الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

ذلك ، ولأن الذين يأتون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليحملهم فلا يتحملهم ، هم بالغون أعلى قمم النصح عمليا للجهاد ، لذلك لم يشترط في عدم تحريجهم (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) فإنهم من أحسن المحسنين.

وقد نزلت الآية الثانية في البكائين (١) وقد يروى أنهم سألوه الحملان من النعال (٢) وهي أقل ما يحملهم للجهاد! وقد قال فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمام المجاهدين : لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا ولا نلتم من عدو نيلا إلّا وقد شركوكم في الأجر ثم قرأ الآية (٣).

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٩٣).

هنا يختص السبيل في الوجد والإنفاق ب (الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٦٧ ـ أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب قال جاء ناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستحملونه فقال : لا أجد ما أحملكم عليه فأنزل الله (وَلا عَلَى الَّذِينَ ..) قال : وهم سبعة نفر من بني عمر بن عوف سالم بن عمير ومن بني وافن حرمي بن عمرو ومن بني مازن ابن النجار عبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى ومن بني المعلى سلمان بن ضخر ومن بني حارثة عبد الرحمن بن زيد أبو عبلة ومن بني سلمة عمرو بن غنمة وعبد الله بن عمرو المزني.

(٢) المصدر أخرج ابن المنذر عن علي بن صالح قال حدثني مشيخة من جهينة قالوا : أدركنا الذين سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحملان فقالوا ما سألناه إلا الحملان على النعال ، وفيه أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إبراهيم بن أدهم في الآية قال : ما سألوه الدواب ما سألوه إلا النعال .. وعن الحسن مثله.

(٣) الدر المنثور ٣ : ٢٦٧ ـ أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : .. وفيه أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس أن ينبعثوا غازين فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن معقل المزني فقالوا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) احملنا فقال : والله ما أجد ما أحملكم عليه فتولوا ولهم بكاء وعز عليهم أن يحبسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملا فأنزل الله عذرهم (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ ..).

٢٦١

أَغْنِياءُ) والقصد من الغنى هنا ما يتمكن فيه من الإنفاق للجهاد بنفسه إن أمكن وبمن سواه ، وتجهيزا لمن لا يجد ، إن لم يمكن ، فمسؤولية الجهاد طليقة قدر الإمكانية بالنفس والنفيس ، بالدم والمال والتوجيهات الحربية والنصائح الراجعة إلى صالح الحرب وما سواها من سبل الله.

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) المتخلّفين عن مكنتهم أو القاصرين العجّز نساء ورجالا وأطفالا (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) مدى جريمتهم النكراء في التخلف عن الجهاد في سبيل الله.

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٩٤).

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ) : المجاهدين ، غادرين إذ مضى ما مضى وأنتم سالمون (إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) من النضال (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا) إذ (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) ثقة بصدقكم قضية اعتذاركم.

ولأن «لن» تؤيد السلب فقد تدل على أنهم غادرون في اعتذارهم وسواه على طول الخط حتى يلاقوا يومهم الذين كانوا يوعدون.

إذ (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) أن لن تؤمنوا ف (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) إيمان التأمين لتصديقكم وأمنه (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) في المستقبل كما مضى «ثم» بعد مثلث زمان الغدر والنفاق ، المحلق على حياة التكليف ككل (تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) وهناك (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إنباء عرض الأعمال كما صدرت ، وإنباء النتيجة كما أنتجت : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣ : ٣٠).

(سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٩٥).

(سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) معتذرين أنهم صادقون ، أم ومهما يكن في أمر

٢٦٢

(لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) دونما تنديد واستجواب (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) إعراضا قضية النفاق ، فقد لا يعني الإعراض المأمور به الإعراض المطلوب لهم ، بل هو بعد التنديد والتنكيد إعراض عنهم بجعلهم في عزلة كأنهم لا شيء ، فلا تحدثوهم بعد ولا تعاشروهم ولا تواصلوهم أبدا ، فقد وقعت المفاصلة التامة ل (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) فلا ترجسوا أنفسكم الطاهرة بمصاحبتهم ، ولا يرجى منهم أي خير حيث سدوا على أنفسهم كل منافذه (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) وليس التلطّف مع منافق أو كافر إلّا بغية انجذابه إلى الإيمان.

وهنا (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) قد تؤيد عدم نجاسة أبدان الكفار ، حيث الرجس وهو أنجس من النجس ـ وكما اختص ب (لَحْمَ خِنزِيرٍ) مع ردفه بالميتة والدم (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) ـ إنه لم ينجس أبدان المنافقين فكيف ينجس النجس أبدان المشركين ، فإنما هي رجاسة روحية لهم هي أرجس وأنجس من أرواح الكافرين ، ولذلك (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).

فذلك ـ إذا ـ تجسيم حسي للدنس المعنوي ، ترجيسا لأرواحهم النحسة ، مما يدعو إلى التقذر والاشمئزاز ، فهم رجس يلوث الأرواح ، ونجس يدنس المشاعر ، كالجثة المنتنة في وسط الأحياء حيث تؤذي وتعدي.

