الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

يدخلوا» حتى يمنع خصوص دخولهم ، بل «لا يقربوا» كما (لا تَقْرَبُوا الزِّنى) مما يدل على حظر الاقتراب من الحرم.

ولأن «المشركون» لا تعم كافة الكفار ، ولا أن (الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) تعم كافة المساجد ، فلا تدل الآية على حظر القرب أو الدخول لسائر الكفار في المسجد الحرام فضلا عما سواه من المساجد ، اللهم إلا بدليل آخر ككونهم جنبا لآية النساء : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) اعتبارا بفرض الفروع على الكفار كما المؤمنين ، فليمنعوا نهيا عن المنكر ، من دخول المساجد ، ولكنه ليس منكرا في زعمهم فلا نهى إلا بعد البيان ثم تخلفهم.

ولأن «لا يقربوا» موجه إلى المؤمنين في الأصل إذ ليس المشرك ليصدّق وحي الله حتى يقبله ، فالمفروض عليهم صدهم عن المسجد الحرام ، وان دخلوا أو قربوا فنفيهم عنه ، ونظيره قوله تعالى بحق الذين لم يبلغوا الحلم (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) (٢ : ٥٨).

وهل إن «لا يقربوا» مخصص ببعضهم كما في رواية؟ (١) والحكم المعلل لا يخصّص فلا تخصيص! اللهم إلّا الباقية مدتهم في معاهدة قبل نزول هذه الآية (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) وأما المعاهدة بعد الآية فلا تجوز لقرب المسجد الحرام لاستغراق الخطر.

(فَلا يَقْرَبُوا ... وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) وقد خافت جماعة عيلة لفراغ المسجد الحرام ـ مكة أو حرما ـ عن المشركين حيث كانوا يحملون سلعا للتجارة كأصل فيها (٢) ، فقد طمأنهم

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٢٦ ـ أخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد عامي هذا أبدا إلا أهل العهد وخدمكم.

(٢) المصدر أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نفى الله تعالى المشركين عن المسجد ـ

٢١

الله أنه هو الرزاق وأنه يغنيهم عنهم إن شاء (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بحالكم «حكيم» فيما يعلم بأحوالكم.

وهنا «إن شاء» تطلق مشيئته ، على علمه وحكمته وقدرته ، دون أن يضطر ويلجأ إلى إغناءهم بأسباب أخرى مهما كانت مرضات المؤمنين ، فإنما «إن شاء» حتى ينقطعوا إليه فيما يشاءون ، فلا تخيل إليهم ضرورة المبادلة وكأنها مهاترة هي لزام تقبلهم ذلك الحكم الصارم.

أجل ، فهناك حظر عن حضور المشركين المسجد الحرام ، وهنا الموقف الاقتصادي السلبي من جراءه ، الموقف الذي ينتظره المكيون ، تجارة يعيش عليها معظم الظاهرين في الجزيرة ، ورحلة الشتاء والصيف التي تكاد تقوم عليها حياة الجزيرة ، هذه كلها تتعرض للضياع بإعلان الجهاد العام على المشركين كافة ، ثم الحظر عن قربهم الحرم مهما كانوا مسالمين غير طاعنين في الدين ، ولكن الله هو الكافل بأمر الأرزاق من وراء الأسباب ودونها ، فحين يشاء الله يستبدل بأسباب مألوفة أخرى غير معروفة ولا مألوفة ، غلقا لباب وفتحا لأبواب ، وحتى إذا لم يستبدل فحكم الله أحرى بالاتباع من وافر العيشة ، ف (لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ).

فلقد كان الوحي القرآني الناهج أفضل مناهج التربية ، يعمل في المجتمع الذي نشأ من الفتح ، ولمّا تتناسق مستوياته الإيمانية حيث كان يعتوره ثغرات ، فهو يحاول في سد هذه الثغرات بفتح الاتجاه إلى الله في خطوات هي بالنتيجة قمة التجرد لله ، والمفاصلة على أساس العقيدة مع كافة الأواصر الأخرى غيرها ، فآصرة العقيدة الصالحة هي الوحيدة في الميدان ، التي تتناسى سائر الأواصر أمامها ولا سيما إذا خالفتها.

