الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠
١
٢

٣
٤

٥
٦

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ

٧

هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ

٨

وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(٣٦)

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)(٢٥).

«لقد» في تأكيدين اثنين (نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) : من جبهات القتال وسواها ، حيث عشتم نصر الله ، (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) فلما كثرتم فأعجبتكم كثرتكم انكسرتم حيث انفلت عنكم صالح التوكل على الله ورجاء نصر الله (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) حين تركتم ما يغنيكم من نصر الله (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ) : أرض المعركة أم وسواها (بِما رَحُبَتْ) رحبة كأرض الصراع والوقاع لمكان كثرتكم أم ككل الأرض ، وضيقة بما ضيقكم إعجابكم وثقتكم بأنفسكم (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) فرارا عن عدوكم ، وفي الأثر أن (مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) هذه هي ثمانون موطنا.

وترى «كثيرة» هنا دليل عناية ثمانين فيما تطلق على أية حال؟ والمطلق إذا عني أكثر منها أو أقل لا يعني من كثرته إلّا ما عنى ، وإذا لم يعن حدا معينا فعرفية الكثرات تختلف حسب الحالات والملابسات والإمكانيات ، فمن مقلّ كثيرة أقل من ثمانين بكثير ، ومن مكثر ثريّ كثيرة أكثر منه بكثير طالما اتفق ، صدق «كثيرة» لمن يملك مالا يعد الثمانون له

٩

كثيرا ، إذا فكيف يستدل ب «كثيرة» هنا أنها معنية لأقل تقدير فيما تطلق بحقل الإنفاق أم سواه؟ (١).

ثم «كثيرة» في مواطن القتال هي أكثر كثيرة ، ومن ثمّ هي في مواطن أخرى بين كثيرة وقليلة ، والثالثة هي الأخرى قلة قليلة ، فمن ينذر أن يتزوج كثيرا لا تعدو كثرته أربعا وما زاد ، والذي يملك مليارات حين ينذر أن يدفع كثيرا لا يعد ثمانون منه إلّا أقل قليل!.

إذا فالكثيرة في كل حقل وحالة وملابسة لها حدّها كما تعرفها أعرافها ، دون أن يحد لها حد خاص هو قليل أو أقل قليل في بعض ، أم كثير أو أكثر كثير في آخر وبينهما عوان.

(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) وهو واد بين مكة والطائف وقعت فيه غزوة حنين حيث تناصر فيها هوازن وثقيف على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والذين معه ، فانهزموا في البداية ثم هزموا بنصر الله في النهاية ، واختصاص (يَوْمَ حُنَيْنٍ) بالذكر بين كل المواطن دليل أنه أهم مما سواه ، وحتى من فتح مكة ، فإن تغلّب زهاء ثمانين من المؤمنين على أربعة آلاف هو منقطع النظير في كل تاريخ الحروب! : فلما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة وقد بقيت من رمضان أيام خرج متجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف بعد ما بلغه انهم جمعوا له ليقاتلوه ، فسبقهم إلى أرض

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٩٦ في معاني الأخبار عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال في رجل نذر أن يتصدق بمبال كثير فقال : الكثير ثمانون فما زاد لقول الله تبارك وتعالى (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) وكانت ثمانين مو طنا. وفي تفسير العياشي يوسف بن السخت وتفسير القمي محمد بن عمير وفي الكافي مرسلا كان المتوكل اعتل علة شديدة فنذر إن عافاه الله أن يتصدق بدنانير كثيرة أو قال : بدراهم كثيرة فعوفي فجمع العلماء فسألهم عن ذلك فاختلفوا عليه ، قال أحدهم : عشرة آلاف وقال بعضهم : مائة ألف ، فلما اختلفوا قال له عيّاده : ابعث إلى ابن عمك محمد بن علي الرضا (عليه السلام) فاسأله فبعث إليه فسأله فقال : الكثير ثمانون ، فقالوا رد إليه الرسول فقل من أين قلت ذلك؟ فقال : من قول الله تبارك وتعالى (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) ، وكانت المواطن ثمانين موطنا».

