الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

في غير باطل أو محظور ، وإن صرف في باطل ثم تاب فهل له من سهم الغارمين شيء ، حيث التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، و (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ)؟ كما وإطلاق الآية يشمله؟ أم لا نصيب له حيث صرفه في معصية ، والأخبار فيه مطلقة لا تتقيد بالتوبة ، الأشبه هو الأول لإطلاق الآية ، المتقيد به إطلاق الأخبار المقيدة بعدم صرفه في معصية ، وأنه أحرى من غيره تشجيعا على نصوح التوبة ، بل وأحرى من المؤلفة قلوبهم.

وقد يختص «الغارمين» ـ فيما يختص ـ بمن يعجز عن أداء دينه ، وإلّا فهو غني لا تحل له الصدقة ، وإن لم يملك إلا مؤنة سنته ، إما أن يؤديها أو بعضها لغريمه أم يصرفها في مؤنته ، فقد يشمله إطلاق الآية ، مهما أخرجته الرواية لأنه غني ، ولكنه يفتقر إذا أدى دينه ، والأحوط أن يؤدي دينه بمؤنته ثم يستكملها بالصدقة حيث يدخل ـ إذا ـ في نص الآية:«الفقراء والمساكين» (١) وقد كان داخلا في إطلاق الآية : «والغارمين»

__________________

ـ بأموال المساكين ، ثم الله لا يحب العاصين ، فكيف يزيدهم عصيانا أو يعينهم بأموال المساكين.

وفي خصوص الإسراف خبر الحسين بن علوان عن قرب الأسناد عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) إن عليا (عليه السلام) كان يقول : يعطى المستدينون من الصدقة والزكاة دينهم كله ما بلغ إذا استدانوا في غير إسراف (قرب الأسناد ١٤٦) وهو يعمم الاستدانة في معصية الله فإن صرف المال فيها من أسرف الإسراف.

وفي عموم عدم المعصية أم في طاعة الله خبر محمد بن سليمان المروي في الكافي باب الديون عن رجل من أهل الجزيرة يكنى أبا محمد قال : سأل الرضا (عليه السلام) رجل وأنا أسمع ـ إلى أن قال (عليه السلام) في إنظار المديون : نعم ينتظر بقدر ما ينتهى خبره إلى الإمام فيقضي عنه ما عليه من الدين من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله عزّ وجلّ فإن كان أنفقه في معصية الله فلا شيء له على الإمام (الكافي ٥ : ٩٣ ـ ٩٤).

وفي الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل عارف فاضل توفي وترك دنيا لم يكن بمفسد ولا مسرف ولا معروف بالمسألة هل يقضي عنه من الزكاة الألف والألفان؟ قال : نعم (الكافي ٣ : ٥٤٩).

(١) وقد يتأيد بما عن مستطرفات السرائر نقلا عن كتاب المشيخة لابن محبوب عن أبي أيوب ـ

١٨١

المشكوك شموله لهكذا غني ، والنتيجة واحدة.

وهل يجب إحراز أنه لم يقصّر ولم يسرف أو يبذر أو لم يصرفه في معصية الله؟ الظاهر نعم ، إلّا أنه يكفي ظاهر حال المسلم المحمول على الصحة ، لا سيما إذا ادّعى ذلك ، ثم إطلاق «الغارمين» يشمل موارد الشك ، ويقتصر على الخارج منه يقينا وهو المعروف من حاله صرفه في معصية الله.

وهل يشترط في الغارم العدالة ، أو الإيمان أو الإسلام؟ إطلاق الآية يرفضها كما يرفض كل شرط ، اللهم إلا الإسلام بل والإيمان ، فإن اشتراط ألا يعصى الله في دينه هو اشتراط الإيمان ، والكافر عاص لله على أية حال في دين وسواه.

ثم الغارم إنما يأتى من الزكاة لفقره بالنسبة لدينه مهما كان غنيا في نفسه ، فحصته من الزكاة إذا معلقة على عدم إمكانية أدائه على طول الخط ، فإن أمكنه الأداء بعد دونما عسر ولا حرج فليرد ما أخذ قدر المكنة والاستطاعة ، فإنما حصص الزكاة لهؤلاء ـ ككل ـ هي لسد ثغور الحاجة قدرها ، وأما المحتاج اليوم الغني غدا ، فليس له من الزكاة إلّا قدر اليوم ثم يردها عند المكنة حسب المستطاع ، إذا فحصة الزكاة للغارمين الذين يجدون فيما بعد ما يسدون ثغر الغرم ، هي لهم قرض مؤقت وليس ملكا طليقا.

وقد يشمل «الغارمين» الأغنياء الذين غرموا لغير مصالحهم الشخصية كإصلاح ذات البين بتحمل دية وما أشبه من أموال ، فسواء قدروا على أدائها أم لم يقدروا تشملهم «الغارمين» ويؤيده قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تحل الصدقة لغني إلا لخمس .. ورجلا تحمل حمالة ...

__________________

ـ عن سماعة قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل منا يكون عنده الشيء يتبلغ به وعليه دين أيطعمه عياله حتى يأتيه الله بميسرة فيقضي دينه أو يستقرض على ظهره في جدب الزمان وشرة المكاسب أو يقضي بما عند دينه ويقبل الصدقة؟ قال : يقضي بما عنده ويقبل الصدقة(السرائر ٤٧٢).

