الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

أثر سوء في المأمور والمنهي.

ثم غير الجاهر بغير ما يأمر وينهي ، فإنه مع العدل المطلق من القدر المتيقن للوجوب.

ذلك ، ولا يعني جواز التأثير في حقل الأمر والنهي أن يؤثرا بالفعل ، بل وإن أثرا في المستقبل أم بتكرار الأمر والنهي ، أم ولأقل تقدير كانا حجة على المتخلفين أم مزيد حجة عليهم ، حيث الدعوة الربانية تمحور (عُذْراً أَوْ نُذْراً) (٧٧ : ٦) كيف لا؟ وقد عذب الذين تركوا النهي عن السوء ـ فيما لم يؤثر ـ إلى جانب فاعلي السوء في مزرءة السبت : (إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٧ : ١٦٦).

فقد دخل التاركون النهي عن المنكر هنا في الظالمين (بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) ولم يكن ليؤثر النهي كما لم يؤثر!.

فلا يشترط في وجوب الأمر والنهي التأثير ولا جوازه بالفعل ولا مستقبلا ، بل يكفى كونها حجة على المتخلفين.

وهكذا شرط الأمن من الضرر إلا إذا فاق ضرر ترك المعروف وفعل المنكر ، ف (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٣١ : ١٧) وليست الإصابة هنا إلا من مخلفات الأمر والنهي.

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٧٢).

(وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) من (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) ف «لنعيم أهل الجنة برضوان الله عنهم

٢٢١

أفضل من نعيمهم بما في الجنان» (١).

فأين حظوة روحية ب (رِضْوانٌ مِنَ اللهِ) معرفية وعبودية وزلفى ، من حظوة جسدية في جناتها؟ مع كل مواصفاتها على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (٢).

وهنا «رضوان» تنكير قاصد لأقل رضوان إلى كثيرة وأكثره ، فقليل الرضوان أكبر من كثير الجنان و (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) جمعا بين رضوان وهذه الجنان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

وكما أن السالكين إلى الله يوم الدنيا يفضّلون مرضات الله على مرضات أنفسهم ، كذلك يوم الأخرى ، ففي هذه الجنات رضوان لأنفسهم ، وأين هي من (رِضْوانٌ مِنَ اللهِ)؟ وقد (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٥ : ١١٩) (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) (٥٨ : ٢٢) (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (٩٨ : ٨).

فحزب الله الذين يخشون ربهم هم المرضيون عند الله في الدنيا والآخرة و (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

أجل (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) هو أقصى الغايات وأنهى النهايات

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٥٧ ـ أخرج ابن أبي حاتم عن أبي عبد الملك الجهني قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : .. وفيه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك يا ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحدا من خلقك فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال : أحل عليكم رضوان فلا أسخط عليكم بعده أبدا.

(٢) تفسير الفخر الرازي ١٦ : ١٣٢ عن أبي هريرة قلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حدثني عن الجنة ما بناءها؟ فقال : لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك الأذفر وترابها الزعفران وخصاءها الدر والياقوت فيها النعيم بلا بؤس والخلود بلا موت لا تبلى ثيابه ولا يغنى شبابه.

٢٢٢

للسالكين إلى الله ، الهائمين إياه ، ولو أن أهل الله خيّروا بين رضوان من الله في عذاب أليم جسيم ، وبين غير رضوان ونعيم مقيم ، لكانوا يقدمون رضوانه على سائر نعيمه ، وإنما يفضلون الجنات لأنها محال أهل كرامة الله والزلفى من الله.

ثم (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ) هنا هم الموصوفون بمخمس صفات الإيمان في الآية السالفة ، دون من يحمل مجرد الإيمان عقيديا وإن لأدناها.

إذا ف (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) دون حساب ، هي من مواعيدهم عند الله ، ثم سائر المؤمنين والمؤمنات هم محاسبون بتركهم صفات الإيمان الخمس ، وقد يدخلون النار دون قرار ثم يخرجون إلى (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

أم ترى (رِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) إضافة إلى (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ذلك لمن لا يرحمهم الله من التاركين لشروط الإيمان الأصلية؟!.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤) وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ

٢٢٣

لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ

٢٢٤

اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ)(٨٦)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٧٣).

أتراها نزلت «جاهد الكفار بالمنافقين» إذ «إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقابل منافقا قط ، إنما كان يتألفهم» (١) والمنافق إن لم يقاتل لا يقاتل به إذ (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)! فإنما يقاتل بالمؤمنين الموثوقين ، فهذا هو نفسه خبال وإيضاع وتضييع أن يخيّل بالآية أنها هكذا أنزلت!.