وهنا نتبين أن التجنب عن الأرجاس الروحية هو واجب المؤمنين ، اللهم إلّا إذا أثرت فيهم الدعوة الربانية أو أحتمل التأثير ، فأما إذا كان (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فهنا الإعراض عنهم للمؤمنين ، مهما كان للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) موقف آخر هو أوسع من سائر المواقف.

(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)(٩٦).

فالمؤمن لا يرضى إلا ما يرضاه الله فكيف ترضون عنهم بحلف وسواه (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) وفي حديث النبي (صلى الله عليه

٢٦٣

وآله وسلم) قال : «من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه ، وأرضى عنه الناس ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس» (١) وعن الإمام الرضا (عليه السلام): «من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخفف الله أخافه الله من كل شيء».

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٥٤ عن المجمع جاء في الحديث.

٢٦٤

الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٠٦)

٢٦٥

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٩٧).

تأتي «الأعراب» في عشرة كاملة من نصوص القرآن ، في كلها تنديدات بهم إلّا واحد هو : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) (٩٩) مما يدل على أنهم ككل إلا نزر قليل غارقون في الضلالة والمتاهة (١) ، اللهم إلّا نص ثان قد يعذرهم إذ لمّا يصلوا إلى الإيمان وهم يتحرون عنه : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٤٩ : ١٤).

ولا تعني «الأعراب» ـ على كل حال ـ الأمة العربية ، إنما هي من العرب : الظهور ، كإعراب الكلمة فإنه إظهارها في حالتها الأدبية في الجملة ، والعربي هو الظاهر كما و (عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) هو الظاهر المظهر ، وفي عربية القرآن ظهوران اثنان : أصل اللغة فإنها أعرب اللغات وأظهرها تأدية لمعانيها ، وشاكلة البيان المتميز في القرآن. فهم ـ إذا ـ أهل البوادي ، البعيدون بطبيعة المناخ الصحراوي ، عن الثقافة الإسلامية ، سواء أكانوا من الأمة العربية أم سائر الأمم ، دون اختصاص بمن يتكلم باللغة العربية ، حيث اللغة ولا سيما العربية لا تخرف أو تضل حتى يكون المتكلم بها أشد كفرا ونفاقا ممن سواهم ، وأجدر ألّا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ممن سواهم.

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٦٩ ـ أخرج أبو الشيخ عن ابن سيرين قال : إذا تلا أحدكم هذه الآية (الْأَعْرابُ أَشَدُّ ..) فليتل الآية الأخرى ولا يسكت (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

٢٦٦

فطبيعة البدوية المحشورة مع الدواب ، غير المحشورة مع المثقفين في الدين ، والبعيدة عن مراكز الثقافة الإسلامية ، إنها تبعدهم عن صالح العقلية الإنسانية فضلا عن العقلية الإيمانية ، حيث الغفلة والجفوة والجفاء كأنها أدغمت في طبايعهم ، فهم إلى النسناس أقرب منهم إلى الناس.

أذا فهكذا البلاد ـ مهما كانت عظيمة ـ البعيدة عن الثقافة الإيمانية بأي سبب كان ، إنهم من هؤلاء الأعراب الذين (أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً ..).

فلقد حق قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «من بدا جفا ـ من سكن البادية جفا» (١) وكان زيد بن صوحان يحدث فقال أعرابي إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني ، فقال : أم تراها الشمال؟ فقال الأعرابي : والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال ، قال زيد : صدق الله : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً ..)(٢).

ففي حقل الكفر والنفاق نجد الأعراب (أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ) فكفارهم أشد كفرا ممن سواهم ، ومنافقوهم أشد نفاقا ممن سواهم ، وجهالهم بحدود ما أنزل الله على رسوله أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله (٣) وهذه الجدارة ناشئة من ظروف حياتهم القاسية العاصية المستعصية وما تنشئه في طباعهم من جفوة ونكدة ، وبعد بعيد عن صالح المعرفة ، فالمادية الأصيلة في حياتهم لها دور سائد صامد في القيم القمم عندهم من الحصائل المادية.

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٦٩ ، الأول عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من بدأ جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن ، وما ازداد من السلطان قربا إلا ازداد من الله بعدا ، والثاني عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من سكن ..

(٢) المصدر أخرج ابن سعد وابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي قال : ..

(٣) الدر المنثور ٣ : ٢٦٨ ـ أخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) قال : من منافقي المدينة (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) يعنى الفرائض وما أمروا به عن الجهاد.

٢٦٧

فهم ـ إذا ـ في ذلك الثالوث أردئ من المؤمنين ، وهذه طبيعة الحال لمن سكن البادية ، بادية بادية عن الثقافة الإسلامية مهما كانت مدنية متحضرة بالحضارة المادية.