وهنا بعد ما ينتهي دور المشركين ، فإلى سائر الكفار (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) :

__________________

ـ الحرام ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين فقال : من أين تأكلون وقد نفي المشركون وانقطعت عنكم العير قال الله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ..).

٢٢

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)(٢٩).

«قاتلوا ..» أهجوما لم يكن ضد المشركين؟ أم دفاعا ، فعما ذا؟.

هنا (لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) كشريطة أولى لهذا القتال يخرجهم عن الإيمان أيّا كان ويلحقهم بالمشركين ، فإن ركن الإيمان الركين هو الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهم يشركون بالله وينكرون اليوم الآخر ، وكما في كتاباتهم المحرفة عن جهات أشراعها ، نكرانا لجسمانية المعاد أم للجزاء العدل فيه ، أم تجاهلا عن أصله كما في التوراة ، نكرانات متشابهة لصالح المعاد العدل ، كما تشابهت قلوبهم فهي خاوية عن الحق المرام.

ثم (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) (حَرَّمَ اللهُ) في كافة شرائعه ، أم و (حَرَّمَ اللهُ) في شرعتهم الكتابية ف «رسوله» إذا كل رسل الله أم رسلهم أنفسهم ، ثم (حَرَّمَ اللهُ) في قرآنه «ورسوله» في سنته ، وهنا «لا يحرمون» يشملهم كلهم ، ولا أقل دون الآخرين ، حيث لا يلتزمون بما هم به متشرعون من حرمات الله في الشرائع كلها أم في شرعتهم أنفسهم تحريما عقيديا أو عمليا حيث يعاملون المحرمات كما المحلّلات ، ولا سيما القسم الكبير من المسيحيين القائلين بنسخ شريعة الناموس أي العمل بما افتدى المسيح (عليه السلام) بنفسه عنها فحلت به كافة المحرمات.

ومن ثم (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) في دينهم فضلا عن دين الحق لهذه الشرعة القرآنية ، وهم : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وقد عني من (دِينَ الْحَقِّ) هذا الدين في (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ ..) كما يأتي.

إذا فلا يقاتل أهل الكتاب إلّا الموصوفون بهذه التخلفات الثلاث ، ثم

٢٣

قولهم : عزير ابن الله ، واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، وهم يأكلون أموال الناس بالباطل ، ويصدون عن سبيل الله ، فبهذه الدركات السبع الجهنمية يقاتلون حيث هم يشابهون فيها المشركين ، فهم ـ إذا ـ يتلون تلوهم إذ ينحون منحاهم ويغزون مغزاهم (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)!

إنهم ليسوا فقط طاعنين في ديننا بل هم طاعنون في كل الأديان ، بل وطعنتهم أطعن وأمعن من طعنات المشركين وسائر الكفار وكما وصفهم الله جملة واحدة : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ ..) ، وكما نجد مواقفهم المضللة أمامهم وأمام المؤمنين؟.

(قاتِلُوا ... حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) أمام السلطات الإيمانية ، دون أية فرعنة واستكبار ، وبكل ذل وهم صغار ، وهذه أقل ما يعامل معهم في شرعة العدل والحكمة.

وهذه الآية هي الوحيدة في القرآن بميّزاتها ولا سيما ضريبة الجزية ، وما هي إلا حفاظا على أمنهم في ظل الدولة الإسلامية ، وكما تؤخذ سائر الضرائب من المؤمنين.

فلأن هؤلاء المتخلفين من أهل الكتاب هم كالمشركين ، لذلك فهم في صفوفهم لواجب قتالهم وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): القتال قتالان قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله ، فإذا فاءت أعطيت العدل (١) و «الجزية» هي هيئة خاصة من الجزاء ، وعلّها من أهل الكتاب جزاء عدم قتالهم ، ثم جزاء الحفاظ عليهم في دولة الإسلام علّهم ينتهون.