أم هي كماهيه ولكن الجهاد لا يختص بالقتال فمن جهاد المنافقين إلزامهم على الفرائض (٢) كما التزموا بها بإقرارهم أنفسهم لما اسلموا ، كما

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٤١ مجمع البيان روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قرأ «جاهد الكفار بالمنافقين» قال : إن .. وفيه روى في قراءة أهل البيت (عليهم السلام) «جاهد الكفار بالمنافقين» قالوا : لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يقاتل المنافقين ولكن كان يتألفهم ولأن المنافقين لا يظهرون الكفر وعليم الله بكفرهم لا يبيح قتلهم إذا كانوا يظهرون الإيمان.

(٢) المصدر في تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : ...

٢٢٥

منه التلطف معهم على حائطة ، وتأليف قلوبهم لكي يتحوّلوا عن إقرارهم باللسان إلى إقرارهم بالجنان إيمانا يدخلهم في حقل المؤمنين.

كما ومنه ـ إذا لزم الأمر ـ قتالهم وكما قاتلهم علي (عليه السلام) فجهاد علي (عليه السلام) جهاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (١).

إذا فجهاد الكفار هو حملهم بالحكمة والموعظة الحسنة إلى إقرار الإيمان ثم إلى قراره ، وإلّا فالقتال ، ثم جهاد المنافقين هو إلزامهم على ما أقروا به ، ثم التزامهم بواقع الإيمان وإلّا فالقتال.

فلا يعني «جاهد» إلّا المجاهدة بمختلف درجاتها ، مهما لا يصل في المنافقين إلى قتال إلّا في حالات قلال ، ف «لما نزلت (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجاهد بيده ، فإن لم يستطع فبقلبه ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فليلقه بوجه مكفهر (٢).

فهنا (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) مرحلة أخيرة حاسمة بين مرحليات الدعوة في خطوات المجاهدة ، وقتالهم إن لزم الأمر مطوي في (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ).

ذلك ، ف «جاهد» الشامل للقتال في آخر المجال ، (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) الدال على غلظهم في الجهاد ، هما دليلان اثنان على أن «جاهد» لا يختص بالقتال ، إذ لا دور ل «أغلظ» بعد «جاهد» إن عني به القتال ، ولا غلظ أغلظ من القتال.

__________________

(١) المصدر عن تفسير القمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) قال : هكذا نزلت فجاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الكفار وجاهد علي (عليه السلام) المنافقين فجهاد علي .. وفيه عن أمالي الشيخ الطوسي بإسناده إلى ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : لأجاهدن العمالقة يعني الكفار وأتاه جبرئيل (عليه السلام) قال : أنت أو علي.

(٢) الدر المنثور ٣ : ٢٥٨ ـ أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال لما نزلت ..

٢٢٦

ذلك ، فالمجاهدة في سبيل الله هي الصراع الدائم للسالكين إلى الله ، سلبا لما سوى الله وشرعته ، وإيجابا لله بشرعته ، فقد يدخل في نطاقها كافة المحاولات في هذه السبيل لتكون كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا.

إذا فكافة الإجراءات الإيمانية لتحقيق كلمة (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) هي مجاهدات في سبيل الله ، سلبا للكفر وجلبا إلى الإيمان.

وكما ليست هذه المجاهدات لونا واحدا وشكلا فاردا ، كذلك مجاهدة الكفار والمنافقين ، كلّ كما تقتضيه حاله ومجاله ، وليس (اغْلُظْ عَلَيْهِمْ) إلّا مرحلة أخيرة حاسمة بعد مرحليات المجاهدات اللطيفة العطيفة ، ومنها ـ مع الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ـ تأليف قلوب نافرة بمال ف (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) (٩ : ٢٠) وهي بصورة طليقة (الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٢٩ : ٦٩).

فهكذا (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) هنا وفي التحريم (٩) (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ولأن المنافقين هم أخطر من الكفار واقعيا مهما كانوا أقرب إلى المسلمين ظاهريا فجهادهم ـ إذا ـ أكثر منهم وأوعر ، فالمنافق ـ كما الكافر ـ نار حيثما دار ، وإخماد النار واجب المؤمنين الأحرار ، ولكي تبقى الحياة المسلمة سليمة أمينة عن الأشرار ، بذلا لكل جهد في إصلاح الأمر مهما بلغ به الأمر في ذلك الأمر ، حفاظا على الإمرة الإسلامية والكتلة المسلمة عن همجات وهجمات أنفسية أو دعائية أماهيه؟. وإلى (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) فإنه أغلظ المجاهدة وآخر المطاف فيها بما في الغلظ من قتالهم إذا لزم الأمر ، فآخر الدواء الكي.

