الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

اختصاص اسم الإيمان وما أشبه من أسماء عامة للمسلمين ، ذلك الإختصاص بفرقة دون آخرين هو اختصاص ضرار ، يعمل بين المسلمين تضادا خاويا عن أي أصل إلا مختلق هذه الأسماء المحتلة.

ذلك والضرار بدركاته ليس إلا من الأشرار ، ولا سيما المعنون بعناوين الأخيار ، كالمسجد الضرار ، وإمامة الجماعة الضرار ، وتأسيس حفلات الضرار ، والدروس الضرار ، فكلما كان الضرار أضر بالمسلمين وبالإسلام ، كان أشر وأخطر ، يجب على المسلمين الحياد عنه دفاعا صارما لكيلا يفشو بين المسلمين فيتفشى الفساد بينهم في أي من النواميس الخمس.

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)(١٠٨).

نهي صارم عن القيام في مسجد الضرار ، فلا تصلح أو تصح فيه صلاة من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والذين معه ، فلما ذا ـ إذا ـ يبقى قائما على ساقه؟ ألكي يستمر الضرار والكفر والتفريق والإرصاد؟ لذلك أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإحراقه بمن فيه وما فيه حيث كان فيه ما فيه (١) ، ثم لم ير التاريخ الإسلامي بعد إحراقه عمارة وبنيانا في مكانه لأي غرض كان.

(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) وهو مسجد قباء أول مسجدين في الإسلام (٢) أو مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أم

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٧٦ عن أبي رهم كلثوم بن الحصين الغفاري وكان من الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة .... فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أحد بلعجلان فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدما وحرقاه فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك لمعن أنظرني حتى أخرج إليك فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرج يشتدان وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه.

(٢) تضاربت الروايات في المعني من «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى» منها المروي عنه (صلى ـ

٣٠١

هما وأمثالهما ، وقد يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : هو مسجدي هذا ، وفي أخرى أنه مسجد قباء ، والجمع بينهما أن قبا تنزيلها ومسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تأويلها ، ومن تأويلها كل مسجد أسس على التقوى ، كما ومن تأويل مسجد الضرار كل مسجد أسس على الطغوى.

فذلك المبني عن التقوى (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) فإن (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) بطهر الإيمان والتقوى خلاف هؤلاء المنافقين الذين يحبون أن يندلسوا أو يدلّسوا (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).

فلمسجد التقوى أساسان اثنان : ١ (أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) و ٢ (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) ـ طهارة تعاكس مربع الدناسة لأهالي مسجد الطغوى ـ (١) ، كما لمسجد الطغوى اثنان آخران : أسس على الطغوى ،

__________________

ـ الله عليه وآله وسلم) أنه مسجدي هذا ، ومنها الجامع بينهما كما في الدر المنثور ٣ : ٢٧٧ عن أبي سعيد الخدري قال : اختلف رجلان رجل من بني خدرة ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى فقال الخدري هو مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال العمري هو مسجد قباء فأتيا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألاه عن ذلك فقال : هو هذا المسجد لمسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال : في ذلك خير كثير يعني مسجد قباء ، ورواه مثله بحذف ذيله سهل بن سهل الساعدي وأبي بن كعب وزيد بن ثابت.

وفيه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : صلاة في مسجد قباء كعمرة ، وروى بطرق عدة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن قوله تعالى (فِيهِ رِجالٌ ...) نزلت بشأن أهالي مسجد قبا وفي نور الثقلين ٣ : ٢٦٧ وفي الكافي عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن المسجد الذي أسس على التقوى قال : مسجد قبا ، وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) مثله.

(١) في تفسير الفخر الرازي ١٦ : ١٩٦ روى صاحب الكشاف انه لما نزلت هذه الآية مشى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال : أمؤمنون أنتم؟ فسكت القوم ، ثم أعادها ، فقال عمر : يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أترضون بالقضاء؟ قالوا : نعم ، قال : أتصبرون على البلاء؟ قالوا : نعم ، قال : أتشركون في الرخاء؟ ـ

٣٠٢

٢ وفيه رجال يحبون أن يتدهوروا ويطغوا :

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(١٠٩).

فمن «بنيانه على تقوى من الله أنهلما أسس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسجد الذي أسسه على التقوى كان كلما رفع لبنة قال : اللهم إن الخير خير الآخرة ، ثم يناولها أخاه فيقول ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى تنتهي اللبنة منتهاها ، ثم يرفع الأخرى فيقول : اللهم اغفر للأنصار والمهاجرة ، ثم يناولها أخاه فيقول ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى تنتهي اللبنة منتهاها» (١).

هذا «وكل عبادة مؤسسة على غير التقوى فهي هباء منثور» طغوى (٢) فالمؤمنون الذين وضعوا المسجد على قواعد من الإيمان وأساس من الرضوان.

أذلك خير (أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) : قائم على حافة جرف منهار ، على تربة مخلخلة مشرفة على الانهيار ، فكأنهم وضعوه على شفا جرف هار متقوض ، وأساس واه منتقض ـ إذا ـ فكأنما انهار بهم في نار جهنم ، فأيهما خير في قسطاط الحق والعدل؟

فلنقف لحظات متطلعين إلى بناء التقوى وبناء الطغوى ، التقوى الراسي المطمئن الراسخ ، والطغوى الجاسي المتزلزل الفاسخ ،

__________________

ـ قالوا : نعم قال : مؤمنون ورب الكعبة ثم قال : يا معشر الأنصار إنّ الله أثنى عليكم فما الذي تصنعون في الوضوء؟ قالوا : نتبع الماء الحجر فقرأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : فيه رجال يحبون أن يتطهروا ..