ثم «عن يد» مقرونة ب (وَهُمْ صاغِرُونَ) قد تعني «عن يد» منهم

__________________

(١). الدر المنثور ٣ : ٢٢٨ ـ أخرج ابن عساكر عن أبي أمامة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ...

٢٤

دون أن يرسلوها بوسيط استعلاء أم يؤجلوها نسيئة دون نقد ، ثم و «عن يد» منكم ، وهي القدرة المستعلية لكم عليهم ، والنعمة في ذلك الأخذ ، حيث الجزية بديلة عن الحفاظ عليهم تحت رقابة السلطة الإسلامية ، فهذه رحمة ربانية عليهم ، فقد تعني «عن يد» كلتا اليدين : معطية وآخذة ، بمعنييها في كلّ ، (وَهُمْ صاغِرُونَ) دون أي استعلاء واستقلال ضمن الدولة الإسلامية ، سواء في إعطاء الجزية أم سواه من حركات حيوية.

فلا تعني (وَهُمْ صاغِرُونَ) انهم مهانون مهتوكون ، وإنما تعني أنهم صاغرون أمام السلطة الإسلامية ، وأمام شروطات الذمة ، فهم في الحق ـ إذا ـ عائشون في مدرسة داخلية إسلامية ، يعامل معهم بصلح وصفاء ووفاء ما هم «صاغرون» أمام السلطة الإسلامية ، دون أية مجاهرة بحرمات الله مهما هم عاملوها في خفاء.

وترى «الجزية» بعد هي بديلة القتال ، والنفس المهدورة لاتباع بمال ، ولا سيما هذه القليلة ، فهل القصد من قتالهم ـ فقط ـ أخذ المال؟.

«الجزية» هي مهلة بسيطة وسيطة بين بقاءهم أحرارا في فتنهم ، وإبقاءهم كأسرى علّهم ينتبهون فينتهون ، ودفع المال بتلك الحالة الصاغرة هو بطبيعة الحال يدفعهم إلى تأمل وتروّ تخلصا عن خسران المال والحال ، ولو أنهم فتنوا حال دفعهم جزيتهم ، لم تكن الجزية دافعة عن قتالهم ، فإنما دور الجزية هو فيما إذا هم ينتهون عن القتال والفتنة ولمّا ينتهوا عن ضلالهم البعيد ، فلكي تتاح لهم فرصة التأمل تؤخذ منهم جزية عجالة ، إجالة للنظر في أمرهم ، فتحولا ـ علّه ـ عن أمرهم ، وطبيعة الحال في (يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ (١) وَهُمْ صاغِرُونَ) أنهم تخطوا مرحلتي الخطر على المؤمنين ، فلا يحاربونهم نفسيا ولا عقيديا وإلا فلا دور للجزية عن يد وهم صاغرون ، فهم أولاء الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، لا تنطفئ نارهم وتخمد ، فقد انطفأت إرادتهم النارية عن إطفاء نور الله.

فكما لا يعني أسر المشركين في جبهات القتال ، إلّا حصرهم في مدرسة داخلية تربوية حتى يؤمنوا بما يلمسون من حالات المسلمين

٢٥

وفعالاتهم وقالاتهم الإيمانية ، فكذلك الأمر لهؤلاء الذين يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.

فهم أولاء يقاتلون حتى يتركوا فتنهم التي تسمح لقتالهم ، انطفاء لنارهم الحارقة ، فإما إيمانا أم تركا لفتنتهم ، ثم يدفعوا الجزية عند ما دخلوا في السلطة الإسلامية دون قتل لهم أو أسر إكراها على الدين ، إذ (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) فهم لا يتركون ـ إذا ـ بحريتهم الشريرة ، بل هم يعيشون تحت الرقابة والحفاظة الإسلامية بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون ، رقابة تسلب عنهم فتنهم وتفرض عليهم أدبا إسلاميا بما يلمسونه في ذلك الجو السامي.