ذلك ولقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يلاين المنافقين كثيرا علّهم يلينون عن شدتهم ، ويفيقون عن غفوتهم ، ويغضي عنهم كثيرا علّهم يغضون ، بالغا معهم في الصفح والحلم والساحة غايتها ، فإذا انتهى أمد اللين فلتكن الشدة بمراحلها ، فإن لم تنفع فالحسم القاطع ، وذلك عند ما يتظاهرون بمظاهر الكفر ، وكما في النص التالي :

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ

٢٢٧

وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(٧٤).

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) ما قالوه وغالوا فيه مثل «لا تفتني» ـ يلمزك في الصدقات ـ هو أذن ـ إنما كنا نخوض ونلعب «في استهزاءهم» خضتم كالذي خاضوا ـ كما مضت.

أم وما يروى عن قالاتهم القالة الغائلة ك والله لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير (١) وما شتموه (٢) ك «سمن كلبك يأكلك» (٣) دركات سبع جهنمية من قالاتهم الكافرة ومحاولاتهم الماكرة في مختلف المجالات (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) بألسنتهم فإن كلمة الكفر تنقض كلمة الإسلام ، و «إسلامهم» هنا تعم من آمن منهم بلسانه وقلبه كافر ، أم لمّا يدخل الإيمان في قلبه ، أم دخل دخيلا قليلا ضئيلا ، فكفروا بقالاتهم الكافرة بعد إسلامهم بأيّ من زواياه الثلاث ، حيث إن قالة الكفر تنقض قالة الإسلام على أية حال.

ثم (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) من اغتيال النبي الأقدس (صلى الله عليه

__________________

(١) قد مضت روايات عن الدر المنثور بهذا المعنى.

(٢) الدر المنثور ٣ : ٢٥٨ عن ابن عباس قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالسا في ظل شجرة فقال : أنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاء فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال على م تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء أصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم وأنزل الله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا ..).

(٣) المصدر عن قتادة قال ذكر لنا أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الغفاري على الجهني فقال عبد الله بن أبي للأوس انصروا أخاكم والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر.

٢٢٨

وآله وسلم) وقد سماهم الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) (١).

__________________

(١) المصدر أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في الآية هم الذين أرادوا أن يدفعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة العقبة وكانوا قد اجمعوا أن يقتلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم معه في بعض أسفاره فجعلوا يلتمسون غرمة حتى أخذ في عقبة فتقدم بعضهم وتأخر بعضهم وذلك ليلا قالوا إذا أخذ في العقبة دفعناه عن راحلته في الوادي فسمع حذيفة وهو يسوق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان قائده تلك الليلة عمار وسائقه حذيفة بن اليمان فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل فالتفت فإذا هو بقوم متلثمين فقال إليكم يا أعداء الله فأمسكوا ومضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نزل منزله الذي أراد فلما أصبح أرسل إليهم كلهم فقال : أردتم كذا وكذا فحلفوا بالله ما قالوا ولا أرادوا الذي سألهم عنه فذلك قوله : يحلفون ... وفيه عن ابن عباس في الآية قال : هم رجل يقال له الأسود بقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيه عن عروة في قصة تبوك المفصلة فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : هل علمتم ما كان شأنهم وما أرادوه؟ قالوا : لا والله يا رسول الله قال : فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا طلعت الشمس طرحوني منها ، قالوا : أفلا تأمر بهم يا رسول الله فضرب أعناقهم؟ قال : أكره أن يتحدث الناس ويقولوا : إن محمدا وضع يده في أصحابه ، فسماهم لهما وقال اكتماهم ، وفيه أخرج البيهقي في الدلائل عن ابن إسحاق نحوه وزاد بعد قوله الحذيفة هل عرفت من القوم أحدا فقال لا ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن الله أخبرني بأسمائهم وأسماء آبائهم وسأخبرك بهم إن شاء الله عند وجه الصبح فلما أصبح سماهم له : عبد الله بن أبي سعد وسعد بن أبي سرح وأبا حاصر الأعرابي وعامر أو أبا عامر والجلاس بن سويد بن الصامت ومجمع بن حارثة ومليحا التيمي وحصين بن غير وطعمة بن أبيرق وعبد الله بن عيينة ومرة بن ربيع فهم إثنا عشر رجلا حاربوا الله ورسوله وأرادوه فأطلع الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك وذلك قوله عزّ وجلّ : وهموا بما لم ينالوا وكان أبو عامر رأسهم وله بنوا مسجد الضرار وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة.

وفيه من حديث حذيفة بن اليمان قلنا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال : لا ، إني أكره أن تحدث العرب بينها أن محمدا قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم ثم قال : اللهم أرمهم بالدبيلة قلنا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما الدبيلة؟ قال : شهاب من نار يوضع على نياط قلب أحدهم فيهلك.

