد أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى بمحظور ، فإن إذن قائد القوات لمن يستأذنه للقعود ليس في أصله محظورا ،

١١٣

بل هو محبور لأصل السماح الرباني : (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) وظاهر صدقهم لمكان الإسلام ومكانته ، دون واجب اتهامهم أو راجحه لكيلا يأذن لهم (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ).

وليس ذلك التبيّن واجبا أصليا لا يجبر ، بل هو راجح رسالي وقد أجبر بنفس استئذانهم ، ولحن القوم منهم ، وببيان الله عنهم ، فلم يفت منه شيء بذلك الإذن ، بل هو من ضمن البلاغ الرسالي بإذن الله حتى يعلم قصورة الذاتي ، وأنه ليس إلها كما زعمته النصارى في المسيح (عليه السلام).

وفي الآيات التالية يبين الله له كيان الاستئذان في الجهاد أن ليس إلا من الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون.

كلام حول العصمة :

العصمة بين طليقة ذاتية وعرضية ، فالأولى خاصة بالله لا تعدوه إلى سواه ، ثم العرضية بين رسالية لرسل أم سائر المعصومين (عليهم السلام) ، وهي محدودة بقضية الرسالة تلقيا للوحي وبلاغا وتطبيقا فرديا وجماعيا ، ولا تحصل إلّا في ظرف العصمة البشرية وما أشبه ، وهي درجات حسب درجات الرسالات ، وليست على أية حال طليقة ، وإنما هي في خط البلاغ الرسالي السليم.

ثم عصمة بشرية ليست من محطات العصمة الربانية وتسمى العدالة وهي أيضا درجات. والعصمة البشرية التي هي محطة الرسالة لا بد وأن تحصل بجهاد متواصل من صاحبها مهما صاحبها تأييد رباني من قبل ومن بعد ، ويعبر عنه بالاصطفاء : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣ : ٣٣) (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) (٧ : ١٤٤) (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (٢٢ : ٧٥) فهذه وما أشبه هي للرسل ، ثم لخلفاء معصومين لهم : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ..) (٣٥ : ٣٢) أم

١١٤

غير خلفاء : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ)(٣ : ٤٢) أم في حقل الملكية غير الرسالية : (قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (٢ : ٢٤٧) ، وهكذا الاجتباء : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) (٣ : ١٧٩) ككل ، وفي إبراهيم : (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٦ : ١٢١) وفي آدم : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٢٠ : ١٢٢) وفي يونس (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٦٨ : ٥٠) وفي يوسف : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) (١٢ : ٦) ، وفي الرسل الإبراهيميين : (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٦ : ٨٧) وعلى أية حال ف (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (٤٢ : ١٣).

وكلّ من الاصطفاء والاجتباء يعني طلب الأصفى والأجبى ، فلا بد من صفاء أصفى وجباء أجبى حتى يصطفي الله ويجتبي.

وترى كيف يصطفي ويجتبي مثل يحيى الذي (آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) إنه يصطفيه لما يعلم أنه سوف يقوم بصالح الجدارة لبلاغ الرسالة ، فهو الذي يصنع الرسل لحمل أمانات وحيه وبلاغ رسالاته بما يعلم فيهم من جدارات سابغة ، سابقة أو لاحقة.

فقد قال في موسى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ... وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٢٠ : ٣٩ و ٤١).

فقد صنعه الله علي عينه منذ حمله وولاده ورضاعه ليأهل لحمل رسالته ، (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) بما جاهدت واجتهدت وجرّبت وجرّبت (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) هكذا ، بين جهاد منك وتأييد من ربك.

فرسل الله (عليهم السلام) هم صنائع الله ولكن دون فوضى جزاف وترجيح دون مرجح ، فقد يحملهم من تكاليف الدعوة ومشاق الدعاية ما يصلح لمحتدهم الرسالي.

والقول أن صناعتهم من الله هي التي تقدمهم على من سواهم ، فما

١١٥

هي الرجاجة لهم على من سواهم؟ مردود بأن الله إنما يشاء في كل دور من الأدوار الرسالية أن يصنع رسول أم رسل ، فلا يصلح أن يصنع هكذا كلّ الخليقة ، فإنما يصطفي من يعلم جدارته وهو يتحمل ما يحمّل من رسالته.

فلا ترجيح ـ إذا ـ دون مرجح ، بل هو ترجيح بمرجح ، ثم الله يصنع المترجح في علمه كما يصلح لحمل رسالته ، وبصورة عامة (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) :

فقد يصطفي من هو بالفعل أصفي وهو يبقى أصفى كرسول الهدى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأضرابه ، أم يصطفى من يعلم أنه سوف يكون أصفى فيصفّيه الله لحد يصلح لحمل رسالته تعالى ، وهما مشركان في واجب حمل الرسالة بكل جدارة معنية دون تفلّت عنها ولا تلفت إلى غيرها.