وذلك تعديل ليس عنه بديل في التعامل التعايش بين المسلمين وهؤلاء المتخلفين من الذين أوتوا الكتاب ، فقه حكيم مستنير ينير الدرب على من يدق باب الهدى أم يتحرى عنها.

وطبيعة الحال هي عدم إمكانية التعايش بين المسلمين والكفار إلا في ظل ظليل من أوضاع ومقررات عادلة بطبيعة المنهج الحركي الإسلامي ، مقابلة للواقع المرير الشرير الكافر بحركة عاقلة عادلة مكافئة له ، متفوقة عليه ، لكي يصلحه أم يسلخه لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ، (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (٨ : ٣٩).

وهنا ـ في حقل أهل الكتاب ـ يختص القتال فالجزية بمن فيه هذه الدركات السبع ، وأما الصالحون منهم المتقون فلا ، إذ (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ، يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (٣ : ١١٥) (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٥ : ٨٣).

٢٦

فليس الله ليأمر بقتال أمثال هؤلاء آمنوا أم لمّا يؤمنوا أم لا يؤمنون ، إنما هم الموصوفون بتلك السبع الجهنمية ، صدا عن فتنتهم وتسديدا لهم عن بغيهم ، فإنهم بصفاتهم هذه حرب على دين الله اعتقادا وسلوكا ، وطعن فيه ككلّ حربا على الكتلة المؤمنة بحكم طبيعة التعارض والتصادم المبدئيين بين دين الله ودين ما سواه.

فكما المشركون تجب قتالهم دفاعا عن صالح العقيدة وصدا عن الطعن في الدين ، كذلك الكتابيون الذين يقتفون آثارا لهم مهما تسموا بالكتابيين.

ولقد أثبت الواقع التاريخي المرير واقع التعارض بينهم وبين المسلمين ، وقوفا لهؤلاء الكتابيين في وجه الدين ككل ، وفي وجهه كهذا الأخير ، وإعلان الحرب عليه وعلى أهله دون هوادة خلال الفترة السابقة لنزول هذه الآية حتى يومنا هذا.

ذلك ، فأقل تقدير لإصلاح الحال ضمانا لإزالة هذه العوائق المزرية ، وحفاظا على عدم الإكراه في الدين ، هو كسر شوكة السلطات القائمة على ما يضاد الدين الحق حتى تسلم أو تستسلم ـ ولأقل تقدير ـ عيشة تحت الذمة بدفع الجزية ، سلبا لطليق حريتهم في معارضة دين الله.

ففي مثلث استسلامهم ، ومساهمتهم في نفقات الحفاظ على أنفسهم ، وعدم المظاهرة الضارة ضد الدين ككل وضد الإسلام ، تشكّل هندسة المهادنة لردح التجربة للمجموعة ، ولهم انجذابا إلى شرعة الحق ، أم ولأقل تقدير تركا لمعارضتها.

ذلك ، رغم أن هذه القضية اليوم أصبحت تاريخية فحسب ، إذ لا وجود لهكذا مسلمين ودولة إسلامية تصلح لتطبيق هذه الأحكام السياسية ، فعلينا أولا أن نفتش عن وجود جادّ جيد للمسلمين ، ثم نتحدث عن هذه الإصلاحات والصلاحيات ، والمنهج الإسلامي هو دائما منهج الواقعية دون الخيالية الأحلامية المعلقة على هواء الفروض وأهواء الافتراضات ، فليس

٢٧

المنهج الإسلامي في شيء من مناهج الآرائيين الذين يقولون : «إن كان كذا كان كذا» ويفتشون عن موضوعات ومواضع الأحكام الخيالية من خلال النذور والاتفاقيات البعيدة عن متعود الواقع المعاش.

ونحن حين نبحث عن هذه الضوابط الإسلامية على ضوء القرآن ، نبحث فحصا عن خلق جو تتحقق فيه هذه الأحكام ، حيث القرآن يلحق في ضوابطه على كل زمان ومكان ، ويطلب من معتنقيه بجدية أن يؤسسهم أنفسهم كمسلمين واقعيين ثم يعملوا في تحرير الإنسانية عن دركات الكفر ، إلى بركات الإيمان والله هو المستعان.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٣٠).