وفي نور الثقلين ٢ : ٢٤٣ في تفسير العياشي عن جابر بن أرقم عن أخيه زيد بن أرقم قال : لما أقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) بغدير خم وبلغ فيه عن الله ما ـ

٢٢٩

(وَما نَقَمُوا) من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والذين معه (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) بما حصلوا عليه من غنائم الغزوات وبسط الأمن والرياحة المعيشية في ظل الإسلام ، أفهذه هي السيئة التي قدمها لهم الإسلام حتى ينقمون منه هكذا؟.

وهنا «رسوله» كما مضى ليس يعني إلا رسالة البلاغ ، فلذلك أفرد الضمير لله بعد «رسوله» في «من فضله» ، ولأن الله لا يدخل في حساب العدد حتى يردف بغيره في عدّ ، كما أن (وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) فقد تعني (أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) : الله ، وهذا من مقابلة النعمة بالنقمة وما أنحسها وأشرسها من هؤلاء الأغباش الأنكاد!.

ذلك ، ثم أنظر إلى بالغة الرحمة وسابغتها الموعودة لهؤلاء الخونة إن

__________________

ـ بلغ ثم نزل انصرفنا إلى رحالنا وكان إلى جانب خبائي خباء نفر من قريش وهم ثلاثة ومعي حذيفة اليمان فسمعنا أحد الثلاثة وهو يقول : والله أن محمدا الأحمق إن يرى أن الأمر يستقيم لعلي من بعده ، وقال الآخرون أتجعله الأحمق ألم تعلم أنه مجنون قد كاد أنه يصرع عند امرأة ابن أبي كبشة ، وقال الثالث : دعوه إن شاء أن يكون أحمق وإن شاء أن يكون مجنونا والله ما يكون ما يقول أبدا فغضب حذيفة من مقالتهم فرفع جانب الخباء فأدخل رأسه إليهم وقال : فعلتموها ورسول الله بين أظهركم ، ووحي الله ينزل إليكم؟ والله لأخبرنه بكرة مقالتكم ، فقالوا له : يا عبد الله وانك لههنا وقد سمعت ما قلنا؟ أكتم علينا فإن لكل جوار أمانة ، فقال لهم : ما هذا من جوار الأمانة ولا مجالسها ، ما نصحت الله ورسوله إن أنا طويت عنه هذا الحديث ، فقالوا له : يا عبد الله فاصنع ما شئت لنحلفن انا لم نقل وانك قد كذبت علينا افتراه يصدقك ويكذبنا ونحن ثلاثة؟ فقال لهم : أما أنا فلا أبالي إذا أديت النصيحة إلى الله وإلى رسوله فقولوا ما شئتم أن تقولوا ، ثم مضى حتى أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي إلى جانب محتب بحمايل سيفه فأخبره بمقالة القوم فبعث إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتوه فقال لهم : ما ذا قلتم؟ فقالوا : والله ما قلنا شيئا فإن كنت أبلغت عنا شيئا فمكذوب علينا فهبط جبرئيل بهذه الآية : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ) وقال علي عند ذلك ليقولوا ما شاءوا والله إن قلبي بين أضلاعي وإن سيفي لفي عنقي ولأن هموا لأهمين فقال جبرئيل (عليه السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : أخبر الأمر الذي هو كائن فأخبرني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا بما أخبر به جبرئيل فقال : إذا اصبر للمقادير.

٢٣٠

تابوا عن ارتدادهم : (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) وهذا نص في قبول توبتهم لصريح وعد الخير (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) معرضين على ما هم عليه من الكفر والنكران (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ومن عذاب الدنيا خروجهم عن قوة الإسلام وأمنه ، وقتلهم قضية حكم الارتداد المعمّد دون توبة ، إذا فتوبة المرتد مقبولة بذلك النص ، ولكن المنافق المتعمق المتحقق في نفاقه ، المتعرق في كفره ، ليس ليتوب وكما توعده الله بالعذاب من ذي قبل (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (٦٦) ، ثم (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

ذلك ، فكلمة الكفر إضافة إلى باطنه ، تقلب الإنسان ظهر بطن ، فالحذر الحذر من حصائد الألسنة وكما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم» (١)فإن أكثر معاثر الأقدام ، ومصارع الأنام هي من جرائر ألسنتهم عليهم ، وعواقب الأقوال السيئة التي تؤثر عنهم ، فالألسنة هي الزارعة وهي الحاصدة ما تزرعها.

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)(٧٦).

معاهدة على شرط (لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ) فهم أنحس ممن (يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) (٢٢ : ١١) (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) وأخذوا يعيشون على رغد عيش وطمأنينة جأش «بخلوا به» نقضا ل «لنصدقن» ثم (وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) نقضا ل (لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) وذلك من أنحس الخيانة الكافرة ، فهل هم بعد يوفّقون لتوبة حتى يتوب الله عليهم كما وعد (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ)!.