لذلك نسمع متظافر الحديث يقول : «تفقهوا في الدين فإنه من لم يتفقه في الدين فهو إعرابي ـ عليكم بالتفقه في الدين ولا تكونوا اعرابا فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزك له عملا» (١).

وهذا هو المعني من حديث الصادق (عليه السلام): «نحن بنو هاشم وشيعتنا العرب وساير الناس الأعراب» (٢) فالعرب هنا هم الظاهرون الباهرون ، الفاهمون شرعة الحق بمشايعة الشرعة الهاشمية المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم) والأعراب هم البدويون البعيدون عن ذلك.

وهكذا يعني من حديثه الآخر «نحن الناس وشيعتنا أشباه الناس وسائر الناس نسناس» حيث القصد من «شيعتنا» أشياع الحق الصراح القراح ، دون خليط بالباطل أيا كان.

إذا ففي حقل الكفر والنفاق والجهل «الأعراب» بمعناها الصالح هم (أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) وجهلا بحدود الله ، وفي حقل الإيمان والوفاق والعلم ، هم ـ بطبيعة الحال ـ أقل حظا في هذه الزوايا الثلاث.

لذلك كله لم يبعث الله رسولا قط من الأعراب : البدويين ، وإنما من القرى مدنا وسواها : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) (١٢ : ١٠٩).

وحين يهدي أعرابي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هدية

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٥٤ ، الأول في الكافي عن علي بن أبي حمزة قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : .. إن الله يقول في كتابه «لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ..» والثاني فيه عن المفضل بن عمر قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ..

(٢) المصدر.

٢٦٨

فيرد عليه بأضعافها حتى يرضى يقول : «لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو أوسي» لأن هؤلاء ليسوا من الأعراب البدويين.

ذلك ، ومن قسوتهم أن «قدم ناس من الأعراب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا : أتقبلون صبيانكم؟ قالوا : نعم ، قالوا : لكنا والله ما نقبل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وما أملك إن كان الله نزع منكم الرحمة» (١).

وهكذا نسمع تاريخ الأعراب قبل إسلامهم وبعده عن طابع الجفوة والفظاظة في نفوسهم.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٩٨).

«ومن» هؤلاء «الأعراب» الذين هم أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألّا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله (مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ) مصلحية الحفاظ على ظاهر الإيمان «يتخذ» ه «مغرما» تألفا ، إذ لا يؤمن بالله حتى يكون إنفاقه في سبيل الله فيرجو ثواب الله ، ثم (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) السيئة أن تدور بكم وتحور حولكم (٢) جبرا لكسرهم ـ ولأقل تقدير ـ رجعا لما أنفقوه من غنيمة وسواها ، ولكن «عليهم» أنفسهم (دائِرَةُ السَّوْءِ) إذ يرجع إنفاقهم النفاق عليهم وزرا ووبالا ، ولا تدور الدوائر المتربصة لهم على المؤمنين إلّا عليهم أنفسهم (وَاللهُ سَمِيعٌ) بقالهم «عليم» بحالهم وفعالهم ، وهذه طبيعتهم الشريرة القاحلة الجاهلة إلّا من هدى الله.

ولأن المغرم من الغرم وهو نزول نائبه بالمال ، لازبة به ، فقد خيّل

__________________

(١) من حديث مسلم قال حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو أسامة وابن نمير عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت : قدم ...

(٢) الدوائر هي الحالات والأزمنة التي تدور حول الإنسان بأعيانها وأشيائها وكأنها هيه وقد اختصت بالمواضع المكروهة التي تدور على الإنسان وتحيره أو تغيره.

٢٦٩

إلى هؤلاء أن الإنفاق في سبيل الله نائبة لازبة لا مخلص عنها ، ثم الدائرة هي الحالة التي تدور بين مختلف الناس ، وتتغلب على الحالات السيئة التي تحيط بمن تدور عليه ، وهنا (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) تختص بهم سيئاتهم ، فقد تدور على المؤمنين دوائر هي ابتلاءات لهم فهي لهم خيّرة مهما تظهر بمظهر السيئة ، بل وكضابطة كلّ ما يصيب المؤمن قضية إيمانه هو خير له مهما كان عليه صعبا ملتويا ، وكلما يصيب غير المؤمن قضية فسقه فهو شر له مهما كان له سهلا وفقا لما يشتهيه.

إذا ف (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) إخبار في موقف دعاء ، وفي تقديم الظرف حصر لدائرة السوء فيهم وحسر عن المؤمنين ، فمهما تربص الضالون بالمؤمنين دوائر السوء فليس ليصيبهم إلّا خير ، وعليهم أنفسهم دائرة السوء.

فلقد ردت عليهم دائرة السوء فلا تفلتهم ، وتطبّق عليهم فلا تدعهم ، وهكذا نرى المنافقين الجفات كيف يعيشون ضنك الحياة الجهنمية هنا قبل الجحيم هناك : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ..).