فهؤلاء وأولاء أيضا فرقة من كلّ دون الكل ، فهل يؤخذ الجار بجرم الجار؟ لا و (لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)! فرقة من اليهود (قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) وفرقة من النصارى (قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) و «ذلك» البعيد البعيد (قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) خاويا عن حق ، ثم وليس من اختلافهم أنفسهم ، وإنما هم (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) من المشركين القائلين إن لله ابنا أو أبناء (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)! (١).

وكذلك من كفرة اليهود وقد كان (فيلو) الفيلسوف اليهودي الإسكندري المعاصر للمسيح يقول : إن لله ابنا هو كلمته التي خلق بها الأشياء ، ثم ومن قبلهم ومعهم سائر الكفار القائلين بالبنوة الإلهية

__________________

(١) لقد استعرضنا من عثرنا عليهم من المشركين القائلين بالثالوث في تفسير سورة المائدة ١٧ و ١١٦ ومريم ٣٤ وإليكم نموذجا من تفصيل :

فمن الثواليث : الثالوث البرهمي والبوظي وتاوو والصينيين والهنود والمصريين واليونان والرومان والفرس والفنلنديين والاسكندنافيين والدرديين والتتر والسيبريين والجزائر الأقيانوسية والمكسيكيين والهندوس الكنديين.

فهؤلاء من (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) وقد ضاهئوهم هؤلاء المسيحيين.

٢٨

بحذافيرها المتشتتة.

ولقد فصلنا القول حول البنوة الإلهية بحذافيرها بطيات آياتها فلا نعيد هنا إلا ثالوثا منها هي : بنوة تشريفية كعزير في قول القائلين به ككل ، وبعض القائلين إن المسيح ابن الله ، وبنوة ولادية كبعض آخر من النصارى ، وبنوة مرتقية إلى ذات الأبوة في قالة (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) و (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) خطوات خاطئات في حقل البنوة الإلهية ما لها من جذور إلا الشركية من (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) وإليكم حوار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع اليهود والنصارى بهذا الصدد (١).

__________________

(١) في كتاب الإحتجاج للطبرسي قال أبو محمد العسكري قال الصادق (عليه السلام) : ولقد حدثني أبي عن جدي علي بن الحسين زين العابدين عن الحسين بن علي سيد الشهداء عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين صلوات الله عليهم ، أنه اجتمع عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل خمسة أديان : اليهود والنصارى والدهرية والثنوية ومشركو العرب ، فقالت اليهود : نحن نقول : عزير ابن الله وقد جئناك يا محمد لننظر ما تقول ، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل وان خالفتنا خصمناك وقالت النصارى نحن نقول : إن المسيح ابن الله اتحد به وقد جئناك لننظر ما تقول؟ فان اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل وإن خالفتنا خاصمناك ـ

ثم قال لليهود : أجئتموني لأقبل قولكم بغير حجة؟ قالوا ـ لا ـ قال : فما الذي دعاكم إلى القول بان عزيرا ابن الله؟ قالوا : لأنه أحيا لبني إسرائيل التورية بعد ما ذهبت ولم يفعل بهذا هذا إلا لأنه ابنه ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : كيف صار عزير ابن الله دون موسى وهو الذي جاءهم بالتورية ورأوا منه من المعجزات ما قد علمتم؟ فإن كان عزير ابن الله لما ظهر من الكرامة من إحياء التورية فلقد كان موسى بالنبوة أحق وأولى ، ولئن كان هذا المقدار من إكرامة لعزير يوجب أنه ابنه فأضعاف هذه الكرامة لموسى توجب له منزلة أجل من البنوة ، وإن كنتم إنما تريدون بالبنوة الولادة على سبيل ما تشاهدون في دنياكم هذه من ولادة الأمهات الأولاد بوطي آباءهم لهن فقد كفرتم بالله وشبهتموه بخلقه وأوجبتم فيه صفات المحدثين ووجب عندكم أن يكون محدثا مخلوقا وإن يكون له خالق صنعه وابتدعه؟ قالوا : لسنا نعني هذا فإن هذا كفر كما ذكرت ولكنا نعني أنه ابنه على معنى الكرامة وإن لم يكن هناك ولادة كما قد يقول بعض علماءنا لمن يريد ـ