ذلك ، وقد يجري بصورة خفيفة في غير المنافق من ضعيف في

__________________

(١) المجازات النبوية للسيد الشريف الرضي (٩٨).

٢٣١

إيمانه كثعلبة بن خاطب ومن أشبه (١) ولكن النص يحمل صورة ثقيلة لا تحمل مثل ثعلبة إلّا جريا في خفيفها.

ولأن تخلف العهد نفاق فيه ، ولا سيما إذا أضيف إليه الإعراض ، فقد يدوم ذلك النفاق عقابا معقبا :

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)(٧٨).

«فأعقبهم» ذلك النفاق الكافر ، ف «أعقبهم» الله ، بذلك (نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ) عريقا يبقى (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) أعقبهم (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) : إعقابا بإعقابهم عقابا هنا ، جزاء وفاقا ، (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

فكما الإيمان يعقب إيمانا على إيمان وهدى على هدى : (الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) كذلك الكفر والنفاق يعقبان كفرا ونفاقا على القلوب (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) فلا يوفقون لتوبة إذ صدت على قلوبهم منافذ النور إلى مهاوي النار : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ).

__________________

(١) مجمع البيان قيل نزلت في ثعلبة بن خاطب وكان من الأنصار قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ادع الله أن يرزقني مالا ، فقال : يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه أما لك في رسول الله أسوة حسنة؟ والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت ، ثم أتاه بعد ذلك فقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أدع الله أن يرزقني مالا والذي بعثك بالحق لئن رزقني مالا لأعطين كل ذي حقه حقه ، فقال :اللهم أرزق ثعلبة ، قال : فاتخذ غنما فنمت كما ينمى الدود فضاقت عليه المدينة فتنخى منها فنزل واديا من أوديتها ثم كثرت حتى تباعد عن المدينة فاشتغل بذلك عن الجمعة والجماعة فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المصدق ليأخذ الصدقة فأبى وبخل وقال : ما هذه إلا أخت الجزية ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يا ويل ثعلبة فأنزل الله عزّ وجلّ الآيات.

٢٣٢

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) وهم يسيرون بالكفر ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) سرا ونجوى وأخفى منهما غيبا ، كالنيات المستقبلة والأفعال الآتية ، فالسر قبال التجوي ، و «أخفى» هو الأخفى منهما.

فما دام النفاق غير مرتكن في القلب أمكن إزالته ، فإذا ارتكن معمّدا متواترا فأصبح القلب ركاما من النفاق لم تمكن إزالته ، وحتى إذا أرادها حيث (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) بما كانوا يفعلون.

وهنا (يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) هو لقاء العلم حيث يكشف الغطاء ، وهو لقاء عالم الله حيث لا خيرة للعبد ، ويوم لقاء الحساب والجزاء بلقاء وعد الله ، فهو يوم الموت ، ثم لا دور للنفاق إلا الجزاء الوفاق.

وهنا «ما وعدوه» تحلّق على كافة المواعيد الربانية فطرية وعقلية ، ثم قالية وحالية إخلافا حليقا ، طليقا عن «ما وعدوه» ثم هم «يكذبون».

فمن بذور النفاق الكافر إخلاف وعد الله وتكذيبه ، وقد يروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أئتمن خان» (١) وهؤلاء هم :

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٧٩).

(الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) هم المتطوعون في كل شيء لله ، متطوعين «في الصدقات» تطوعا لواجب الصدقة وراجحها ، حيث يصدّقون بالزائد عن حاجاتهم المتعوّدة ، فهم أولاء الأنكاد «يلمزونهم» تعييبا وتأنيبا في كل تطوعاتهم و «في الصدقات» و «يلمزون ـ (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) وهم يصّدّقون مجهودهم (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) فهؤلاء

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٦١ ـ أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

٢٣٣

(سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) في الدنيا والآخرة بما يعقبهم من العذاب والتباب ، سخرية بسخرية وأين هي من هيه؟ ، حيث (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) و «إن الله تعالى لا يسخر ولا يستهزأ ولا يمكر ولا يخادع ولكنه تعالى يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا» (١).

وهنا التطوع الإيماني في الله له بعد ان اثنان : تكلف في الطوع في واجب أو راجح في واسع من الجهد ، ثم تكلف فيه في أصل الجهد وهو ضيقه وجهد المقل (٢) وهما من سماحة الإيمان فليس هنا واقع التكلف ، إنما هو ظرفه لمن لا ينفق ، فاللّامزون الساخرون من هؤلاء هم الساخرون من شرعة الله وسماحته في أمره بالإنفاق والتصدق ولا سيما جهد المقل ، و «قد أفلح المزهد المجهد قد أفلح المزهد المجهد» (٣).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٤٧ في عيون الاخبار باسناده إلى الحسن بن علي بن فضال عن الرضا (عليه السلام): ..