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩٩)

هؤلاء الأكارم بين أولئك اللئام هم نزر ندر حيث (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فلتة منهم في اللفتة إلى إيمان ، وشذوذ عن البدوية البعيدة إلى منجزات الإيمان (وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ) في سبيل الله (قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ) فهناك إنفاق مغرم وهنا إنفاق مغنم ، وعلّ جمعية القربات رغم إفراد «ما ينفق» هي قضية جمعية النيات والطويات الصالحة في مختلف مجالات الإنفاق في سبيل الله.

هكذا (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) حيث أمر أن يصلي عليهم في صدقاتهم : «وصل عليهم» (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) وهنا الإفراد علّه يعني

٢٧٠

جنس القربة الشاملة ل «قربات وصلوات» قربة لهم في الدارين حسب نياتهم واندافاعاتهم الإيمانية ، ومن قربة لهم (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) جزاء وفاقا (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) عن قصوراتهم وتقصيرات لهم «رحيم» بهم.

فمهما كانت طبيعة الأعرابية بعض الجفوة والغفلة ، ولكن الإيمان بالله واليوم الآخر والإنفاق في سبيل الله ، هما حسنيان عظيمتان يستحقون بهما قربة ورحمة.

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(١٠٠).

هنا زوايا ثلاث لهندسة الإيمان الصالح هي : (مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) وهم كلهم (السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) حيث الثلاث كلهم مصاديق لهم فلا تعنيان ـ إذا ـ سبقا زمنيا وأولية زمنية ، إنما هما السبقة والأولية في الصبغة الإيمانية في مثلث الزمان ، فالذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، أولئك هم مع هؤلاء على سواء (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ..) بدرجاتها حسب الدرجات.

فرغم ما يهواه الخليفة عمر ومن ينحو منحاه لا رجاجة للمهاجرين على الأنصار لسبقهم عليهم في زمن الإيمان ، ولا لهما فضل على الذين اتبعوهم بإحسان ، فإن فواصل الزمان والمكان ، والموقعية التأريخية والجغرافية أماهيه ليست بالتي تفضّل زاوية من هذه الثلاث على الأخرى اللهم إلّا بسبقة الصبغة الإيمانية مهما كان صاحبها بعيدا زمانا ومكانا ونسبة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والذين معه (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٦٩ ـ أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي قال : مر عمر برجل يقرء: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ..) فأخذ عمر بيده فقال : من أقرأك هذا؟ قال : أبي بن كعب ، قال : لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فلما جاءه قال عمر : أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال : نعم ، قال : وسمعتها من رسول ـ

٢٧١

فحين يهوى الخليفة إسقاط الواو بين (الْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) ليجعل الأنصار من أتباع المهاجرين لأنه منهم ، يصرخ صارخ الحق : أين الواو يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! وخلافا لما يهواه عمر نسمع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يبجل الأنصار أكثر من المهاجرين بكثير لأنهم نصروه أكثر منهم ومن ذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو لا الهجرة كنت امرء من الأنصار (١).

__________________

ـ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال : نعم ، قال : لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا فقال أبي تصديق ذلك في أول سورة الجمعة (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) ، وفي سورة الحشر : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) ، وفي الأنفال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ).

وفيه أخرج أبو الشيخ عن أبي أسامة ومحمد بن إبراهيم التيمي قالا مر عمر بن الخطاب برجل وهو يقرأ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) فوقف عمر فلما انصرف الرجل قال : من أقرأك هذا؟ قال : أقرأنيها أبي بن كعب قال فانطلق إليه فانطلقا إليه فقال : يا أبا المنذر أخبرني هذا أنك أقرأته هذه الآية؟ قال : صدق تلقيتها من في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال عمر : أنت تلقيتها من في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال فقال في الثالثة وهو غضبان : نعم والله لقد أنزلها الله على جبرئيل (عليه السلام) وأنزلها جبرئيل (عليه السلام) على قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يستأمر فيها الخطاب ولا ابنه فخرج عمر رافعا يديه وهو يقول : الله أكبر الله أكبر ، وفي تفسير الفخر الرازي ١٦ : ١٧١ روى أن عمر بن الخطاب كان يقرأ والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان ، فقال له أبي والله لقد أقرأنيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذا الوجه ـ بالواو ـ وانك لبيع القرظ يومئذ بالمدينة فقال عمر : صدقت شهدتم وغبنا وفرغتم وشغفنا.

(١) المصدر أخرج أحمد عن أنس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأزواج الأنصار ولذراري الأنصار كرشي وعيبتي ولو أن الناس أخذوا شعبا وأخذت الأنصار لأخذت شعب الأنصار ولو لا الهجرة كنت امرأ من الأنصار ، وفيه عن معاوية بن أبي سفيان سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : من أحب الأنصار أحبه الله ومن أبغض الأنصار أبغضه الله ، وفيه عن مسلم قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): آية الإيمان حسب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار.