ومما يختص بالله تعالى فيهم أن يصطفيهم من أصلاب طاهرة وأرحام مطهرة لم تنجسهم الجاهلية بأنجاسها ، ولم تلبسهم من مدلهمات ثيابها.

ذلك ، وحصيلة البحث حول العصمة الرسالية ، أن تحصّل الحالة اللابقة اللائقة لحمل رسالة الله لا بد له من تحصيل ، إما إلهي فقط؟ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى! أم خلقي فقط؟ وهو خارج عن مقدوره إذا عنت كل أبعادها ، فلتكن أمرا بين أمرين أن يصطفي الله من يعلم أنه سوف يحمل كل أعباء رسالته دون إبقاء ، ثم هو يؤيده قبل رسالته وعندها وبعدها ، حيث العصمة البشرية لا تكفي بمفردها عصمة عن الأخطاء ، ومن تأييده تعبئة الرسل منذ ولادهم حتى نزول الوحي إليهم ، وهم على طول الخط مجتهدون قمة جهدهم وغاية سعيهم ووسعهم.

فالشروط التي تهيئ لنزول الوحي ليست كلها مختارة لأي إنسان ، فلا بد في الخارجة عن الإختيار من صنع رباني يصيّر إلى صالح الوحي الرسالي وليس ليسيّر ، كما وليست مسيرة كلها ، فأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، فالرسالة بمقدماتها وأصلها وبلاغها هي أمر بين أمرين من صنع رباني فيما لا صنع لغيره فيه ، وصنع إنساني هو بين رحمة ربانية وجدارة

١١٦

إنسانية ، فليست الرسالة إذا لرسل الله ترجيحا دون مرجح.

وأما لما ذا صنع الله الاستعداد للحصول على جدارة الرسالة لبعض دون بعض ، فأرسل بعضا إلى آخرين؟ فذلك قضية الابتلاء والامتحان : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٤٣ : ٣٢).

فلو أنه خلقهم درجة واحدة وصنعهم كما يصنع الرسل لبطل الامتحان ، ثم وليس الكل يتماشون مع ما خلق الله لهم من إعداد الخير لو لا الإجبار ، فما دام الإختيار لا يصبحون في درجة واحدة من الجدارة مهما خلقوا في درجة واحدة من الإعداد والاستعداد.

ذلك ، والامتحان في توفر المعدات للوصول إلى الكمال القمة أعلى من عدمه ، فلو أن الناس استووا في تلك المعدات القمة لم يكونوا ليستووا في جدارة نزول الوحي إليهم اللهم إلا خروجا عن الإختيار ، وفي ذلك بطلان الاختبار والتكليف.

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)(٤٥).

ضابطة ثابتة لا تخطئ ، فالذين يؤمنون بالله واليوم الآخر لا ينتظرون الإذن في أداء فريضة الله بعد ما أمرهم الله وأكد لهم ، فهم لا يتلكأون في تلبية داعي الله نفرا في سبيل الله ، بل هم سراع إليها خفافا وثقالا طاعة لأمره ويقينا بلقائه وابتغاء مرضاته دونما حاجة إلى حثّ بعد ما حثهم الله فضلا عن الاستئذان.

أفبعد أمر الله المؤكد بالجهاد بالأموال والأنفس يستأذن رسول الله في ذلك الجهاد ، فضلا عن استئذانه في تركه ، إذا فمجرد استئذانهم للقعود قعود لهم عن الإيمان حين يكون الاستئذان للجهاد يشي بعدم الإيمان (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) إياه ، والطاغين دون حاجة إلى استئذان منهم وعدم استئذان ، فإنما ذلك البيان إعلان للرسول والذين معه ليعرفوا المنافقين في لحن القول.

ولقد كان أكابر المهاجرين والأنصار يقولون : لا نستأذن النبي (صلى الله

١١٧

عليه وآله وسلم) في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد أخرى ، فلما ذا ـ إذا ـ الاستئذان؟ وكانوا بحيث لو أمرهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقعود لشق عليهم ، فترى عليا (عليه السلام) لما يأمره الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يبقى في المدينة يشق ذلك عليه حتى يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى.

والاستئذان المنفي هنا لا يختص بالقعود ، بل هو الظاهر في الخروج ، مما يرجح أن جماعة منهم استأذنوه للخروج فأذن لهم ، كما وأن (ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) هو من آخرين استأذنوه للبقاء ، فقد يصح حمل (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) على الأمرين ، إذن في الخروج وإذن في البقاء ، والجهاد في سبيل الله ليس من مسارح الإذن سلبا وإيجابا.