١٨٢

فكما لا يشترط الفقر في (الْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) ومن أشبه حفاظا على المصلحة الإسلامية ، كذلك لا يشترط في الغارمين اللهم إلا الغارم في مصالحه الشخصية وهو قادر على الأداء.

(وَفِي سَبِيلِ اللهِ) وهي واسعة اتساع سبل الله ، المحلقة على كافة المصالح الإسلامية الواسعة ، مهما كان من أبرزها سبيل الدعوة إلى الله والجهاد أو الدفاع في سبيل الله ، ولكنها ليست لتختص بهما ، وإنما هي (سَبِيلِ اللهِ) لا فقط ما ذكر من سبل الله.

وقد تكون (فِي سَبِيلِ اللهِ) هنا ضابطة عامة بعد موارد منها خاصة ، ولا ريب أن (سَبِيلِ اللهِ) هنا هي السبيل المحتاجة إلى مال ليس ليحصل من غير الصدقات التي هي للفقراء والمساكين ، فلا بد لسبيل الله ـ إذا ـ من فقر وحاجة كما للفقراء والمساكين ، وكما

عن العالم (عليه السلام) قال (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) قوم يخرجون إلى الجهاد وليس عندهم ما ينفقون أو قوم من المؤمنين ليس عندهم ما يحجون به وفي جميع سبل الخير فعلى الإمام أن يعطيهم من مال الصدقات حتى يقووا على الحج والجهاد (١) ، إذا فالستة السابقة على (فِي سَبِيلِ اللهِ) كما ابن السبيل بعدها ، هي من المصاديق الهامة ل (فِي سَبِيلِ اللهِ) فالفقراء والمساكين هما في قمة الأهمية ، ثم العاملين عليها ، ومن بعدهم بعدهما ، ولأنهم قد يخفون على المؤمنين كونهم من المصاديق الصادقة ل (فِي سَبِيلِ اللهِ) يذكرون تفصيليا ، وهؤلاء مرتبون ذكرا حسب رتبهم ، فما دام فقير لا تصل النوبة إلى مسكين ، وما داما هما لا تصل إلى العاملين عليها ، إلا إذا كانوا منهما فهم أحرى من غير العاملين فقراء ومساكين ، ثم وما داموا هم لا تصل إلى المؤلفة قلوبهم ، وما داموا هم لا تصل إلى «في الرقاب» حيث المؤلفة قلوبهم هم رقاب وأسرى في ضلال العقيدة ، فتحريرهم أحرى من الرقاب

__________________

(١). تفسير القمي ٢٧٤ والتهذيب ١ : ٣٦٢ في حديث طويل. وفي صحيحة علي بن يقطين المروية عن الفقيه أنه قال لأبي الحسن (عليه السلام) : يكون عندي المال من الزكاة أفا حج به مواليّ وأقاربي؟ قال : نعم» (الفقيه أبواب الزكاة رقم ٦٠).

١٨٣

في أبدانهم ، ثم الرقاب أحرى من الغارمين حيث الرقاب هم أسرى بأنفسهم والغارمون أسرى بما غرموا ، وأما (فِي سَبِيلِ اللهِ) فهي ضابطة عامة تحلق على كافة سبل الله ، ولذلك كررت لها «في» لمحة إلى استقلالها وأهميتها ، ثم ابن السبيل هو ابن سبيل الله ، فهما تعبيران عن جهات سبيل الله وأشخاص السبيل كضابطتين عامتين ، والمذكورون من قبل هم بين (فِي سَبِيلِ اللهِ) وابن السبيل ، ف (فِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ) هما من (فِي سَبِيلِ اللهِ) حيث لا يملكون صدقة بأنفسهم ، وإنما تصرف في صالحهم لمكان «في» والباقون هم من أبناء سبيل الله ولذلك ذكروا باللام حيث يملك الصدقة أشخاصهم.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) وتراه ـ فقط ـ ابن سبيل الله ، وهو المنقطع عن ماله في سبيل من سبل الله؟ إذا فابن السبيل في غير مرضاة الله ، أم والسبيل المباح الذي ليس مبغوضا ولا مرضيا لله ، هو خارج عن (ابْنِ السَّبِيلِ)؟ أم الخارج ـ فقط ـ هو سبيل غير الله وهي المحرمة في شرعة الله.

«السبيل» هنا هو (سَبِيلِ اللهِ) السابق ذكرها كضابطة لمصارف الصدقات ، وشرط ابن السبيل كأقل تقدير ألّا يكون في سبيل غير الله ، فليكن في طاعة الله أم دون معصية الله فإنه أيضا طاعة الله في عمل المباحات أم أيا كان من غير محظور ، وهو المقصود من «طاعة الله» في بعض النصوص (١) وليس سبيل المباحات خارجة عن سبيل الله حيث سبلها الله ولم يمنع عنها ف (ابْنِ السَّبِيلِ) هو الذي لا كافل له وهو منقطع عن ماله في الحال ، وليس في سبيل الحرام التي هي فقط خارجة عن السبيل.