وفيه عن (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : اللهم صل على الأنصار وعلى ذرية الأنصار

٢٧٢

__________________

ـ وعلى ذرية الأنصار ، وعن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو سلك الناس واديا وشعبا وسلكتم واديا وشعبا لسلكت واديكم وشعبكم ، أنتم شعار والناس دثار ولو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ثم رفع يديه حتى أتي لأرى بياض إبطيه فقال : اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار ، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) ألا إن عيبتي التي آوي إليها أهل بيتي وان كرشي الأنصار فاعفوا عن مسيئهم واقبلوا من محسنهم ، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر.

وفيه أخرج الطبراني عن السائب بن يزيد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قسم الفيء الذي أفاء الله بحنين في أهل مكة من قريش وغيرهم فغضب الأنصار فأتاهم فقال : يا معشر الأنصار قد بلغني من حديثكم في هذه المغانم التي آثرت بها أناسا أثالفهم على الإسلام لعلهم أن يشهدوا بعد اليوم وقد أدخل الله قلوبهم الإسلام يا معشر الأنصار ولم يمن الله عليكم بالإيمان وخصكم بالكرامة وسماكم بأحسن الأسماء أنصار الله وأنصار رسوله ولو لا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار ولو سلك الناس واديا لسلكت واديكم أفلا ترضون أن يذهب الناس بهذه الغنائم والنعم والبعير وتذهبون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقالوا : رضينا ، فقال : أجيبوني فيما قلت قالوا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجدتنا في ظلمة فأخرجنا الله بك إلى النور ووجدتنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله بك ووجدتنا ضلالا فهدانا الله بك فرضيا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا فقال : أما والله لو اجبتموني بغير هذا القول لقلت صدقتم ، لو قلتم : ألم تأتنا طريدا فآويناك ومكذّبا فصدقناك ومخذولا فنصرناك وقبلنا ما رد الناس عليك ، لو قلتم هذا لصدقتم ، قالوا : بل لله ولرسوله المن والفضل علينا وعلى غيرنا.

وفي نور الثقلين ٢ : ٢٥٤ عن أصول الكافي علي بن إبراهيم عن أبيه عن بكر بن صالح عن القاسم بن بريد قال حدثنا أبو عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له : إن للإيمان درجات ومنازل يتفاصل المؤمنون فيها عند الله؟ قال : نعم ، قلت : صف لي رحمك الله حتى أفهمه ، قال : إن الله سبق بين المؤمنين كما يسبق بين الخيل يوم الرهان ثم فضلهم على درجاتهم في السبق إليه فجعل كل امرء منهم على درجة لا ينقصه فيها من حقه ولا يتقدم مسبوق سابقا ولا مفضول فاضلا ، تفاضل بذلك أوائل هذه الأمة وأواخرها ولو لم يكن للسابق إلى الإيمان فضل على المسبوق إذا للحق أواخر هذه الأمة أولها نعم ولتقدموهم إذا لم يكن لمن سبق إلى الإيمان الفضل على من أبطأ عنه ولكن بدرجات الإيمان قدم الله السابقين وبالإبطاء من الإيمان أخر الله المقصرين لأنا نجد من المؤمنين من الآخرين من هو أكثر عملا من الأولين وأكثرهم صلاة وصوما وحجا وزكوة ـ

٢٧٣

وحين لا يجرأ عمر على هيبته وجرأته أن يسقط حرفا واحدا من القرآن ، فكيف يجرأ مثل عثمان بن عفان أن يسقط أو يزيد سورا أو آيات؟ والله تعالى ضمن صيانة القرآن عن كل تحريف وتجديف بتأكيدات منقطعة النظير ك (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٥ : ٩) وما أشبه.

وهنا (السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) تشمل ـ فيما تشمل ـ سبقة هؤلاء الثلاث على هؤلاء الأعراب ، فإن للقروية والبدو دورا في تأخر الإيمان على أية حال.

لذلك يلحق هؤلاء الأكارم من الأعراب ب (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بعد «قربة لهم ـ و ـ في رحمته» وهنا التلحيق (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وذلك لعظيم الفوز في حقل الإيمان الصالح لغير الأعراب من السابقين الأولين.

ثم (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) ليست لتفضل المتبوعين على التابعين ، فإن المقتدي هدى من قبله قد يفوقه أو يساويه أو ينقص عنه ، فحين يقول الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٦ : ٩٠) لا يعني أنه أدنى منهم ، وإنما

__________________

ـ وإنفاقا ولو لم يكن سوابق يفضل بها المؤمنون بعضهم بعضا عند الله لكان الآخرون بكثرة العمل مقدمين على الأولين ولكن أبي الله عزّ وجلّ أن يدرك آخر درجات الإيمان أولها ويقدم فيها من أخر الله أو يؤخر فيها من قدم الله ، قلت : أخبرني عما ندب الله عزّ وجلّ المؤمنين إليه من لاستباق إلى الإيمان؟ فقال : قول الله عزّ وجلّ : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ ...) فبدأ بالمهاجرين الأولين والأنصار على درجة سبقهم ثم ثنى بالأنصار ثم ثلث بالتابعين لهم بإحسان فوضع كل قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده ...