أجل (لا يَسْتَأْذِنُكَ ... إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) سواء أكان استئذانهم للجهاد أم تركه ، وهو أحرى دلالة على كفرهم بالله واليوم الآخر ، فالاستئذان في هذا المسرح لأيّ كان ومن أيّ كان ، إنما هو لأولئك الذين خلت قلوبهم من الإيمان فهم يتلمسون المعاذير وهم في ريبهم يترددون ، استئذانا للخروج وآخر للقعود.

ذلك الاستئذان كان للقعود وان استأذنوه بعد للخروج : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) (٩ : ٨٣).

وفي (لا يَسْتَأْذِنُكَ) تلميحة أنهم لم يستأذنوه ـ فقط ـ في القعود ، بل وفي الخروج مع المجاهدين أيضا ليزيدوكم خبالا ، ولكن المحور في (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) هم الذين استأذنوه لعدم الخروج حيث (لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ..).

وهنا (لا يَسْتَأْذِنُكَ) علم حادث له (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لو كان يعلمه لكان استئذانهم إياه علما له بكذبهم ، فلا يرد أنه لم يكن مأذونا في إذنهم حين أذن لهم ولا يعمه (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ).

إنهم أولاء الأنكاد البعاد (ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) فى الحق (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ

١١٨

يترددون» بين الخروج والبقاء ، وكلاهما منهم خيانة وكيد على الجماعة المسلمة «ومن تردد في الريب سبقه الأولون وأدركه الآخرون وقطعته سنابك الشياطين» (١). فذلك علامة أولى لكذبهم في استئذانهم ثم ثانيا :

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ)(٤٦).

إن إرادة الخروج ، العازمة الحاسمة ، قضيتها الطبيعية الواقعية إعداد عدة له وإن بسيطا ، وهم لم يعدوا له أية عدة ، إلا كل عدة للتخلف عنه (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) : كسّلهم وضعّف رغبتهم في الانبعاث كيلا يخرجوا ، فإن خروجهم مروج فيهم ، فخروج عن صالح الحرب إلى طالحها ، فقد تطلّبت منهم شرعة التكليف أن يخرجوا ، ثم ثبطتهم شرعة التكوين بما تثبطوا في أنفسهم (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) قيلة من رؤوس النفاق حيلة ، وقيلة من الشيطان الرجيم غيلة ، ثم الله لم يمنعهم عن هذه القيلة الحيلة الغيلة ، وعن قعودهم بها ، حيث (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (١٩ : ٨٣) (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) (٤١ : ٢٥) ذلك و :

(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(٤٧).

«لو» إحالة واقعية بما عزموا على عدم الخروج وبما ثبطهم الله وقيل أقعدوا مع القاعدين (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ) أنتم المؤمنين الصالحين (ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) : فسادا واضطراب رأي «ولأوضعوا» : أسرعوا فيها وفي أي فساد «خلا لكم» : تخللا فاسدا كاسدا بين صفوفكم الإيمانية ، حال أنهم : (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) : أن يطلبوكم إياها ، كأن لا بغية لهم بخروجهم فيكم إلّا إياها (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) اذنا لكل كلام دونما تثبت عنه كالبسطاء من المؤمنين والذين اسلموا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم ، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الضالين والمضلّلين ، ذلك :

__________________

(١) نهج البلاغة عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام).

١١٩

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ)(٤٨).

و «من قبل» هنا منه يوم أحد حيث تخلف عبد الله بن أبي سلول بثلث القوم خذلانا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإضلالا للذين معه (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) التي كانت مؤاتية لصالح الحرب حيث عملوا دعايات مضادة لها بين صفوف المؤمنين (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) نصرة بعد النسكة (وَهُمْ كارِهُونَ) مجيء الحق وظهور الأمر ، متربصين عليه دوائر السوء ، عليهم دائرة السوء ولكنهم لا يعلمون.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٤٩).

هؤلاء الأنكاد الأغباش ، ومنهم جد بن قيس حين يقول له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا جد هل لك في جهاد بني الأصفر؟ قال : أتأذن لي يا رسول الله فإني رجل أحب النساء وإني أخشي إن أنا رأيت نساء بين الأصفر أن افتتن ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو معرض عنه : قد أذنت لك ، فأنزل الله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي)(١) (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) بأنفسهم المفتونة الفاتنة ، فلم يفتنهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بترك الإذن لقعودهم ترغيبا في بنات بني الأصفر خلاف ما يروى (٢).

ويا له من مشهد مرسوم يرسم لهم كأن الفتنة فيه هاوية وهم فيها ساقطون ، فهم هنا في جحيم الفتنة التي أججوها بذات أيديهم ماقتون ، ثم هم فيما أججوه خالدون (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) فكفرهم

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٤٧ ـ أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لجد بن قيس : ...

(٢) وفيه أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : اغزوا تغنموا بنات بني الأصفر فقال ناس من المنافقين انه ليفتنكم بالنساء فانزل الله هذه الآية.

١٢٠