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٧٩ ـ أخرج أبو الشيخ عن الحسن قال : لما أسس ..

(٢) نور الثقلين ٢ : ٢٦٨ عن مصابح الشريعة قال الصادق (عليه السلام).

٣٠٣

المنزلق المتأرجح المتزحلق ، المنهار في نار جهنم.

إنه مشهد عجاب ، حافل بالحركة المثيرة المغيرة ليطمئن البناة على أساس التقوى على مسيرهم ، إلى مصيرهم النور ، في مواجهة دعاة الكفر والنفاق والطغوى على مسيرهم إلى مصيرهم النار.

فهذان هما صراط الحق لأهليه ، وصراط الباطل لأهليه ، «فهنيأ لأهل الرحمة رحمتهم ، وشنيعا لأهل النار مثواهم» (١) وزحمتهم.

ذلك ، ولأن لأساس البنيان دور في كلا الحق والباطل ، فقد يقدّم الإمام علي (عليه السلام) لإمرة المؤمنين دون مناوئيه إذ أسس بنيانه (عليه السلام) على تقوى من الله منذ عرف نفسه ، وأسس بنيانهم على الشرك والطغوى مهما آمنوا بعد ، فتقوى الله ورضوانه بادئان في تبني صرح الإيمان لأمير المؤمنين (عليه السلام) ثم طغواه وسخطه بادئان في تبني الخلفاء الثلاث وأضرابهم!.

ولقد ترتسم تقوى من الله ورضوان كلمة لا إله إلّا الله ، فالتقوى هي واجهة السلب ، ورضوان هو واجهة الإيجاب ، فلما لم تتقى الله ابتعادا عن سخطه ، لم تحصل على رضوانه ، ولأن عليا (عليه السلام) هو أول من أسلم فقد تقدم على من سواه في رسم كلمة التوحيد.

ولأن شفا الشيء هي حرفه وطرفه ، والجرف هو منحرفه من منعطف الطين الواهي المشرف على السقوط ، والهار هو الانصداع من الخلف ، فقد أسسوا هؤلاء الأنكاد بنيان مسجد الضرار على الطرف المنحرف الواهي المنصدع من الخلف بشفير جهنم (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

__________________

(١) المصدر في أمالي الشيخ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال : ليس عبد من عباد الله ممن أمتحن الله قلبه بالإيمان إلا وهو يجد مودتنا على قلبه فهو محبنا وليس عبد من عباد الله ممن سخط الله عليه إلا وهو يجد بغضنا على قلبه فهو مبغضنا فأصبح محبنا ينتظر الرحمة وكأن أبواب الرحمة قد فتحت له وأصبح مبغضنا على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم فهنيأ ...

٣٠٤

فقد والله رأيت أنا فسحة مسجد الضرار خاوية بين بنايات دون عمار فسألت عنها كيف لا يبنى عليها فكان الجواب كلمة واحدة كلما عمّر احترق وتهدّم (١)!.

ذلك مشهد مشهد آخر يرسمه هذا التعبير العبير منقطع النظير لآثار مسجد الضرار في نفوس بناته الأشرار وبناة كل بنايات الضرار ضد صرح الإيمان :

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١١٠).

فلقد انهار مسجد الضرار في جحيم النار ، ولكن رمادا منه بعد قار في قلوب بناته وهو ريبة ، قلوب اندغمت فيها ريبة ذلك البنيان دائبة ما هي باقية باغية (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) بهذه الريبة المصيبة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما في قلوبهم «حكيم» بما هو فاعل بهم ، وهم يخافون مع هذه الريبة إنزال ضروب العقوبات والمكاره بهم ، أو بسط المؤمنين عليهم لما ظاهروهم من العناد والشقاق ، فهم أبدا بنفوسهم مستريبون ، وعليها خائفون مشفقون ،

__________________

(١) ومن أشباه مسجد الضرار ، قبر معاوية الضرار ، فإنه خربة منذ قرون ، رغم كونه في أوساط دمشق عاصمة حكومته ، وحين نسأل عن أهل دمشق كيف نرى قبر معاوية خربة منتنة؟ نسمع الجواب كلمة واحدة : كل قائد سياسي من رؤساء الوزارات وسواهم صمم على تعميره أو أخذ يعمره دمّر هو نفسه قبل أن يعمّر ، ومنهم عبد السلام عارف من رؤساء الجمهورية العراقية حيث أخذ في جمع متبرعات لتعمير قبر معاوية فاحترقت طائرته بين بصرة وبغداد.

ذلك ، ويقابله قبر معاوية بن يزيد إذ كان من الصالحين نسبيا وينقل عنه أنه رقى المنبر بعد أبيه يزيد وقال : يا ليت كنت مضغة ساقطة وما جلت هذا المجلس اغتصابا لحق أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد نرى قبره عامرا يزار ، وقد اتفق كرارا أنه لما يسأل عن قبر معاوية ، يشير جماعة من المتعصبين له إلى قبر معاوية بن يزيد ، حفاظا على كرامة معاوية بن أبي سفيان حتى لا يرى قبره في عاصمته خربة نتنة ، في حين نجد قبر رقية بنت الحسين (عليه السلام) ـ ولم يمض من عمرها إلّا ثلاث سنين ـ نجده بقرب قبر معاوية عامرا يزار ، وقد وسّعوه أخيرا وكلفوا في توسعته ملايين من الليرات!.