وفيه في روضة الكافي علي بن إبراهيم عن ابن أبي عمير عن عمرو بن أبي المقدام قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : خرجت أنا وأبي حتى إذا كنا بين القبر والمنبر إذا هو بأناس من الشيعة فسلم عليهم ثم قال : إني والله لأحب ريحكم وأرواحكم فأعينوني على ذلك بورع واجتهاد واعلموا أن ولايتنا لا تنال إلا بالورع والاجتهاد ومن أئتم منكم بعبد فليعمل عمله ، أنتم شيعة الله وأنتم أنصار الله وأنتم السابقون الأولون والسابقون الآخرون ، السابقون في الدنيا والسابقون إلى الجنة.

٢٧٤

(فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فإنها هدى الله ، دون هدى من سواهم فإنها متخلفة عن هدى الله.

فهكذا (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) اقتداء بهداهم لأنها هدى الله ، ولكلّ درجات مما عملوا حسب الدرجات.

فلا تفضل فواصل الزمان والمكان أم أيا كان بين رعيل الإيمان ، إنما هو فاضل الإيمان ، فصلا بين أصل الإيمان وفصله ، أم فصلا بين درجات الإيمان ، فقد يجمع بين علي (عليه السلام) وسلمان في هذه السبقة السبغة الإيمانية ، وبينهما في الإيمان فصل الزمان ، وقد جمع علي (عليه السلام) بين سبقي الزمان ومكانة الإيمان (١) ف (الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) إنما تعني المعية الرسالية ، دون أية معية أخرى.

فقد يفوق مؤمنون ـ في زمننا أم فيما نستقبل ـ مؤمنين زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يحملون في إيمانهم معية رسالية فوق

__________________

(١) في ملحقات إحقاق الحق (٣ : ٣٨٦) أن الآية نزلت بحق علي وسلمان عن ثمانية من فطاحل العامة وهم الثعلبي في تفسيره المخطوط رواه بسند عن علي (عليه السلام) أنه قال : أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كذاب مفتر صليت قبل الناس سبع سنين ،والموفق بن أحمد المكي في المقتل ص (٤٠) والقرطبي في تفسيره والهيثمي في الصواعق عن المحرقة ص (١٥٩) ومجمع الزوائد (٩ : ١٠٢) وخواند مير في حبيب السير (٣ : ١١) وابن تيمية في رسالة رأس الحسين ص (٢٣) كلهم رووا أنه (عليه السلام) هو السابق الأول ، وابن مردويه في المناقب (كما في كشف الغمة ٩٤) روى أن السابقون الأولون علي وسلمان.

وفي الملحقات ١٤ : ٣٣٣ ـ ٣٣٤ مستدركا عما في (ج ٣) ومنهم ابن قايماز الذهبي في ميزان الاعتدال (١ : ٣٥) والعسقلاني في لسان الميزان (١ : ٢٢٧) والأمر تسرى في أرجح المطالب (٧٤ و ٢ و ٣) والحسكاني في شواهد التنزيل (١ : ٢٥٤) ومما رواه عن الحسن بن علي (عليه السلام) أنه حمد الله وأثنى عليه وقال : (السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) فكما أن للسابقين فضلهم على من بعدهم كذلك لعلي بن أبي طالب فضله على السابقين بسبقه السابقين ، وروى عن ابن عباس في الآية قال : نزلت في علي سبق الناس كلهم بالإيمان بالله وبرسوله وصلى القبلتين وبايع البيعتين وهاجر الهجرتين ففيه نزلت هذه الآية.

٢٧٥

السابقين الأولين زمنا ، ولذلك لما أنزلت هذه الآية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هذا لأمتي كلهم وليس بعد الرضا سخط (١).

وفي رجعة أخرى إلى الآية نجد الهجرة في الله والنصرة لله هما الركنان الركينان في حقل الإيمان ، فالمؤمن يتراوح بين مهاجرة بدين الله ومناصرة في دين الله.

فهنا (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) تعني متابعة المهاجرين في الهجرة المناصرة ومتابعة الأنصار في النصرة المهاجرة ، فإنهما صبغتان سابغتان سابقتان في ميادين الإيمان.

وهنا الإتباع في كلا الهجرة والنصرة يحمل مثلثا من المواصفات ، عطفا بسبقة وأولية ، وردفا «بإحسان» فالذين اتبعوهم بإحسان في السابقة والأولية هم منهم أم وأعلى منهم إذا علو هم فيما هم فيه.

ذلك ، وقد يتعلق «بإحسان» إضافة إلى (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) ب (السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) أيضا ، فكما اتباعهم المرضي ليس إلّا بإحسان ، كذلك المهاجرة والنصرة لا بد وأن تكونا بإحسان.