(٢) نور الثقلين ٢ : ٢٤٦ في تفسير القمي في الآية جاء سالم بن عمير الأنصاري بصاع من تمر فقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كنت ليلتي أجر الجرير حتى عملت بصاعين من تمر فأقرضته أحدهما فأمسكته وأما الآخر فأقرضته ربي فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينثره في الصدقات فسخر منه المنافقون وقالوا : والله أن الله لغني عن هذا الصاع ما يصنع الله بصاعه شيئا ولكن أبا عقيل أراد أن يذكر نفسه ليعطي من الصدقات فقال الله : سخر الله منهم ولهم عذاب أليم.

وفيه عن المجمع روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه سئل فقيل يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال : جهد المقل.

وفي الدر المنثور ٣ : ٢٦٢ عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا فجاء عبد الرحمن فقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندي أربعة آلاف ألفين أقرضهما ربي وألفين لعيالي فقال : بارك الله لك فيما أعطيت وبارك الله لك فيما أمسكت وجاء رجل من الأنصار فقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إني بت أجر الجرير فأصبت صاعين من تمر فصاعا أقرضته ربي وصاعا لعيالي فلمزه المنافقون قالوا : والله ما أعطى ابن عوف الذي أعطى إلا رياء وقالوا : أو لم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟ فأنزل الله (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ ..).

(٣) المصدر أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي السليل قال : وقف علينا شيخ

٢٣٤

أجل ، جهد المقل المزهد هو أفضل الصدقة ولكن «أبدا بمن تعول» (١) وأما (يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) فلا تعني حرمان من تعول ، إنما هو إيثار بعد واجب النفقة ، وإلا فهو إيثار الإعسار المحظور في شرعة الله لمكان النهي : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) و (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) : الزائد عن الحاجة الطبيعية ، وبغير إسراف أو تبذير ولا إقتار.

أجل وإن هؤلاء المنافقين البخلاء عما يتوجب عليهم قد يتعدى بخلهم إلى منفقين غيرهم ساخرين منهم ومستهزئين بهم ، تقولا وتغولا على هؤلاء المؤمنين السمحين المنبعثين إلى الصدقات بكل طواعية نفس ورضا قلب ، حيث يتطوعون تكلفا متعودا في غير ما تكلف أو تخلّف ، حيث طوعوا أنفسهم لكل المشاق في سبيل الله لحد أصبحت المشقة لهم راحة ، والصعوبة لهم رياحة دون أية عاهة.

ذلك لأن هؤلاء الأنكاد الساخرين لا يدركون المشاعر الرفرافة المنبعثة من هذه الذوات الطاهرة الغامرة من حب الله وحب أهل الله.

فهؤلاء الأغباش العباد لا توبة لهم ولا غفران حيث «أعقبهم (نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) ف :

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ

__________________

ـ في مجلسنا فقال : حدثني أبي أو عمي أنه شهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبقيع قال : من يتصدق اليوم بصدقة أشهد له بها عند الله يوم القيامة فجاء رجل لا والله ما بالبقيع رجل أشد سواد وجه منه ولا أقصر قامة ولا أذم في عين منه بناقة ، لا والله ما بالبقيع شيء أحسن منها فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : هذه صدقة؟ قال : نعم يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلمزه رجل فقال : يتصدق بها والله لهي خير منه فسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلمته فقال : كذبت بل هو خير منك ومنها ثلاثة مرارا ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إلا من قال بيده هكذا أو هكذا وقليل ما هم ثم قال : قد أفلح المزهد المجهد مرتين.

(١) المصدر عن أبي هريرة أنه قال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي الصدقة أفضل؟ قال : جهد المقل وابدأ بمن تعول.

٢٣٥

اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٨٠).

هنا «سبعين» عدد غير محدّد ، حيث أتي به هنا للتكثير ، بقرينة «لن» حيث تحيل الغفر عن بكرته على أية حال وقبلها مساوات الاستغفار وتركه أيا كان ، ومن بعد (بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا) فهذه الثلاثة آيات بينات لكون «سبعين» واردة مورد التكثير دون حد لعده ، ومن ثم (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) تحيل غفرهم على أية حال ، فلا يصدق المفترى على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول : «لأزيدن على السبعين» (١) فيبدوا هنا أنه بدا له أن يستغفر لهم أم بدأ يستغفر لمكان (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) فهنا الله يخبره أن مصير هؤلاء مقرر ، وحسابهم مختوم محتوم ، فلا مجال لتوبتهم أو الاستغفار لهم ، فالقلب حين يختم عليه ويسد عنه كل منافذ النور فلا مجال بعده إليه من نور : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).