١٠

المعركة ، وكانوا أربعة آلاف وجيش الإسلام بين عشرة آلاف واثنى عشر أو ستة عشر ألفا ، ألفان منهم من الطلقاء المكيين ، فقد كانوا لأقل تقدير ثلاثة أضعاف العدو معاكسة لأصحاب بدر وهم ثلث العدو ، ولكنهم هزموا العدو في بدر وانهزموا في حنين في البداية ، لمكان الروحية العالية الغالية في بدر ، وبخلافها الإعجاب بكثرتهم والاعتماد بأنفسهم في حنين ، ولا سيما أن هذه الهزيمة العظيمة كانت بعد فتح مكة الذي هو فتح الفتوح ، حيث أخذتهم غرة الفتح وعزّته ونزوته وخطوته من ناحية ، وكثرتهم من أخرى ـ بمن معهم من طلقاء مكة ـ فتخلّوا عما تحلّوا به يوم بدر ومكة ، فانهزموا في البداية ليعلموا أنما النصر من عند الله العزيز الحكيم ، وهكذا يبتلي الله المؤمنين بكلّ من الهزيمة ، والغلبة الهزيمة العظيمة ، ولكي يحافظوا على حالة الإيمان وهالته على أية حال ، دون إعجاب وإدغال.

فهنا من انفعال الإعجاب بالكثرة ـ التي لم يكن لها مثيل طول حروب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إلى زلزلة الهزيمة العظيمة الروحية ، إلى انفعال الضيق والحرج حتى لكأن الأرض الرحبة ضاقت عليهم ، وإلى حركة الهزيمة الحسية وتولية الأدبار والنكوص على الأعقاب.

ذلك ، ولكي يعرفوا أن الكثرة العددية ـ بسابق فتح الفتوح قريبا ـ هي بمجردها ليست بشيء للجماعة المؤمنة ، وكما درسوا من بدر الكبرى وأحد ، إنما هي العارفة المطمئنة بالله المتجردة لله وفي سبيل الله مهما كانت قلة ، بما في الكثرة أحيانا دخلاء غير مؤمنين ، تائهين في غمارها ، غير مدركين حقيقة العقيدة التي ينساقون في تيارها ، فتتزلزل أقدامهم وترتجف في ساعة الشدة ، ف (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) وقد قامت كل ثورة صالحة عقيدية بالصفوة المختارة ، لا بالكثرة المحتارة والزبد الرغو الذي يذهب جفاء ، ولا الشيم الذي تذروه الرياح.

فالحرب السجال بهزيمة الكثرة وغلب القلة أم سواها ، هي للمؤمنين درس يوقظهم ، أن عليهم بجنب ما يعدّون من قوة جسدانية لجسد

١١

الحرب ، أن يعدوا لأنفسهم قوة روحية هي أريح وأروح للقلب لهم وللغلب على عدوهم.

ولقد كره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إعجابهم بكثرتهم ، وفرارهم على كثرتهم (١) ثم القلة الباقية مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الواقية له استحقوا نصرا من الله بعد ذلك الكسر الذي كان لغيرهم ومنهم الإمام علي (عليه السلام) حيث قتل بيده يوم حنين

__________________

(١)الدر المنثور ٣ : ٢٢٤ ـ أخرج ابن أبي حاتم عن عروة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقام عام الفتح نصف شهر ولم يزد على ذلك حتى جاءته هوازن وثقيف فنزلوا بحنين وهو واد إلى جنب ذي المجاز وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال : لما اجتمع أهل مكة وأهل المدينة قالوا : الآن والله نقاتل حين اجتمعنا فكره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قالوا وما أعجبهم من كثرتهم فالتقوا فهزمهم الله حتى ما يقوم منهم أحد على أحد حتى جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينادي أحياء العرب إلي فو الله ما يعرج إليه أحد حتى أعرى موضعه فالتفت إلى الأنصار وهم ناحية فناداهم يا أنصار الله وأنصار رسوله إلي عباد الله أنا رسول الله ، فعطفوا وقالوا يا رسول الله ورب الكعبة إليك والله فنكسوا رؤوسهم يبكون وقدموا أسيافهم يضربون بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى فتح الله عليهم.