٣٠٥

فلا يزالون على ذلك إلا أن تقطع قلوبهم ، حسرة ، وتزهق نفوسهم خيفة.

وهكذا يعيش صاحب الكيد الخادع الهارع ، مزعزع العقيدة ، حائر المكيدة ، فهو جحيم من داخل ، محروقا بجحيم نفسي ومن خارج ، مارج من نار ، جهنم يصلونها وبئس القرار.

أترى ألّا توبة لهم حتى تقطّع قلوبهم موتا وفوتا؟ قد يعني تقطّع قلوبهم إلى موتهم مضطربين ، حالتهم بعد توبتهم ، أنهم كلما يذكرون فعلتهم تتقطع قلوبا تحزّنا على ما فعلوه ، فقد لا يزالون في تقطع قلوبهم كافرين ومؤمنين ، مهما يطمئنهم الإيمان فيقل ذلك التقطع قدر ماكن الإيمان ، وإلى أن يقطّع الإيمان قلوبهم المقلوبة إلى قطاع صالح مطمئن ، فتقلّب القلب الخاوي عن ذكر الله هو اطمئنانه بالله ، كما أن تقلب القلب المطمئن بذكر الله هو إخلاده إلى الأرض ، رضى بالحياة الدنيا واطمئنانا بها.

فتقطّع القلوب بدوام الريبة بالموت أو المعيشة الضنك هو لمن يبقى على نفاق وكفره ، وتقطّعها بزوال الريبة هو لمن آمن وعمل صالحا ثم اهتدى.

فللأولين بنيان الريبة في قلوبهم من ذلك البنيان المنهار الهار في النار ، ريبة على ريبتهم إذ لم يفلحوا بكيدهم أو يفلجوا بميدهم إلّا أن تقطّع قلوبهم بموتهم فتزول الريبة حيث يكشف الغطاء ، وللآخرين هدم لبنيان الريبة بتقطّع قلوبهم المظلمة إلى النيرة فتزول بذلك الريبة.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(١١١).

هنا المشتري هو الله ، والمشترى به هو الحياة الدنيا : (أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) والمشترى هو الجنة : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ

٣٠٦

أَجْراً عَظِيماً) (٤ : ٧٤)(١).

فأنفس المؤمنين وأموالهم في هذه التجارة المربحة هي بمنزلة العروض المبيعة ، والأعواض المضمونة هي بمنزلة الأثمان المنقودة ، والصفقة رابحة خالصة غير فالسة ولا كالسة ، لزيادة الأثمان على السلع ، وإضعاف الأعواض على القيم.

وهنا الجنة جنتان جنة الجنان وجنة الرضوان ، ومبتغى أهل الله في الأصل هو الثاني : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٢ : ٢٠٧) إذ (رِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (٩ : ٧٢).

وهنا «اشترى» منذ الفطرة إلى العقلية الإنسانية ، إلى العقلية الإيمانية ، وهم قابلون هذه التجارة الرابحة المربحة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٦١ : ١١).

ثم «أنفسهم» تعني إلى أنفسهم الذاتية ، الذين يتعلقون بهم كأنفسهم نسبيا أو سببا ، كما أن «أموالهم» تعم إلى الحاضرة ، الأموال التي بإمكانهم الحصول عليها ، مضحّين بكل طاقاتهم وإمكانياتهم ف (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ثم لهم إحدى الحسنيين «فيقتلون» وهي

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٨٠ ـ أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وغيره قال قال عبد الله ابن رواحة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، قال : اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا قال : الجنة ، قال : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت هذه الآية ، وفيه أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في المسجد فكبر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال : نعم فقال الأنصاري : بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل.

٣٠٧

حسنى الغلبة على أعداءهم «ويقتلون» كخطوة أخيرة حين لا يتمكنون أن يقتلوا أو يحافظوا على حياتهم فيقدّمون حياتهم لإحياء سبيل الله وهي الحسنى الأخرى ، وقد يجمعون بينهما أن يقتلوا ثم يقتلوا وهما على سواء لهم (فِي سَبِيلِ اللهِ) وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «من سل سيفه في سبيل الله فقد بايع الله» (١).

وذلك (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) بمراتبها حسب مراتبهم في هذه التجارة ، وعليا ها هي جنة الرضوان.

(وَعْداً عَلَيْهِ) إذ كتب على نفسه هذه الرحمة الغالية المتعالية (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) فإن في هذه الكتب الثلاثة تشجيعات وذكريات عن المقاتلين في سبيل الله بما كتب الله على نفسه (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) ومن هذه الجنة هنا إحدى الحسنيين.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى ..) فمنهم من ينسى عهده توانيا عن القتال ، ومنهم الموفي بعهده «ومن أوفى بعهده الذي عاهد عليه الله» يقال لهم : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) وبيعهم هنا مبيعهم : (أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) حيث بايعوا به (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) ـ (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

هنا (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) تسوّي في حقل الجهاد بالأنفس فاعلية القتل ومفعوليته ، فإن قتل وقتل فقد جمع بين الجهادين ، وإن فاز بأحدهما فهو شهيد في جانب واحد ، وعلى أية حال فالشهيد القتيل في سبيل الله له درجة عند الله عالية غالية ، وإليكم مقتطفات مما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحق الشهداء في سبيل الله :

«لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ..» (٢) و «توكل

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٨٠ ـ أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ..