وكذلك (ابْنِ السَّبِيلِ) الذي هو غني في هذه السبيل ، فلا بد له من رد ما أخذ ما أمكن ، وهل يشترط في (ابْنِ السَّبِيلِ) الفقر كالفقراء

__________________

(١) كما رواه القمي في تفسيره عن العالم (عليه السلام) قال : وابن السبيل أبناء الطريق الذين يكونون في الاسفار في طاعة الله فيقطع عليهم ويذهب مالهم فعلى الإمام أن يردهم إلى أوطانهم من مال الصدقات التهذيب ١ : ٣٦٢ وتفسير القمي ٢٧٤).

١٨٤

والمساكين؟ ظاهر مقابلته بهما ـ لا ، ولكن الغني في بلده يؤتى من الزكاة حتى يصل إلى بلده فيردها ، إذ «لا تحل الصدقة لغني».

وليس يختص ابن السبيل بالغريب عن وطنه ، بل هو الغريب عن ماله سواء أكان في وطنه وله مال في غيره ، أم في الغربة وله مال في وطنه ، أم ليس له مال على أية حال ، فانه فقير وابن سبيل ، تحق له الزكاة لأمرين اثنين قدر ما يكفيه حتى يغنى.

وقد يتوسع (ابْنِ السَّبِيلِ) إلى كل من هو يعمل في سبيل الله كالدعوة إلى الله ، غير الواجبة عليه ، أم والواجبة ، يدعو لحد إذا سئل ابن من هو ، يقال : ابن سبيل الله ، حيث ترك كل صلة إلا الصلة بالله ، وهو يعمل دوما في سبيل الله ، فلا يشترط ـ إذا ـ فيه الفقر ، بل والفقير المؤقت والمسكين تشملهما «الفقراء والمساكين» فكما لا يشترط الفقر والمسكنة في العاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب ، كذلك في (ابْنِ السَّبِيلِ) مهما كانت الحاجة مفروضة في الكل من غير جهة الفقر والمسكنة.

وفي التعبير عن الأربعة الأولى باللام الدال على الإختصاص الظاهر في الملك : (لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) دليل أنهم يملكون نصيبهم من الزكاة.

ثم التعبير عن الآخرين بصيغة أخرى (وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) لمكان «في» دليل على أن أصحابها لا يملكون نصيبهم وإنما يصرف في صالحهم ف «الرقاب» لا تملك وإنما تملك أن تعتق بنصيبها ، وكذلك «الغارمين» فإن صار لهم وجد رجعوه ، وكذلك قسم من (فِي سَبِيلِ اللهِ).

ولا تجوز مطالبة الزكاة إلا بلين ورحمة وحنان وكما قال الله (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) وفي الصحيح : قل يا عباد الله أرسلني إليكم ولي الله لآخذ منكم حق الله في أموالكم فهل لله تعالى في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟ فإن قال لك قائل : ـ لا ـ فلا

١٨٥

تراجعه وإن أنعم لك منعم فانطلق معه .. (١).

وهل يجب تقسيم الأسهم الثمانية على سواء؟ لا دليل عليه ولا هو صحيح في نفسه ، حيث الحاجات تختلف حسب مختلف الظروف والحاجيات (٢) والآية طليقة في التقسيم بينهم دون تسهيم بالسوية ، بل ولا

__________________

(١) حديث مفصل عن الكافي.

(٢) الوسائل ٦ : ١٨٣ عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث أنه قال لعمرو بن عبيد في إحتجاجه له ما تقول في الصدقة؟ فقرأ عليه الآية قال : نعم فكيف تقسمها؟ قال : أقسمها على ثمانية أجزاء فأعطي كل جزء من الثمانية جزء ، قال : وإن كان صنف منهم عشرة آلاف وصنف منهم رجلا واحدا أو رجلين أو ثلاثة جعلت لهذا الواحد ما جعلت للعشرة آلاف؟ قال : نعم ، قال : وتجمع صدقات أهل الحضر وأهل البوادي فتجعلهم فيما سواء؟ قال : نعم ، قال : فقد خالفت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل ما قلت في سيرته ، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر ولا يقسمها بينهم بالسوية وإنما يقسمها على قدر ما يحضرها منهم وما يرى ليس عليه في ذلك شيء مؤقت موظف وإنما يصنع ذلك بما يرى على قدر من يحضرها منهم.

وفيه عنه (عليه السلام) أتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشيء يقسمه فلم يسع أهل الصفة جميعا فخص به أناسا منهم فخاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون قد دخل قلوب الآخرين شيء فخرج إليهم فقال : معذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم يا أهل الصفة ، إنا أوتينا بشيء فأردنا أن نقسمه بينكم فلم يسعكم فخصصت به أناسا منكم خشينا جزعهم وهلعهم.

وفيه عن العبد الصالح (عليه السلام) ... ثمانية أسهم يقسم بينهم في مواضعهم بقدر ما يستغنون به في سنتهم بلا ضيق ولا تقتير فإن فضل من ذلك شيء رد إلى الوالي وان نقص من ذلك شيء ولم يكتفوا به كان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا ـ إلى أن قال ـ : وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم صدقات أهل البوادي في البوادي وصدقات أهل الحضر في أهل الحضر ولا يقسم بينهم بالسوية على ثمانية حتى يعطي أهل كل سهم ثمنا ولكن يقسمها على قدر من يحضره من أصناف الثمانية على قدر ما يقيم (يغني) كل صنف منهم بقدر سنته ليس في ذلك شيء موقوف ولا مسمى ولا مؤلف إنما يصنع ذلك على قدر ما يرى وما يحضره حتى يسد كل ناقة كل قوم منهم وإن فضل من ذلك فضل عرضوا المال جملة إلى غيرهم «. وفيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) وإن كان بالمصر غير واحد فأعطهم إن قدرت جميعا».