وفيه عن أبي عبد الرحمن الفهري بسياق القصمة على طولها : فاقتحم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن فرسه وحدثني من كان أقرب إليه مني أنه أخذ حفنة من تراب فحثاها في وجوه القوم وقال : شاهت الوجوه ، قال يعلي بن عطاء فأخبرنا أبناءهم عن آبائهم قالوا : ما بقي منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه من التراب وسمعنا صلصلة الحديد على الطست الحديد فهزمهم الله.

وفيه عن عبد الله بن مسعود قال : كنت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم حنين فولّى الناس عنه وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار فكنا على أقدامنا نحوا من ثمانين قدما ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على بغلته فمضى قدما فقال : ناولني كفا من تراب فناولته فضرب وجوههم فامتلأت أعينهم ترابا وولى المشركون أدبارهم ، وفيه عن يزيد بن عامر السوائي قال : أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم حنين قبضة من الأرض فرمى بها في وجوه المشركين وقال : ارجعوا شاهت الوجوه فما أحد يلقاه أخوه إلّا وهو يشكو قذى في عينيه ويمسح عينيه.

١٢

أربعين (١).

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٧).

«ثم» بعد تلك الهزيمة العظيمة ، حين لم يبق مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ لأكثر تقدير ـ إلا ثمانون من الأوفياء ، واحد بخمسين أمام العدو بعد ما كانوا أربعة بواحد فهم إذا ١ / ٢٠٠ ، هنالك (أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ) كما يحق له ويناسب محتده الرسولي تسكينا لخاطره الشريف القريح الجريح من تلك النكسة (وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) كما يحق لهم ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) فناصروكم في ضرب عدوكم ، وعلّ منها الكف من التراب الذي حثّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في وجوههم ، فمهما رآه من رأى لم يكونوا ليروا كيف أثر ذلك الأثر العظيم لحد فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا حتى هزمهم الله عزّ وجلّ (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٠١ في روضة الكافي بسند متصل عن عجلان أبي صالح قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ..

(٢) المصدر عن العباس بن عبد المطلب قال : شهدت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم حنين فلقد رأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ... فلزمنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم نفارقه وهو على بغلته الشهباء التي أهداها فروة بن معاوية الجذامي فلما التقى المسلمون والمشركون ولى المسلمون مدبرين وطفق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يركض بغلته قبل الكفار وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة ألا تسرع وهو لا يألو ما أسرع نحو المشركين .. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا عباس : ناد يا أصحاب سورة البقرة ، فو الله لكأني عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ينادون يا لبيك يا لبيك ، فأقبل المسلمون فاقتتلوا والكفار وارتفعت الأصوات وهم يقولون : يا معشر الأنصار ، ثم قصرت الدعوة على بني الحرث بن الخزرج فتطاول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو على بغلته فقال : هذا حين حمى الوطيس ثم أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رميات فرمى بهن ـ

١٣

و «المؤمنين» النازلة عليهم السكينة هنا مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هم الثابتون في هذه الهزهزة المزمجرة وفيهم «علي بن أبي طالب (عليه السلام)» وهو أفضلهم (١).

(وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بتلك السكينة وهؤلاء الجنود وبما للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والذين ظلوا معه والتحقوا به من صمود ، وهؤلاء هم القلة الباقية.

(ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الذي حصل للقلة ، وعلى الكثرة (عَلى مَنْ يَشاءُ) من المتخلفين عن المعركة حيث ولّوا أدبارهم دونما أي مبرر ، يتوب على شروطها (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فيا لهذه السكينة الرسالية المكينة ـ النازلة على الرسول ، والنازلة على المؤمنين ـ من فاعلية خارقة للعادة ما لها من مثيل ، اللهم للأصيل في طاعة الله من الرسول والذين معه.

ذلك ، وسكينة الله تنزل كأحق منزل على الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم على صالحي المؤمنين في ساعات الحزن والعسرة ، فليت شعري كيف لم تنزل على صاحبه في الغار وهو في عهد عميق الحزن لحد ينهاه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) ثم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) غير الحزين تنزل عليه ـ فقط ـ السكينة دونه ، أفلا يدل ذلك على أنه حينذاك لمّا يصل إلى درجة إيمان يستحق به السكينة التي تنزل بعد الرسول على المؤمنين حيث (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) (٩ : ٤٠) ، و (هُوَ الَّذِي

__________________

ـ وجوه الكفار ثم قال : «انهزموا ورب الكعبة فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى فما هو إلا أن رماهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحصيات فما زلت ..».

(١) ملحقات إحقاق الحق ١٤ : ٥٩٤ الحسكاني في شواهد التنزيل ١ : ٢٥٢ بسند متصل عن الضحاك في الآية قال : نزلت في الذين ثبتوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم حنين علي والعباس وحمزة في نفر من بني هاشم ، وعن الحكم بن عيينة قال : أربعة لا شك فيهم أنهم ثبتوا يوم حنين فيهم علي بن أبي طالب.

١٤

أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) (٤٨ : ٤) (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (٤٨ : ١٨) فهذه لهم فقط ، ثم مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في آيتنا وثالثة في الفتح : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٢٦) ثم لا نجد تنزل هذه السكينة الإيمانية على المنهزمين في حنين كما لم تنزل على صاحب الغار ، فلما يعلم الله ما في قلوب المؤمنين من طمأنينة الإيمان يتزل عليهم السكينة ، لهم أو مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فما لصاحبه في الغار ـ إذا ـ أن لم ينزل من سكينة عليه وهو ينزلها على رسوله فيه؟ لأنه علم ما في قلبه ، وانه لما يستعد لنزول السكينة الإيمانية عليه! كما في الأكثرية المؤمنة يوم حنين.

و «السكينة» وصف لمحذوف ك «الحالة ـ الهالة ـ الرحمة» أماهيه من موضوعات توصف ب «السكينة» ومن لطيف التعبير في الأثر أن «لها صورة كصورة وجه الإنسان» (١) ، فقد تعني «كصورة وجه لإنسان» إنسان الرسالة في الرسول ، وإنسان كامل الإيمان في المؤمنين الماكنين ، فالصورة الإنسانية لها واجهتان أولاهما ما تحصل بمساعي الإيمان ، وثانيتها ما ينزله الله على تلك الصورة ، فقد تكون صورة العصمة النازلة على صورة العصمة الرسالية لتزداد عصمة وطمأنة فيها ، أم صورة الإيمان الزائدة على صورة من الإيمان تستحق نزول السكينة الإيمانية المزيدة على ما كان.

وعلى أية حال هي لا تخلوا من سكينة الإيمان أم سكينة العصمة

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٠١ في تفسير العياشي عن الحسن بن علي بن فضال قال قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام) للحسن بن أحمد : أي شيء السكينة عندكم؟ قال : لا أدري جعلت فداك أي شيء هو؟ فقال : ريح من الجنة تخرج طيبة لها صورة كصورة وجه لإنسان فتكون مع الأنبياء.

وفي الكافي علي بن أسباط قال سألته فقلت جعلت فداك ما السكينة : قال : ريح من الجنة وجه كوجه الإنسان أطيب ريحها من المسك وهي التي أنزلها الله على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحنين فهزم المشركين.