(٢) مفتاح كنوز السنة بخ ـ ل ٥٦ ب ٧ و ١١٩ ، ل ٩ ب ١ ونس ـ ل ٢٥ ب ٣ و ٢٠ ومج ـ ك ٢٤ ب ١ وما ـ ل ٢١ ح ٢٧ و ٤٠ وحم ـ ثان ص ٢٣١ و ٣٨٤ و ٤٢٤ و ٤٧٣ و ٤٩٦ و ٥٠٢.

٣٠٨

الله بالمجاهد في سبيله أن يدخله الجنة» (١) و «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله» (٢) و «تمني الشهيد أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات» (٣).

وترى «من أوفي» شرطية جزاءها «فاستبشروا»؟ وصالح الجزاء ـ إذا ـ «فليستبشر» ليوافق فاعل الشرط ، إنّ «من الله» قد تلمح أن «أوفى» أفعل تفضيل!.

أم هو استفهامية استفحامية و «أوفى» تفضيل؟ وفاصل «بعهده» بين المفضل والمفضل عليه لا يناسبه حيث الفصيح ـ إذا ـ «من أوفى من الله بعهده»! ثم لا موقع للفاء إذ لا شرط!.

قد تتحمل «من أوفى» كلا الشرطية والاستفهام وأما «فاستبشروا» شرطا فتحوّل من الغياب إلى الخطاب «فاستبشروا أنتم الموفون ...» ثم

__________________

ـ أقول وبيانا لهذه الرموز : بخ صحيح البخاري ـ مس صحيح مسلم ـ بد سنن أبي داود ـ تر سنن الترمذي ـ نس سنن النسائي ـ مج سنن ابن ماجة ـ مى سنن الدارمي ـ ما موطأ مالك ـ ز مسند زيد بن علي ـ عد طبقات ابن سعد ـ حم مسند أحمد بن حنبل ـ ط مسند الطيالسي ـ هش سيرة ابن هشام ـ قد مغازي الواقدي.

ثم : ك كتاب ـ ب باب ـ ح حديث ـ ص صفحة ـ ج جزء ـ ق قسم ـ قا قابل ما قبلها بما بعدها ـ م م م فوق العدد من جهة اليسار تدل على أن الحديث مكر مرات والرقم الصغير فوق العدد من جهة اليسار يدل على أن الحديث مكرر بقدره في الصفحة أو في الباب.

(١) بخ ـ ل ٥٦ ب ٢ ول ٥٧ ب ٨ ـ مس ـ ل ٣٣ ح ١٠٣ و ١٠٤ ـ بد ـ ل ١٥ ب ٩ وتر ـ ك ٢٠ ب ١ ونس ـ ك ٢٥ ب ١٤ ومج ـ ل ٢٤ ب ١ ومى ـ ك ١٦ ب ٢ وما ـ ك ٢١ ح ٢ وحم ـ ثان ص ٢٣١ و ٣٨٤ و ٣٩٨ و ٣٩٩ و ٤٢٤ ، ٤٩٤.

(٢) بخ ـ ك ٥٦ ب ٥ ومس ـ ك ٣٣ ح ١١٦ ومى ـ ك ١٦ ب ١٩ وحم ـ أول ص ٢٦٦.

(٣) بخ ـ ل ٥٦ ب ٦ و ٢١ ومس ـ ك ح ١٠٨ و ١٠٩ و ١٢١ وتر ـ ك ٢٠ ب ١٣ و ٢٥ وك ٤٤ سورة ٣ ح ١٨ و ١٩ ونس ـ ك ٢٥ ب ٣٣ و ٣٤ ومج ـ ك ٢٤ ب ١٦ ومى ـ ك ١٦ ب ١٧ وحم ـ ثالث ص ١٠٣ و ١٢٦ و ١٣١ و ١٥٣ و ١٧٣ و ٢٣٩ و ٢٥١ و ٢٧٦ و ٢٧٨ و ٢٨٤ و ٣٦١ ، رابع ص ٢١٦ ، خامس ص ٣١٨ و ٣٢٢ وط ـ ح ١٩٦٤ وقد ـ ص ١٢٦.

٣٠٩

«من الله» هنا تعني : عهده النازل له من الله ، المعني من (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا ..).

وأما الاستفهام فلا ، فاصل «أوفى» ينافيه ، حيث يراد المعنيان ، ولا أن الفاء لا موقع لها ، حيث يفرّع الاستبشار ـ إذا ـ على ذلك الاشتراء والوعد والوفاء الأوفى.

فالمعنيان ـ إذا ـ معنيّان حيث يوافقان أدب اللفظ وحدب المعنى ، والقرآن حمال ذو وجوه فاحملوه إلى أحسن الوجوه ، وأحسنها الجمع بين الوجوه الحسنة مهما كانت درجات.

وإليكم تصريحات من كتابات الوحي بشرعة الجهاد :

١ في «نبوءت هيلد» : وحي الطفل : لحمان حطوفاه ـ النازل عليه قبل ميلاد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بسبعين سنة ، يقول عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) باللغة الأنقلوسية وهي العبرانية الرمزية : «نهرا كد مطا ولات قص متيعبد قطاطاه وهواه طينا داملطا».