١٨٦

يصح حيث يختلف عديد هذه المصارف ومديدها.

فحين لا يوجد (الْعامِلِينَ عَلَيْها) في غياب الدولة الإسلامية فلا نصيب لهم ، كحين لا توجد رقاب اللهم إلّا ساير الرقاب التي تعتق عن رهنها بأموال لا تقدر على أداءها لتحلّلها ، مثل رقاب من عليهم كفارات لا يقدرون على أداءها ، وسائر الرقاب التي لا تنفك إلّا بمال حتى إذا كان قيدها بمعصية إذا تابت أصحابها.

وحين توجد فقراء ومساكين بوفرة وحاجات مدقعة فقد تضيق المجالات الأخرى ، اللهم إلا الأهم فالأهم من حيث كونه سبيل الله ، أو الأعم نفعا والأتم من نفس الحيثية.

إذا فلا بد من نظام إسلامي ينتظم به سلك الإقتصاد والعدل في هذه السهام مهما كان في غياب الدولة الإسلامية ، أن تقرّر كتل المسلمين قرارات فيما بينهم تقضي على فوضى التقسيم والتسهيم من بيت مال المسلمين حتى يأتي الفرج العام زمن الدولة المهدوية عليه آلاف التحية والسلام ، أم تؤسس دولة أم دويلات اسلامية متضامنة مترابطة توطئ للمهدي (عليه السلام) مقدمه الشريف.

ثم (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) ذيل الآية تفرض ذلك التقسيم إضافة إلى فرض الزكاة المقسومة على أهليها ، فهي ـ إذا ـ فرض ذو بعدين وما أهمه فرضا وأئمه وأعمه بين فرائض الإسلام!.

وهنا نعرف مدى خرافة مختلقة ضد المحاويج في حصر الزكوة في التسعة ، وسلبها عن البقية ، فالحديث المختلق «ليس في الجوهر وأشباهه زكاة وإن كثر وليس في نقر الفضة زكاة» (١).

__________________

(١)فيه حديث يتيم محمد بن علي بن الحسين باسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «ليس ي الجوهر ...» وعن يعقوب بن شعيب قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحلي أيزكى؟ فقال : إذا لا يبقى منه شيء وسأله بعضهم عن الحلي فيه زكوة؟ فقال : لا ولو بلغ مائة ألف. ويخالفه ما عن أبي الحسن قال سألت أبا ـ

١٨٧

كما ليس في مكسور الدينار الذهبي والدرهم الفضي زكاة ، إنه وأشباهه لا يلائم مشروع الزكاة (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

أفمن العلم بحاجات المحاويج ، والحكمة في إعانتهم ، حصر الزكوة فيما حصرت فيه ، وهناك من ذواخر الأموال والجواهر الثمينة مئات آلاف أضعافها المكنوزة وسواها؟!

وماذا يحمل جماعة من أهل الفتوى على تأويل أضعاف الآيات والأحاديث الواردة ، في زكاة الأموال كلها وفي زكاة مال التجارة ، أن يؤلوها إلى استحباب ولا إشارة له في واحدة منها؟! فهل هم انتبهوا لما تغافل عنه المعصومون أم تجاهلوا؟.

تأويل كليل عليل ليس له أي دليل إلّا على خلافه لمن ينظر إلى أدلة الأحكام نظرة مستقيمة صافية ضافية.

وهلا تجوز الزكاة لذرية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قد يقال : لا لما ورد من أن الصدقة لهم محرمة ، ولكن العلة العليلة المروية «إن الصدقة أوساخ أيدي الناس» (١) جارية في الخمس أكثر من الزكاة! أم تماثله حيث الكل مما في أيدي الناس دونما مايز بينهما في المكاسب ، اللهم إلّا إذا اختص الخمس بغنائم دار الحرب إذ لم يسع لها مسلم سعيه

__________________

ـ عبد الله (عليه السلام) عن الحلي عليه زكاة؟ قال : إنه ليس فيه زكاة وإن بلغ مائة ألف درهم ، كان أبي يخالف الناس في هذا(الوسائل ٦ : ١٠٦ ـ ١٠٧).

(١) الوسائل ٦ : ١٨٦ عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الصدقة أوساخ أيدي الناس وإن الله قد حرّم علي منها ومن غيرها ما قد حرّمه وان الصدقة لا تحل لبني عبد المطلب.

أقول : وقد تعني الصدقة هنا غير الزكاة المفروضة ، فتعني ما يتصدق به الناس إعطاء للفقراء ، فهي محرمة على المعصومين ذودا عن كرامتهم.

وفيه (٣٦٠) عن الرضا (عليه السلام) في حديث الخمس المفصل : فلما جاءت قصة الصدقة نزه نفسه ورسوله ونزه أهل بيته فقال : إنما الصدقات .. فلما نزه نفسه عن الصدقة ونزه رسوله ونزه أهل بيته لا بل حرّم عليهم لأن الصدقة محرمة على محمد وآله وهي أوساخ أيدي الناس لا تحل لهم لأنهم طهروا من كل دنس ووسخ.

١٨٨

في الأموال الزكوية! ولكنها أوسخ حيث الكفار الذين حصلوا عليها لم يطبقوا شرعة الله في تحصيلها!.