١٥

مزيدة على كلّ ، باستحقاق لحاق العصمة أو الإيمان.

فليست سكينة الله ـ فقط ـ لتسكن القلوب عن اضطراب في مواقف الإيمان ومحاورة ، بل (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) لهم ، وليزداد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عصمة على عصمته ، وأما الذي ليس له إيمان واثق ولما يرتكن في قلبه ، فلا يصلح قلبه لهذه السكينة الخاصة بالقلوب المطمئنة المرتكنة بالإيمان.

وترى (جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) هلا يرونها المشركون أيضا كما «لم تروها»؟ «لم تروها» تلمح أنهم رأوها ، وإلّا لكان صحيح العبارة «لم تر» حتى يحلّق سلب الرؤية على الفريقين ، إضافة إلى أن في عدم رؤية العدو إياهم عدم لانهباط أنفسهم وروحياتهم ، فلا بد ـ إذا ـ من رؤيتهم إياهم حتى ينهزموا برؤيتهم كما ينهزمون بوقعتهم (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٢٨).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٢٦ ـ أخرج مسدد في مسنده والبيهقي وابن عساكر عن عبد الرحمن مولى أم برثن قال : حدثني رجل كان من المشركين يوم حنين قال : لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقوموا لنا حلب شاة إلا كفيناهم فبينا نحن نسوقهم في أدبارهم إذ التقينا إلى صاحب البغلة البيضاء فإذا هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتلقتنا عنده رجال بيض حسان الوجوه قالوا لنا : شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا وركبوا أكتافنا وكانت إياها ، وفيه أخرج البيهقي من طريق ابن إسحاق حدثنا أمية بن عمرو بن عثمان بن عفان أنه حدث أن مالك بن عوف بعث عيونا فأتوه وقد تقطعت أوصالهم فقال : ويلكم ما شأنكم؟ فقالوا : أتانا رجال بيض على خيل بلق فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى ، وفيه عن ابن عثمان الحجبي عن أبيه قال خرجت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم حنين والله ما خرجت إسلاما ولكن خرجت اتقاء أن تظهر هوازن على قريش فو الله اني لواقف مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قلت يا نبي الله إني لأرى خيلا بلقاء ، قال يا شيبة انه لا يراها إلا كافر فضرب بيده عند صدري حتى ما أجد من خلق الله تعالى أحب إلي منه قال : فالتقى المسلمون فقتل من قتل ...

١٦

هذه الآية هي الوحيدة في القرآن نصا ب (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) مستمسكة للذين يقولون بنجاسة المشركين البدنية إلى النفسية والعملية ، وقد يتجاوزون عنهم إلى سائر الكافرين والبعض من فرق المسلمين!.

وهنا «إنما» تحصر المشركين في «النجس» أنهم بكل كيانهم نجس ، ولا تحصر «النجس» في المشركين ، وهل إنه مع النجاسة والنجاسة النفسية في قالهم وحالهم وفعالهم ، نجاسة معها جسدية أيضا ١ ولا ملازمة بينهما ، كما افترقا في المنافقين الذين أنفسهم أنجس من أنفسهم أولاء فهم في الدرك الأسفل من النار ، وتأثير النجس في مجاورة مشروط بشروط هي هنا فاقدة ، كالمسانخة والرطوبة وما أشبه ، وحتى إن أثرت الروح النجسة في الجسم فتلك إذا نجاسة عرضية وليست عينية ذاتية ، ولو أن الروح بخفتها تؤثر في الجسم بثقله لكانت الأبخرة المتصلة بالنجاسات كلها نجسة!.

٢ ثم النجس لم يأت في القرآن إلا هنا وهو بمعنى النجاسة في غير الجسم كما في أضرابه من الرجز والرجس ، وهنا يبرز المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن وفد ثقيف لما قدموا عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب لهم قبة في المسجد فقالوا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوم أنجاس؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «إنه ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء إنما أنجاس الناس على أنفسهم» (١) ويروى أيضا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) شرب من أوانيهم (٢).