وهنا (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ) أمرا (أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) نهيا هما سيان في واقع الاستغفار (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وليس الاستغفار إلّا لغفر برجائه ، وحين لا رجاء فالاستغفار لغو ينزّه عنه ساحة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٦٤ ـ أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عروة أن عبد الله بن أبي قال لأصحابه : لو لا أنكم تنفقون على محمد وأصحابه لا نفضوا من حوله وهو القائل : ليخرجن الأعز منها الأذل فأنزل الله الآية قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأزيدن على السبعين فأنزل الله (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

وفي نور الثقلين : ٢ : ٢٤٧ عن تفسير العياشي عن العباس بن هلال عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال : إن الله تعالى قال لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) فاستغفر لهم مائة مرة ليغفر لهم فأنزل الله (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وقال «لا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ، فلم يستغفر لهم بعد ذلك ولم يقم على قبر واحد منهم».

٢٣٦

ذلك ومثله كثير مثل (أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٦٤ : ٦).

والمستفاد من «لن يغفر» بعد (أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ) ومن بعد (بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا ..) أنه يحرم الاستغفار لمن تبين أنه من أصحاب الجحيم ، وقد تبين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ببيان الله تعالى ذلك فلم يستغفر لهم ولن ، إذ (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيم) (٩ : ١١٣).

أفبعد ما تبين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد بيان الله أن هؤلاء المنافقين لا يستغفر لهم ، يخلد بخلده أن يستغفر لهم مأة مرة تأويلا ل (سَبْعِينَ مَرَّةً) المحظورة بنفس العدد ، وهذه القرائن القاطعة تؤكد أنه فقط للتكثير ، فلو استغفر لهم مليارات المرات إلى يوم القيامة فلن يغفر الله لهم.

أفهكذا تهتك ساحة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) القدسية أنه لم يتبين ببيان الله حرمة الاستغفار لهم فاستغفر مأة أو حاول؟!.

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) (٨١).

«المخلّفون» هم الذين خلّفوا عن الجهاد بما تخلّفوا استئذانا لقعودهم وهم فرحون (بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) حيث خالفوا أمر قائد القوات الرسولي نفاقا عارما (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) كراهية هي طبيعتهم المنافقة الكافرة ، ومن قالهم في قعودهم خلاف رسول الله : (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ)(١) تظاهرا بمصلحية الحفاظ على

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٦٥ عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر ـ

٢٣٧

نفوسهم ، رغم أن واجب الجهاد ـ ولا سيما في استنفاره العام ـ لا يعرف حرا ولا بردا وما أشبه (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ) المؤججة على المخلّفين المخالفين (أَشَدُّ حَرًّا) مما تزعمون (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) الحق المرام ، بتفقه صالح ينتج لهم علما غائبا بعلم حاضر ، ولكنهم (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ـ

وهنا «لو» تحيل فقههم عن تقصير تحول إلى قصور ، كما أن «لن يغفر» إحالة بما اختاروا ذلك النفاق وثبتوا عليه قصورا عن تقصير.

وهنا «خلاف» دون «خلف» تعني معنى زائدا عن الخلف وهو أنه خلف الخلف ، حيث تخلفوا أم خلّفوا ، فإنهم بين من استاذن متخلفا ومن نهي عن الخروج ، ف «المخلفون» دون «المتخلفون» لكي تشمل إلى المستأذنين للقعود آخرين منعوا عن الخروج ، سواء الذين استأذنوا منهم للخروج : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ... فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ)(٨٣) أم لم يستأذنوا للخروج أم قعود وهم منعوا عن الخروج ، ثالوث منحوس من «المخلّفين» هم فرحون بمقعدهم خلاف رسول الله ، وما (قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) إلّا الأولين ، ولكن «المخلّفون» تعم إليهم الآخرين.

ذلك ، وإن كانوا هم يشفقون من ذلك الحر ، ويؤثرون راحة الجسد المسترخية في ظلال ، على راحة الروح بروح ورضوان ، فما هم فاعلون ـ إذا ـ بحر جهنم وهي أشد حرا وامدّ طولا وطولا؟ .. إنها لسخرية مريرة وهي حقيقة لهم حقيقة بهم ، إذا :

__________________

ـ الناس أن ينبعثوا معه وذلك في الصيف فقال رجال يا رسول الله الحر شديد ولا نستطيع الخروج فلا تنفروا في الحر فقال الله : قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فأمره بالخروج.

وفيه أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : استدار برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجال من المنافقين حين أذن للجد بن قيس ليستأذنوه ويقولون : يا رسول الله ائذن لنا فإنا لا نستطيع أن نتفر في الحر فأذن لهم وأعرض عنهم فأنزل الله في ذلك : (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ..).

٢٣٨

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٨٢).