أجل إنها قد لا تحل للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من آل الرسول (عليهم السلام) حرمة لمحتدهم وتعاليا عن افتقارهم إلى الناس ، وكما يروى عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال : «أعطوا الزكاة من أرادها من بني هاشم فإنها تحل لهم وإنما حرم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى الإمام الذي من بعده وعلى الأئمة (عليهم السلام)» (١).

وليس مثل حرمة الزكاة على ذرية الرسول إلا كحرمة الخمس على ذريته من طريق الأم اعتبارا أنهم من الأدعياء ، وليس من الأدعياء إلا مختلق الرواية نفسها ، المستدل فيها على حرمانهم بآية الأدعياء (٢).

تذنيب فيه تقريب :

زكاة النقدين وهي ٥ / ٢ في المائة تعم كافة النقود على حسابهما لأنها الأصل في العملة.

__________________

(١) المصدر (١٨٧) محمد بن علي بن الحسين باسناده إلى أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال عن أبي عبد الله (عليه السلام). وفيه (١٨٨) عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال : لو حرمت علينا الصدقة لم يحل لنا أن نخرج إلى مكة لأن كل ماء بين مكة والمدينة فهو صدقة. وفي محاسن البرقي ١ : ١٤ عن عبد الرحمن بن عجلان قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) من قول الله عزّ وجلّ : قل لا أسألكم عليه أجرا إلّا المودة في القربى ، فقال : «هم الأئمة الذين لا يأكلون الصدقة ولا تحل لهم».

ومن روات حديث حرمة الزكاة على الهاشميين هو علي بن الحسن الفضال وهو الراوي لحلها عليهم أيضا.

(٢) المصدر ٦ : (١٨٨) مرسل الكليني عن العبد الصالح في حديث طويل قال : ومن كانت أمة من بني هاشم وأبوه من سائر قريش فإن الصدقات تحل له وليس له من الخمس شيء فإن الله يقول : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) أقول : هذه الآية تخص الأدعياء ، فهل إن أولاد البنت من الأدعياء ، إذا ـ ولا سمح الله ـ الحسنان ليسا من أبناء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بل هما من الأدعياء ، لو كان الانتساب بالأم لا يعتبر نسبا!.

١٨٩

وزكاة أموال التجارة هي زكاة النقدين بمقياسهما.

وزكاة الغلات والفواكه هي ٥ / ١٠٠ أو ١٠ / ١٠٠ حسب اختلاف السقي.

وزكاة سائر الحيوان ما أمكن قياسه على الأنعام الثلاث ، وإلا ففي أسعارها ، وهكذا السيارات والباخرات والطائرات وأشباهها.

ثم هذه الكسور هي الكسور المستقيمة لضريبة الزكوة ، فإذا لم تف بالحاجات الهامة فأزيد منها وأزيد حتى العفو حيث (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) وهو الزائد عن الحاجة المتعودة دون تبذير ولا إسراف ، ولا تقتير وإجحاف ، ف (لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (١٧ : ٢٩) (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٢٥ : ٦٧).

والأوسط من هذه الطرق رد الخمس من كافة العوائد قبل المؤنة من تكفيه بهذا الرد مؤنة سنته ، فيرد من كل عائدة خمسها في نفس الوقت دون انتظار لتمام سنته أم إنهاء مؤنته ، ثم مؤنة سنة هي الغاية القصوى في الخمس والزكوة ، فإن أضرت بمن لا يملك أقل منه فإلى تقسيم كما يصح تسوية بين المحتاجين.

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ

١٩٠

بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨)

١٩١

كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ

١٩٢

الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٦١).

هنا «ويقولون» المضارعة تعم كافة القيلات ـ منذ نزول هذه الآية حتى القيامة الكبرى ـ حول أنه «أذن» من أذن الوحي نكاية عليه أنه لا يصدر عن عقليته الإنسانية ولا سائر العقول ، بل «هو أذن» فقط لوحي السماء؟.

وذلك ـ رغم ما يزعم ـ ليس له إلّا فضيلة ، حيث إن أذن الوحي لا يخطأ قصورا ولا تقصيرا ، وسائر الأذن خاطئة تقصيرا أو قصورا.

ثم «هو أذن» صاغ لكلّ من يكلمه ، فليس له رأي تصديقا أو تكذيبا ، ف «هو أذن» مهانة وإهانة بساحة النبوة كأنه يتقبل ما يسمح دون تحرّ عن حق القول وباطله ، وهكذا «أذن» شر حيث يجتمع في تقبل صاحبه شرا إلى خير ، والمتضادات بل والمتناقضات ، والجواب كلمة واحدة (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) عاقلا فيما يسمع ، عادلا فيما يقبل أم يرد ، وهو في كونه (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) فلا يسمع إلا بإذن الله على ضوء الإيمان بالله ، أو يسلب أو يوجب ما يسمعه إلّا بإذن الله ، فهو اذن الوحي الله ولكلام الناس ، وأين أذن من أذن؟ (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) بالله.