__________________

(١) آيات الأحكام للجصاص ٣ : ١٠٥ روى حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص أن وفد ثقيف ..

(٢) أطبق إخواننا على طهارة المشركين ووافقهم منا ابن الجنيد وابن أبي عقيل والمفيد في المسائل الغرية حيث قال : يكره مواكلتهم ، ومال إليها صاحب المدارك والمفاتيح ، والروايات المشعرة بنجاستهم محمولة على التنزيه لغلبة تنجسهم دون تطهير ، أم نجاسة أرواحهم ، ولا برهان لأصحابنا على نجاسة المشركين إلا روايات نجاسة أهل الكتاب أم ـ

١٧

فروايته الأخرى أن «من صافح مشركا فليتوضأ أو ليغسل كفيه» (١) بين محمولة على التنزيه أم سواه مما لا تلزمه النجاسة الجسدية المتعدية إلى ملاصقها.

ثم لو كان دخول النجس الظاهري الجسداني محرما في المسجد الحرام لكان من المحرم إدخال أية نجاسة فيه ، بل وفي الحرم كله حيث القصد من المسجد الحرام هنا الحرم كله ، وكيف بالإمكان التحرز عن دخول أية نجاسة في الحرم كله والعائشون في الحرم يتنجسون وينجسون الحرم قضية الضرورة الحيوية الإنسانية ليل نهار ، ومما يدل على هذه الوسعة (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) إذ لا تخاف إلا في خارج المسجد نفسه ، مكة أو الحرم كله.

ثم الإشراك ـ وهو أمر نفسي ـ لا ينجس إلّا حامله وهو النفس ، دون الجسد الذي ليس ليؤمن أو يشرك خارجة عن محور الإيمان والإشراك ، فلا صلة للإشراك الذي ينجس النفس ، بالبدن الذي لا يشرك

__________________

ـ والمجوس ، وهي معروضة على آية المائدة الدالة على طهارتهم.

هذا وممن وافقنا من أكابر المعاصرين العلامة المغفور له الطباطبائي صاحب الميزان في ٩ : ٢٢٩ قائلا : وفي تعليله تعالى منع دخولهم المسجد بكونهم نجسا اعتبار نوع من القذارة لهم كاعتبار نوع من الطهارة والنزاهة للمسجد الحرام وهي كيف كانت أمر آخر وراء الحكم باجتناب ملاقاتهم بالرطوبة وغير ذلك.

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٢٧ ـ أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من صافح .. وفيه أخرج ابن مردويه عن هشام بن عروة عن أبيه عن جده قال : استقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جبرئيل (عليه السلام) فناوله يده فأبي أن يتناولها فقال يا جبرئيل ما منعك أن تأخذ بيدي؟ فقال : إنك أخذت بيد يهودي فكرهت أن تمس يدي يدا قدسها يد كافر فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بماء فتوضأ فناوله يدع فتناولها ، أقول : نجاسة اليهودي تعارضها آية المائدة (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) ثم من شرط واجب الغسل في مس النجاسة الرطوبة المسرية ولم تفرض هنا رطوبة يد النبي أو جبرئيل ، بما في هذا الحديث من مزرءة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنه ترك حكما كان يعلمه من شرعة الله!.

١٨

ولا يؤمن ، كما في نفس المنافق التي هي أنجس من نفس الكافر.

كما وأن نجس العين لا يطهر إلّا بالاستحالة والإسلام لا يستحيل به إلّا النفس المسلمة دون الجسد!.

فالنجاسة الجسمية بين عينية ذاتية وعرضية ولا ثالث لهما ، فكيف يكون المشرك نجس العين ثم يطهر دون تحول ، والنجس العرضي لا يطهر إلّا بمطهر مادي!.