يشرق العالم لمّا يصل ـ ويخمد نيران الخلافات ـ ويوصل إلى القيامة الكبرى ـ ويحارب في سبيل الله ـ ويبعث من أمة محرومة مهدومة (١).

ذلك ، وفي تصريحات متكررة في (التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) وملحقاتها أن الشرعة المحمدية هي الشرعة النارية حيث تحرق الفتن والمفتتنين وأنها تزيل نفسية الاستبداد والاستكبار من أنفس المستكبرين ، بالجهاد المتواصل ، وتخضع الفراعنة أمام شرعة الحق ـ ، والقيام بالسيف علم من أعلام القدسية الإيمانية للذين معه ـ وعصا قوته لا تعني إلا بسط العدل ، وهدم بساط الظلم ـ وأنها من علائم الحمية والغيرة ـ.

ثم توسع نطاق الجهاد في حقله الكتابي إلى حروب موسى وداود

__________________

(١) لقد فصلنا القول حول وحي الطفل في كتابنا (رسول الإسلام في الكتب السماوية) وبطيات الفرقان حسب المناسبات ، وكذلك سائر الوحي بحق الجهاد الإسلامي وسائر ميزاته ، فراجع.

٣١٠

وشعيب (عليهم السلام) واستعداد المسيح (عليه السلام) للحرب ولكن تركه الحواريون فصلب بزعم جمع منهم جامحين (١).

ونموذجا عاليا غاليا من وحي التوراة عن شرعة الجهاد النص التالي حيث يحمل بطيات البشارات الثلاث لنبوءات ثلاث ، يحمل ميّزة للشرعة الأخيرة بارزة هي أنها الشرعة النارية ، وإليكم النص بالأصل العبراني :

١ «وزئت هبر أخاه اشر برخ موشه إيش ها الوهيم ات بني يسرائيل لفني موتو ويومر ٢ يهواه مسيني باو زارح مسعير لامو هوفيع مهر فاران وآتاه مر ببت قدش مي مينو اش دات لامو. (سفر التثنية ١ ـ ٢)

١ وهذه بركة باركها موسى رجل الله بني إسرائيل عند موته وقال ٢ جاء الله من سيناء ، تجلى من ساعير ، تلعلع من جبل فاران : (حر) وورد مع آلاف المقدسين وظهر على يده اليمنى الشريعة النارية».

ونموذجا آخر هو من الإنجيل قول المسيح كما في (لوقا ١٢ : ٤٩) : «جئت لألقي نارا على الأرمن. فما ذا أريد لو اضطرمت. ولي صبغة اصطبغها وكيف أنحصر حتى تكمل. أتظنون أني جئت لألقي سلاما على الأرض. كلا أقول لكم بل انقساما ..».

وفي (لوقا ٢٢ : ٣٥ ـ ٣٧) : «ثم قال لهم حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية هل أعوزكم شيء؟ فقالوا : لا فقال لهم لكن الآن من له كيس فليأخذه ، ومزود كذلك ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا لأني أقول لكم إنه ينبغي أن يتم في أيضا هذا المكتوب وأحصى مع أئمة. لأن ما هو من جهتي له انقضاء فقالوا يا رب هو ذا هنا سيفان.

فقال لهم : يكفي» (٢).

اللهم إنك علمت سبيلا من سبلك جعلت فيه رضاك وندبت إليه أولياءك وجعلته أشرق سبلك عندك ثوابا وأكرمها لديك مآبا واجها إليك مسلكا ثم اشتريت فيه من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون

__________________

(١). راجع كتابنا (رسول الإسلام في الكتب السماوية) تجد نصوصا وفيرة حول الجهاد.

٣١١

في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليك حقا ، فاجعلني ممن اشترى فيه منك نفسه ثم وفي لك ببيعه الذي بايعك عليه غير ناكث ولا ناقض عهدا ولا مبدلا تبديلا (١).

«ألا حر يدع هذه اللماظة لأهلها ، إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها» ـ

«فلا أموال بذلتموها للذي رزقها ولا أنفس خاطرتم بها للذي خلقها» (٢).

و «أول الجهاد الدعاء إلى طاعة الله عز وجل من طاعة العباد وإلى عبادة العباد من عبادة الله وإلى ولاية الله من ولاية العباد» (٣).

وترى لماذا (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) دون «بالجنة»؟ لأن «بالجنة» حتم لا مرد له وكأنها تقابل ذلك القتال باستحقاق أصيل ، ولكن (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) هو وعد الجنة وليست هي هيه ، فقد اشترى أنفسا خلقها وأموالا رزقها ، فليس ـ إذا ـ إلا تلطفا في الدعوة وتعطفا على الخليقة ، وكما يستقرضنا ربنا ويستعطينا ، فوا خجلتاه إن عصيناه على عطفه ورحمته!. فيا ويلاه! أين التراب ورب الأرباب ، حيث الرب على عظمه يجعل نفسه مشتريا لنفس العبد وقد خلقها ، ولماله وقد رزقه ، ففي الحقّ الحقّ هو المشتري من نفسه وهو البائع لنفس ونفيس هما من خلقه ، ثم «وعدا عليه» تجعله كأنه مديون (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) لا تقبل إقالة ولا إحالة! ، ثم يستشهد لثابت وعده بما أنزله (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٧٢ في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان إذا أراد القتال قال هذه الدعوات.

(٢) هما في نهج البلاغة عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام).