وترى ذلك (يُؤْمِنُ بِاللهِ) كافيا عما سواه من إيمان ، فما هو دور (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) «يؤمن له» هو إيمان لصالح من يؤمن له ، إيمانا بالله لصالح المؤمنين ، وأنه يؤمن المؤمنين عن كل بأس وبؤس وخوف ، فهو ـ إذا ـ للمؤمنين حيث يجعلهم في أمنه لما يسمع منهم قضية إيمانهم فيما يقولون ، وعناية أخرى هي تصديقة المؤمنين ك (ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) (فَما

١٩٣

آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) ثم «ورحمة» ككل ، بأذنه ولسانه وكل أحواله وأعماله (لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أيها المنافقون ، فهو (أُذُنُ خَيْرٍ) للمؤمنين بالله ، و «أذن خير للذين آمنوا منكم» بالله ف «يؤمن. يؤمن. رحمة» هي من أدلة أنه (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) حيث المؤمن بالله والمؤمن للمؤمنين ورحمة لهم ، هو بطبيعة الحال (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ).

ولأن المفعول به في (يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) محذوف ، فقد يعني فيما يعنيه يؤمن المنافقين أن يجعلهم في أمن من صراح التكذيب لصالح المؤمنين ، حتى يقفوا عند حدهم ، تخفيفا عن جزرهم ومدهم ، أو يؤمنوا كما آمن هؤلاء ، إذا ف (يُؤْمِنُ بِاللهِ) أن يجعل نفسه في أمن بالله ، ويؤمن للمؤمنين ، أن يجعل أذنه صاغيا طليقا لصالح المؤمنين ، صغيا لأقوالهم الصادقة فهو لصالحهم ، وصغيا لأقوال المنافقين الكاذبة ، وهو أيضا لصالحهم ، حيث القسوة في المواجهة ترجع بالضرر عليهم ، ثم في تصليحه غير الصالح من أقاويل المؤمنين وسواهم (يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أمنا للمتكلم بإجابة صالحة لصالح المؤمنين ، وقد يعني (يُؤْمِنُ بِاللهِ) إضافة إلى إيمانه نفسه بالله ، إيمان الأمة أن يجعلهم في أمن بالله ، ثم «ويؤمن» جو الحياة «للمؤمنين» بذلك الإيمان المزدوج بالله ، مع جعل المنافقين أيضا في أمن دون قسوة زائدة ، لصالح المؤمنين ، إلا إذا لزم الأمر أن يقسوا معهم.

ثم (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ) بقولهم «هو اذن» وما أشبه (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الدنيا والآخرة.

وهكذا يكون داعية الحق أنه يسمع إلى كل قائل صادق فيصدقه أم كاذب فيرشده دونما غلظة كيلا يفلت ، فيخيّل إلى البسطاء أنه مصدق كلما يسمعه (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٥٣ عن ابن عباس في الآية يعني انه يسمع كل أحد قال الله عزّ وجل : «قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ..».

وفي نور الثقلين ٢ : ٢٣٦ عن تفسير القمي كان سبب نزولها أن عبد الله بن نفيل كان منافقا ـ

١٩٤

فمن الناس من لا يسمع إلى أي قائل فلا يهتدي به ضال ، أو يسمع إلى أي قائل فيه خلط للحق بالباطل ، وهذان هما أذنا شر ، وأما الداعية الرسالية فهو «أذن خير» ليس في سماعه إلى كل أحد إلّا خير ، فإن كان حقا يصدفه ويزيده ، وإن كان باطلا يرشده.

أجل انه (صلى الله عليه وآله وسلم) أذن صاغ طليق لمثل الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ لا يقول إلا حقا مستحقا للإصغاء ولذلك أيضا سموه أذنا إزراء بساحته ومسا بكرامته ، فقد ذكر (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا وما أوصى الله فيه وذكر المنافقين والآثمين والمستهزئين بالإسلام وكثرة أذاهم لي حتى سموني أذنا وزعموا أني كذلك

__________________

ـ وكان يقعد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسمع كلامه وينقله إلى المنافقين وينّم عليه فنزل جبرئيل (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله أن رجلا ينم عليك وينقل حديثك إلى المنافقين فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : من هو؟ فقال : الرجل الأسود الكثير شعر الرأس ينظر بعينين كأنهما قدران وينطق بلسان الشيطان فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره ف حلف الله انه لم يفعل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قبلت ذلك منك فلا تقعد فرجع إلى أصحابه فقال : إن محمدا اذن أخبره الله أني أنم عليه وأنقل أخباره فقبل وأخبرته أني لم أفعل ذلك فقبل فأنزل الله على نبيه (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ..) أي يصدق الله فيما يقول له ويصدقك فيما تعتذر إليه في الظاهر ولا يصدقك في الباطن أقول : دليلا على عدم تصديقه في الباطن ظاهر قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) له : «فلا تقعد» فلو كان تصديقا له في براءته لم يكن إذا دور ل «لا تقعد» فهذا إذا تكذيب بلسان التصديق لكيلا ينفضوا من حوله.

وفي تفسير الفخر الرازي ١٦ : ١١٦ روى الأصم أن رجلا منهم قال لقومه : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير فسمعها ابن امرأته فقال : والله أنه لحق وإنك أشر من حمارك ، ثم بلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك فقال بعضهم : إنما محمد اذن ولو لقيته وحلفت له ليصدقنك فنزلت الآية على وفق قوله فقال القائل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لم أسلم قط قبل اليوم وإن هذا الغلام لعظيم الثمن على والله لأشكرنه ثم قال الأصم : أظهر الله تعالى عن المنافقين وجوه كفرهم التي كانوا يرونها لتكون حجة للرسول ولينزجروا.