هل الأمران هنا تكليفيان؟ والمنافق لا يأتمر بأمر فكيف يكلف به؟! إنهما تعجيزيان (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً) هنا كما هم ضاحكون فرحون بمقعدهم خلاف رسول الله ، ومهما حسبوه كثيرا ولكنه في الحق قليل (١) : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) (٩ : ٣٨) ثم (وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) هنا لو يعلمون ما هو حالهم بمآلهم ، وبعد الموت تحسرا وتأسفا على ما مضى وتخوفا على الحاضر هناك والمستقبل.

إذا فلا واقع لأمر ضحكهم بعد الموت ، وإنما «فليضحكوا» هنا قليلا وكل حياة الدنيا قليل ، «وليبكوا» هنا وهناك «كثيرا» وهو في نفسه كثير فضلا عن نسبته إلى ما هنا.

وهنا (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) كما تختص البكاء الكثير باليوم الأخير ، كذلك تختصهما جميعا بالمنافقين والكافرين ، فلا تشمل المؤمنين ، اللهم إلا غضا عن «جزاء» تأويلا ل «فليضحكوا ..» وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» (٢).

ذلك ، فقد يعني الأمران هنا إلى التعجيز التكليف مهما لا

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٦٥ عن ابن عباس في الآية قال : الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاءوا فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله استأنفوا بكاء لا ينقطع أبدا.

(٢) المصدر أخرج ابن مردويه عن أنس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني أرى ما لا ترون واسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا والله لا تعلمون ما أعلم ... وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله لوددت أني كنت شجرة تعضد.

وفي مفتاح كنوز السنة مثله نقلا عن : بخ ـ ك ١٦ ب ٢ ، ك ٦٧ ب ١٠٧ ، ك ٨١ ب ٢٧ ، ك ٨٣ ب ٣ ، تر ـ ك ٣٤ ب ٩ ، مج ـ ك ٣٧ ب ١٩. مى ـ ك ٢٠ ب ٢٦ ، حم ثان ص ٢٥٧ و ٣١٢ و ٤١٧ و ٤٣٢ و ٤٥٣ و ٤٦٧ و ٤٧٧ و ٥٠٢ ، ثالث ص ١٠٢ و ١٢٦ و ١٥٤ و ١٨٠ و ١٩٢ و ٢١٠ و ٢١٧ و ٢٤٠ و ٢٤٥ و ٢٥١ و ٢٦٨ و ٢٩٠ ، خامس ص ١٧٣ ، سادس ص ٨١ و ١٦٤ ، ط ـ ح ٢٠٧١.

٢٣٩

يأتمرون ، أن على الكفار والمنافقين أن يقللوا من ضحكهم هنا ويكثروا من البكاء بما قدمت لهم أنفسهم (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) هنا ، ثم (لْيَبْكُوا كَثِيراً) جزاء هناك.

وكذلك الأمر للمؤمنين تغاضيا عن الجزاء السوء ، بل حصولا على الحسنى في الحياة الأخرى حيث الضحك الكثير آية الغفلة والغفوة ، مهما كان المؤمن بشره في وجهه وحزنه في قلبه ، فهو حين يضحك حزين على ما يرى في الأرض من الفساد.

ذلك ، وعلى كل مقصر مؤمنا أو كافرا أن يبكي كثيرا على تقصيره وقصوره ، وتخضعا لله.

وطبيعة الحال في الكافر الغافل والمؤمن المستغفل أن يكون فرحا ، وتعاكسها في المؤمن النابه أن يكون قرحا ، فالكافر فرح بحريته في شهواته وله رفاق فيها كثير ، وليس قرحا إلا قليلا فيما لا ينال شهوة أو تناله مصيبة.

والمؤمن قرح حيث الإيمان هو قيد الفتك ، ولما يرى في الأرض من الفساد الكثير ورفاقه في الإيمان قليل.

والضحك المحظور للمؤمن هو الناشئ عن الغفلة ، دون الضحك بشرا تلطيفا لجو المجتمع الذي يعيشه ، فإنه محبور ، وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبتسما.

إذا فالضحك والبكاء هما ظاهرتان ـ في الأغلب ـ لفرح أو قرح في القلب ، فلأن قلب المؤمن قرح بما يرى من نفسه ومن سواه ، فهو باك وإن لم يظهر بكاءه ، حيث الأصل في البكاء هو انكماش النفس ، كما أن قلب الكافر فرح مرح حيث يعيش حرية أهواءه ومعه رفاقه الكثير مهما لم يظهر فرحه.

فالأصل في (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) هم غير المؤمنين ، هنا لو عرفوا مآلهم بحالهم الكافرة ، وهناك ليس إلا البكاء شاءوا أم أبوا.

ثم الأصل في المؤمنين أن يكونوا فرحي القلب (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً)

٢٤٠