(٣) وفي نور الثقلين ٢ : ٢٦٩ في الكافي كتب أبو جعفر (عليهما السلام) في رسالة إلى بعض خلفاء بني أمية ومن ذلك : من ضيع الجهاد الذي فضله الله تعالى على الأعمال وفضل عامله على العمال تفضيلا في الدرجات والمغفرة والرحمة لأنه ظهر به الدين وبه يدفع عن الدين وبه اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة بيعا مفلحا منجحا اشترط عليهم فيه حفظ الحدود وأول ذلك الدعاء إلى طاعة الله عزّ وجلّ ...

٣١٢

وإنها لبيعة رهيبة وبيع رهيب ، في عنق كل مؤمن ، لا تسقط عنها إلّا بسقوط إيمانه ، فعونك الله وعوذا منك إليك في الإيفاء بذلك العقد العقيد!.

وهكذا الله «يكرمهم على لسان الحقيقة وعلى لسان المعاملة ، اشترى منهم الأجساد لمواضع وقوع المحبة من قلوبهم فأحياهم بالوصلة» (١).

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(١١٢).

مواصفات تسع لأهل الجنة هي والموفين بعهد الله عشرة كاملة من صفات المؤمنين : «ومن أوفي بعهده من الله : التائبون ...» فقراءة الجر (٢) جرّ إلى غير المتواتر زعم أنها أوصاف لمجرور (بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) رغم أن الموصوف الأصيل الأقرب لفظيا ومعنويا هو «من أوفى» وهؤلاء هم :

١ «التائبون» إلى الله من ذنب وغير ذنب حيث التوبة لا تختص بذنب فإنها الرجوع إلى الله على أية حال ، والتوبة شعور بالندم على ما مضى ـ إن كانت عن ذنب ـ وتوجه إلى الله فيما بقي عن ذنب أم غير ذنب.

٢ «العابدون» الله دون سواه ، ودون سمعة أو رئاء الناس ، عابدون إياه عبادة وعبودية وإقرارا بالربوبية ، العابدون معرفة وعقيدة وعملا لله وكما يترجمها الاتجاه إلى الله بكل الكيان ، و «العابدون» دون الذي يعبدون ، للتدليل على استمرارية العبادة والعبودية لله على أية حال ، لا فقط حال العبادات.

__________________

(١) مجلة العرفان العدد الثالث المجلد ٦١ ص ٣٩١ عن الإمام الصادق (عليه السلام).

(٢) نور الثقلين ٢ : ٢٧٤ في روضة الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : تلوت : التائبون .. فقال : لا ، اقرأ «التائبين العابدين» إلى آخرها فسئل عن العلة في ذلك؟ فقال : اشترى من المؤمنين التائبين العابدين.

٣١٣

٣ «الحامدون» الله دون سواه إلّا حمدا به لله ، «الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء (١) حمدا بأقوالهم وأحوالهم وأفعالهم لله» (٢).

٤ «السائحون» سيحا أنفسيا كالصيام (٣) وما أشبه ، وسيحا في سبيل الله جهادا (٤) وسواه وهو مأخوذ من سيح الماء الجاري ، فالمؤمنون الموفون بعهودهم من الله هم كالماء الجاري : فكما أن راكد الماء ينتن ويتعفن وجاريه ينظف وينظّف ، كذلك المؤمنون هم سائحون جارون في مجاري الصلاح والإصلاح لأنفسهم وللآخرين ، فمن الجري في أنفسهم الصوم حيث يطهّر القلب بجاري ماءه الحيوي ، ومنه في أنفسهم ومن سواهم الجهاد في سبيل الله وله مصاديق عدة.

كالسيح لطلب العلم في الله ، وكسب الإخوان في الله ، والسير في أرض الله وكل سيح آفاقي وأنفسي في سبيل الله ، فالجامد الواقف ليس مؤمنا بالله ، إنما هو الحركي السائح الكادح : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٨٤ : ٦).

ولقد ذكر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مصداقا أنفسيا فرديا لذلك السيح هو الصيام ، ومصداقا آفاقيا هو الجهاد في سبيل الله ، وهذا

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٨١ عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

(٢) المصدر أخرج البيهقي في الشعب عن عائشة قالت : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتاه الأمر يسرّه قال : الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا أتاه الأمر يكرهه قال : الحمد لله على كل حال.

(٣) المصدر أخرج ابن جرير عن عبيد بن عمير قال سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الساكنين قال : هم الصائمون ، ورواه عن أبي هريرة وابن مسعود عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٤) المصدر أخرج ابن أبي حاتم والطبراني والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي أمامة أن رجلا استأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في السياحة قال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله.

٣١٤

يشمل كل حركة للسالكين إلى الله.

فكما أن (الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) تشمل كل حدوده ، كذلك «السائحون» تشمل كل حركة ذات بركة في سبيل الله.

ولماذا ذكرت الواو مرتين بين هذه التسع؟ علّه لأن الثلاث الأخيرة هي المتميزة الهامة التي تشمل سائر العشر المذكورة من ذي قبل ، وأنها من المسؤوليات الجماعية ، أم وتعني التسوية بين الآمرين والناهين والحافظين ، فإن مسئولياتهم واحدة هي الحفاظ على حدود الله.

(الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) لله دون سواه حيث يختصان في مظاهر الاحترام بالله ، ولأنهما أظهر مظاهر الصلاة فهي المعنية بهما كمصداق بارز بين مصاديقها ، ثم هم راكعون لله ساجدون في كل أقوالهم وأحوالهم وأعمالهم ، وهما ـ على اختلاف درجتهما ـ تشملان كافة درجات الخضوع لله في كل الحقول.

(الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) بشروطهما المسرودة في القرآن والسنة.

(وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) علميا وعقيديا وعمليا ، دون زيادة عليها أو نقيصة عنها ، وهؤلاء هم أئمة الدين في كل المحاور ، وسائر الأمة حسب درجاتهم ، ولا يثبت الحد حتى يرفع سببه إلى الإمام ف «إنما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام فإن انتهى إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه» (١)

ذلك ، وهذا التاسع يحلق على كل المحاور الثمانية الأولى فإن حدود الله علميا وعقيديا ومعرفيا وعمليا شخصيا وجماعيا ودعائيا ، تشمل المسؤوليات الجماعية إلى الشخصية دون إبقاء لأية مسئولية ، مهما اختلفت مراتب ذلك الحفظ رسوليا ورساليا.

__________________

(١) المصدر في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : من أخذ سارقا فعفى عنه فذاك له فإن رفعه إلى الإمام قطعه فإن قال الذي سرق له : أنا أهب له لم يدعه الإمام حتى يقطعه إذا رفعه إليه وإنما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام وذلك قول الله عزّ وجلّ (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ). فإن انتهى.

٣١٥

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) الموصوفين بهذه العشر ابتداء ب (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) فتلك إذا عشرة كاملة في صفات الإيمان وقد جمعت كافة المسؤوليات الإيمانية فردية وجماعية.

ولأن المسؤوليات الجماعية التي تصنع الجماعة المسلمة ليست إلّا بعد تحقق الفردية ، لذلك تقدمت هي عليها ، تقديما للجمع بينهما (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) وتأخيرا له (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) وبينهما متوسطات بين فردية محضة أو جماعية محضة.

إن حدود الله المحدودة في القرآن والسنة لها حفاظات حسب مختلف الملابسات لا حول عنها أبدا ، اللهم إلّا من حد إلى حد هو أهم منه حسب المقرر في شرعة الله.

وهنا عديد قاصد (لِحُدُودِ اللهِ) وفقا بين الحافظين الأصليين لحدود الله الأربعة على الإسلام ، وذكرها في القرآن بنفس العدد : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (٤ : ٤) ـ (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (٦٥ : ١).

وترى ما ذا يعني الترتيب القاصد بين الست الأولى والثلاث الأخرى؟

«التائبون» تعبيدة لصالح العبادة ، سواء أكانت توبة عن ذنب ، أم توبة ارتقاء عن الحالة الحاضرة إلى أرقى منها وأعلى ، حتى تحل العبادة موقعها الأعلى ، تحلية عبد تخلية ، حيث يتخلى عن ذنب أو نقص آخر ثم يتحلّى بالعبادة.

ثم «العابدون» تحلق على كافة العبادات ، توحيدا لصالح العبادة لله بعد توحيد التوبة والإنابة إلى الله ، إذا ف (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) هما عبارة أخرى عن : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ).

ولأن الأصل العبادة هو الحمد لله كما يحق له ، ف «الحامدون» هي ثالثة الأوصاف للأوفياء المؤمنين ، ثم الحمد العبادة والعبادة الحمد لا بد لهما من حراك وسيح دون جمود ، فالسيح فيهما هو المرغوب المطلوب.

٣١٦

ولأن الصلاة هي خير موضوع ، حيث هي عمود الدين وعماد اليقين ، ثم الركوع والسجود هما أظهر مظاهر العبودية في الصلاة ، إذا ف (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) هما مرحلتان أخيرتان مكملتان لمربع التوبة العبادة الحمد السيح.

ومن السيح في الصلاة أن تكون في جماعات ، قصدا إليها من كل مكان قريب أو غريب ، توحيدا للصفوف ، وتوطيدا للألفة بجمع الألوف.

هذه هي الست الأولى التي تتبنى صناعة الإيمان الوفي لأشخاص المؤمنين ، ومن ثم الثلاث الأخيرة كمسؤوليات هامة جماعية لهؤلاء الذين تخطوا الخطوة الأولى ، تقديما للأمر والنهي بما هما قائمتان لصرح الإسلام العام ، وتأخيرا ل (الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) كضابطة للحفاظ على حدود الفرد والجماعية الربانية للأفراد والجماعات ، فالإيمان الوفي على تفاصيل مواصفاته يختصر بجمعي الصفات الفردية والجماعية في (الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) وهنا موقع البشارة السارة : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

ثم (الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) تعم الفردية والجماعية ، بكل مراحل الحفظ : تعلما واعتقادا وتعليما ، ودعوة ودعاية لها ، وحفظا عن التحريف والتعطيل والتجديف ، وحفاظا على صالح التطبيق دون زيادة عليها أو نقيصة عنها.

إذا فالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، وما أشبه من المحافظة على حدود الله ، كل ذلك معني ب (الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) وإذا (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بهذه الرسالة السامية ، تطبيقا لهذه الشروط الإيمانية.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)(١١٤).

٣١٧

هنا روايات مختلقة قضية العصبية العمياء المذهبية أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استغفر لعمه وأبويه المشركين وقد ماتوا مشركين ، فلكي يمس من كرامة أبوي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي علي (عليه السلام) مسوا من كرامته هو (صلى الله عليه وآله وسلم) أن خالف أمر ربه في ذلك الاستغفار الاستهتار!.