١٩٥

لكثرة ملازمته إياي وإقبالي عليه حتى أنزل الله (١).

ذلك ، فأذن شر أو خليط بينه وبين خير خارج عن مثلث الإيمانين ورحمة ، فعلى الدعاة إلى الله أن يكونوا (أُذُنُ خَيْرٍ) حتى للمنافقين والكافرين ، أن يصغوا إليهم لصالحهم المرام عند الله ، فكما على الطبيب أن يسمع إلى المريض ليعرف علته ، وإلى الصحيح ليعرف صحته ، فيصلح المريض إلى الصحيح ، كذلك وبأحرى «طبيب دوار بطبه» عليه أن يكون (أُذُنُ خَيْرٍ) صاغيا صغي خير للمؤمنين ، ورحمة للذين آمنوا وهدى للآخرين.

أجل ، إنه أذن طليق لوحي الله ليبلغه إلى الناس ، وأذن يستمع إلى المؤمنين ليرشدهم إلى الأصلح في حالهم ، وأذن يستمع إلى المتحرّين عن الحق ليوصلهم إليه ، وأذن للآخرين علّه يردهم عن الردى ويهديهم إلى سبيل الرشاد والهدى.

فليس (هُوَ أُذُنٌ) سمعا لكل قول تصديقا دون تفطن إلى غش القول وزوره وغروره.

ذلك ، وقد تعني (أُذُنُ خَيْرٍ) كلا وجهي إضافة الموصوف إلى صفته وسواها ، فعلى الأولى هو خير أذن ، وعلى الأخرى أذن لخير لكم وليس أذنا لشر لكم ، والفرق بينهما أن الأولى تعني خير الأذن وإن سمع كذبا ، والثانية أذنا لخير فلا يسمع كذبا ، والجمع أجمع وأجمل.

وقد تلمح (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أن صغي قول هو لصالح المؤمنين محبور دون محظور ، مهما كان اغتيابا ، وكما استثني في نصح المستشير وما

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٣٦ في كتاب الإحتجاج للطبرسي باسناده إلى محمد بن علي الباقر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديث طويل يقول فيه وقد ذكر عليا (عليه السلام) ... حتى أنزل الله ... على الذين يزعمون أني أذن ولو شئت أن أسمي بأسمائهم لسميت وان أومي إليهم بأعيانهم لأومأت وأن أدل عليهم لدللت ولكني والله في أمورهم قد تكرمت.

١٩٦

أشبه ، وهكذا يصدق المروي عن باقر العلوم (عليه السلام) (١) فالصاغي قولا لصالح المؤمنين أو الأصلح لهم محبور مهما كان القول اغتيابا أو اعتيابا ، والصاغي لطالحهم محظور مهما كان القول صادقا.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ)(٦٢).

«.. ليرضوكم» تصديقا لهم أنهم موافقون وليسوا بمنافقين (٢) «والله» أصالة «ورسوله» رسالة (أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) هو ، حيث الرسول لا يستقل أمامه وبجنبه ، فلذلك يصح إفراد الضمير رغم عديد المرجع (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) بالله كما يدعون ، فليصلحوا فيما بينهم وبين الله يصلح الله بينهم وبين الناس.

وهنا «أحق» تفضيلا هو في موقف المجازاة ، أن لو كان لغير الله حق أمام الله فهو أحق ، أم على الحقيقة إذ للمؤمنين حق لإيمانهم بالله ، ولكن الله أحق أن ترضوه لأنه محور الحق والإيمان ، فما ذا يكون الناس ـ وإن كانوا مؤمنين ـ أمام الله ، ولكن الذي لا يؤمن بالله ولا يعفو له ، هو

__________________

(١) كما في تفسير العياشي عن حماد بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إني أردت أن أستبضع فلانا بضاعة إلى اليمن فأتيت إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقلت له : إني أريد أن أستبضع فلانا فقال لي : أما علمت أنه يشرب الخمر؟ فقلت : قد بلغني من المؤمنين أنهم يقولون ذلك فقال صدقهم أن الله عزّ وجلّ يقول : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) فقال : يعني يصدق الله ويصدق المؤمنين لأنه كان رؤوفا رحيما بالمؤمنين.

(٢) الدر المنثور ٣ : ٢٥٣ ـ أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال : والله ان هؤلاء لخيارنا وأشرافنا وإن كان ما يقول محمد حقا لهم شر من الخمر فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله أن ما يقول محمد لحق ولأنت شر من الحمار فسعى بها الرجل إلى نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال : ما حملك على الذين قلت؟ فجعل يلتعن ويحلف بالله ما قال ذلك وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فانزل الله تعالى في ذلك : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ..) وفيه عن السدي مثله وسمى الرجل المسلم : عامر بن قيس من الأنصار.

١٩٧

بطبيعة الحال تختص عنايته بالناس ، وقضية الإيمان بالله هي التوحيد في الرضاءه كعبادته وطاعته ، فإن مرضات الناس لا تحقق ، لاختلافهم فيها بمناقضات ومضادات ، ومرضات الله موحّدة في عبادته وطاعته دون سواه ، فالعقل يحكم ولا سيما على ضوء الإيمان بالله أن توحّد مرضات الله دون عناية لمرضات من سواه أيا كان ، إلّا من هو مرضاته مرضات الله ومشيته مشية الله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) فقد تطلب مرضاتهم على هامش مرضات الله ، ولأنها أيضا من مرضات الله كما و (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ).