فحتى لو كان النجس يعم الجسم إلى النفس أم يخص الجسم فيما يطلق ، فمناسبة الحكم والموضوع هنا تحكم ـ فقط ـ بنجاسة النفس ، فكما «المشركون» هم أرواحهم الشريرة ، كذلك «نجس» هو تلك الأرواح ، وليست مع الأجساد ، اللهم إلّا إذا تنجست أجسادهم بما ينجّس كل الأجساد ، ولا فارق هنا بين أجساد الموحدين والمشركين.

فإذا قيل الملحد معوج ، فهل يظن أو يحتمل اعوجاج جسمه إلى روحه؟ فكما «الملحد» يفسّر الاعوجاج اختصاصا بالنفس الملحدة ، كذلك (الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ).

ثم الطهارة الغالية الروحية للمسجد الحرام تقتضي المشابهة لها المؤاتية إياها للداخلين فيه ، فليست النجاسة البدنية كما الطهارة الظاهرية واردة في حقل الآية.

ولو أنها عنت النجاسة البدنية الذاتية لما اختص المنع بدخول المسجد الحرام خوفة تنجيسه ، ولعم كافة المساجد ، ولأن المسجد الحرام هنا هو مكة كلّها ، فليعم المنع كافة البلاد الإسلامية بما فيها مساجد وأماكن أخرى محترمة محرمة التنجيس.

ثم وحرمة التنجيس لا تختص بحقل الإشراك ، بل والمسلم الذي يحمل نجسا ، فهل يمنع ـ إذا ـ عن دخول المساجد ، أو البلاد الإسلامية؟.

إذا فلا تدل الآية على نجاسة أبدان المشركين ، وذهاب بعض الأعلام وصريح بعض الصحاح في طهارتهم ينقض أو يفسر النجاسة

١٩

المذكورة في غيرها (١).

وسواء أكان «نجس» مصدرا أم كما النجس صفة ، فلا تحصر الآية النجاسة فيهم ، بل تحصرهم من الناحية الشركية في نجاسة أرواحهم وأقوالهم وأفعالهم المشركة ، دون أجسادهم غير المشركة ولا الموحدة ، وأما أهل الكتاب فهم نجس نسبيا وطاهرون كذلك حيث يخلطون الصالح مع الطالح قضية الشرعة الكتابية المحرفة والمنسوخة ، وقد طهرتم آية المائدة!

ذلك ، وحتى لو نص دليل على نجاسة أبدانهم فليس لزامه تعديتها إلى غيرها ، حيث التعدية كأصل النجاسة هي أمر تعبدي بحاجة إلى نص ثابت ولم تثبت للمشرك ، كما لا نص بنجاسة خصوص المشرك ، والروايات المستدل بها على نجاسة أهل الكتاب معروضة على آية المائدة ، إذا فكما لا دليل على نجاسة الكتابي ، بل آية المائدة دليل طهارته ، كذلك المشرك مهما لم يدل الكتاب على طهارته ، فإن فقدان الدليل على النجاسة كاف في الحكم بالطهارة.

والقول بوجوب أخذ ما خالف العامة في مختلف الفتيا بين الفريقين ، غير وارد هنا إذ لا نص على نجاسة المشركين البدنية حتى يرجح لمخالفة العامة على نص الطهارة.

وإذا لم نجد نصا على إحدى الفتويين طهارة ونجاسة فأصالة الطهارة محكمة ولا سيما في مثل هذه المسألة التي تعم بها البلوى ، ولم يرد أي نص على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أحدا من أئمة أهل بيته (عليهم السلام) عاملوا المشركين معاملة نجس العين المتعدي كسائر العيون النجسة المتعدية ، ولو كان لبان!.

(فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) وهنا «لا يقربوا» علّه منع عن كونهم في الحجاز أم قرب الحرم المكي ، فليس النص «لا

__________________

(١). تفسير الفخر الرازي ١٦ : ٢٤ واحتج القاضي على طهارتهم بما روي ...

٢٠