فالمؤمن أيا كان وأيان يعيش مهاجرة في دين الله ونصرة لدين الله والدينين ، ومتابعة للمهاجرين والناصرين ، دونما اختصاص بزمان دون زمان.

فقد يشكل صرح الإسلام مهندسا بهذه الثلاث :

والسبعة السابغة في هذه الثلاث هي المرضية عند الله مهما تأخر الزمن ، وغيرها غير مرضية وإن سبق الزمن ، فإنما القاعدة هنا هي أصل الإيمان بأبعاده ، سواء أكان متقدما أو متأخرا ، إلا إذا كان في التقدم

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٧١ ـ أخرج ابن مردويه من طريق الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير والقاسم ومكحول وعبدة بن أبي لبابة وحسان بن عطية أنهم سمعوا جماعة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولون : لما أنزلت هذه الآية ...

٢٧٦

الزمني تقدم رتبي ، كما والمتقدم الرتبي في المتأخر زمنا داخل في نطاق (السَّابِقُونَ).

«السابقون الأولون من المهاجرين» «السابقون الأولون من الأنصار» «السابقون الأولون من الذين اتبعوهم بإحسان» محلّقة على مثلث الزمان منذ يوم البعثة إلى يوم البعث ، وليس التقدم إلّا للأسبق الأسبغ في المهاجرة الحسنة والنضرة الحسنة مهما بعد الزمان والمكان ، فهنا لا تتحكم فواصل الزمان والمكان لفاصل الإيمان ، إنما الحكم هنا لفاضل الإيمان مهما كان للمتأخرين في الزمان.

ثم الإتباع المحبور هنا بإحسان محظور هناك بغير إحسان ، فمن إحسان الإتباع أن يكون على بصيرة تعني إتباع صراح الحق ، وهو بغير إحسان أن يكون على عمى وعمه دون أية بصيرة ، ف (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٣٩ : ١٨).

وهنا الباء في «بإحسان» تعني كل السببية والمصاحبة والظرفية ، اتباعا بسبب إحسانهم أولاء في المهاجرة والنصرة ، ومصاحبا للإحسان معرفيا وعمليا ، وفي ظرف الإحسان بكل ملابساته الصالحة ، وليس من إتباعهم بإحسان حسن القول فيهم مهما كانوا محسنين ، ولو أنه يشمل حسن القول فيهم لم يشمل المسيئين من المهاجرين والأنصار الذين لا يرضى الله عنهم.

ثم سواء أكان السبق والأولية هنا في الزمان مع سبق الإيمان وأوليته في الكيان أم دون زمان ، فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هم الرعيل الأعلى في حقلي الهجرة والنصرة أيا كانوا وفي أي زمان ، إذا ف (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) هم من دونهم في الثانية ، وهم ـ إضافة إليهم ـ من يفوقهم أو يساويهم في الأولى.

ف «من» على أي الحالين تبعيضية إذ ليس كل المهاجرين والأنصار في القمة المرموقة المتبوعة من الإيمان حتى يصبحوا أئمة المؤمنين.

٢٧٧

ثم (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ليست لتشمل كافة المؤمنين ، إنما هم القمة في الإيمان ، (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٩ : ٩٦) ف (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ..) (٤ : ١٢٣).

إذا فلا يختص رضى الله بالمهاجرين والأنصار ـ الأصحاب ـ والتابعين ، بل ولا تعمهم كلهم ، إنما مرضات الله تحلّق على كافة المؤمنين المهاجرين في الله ، المناصرين لدين الله ، تابعين ومتبوعين ، درجات حسب الدرجات ولا يظلمون نقيرا.

وإذا فلا دور لأفضلية أبي بكر ومن أشبه لأصل المهاجرة والمناصرة ، أم سبقه في الهجرة على علي (عليه السلام) حيث المقام بمكة بأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لإدارة شؤون المسلمين المحطّمين أفضل من مصاحبة الرسول في الغار وإلى الهجرة ، مهما كانتا ـ أيضا ـ بأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث التضحية ليلة المبيت تفوق الصحبة في الغار.

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ)(١٠١).

صحيح أن (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً ..) كأكثرية ساحقة أو مطلقة ، ولكن (مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) أكثر من الأعراب ، ف «منافقون» وصفا ل (مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) تعني طليق النفاق ، ثم (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) وصفا ل (مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) تعني النفاق الطليق ، وأين طليق النفاق من النفاق الطليق حيث (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) : تجردا عن أي وفاق ، فدخولا في أي نفاق ، حيث المرد هو الجرد وهو هنا التجرد عن أصول الإيمان وفروعه.

فأنت الرسول «لا تعلمهم» علامة وعلما إذ هم متسترون في نفاقهم بما مردوا ، وإنما (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) ف (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) مرة لأصل

٢٧٨

نفاقهم ، وأخرى لغلظة حيث (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) وذلك ثالوث العذاب ، فترى ما هما «مرتين» قبل (عَذابٍ عَظِيمٍ)؟ هما عذاب في الدنيا وكما يروى (١) وعذاب في البرزخ ومن ثم عذاب عظيم في الأخرى.