فمحاولة إرضاء الناس خبل وجنة إذ إن مرضات الناس مختلفة أو متناقضة ، ولو حصلت على مرضاتهم جميعا فليس لك إلا رضاهم جميعا.

ثم محاولة إرضاء الله هي عقل ورحمة ، فإن مرضاته واحدة غير متفرقة ، إذا فالعقل يحكم كما الشرع أن نحاول في تحصيل إرضاء الله ، رضي ناس أم سخطوا ، ولو أسخطت بمرضاة الله كل الناس لم يضروك شيئا ، وإن أسخطت الله بمرضات من الناس فهو كل الضرر.

فالأصل في الحياة العاقلة الإيمانية تحصيل مرضات الله بتطبيق شرعته بلسان رسوله في وحي الكتاب والسنة ف (اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) يفرد فيها الضمير لإفراد الرضا لله وحده ، حيث الرسول ليس يستقل أمام الله حتى يستغل مرضاته أمامه.

وكيف نحصل على مرضات الله؟.

أن نكون من الصادقين : (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٥ : ١١٩).

ومن السابقين بإحسان : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩ : ١٠٠).

١٩٨

والمبايعين الرسول شرط عدم النقض : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ..) (٤٨ : ١٨).

وألّا يوادّوا من حاد الله ورسوله : (.. أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥٨ : ٢٢).

ذلك (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ضابطة ثابتة إلى يوم الدين ، وقد تواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله في أهل بيته المعصومين (عليهم السلام): «من آذاني في عترتي فعليه لعنة الله» (١) «اشتد غضب الله على من آذاني في عترتي» (٢) «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي» (٣) «من آذى أحدا من أهل بيتي قطع ما بيني وبينه» (٤) وبخصوص علي (عليه السلام) : «من آذى هذا فقدآذاني ومن آذاني فقد آذى الله» (٥) «من آذى عليا بعث يوم القيامة يهوديا أو نصرانيا»(٦) «من آذى عليا فقد آذاني» (٧) وبخصوص فاطمة سلام الله عليها «من آذاها فقد آذاني» (٨) «يؤذيني ما آذاها» (٩).

و (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)(٩٨ : ٨).

والنفوس المطمئنة بالله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ

__________________

(١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٦ ، ٧). ، ٨ ، ٩) هذه على الترتيب تجدها في ملحقات إحقاق الحق ١٨ : ٤٥٨ ـ ١٨ : ٤٣٩ ـ ٤٤٠ ، ٥٤٤ و ٩ : ٥١٨ ، ٥٢٠ ـ ١٨ : ٤٦١ ـ ٥ : ٧٣ ـ ١١ : ٤٧ ـ ٤٨ و ١٩ : ٣١٧ ـ ٤ : ٢٣٣ و ٦ : ٣٩٠ و ٧ : ٣٨٤ و ٤٦١ و ٥ ـ ٦ : ٣٨٠ ـ ٣٩٤ و ١٦ : ٥٨٨ ـ ٥٩٩ و ٢١ : ٥٣٧ ـ ٥٤٣ ـ ١٠ : ١٨٧ ـ ١٩٩ ، ٢٠٩ ـ ٢١١ ـ ١٩ : ٨٣ ـ ٨٤. أخرج في هذه المجلدات متواتر الروآيات حول هذه المضامين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

١٩٩

راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٨٩ : ٢٨).

فالمؤمنون العاملون الصالحات الصادقون السابقون في الإيمان ، المبايعون الرسول ، الذين يخشون ربهم فهم من حزب الله ، ولا يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ، ولهم نفوس مطمئنة بالله ، أولئك الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.

وهذه درجات سبع تغلق على دركات سبع من جحيم التخلفات عن مرضات الله.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ)(٦٣).

محادة الله هي اعتباره في حد دون حدودهم ، في كل قضايا الربوبية أم بعضها ، وكأنهم آلهة من دون الله ، وإن في قضية واحدة من قضايا الربوبية ، كطليق العبودية والطاعة ، فهم ممن (اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ)!.

ومحادة الرسول هي اعتباره في حد دون حدودهم ، وكأنهم يوحي إليهم كما هو ، فلا عليهم أن يتبعوه (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ)!. ولأن المحادة تحديد من ناحية فاعلها المحاد ، ثم الله ليس ليحاد ، فقد تعني أن هؤلاء يجعلون لله حدا كما الله جاعل لهم حدا ، وليس لله حد في ألوهيته أو ربوبيته وعبادته وطاعته ، إذا فالمحادة تعني في مغزاها التفوق على الله تعالى في قرار حد من ناحية العبد كأنه إله لله ، يملك الله أن يحد له ربوبيته ، ومن ذلك محادته بحد الخلق كوحدة حقيقة الوجود وما أشبه!.

والمحادة الإلهية والرسولية ، ومن ثم الرسالية ، تعني استقلالا بجنب الله ورسله ورسالاته ، فاستغلالا لطائشة الأهواء بحريتها الطليقة ، وإذا (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) فإنه بنفسه جهنم هنا ، ثم في الأخرى يؤجج بنيرانها (خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ).

أجل و (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ

٢٠٠