فلقد نهاه الله تعالى أن يستغفر للمنافقين في آيات عدة مضت ، فضلا عن المشركين الرسميين الذين ماتوا على إشراكهم بالله ، واستحال غفرانه لهم بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٤ : ٤٨) و ١١٦) فكيف ـ إذا ـ يستغفر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للمشرك معارضا لما قرره الله من سلبية الغفران في حقل الشرك؟.

وترى كيف يفترى على رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يعارض المشركين وهو مأمور بالإعراض عنهم : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ، وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (٦ : ١٠٧).

ففي هذه وفي مكيات أخزى أمر بمفاصلة المشركين والإعراض عنهم ، وعدم الاستغفار لهم ، ثم هو يستغفر لوالديه اللذين ماتا مشركين؟! أم ولعمه أبي طالب الذي مات مشركا؟! كلّا ، إن المشرك هو المفتري على الرسول تلك التخلّفة النكراء ، والمفتري على عمّه وعلى والديه الذين ماتوا موحدين ، أنهم ماتوا مشركين!.

فوا عجباه بينما يقول الله : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٤ : ٤٨) رغم ذاك يسمح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفسه أن يستحل ـ لأبويه وعمه المشركين ـ! الجنة باستغفار لهم؟! داخلا في أنصار هؤلاء الظالمين!.

وبينما الله يحرم موادة من حادّ الله ورسوله ، وأحدّه الإشراك بالله

٣١٨

ونكران رسوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ... لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ..) (٥٨ : ٢٢) رغم ذاك يوادّ الرسول أبويه وعمه خروجا بذلك عن الإيمان بالله واليوم الآخر؟!.

وبينما الله يقول : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (٩ : ٢٨) (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٧٤ : ٥) رغم ذاك يقرب الرسول أقرباءه المشركين إليه ويستغفر لهم!.

وحين يقترف أمثال هذه الذنوب العظام فكيف يقول الله عنه (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٣٣ : ٢١) وهي أسوة طليقة غير محدودة ، بينما يحدد الأسوة بإبراهيم بغير استغفاره لأبيه وهو معذور في استغفاره له : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٦٠ : ٤) ومن قضايا البراءة ـ الأصلية ـ ترك الاستغفار لمن يتبرأ منه حيث هنا (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) ومن قبل استغفر له ولمّا يتبين له أنه عدوّ لله ، حيث لمّع له ولمّح قوله : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) كأنه يعده فرصة مليا ليكفر في أمره علّه يجدّد أمره ، فاعتبره وعدا للإيمان فوعده الاستغفار ثم استغفر له ولمّا يتبين له أنه عدو لله.

فما لهم أولاء المفترين على الله وعلى رسوله ، أنه استغفر للذين ماتوا مشركين ، تخلفا عن شرعة الإيمان بالله ، فضلا عن رسالة الله!.

أم كيف يفترى على رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان يستغفر لأبويه وعمه المشركين! وهم ماتوا في العهد المكي ، يستغفر طوال تسع سنين أو يزيد حتى نزلت هذه الآية في السنة التاسعة ، وهو كان منهيا عن موادتهم والاستغفار لهم منذ بداية الدعوة؟!.

وحين يبرّر هنا استغفار إبراهيم لأبيه أنه كان قبل ما تبيّن له أنه من

٣١٩

أصحاب الجحيم ، فكيف يبرّر ـ بعد ـ استغفار محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبويه وعمه بعد ما تبين له أنهم من أصحاب الجحيم إذ ماتوا مشركين؟!.

أجل (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) ـ ف «ما كان» تضرب إلى أعماق الماضي تحريما عريقا لذلك الاستغفار الاستهتار ، فلا سبيل ـ إذا ـ للمفتري على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول : إنما حرم من بعد ما استغفر ، ولو كان حلا من ذي قبل لم يعتذر لإبراهيم في استغفاره أنه ما كان يتبين له أن أباه من أصحاب الجحيم ، و «ما كان» ضاربة إلى أعماق الزمن الرسالي ، أن النبوة والإيمان يمنعان من الاستغفار للمشركين على مدار الزمن الرسالي دونما استثناء ، حيث علّق السلب بوصف النبوة والإيمان ، وكما يدل عليه الإستدراك لإبراهيم وليس معنيا بشخص النبي هنا.

إذا فكيف يستغفر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبويه وعمه الميتين على الشرك وقد تبين له من ذي قبل أنهم من أصحاب الجحيم! ثم كيف يعتذر لإبراهيم ولا يعتذر لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أول العابدين وأفضل النبيين؟!.

وحين يعد الله الميتين على الشرك أليم العذاب في مئات الآيات ، فالاستغفار لهم ـ إذا ـ يعني أن يخلف الله وعده وهو خارج عن أدنى الآداب الإيمانية فضلا عن الأدب الرسالي لمن هو في أعلى قمم الرسالة.

وتبيّن كون المشرك ومن أشبه هو من أصحاب الجحيم قد يكون بتبين الله كالذين يقول عنهم : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أم بموتهم وهم مشركون.

فالمشرك ـ فضلا عن سواه من الكفار ـ الذي يرجى إيمانه ، أم لم يتبين أنه يموت مشركا ليكون من أصحاب الجحيم ، إنه يجوز أن يستغفر له فضلا عن المتحري عن إيمان ، أو الذي يلمح بوعده الإيمان ، وهكذا

٣٢٠