ذلك ، وقد تعني «مردوا» إلى (مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) (مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) حيث تعطف (مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) إلى «من حولكم ..» فهما ـ إذا ـ (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) ومما يؤيده أن (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) فكيف تختص (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) ب (مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) فهم ـ كما هنا ـ يتقدمون على (أَهْلِ الْمَدِينَةِ) لأن نفاقهم أشد وأمرد.

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٠٢).

«وآخرون» من الأعراب ، لا هم من المنافقين العاديين ، ولا الماردين على النفاق والشقاق ـ وهما مشتركان في عدم الاعتراف بذنبهم نفاقا ماردا وسواه ـ (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) في نفاقهم اعتراف التوبة أم لمّا يتوبوا وهم متحرون عنها ، حيث الاعتراف بالذنب هو من تقدمات التوبة وليس

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٧١ عن ابن عباس في الآية قال قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم جمعة خطيبا فقال : قم يا فلان فاخرج فانك منافق فأخرجهم بأسمائهم ففضحهم ولم يكن عمر بن الخطاب شهد تلك الجمعة لحاجة كانت له فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء انه لم يشهد الجمعة وظن الناس قد انصرفوا واختبئوا هم من عمر وظنوا أنه قد علم بأمرهم فدخل عمر المسجد فإذا الناس لم ينصرفوا فقال له رجل أبشر يا عمر فقد فضح الله المنافقين اليوم فهذا العذاب الأول والعذاب الثاني عذاب القبر ، ورواه مثله أبو مالك ، وفيه عن أبي مسعود الأنصاري قال : لقد خطبنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطبة ما شهدت مثلها قط فقال أيها الناس إن منكم منافقين فمن سميته فليقم قم يا فلان يا فلان حتى قام ستة وثلاثون رجلا ثم قال : إن منكم وإن منكم وان منكم فسلوا الله العافية فلقي عمر رجلا كان بينه وبينه إخاء فقال ما شأنك فقال أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطبنا فقال كذا وكذا فقال عمر أبعدك الله سائر اليوم.

٢٧٩

هو بنفسه التوبة ، وهم قضية اعترافهم بذنبهم ـ تابوا أم لما يتوبوا ـ (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً) قضية إيمان بعد اعترافهم (وَآخَرَ سَيِّئاً) إذ لمّا يتوبوا توبة نصوحا ، أم تابوا وهم ناقصون فيها ناقضون إياها أحيانا (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) فهم (مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) (٩ : ١٠٦) فإن عذبهم فبما يستحقون ، وإن تاب عليهم فبما اعترفوا وعملوا صالحا خليطا بآخر سيئا (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقد تدل (أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أنهم تابوا.

فآيتا (عَسَى اللهُ) و (مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) هما وسط عوان بين آيات تعد قاطع العذاب وأخرى تعد قاطع الرحمة والثواب ، فالرحمة هي قضية اعترافهم بذنبهم ليتوب عليهم في سيئاتهم بعد توبتهم ، والعذاب هو قضية (آخَرَ سَيِّئاً) إذ لم يتوبوا أم لم تتم توبتهم وتطم ، أم نقضوا توبتهم فتفلتت عنهم سيئات ، فهم على أية حال من أهل النجاة بما اعترفوا وعملوا من الصالحات ، وإنما الرجاء هنا بالنسبة ل (آخَرَ سَيِّئاً) ف (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) عساها ترجح توبته عليهم ، دون «إما يعذبهم أو يتوب عليهم» فإن عساها مرددة بين الأمرين.

و «عسى» هنا و «إما» هناك من الله لا تعني ترددا وترجيا لله ، بل هما بيان لموقفهم من الله ، أنه بين هذين دون تحتم لأحدهما.

ذلك ، وفي رجعة أخرى إلى الآية ، هنا عملا في (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) قد تعم عمل الجانحة إلى عمل الجارحة ، فإن كلا من الإيمان والعمل الصالح حين يفرد عن قرينة يشمل قرينة ، فكما العمل الصالح هو من الإيمان كذلك الإيمان هو من العمل الصالح ، بل هو أقدم وأحرى أن يسمى عملا صالحا ، فقد (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً) عقيديا وعمليا وكذلك (وَآخَرَ سَيِّئاً) فلم يخلص إيمانهم ولا عملهم عن سوء ، ولأنهم اعترفوا بذنبهم يوم الدنيا ، حيث الاعتراف بعد الموت لا يفيد ، بل وكلّ معترف بسيئاته شاء أم أبي ، وإنما هو الاعتراف قبل الموت ، مما يجعله كأنه تائب ، فان التائب عن الذنب كمن لا ذنب له ، وغير المعترف مذنب ، والمعترف بذنبه عوان بينهما ، ولذلك قد يتوب الله عليه هنا بعد

٢٨٠