٢٩

__________________

ـ إكرامه وإبانته بالمنزلة عن غيره : يا بني! وإنه ابني لا على سبيل إثبات ولادته منه ، ولأنه قد يقول ذلك لمن هو أجنبي لا نسب بينه وبينه ، وكذلك لما فعل الله بعزير ما فعل كان قد اتخذه ابنا على الكرامة لا على الولادة فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : فهذا ما قلته لكم : إنه إن وجب على هذا الوجه أن يكون عزير ابنه فإن هذه المنزلة لموسى أولى وإن الله يفضح كل مبطل بإقراره ويقلب عليه حجته لأن ما احتججتم به يؤديكم إلى ما هو أكبر مما ذكرته لكم ، لأنكم قلتم : إن عظيما من عظمائكم قد يقول لأجنبي لا نسب بينه وبينه يا بني وهذا ابني لا على طريق الولادة فقد تجدون أيضا أن هذا العظيم يقول لأجنبي آخر : هذا أخي ، ولآخر : هذا شيخي وأبي ، ولآخر : هذا سيدي ويا سيدي على سبيل الإكرام ، وإن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول ، فإذا يجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا له أو أبا أو سيدا لأنه قد زاده في الإكرام مما لعزير ، كما أن من زاد رجلا في الإكرام قال له : يا سيدي ويا شيخي ويا عمي ويا رئيسي على طريق الإكرام ، وإن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول ، أفيجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا أو عما أو رئيسا أو سيدا أو أميرا لأنه قد زاده في الإكرام على من قال له : يا شيخي أو يا سيدي أو يا أميري أو يا عمي أو يا رئيسي ، قال : فبهت القوم وتحيروا وقالوا : يا محمد أجّلنا نفكر فيما قلته لنا ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

انظروا فيه بقلوب معتقدة للإنصاف يهدكم الله ـ ثم أقبل (صلى الله عليه وآله وسلم) على النصارى فقال : وأنتم قلتم : إن القديم عزّ وجلّ اتحد بالمسيح (عليه السلام) ابنه؟ فما الذي أردتموه بهذا القول؟ أأردتم أن القديم صار محدثا لوجود هذا المحدث الذي هو عيسى؟ أو المحدث الذي هو عيسى صار قديما لوجود القديم الذي هو الله؟ أو معنى قولكم : إنه اتحد به أنه اختصه بكرامة لم يكرم بها أحدا سواه؟ فإن أردتم أن القديم صار محدثا فقد أبطلتم لأن القديم محال أن ينقلب فيصير محدثا ، وإن أردتم أن المحدث صار قديما فقد أحلتم لأن المحدث أيضا محال أن يصير قديما ، وإن أردتم أنه اتحد به بأن اختصه واصطفاه على ساير عباده فقد أقررتم بحدوث عيسى وبحدوث المعنى الذي اتحد به من أجله ، لأنه إذا كان عيسى محدثا وكان الله قد اتحد به بأن أحدث به معنى صار به أكرم الخلق عنده فقد صار عيسى (عليه السلام) وذلك المعنى محدثين وهذا خلاف ما بدأتم تقولونه ، فقالت النصارى يا محمد إن الله لما أظهر على يد عيسى من الأشياء العجيبة ما أظهر فقد اتخذه ولدا على وجه الكرامة فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : فقد سمعتم ما قلته لليهود في هذا المعنى الذي ذكرتموه ثم أعاد (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك كله فسكتوا إلا رجل واحد منهم قال له : يا محمد أو لستم تقولون : إن إبراهيم خليل الله؟ ـ

٣٠

__________________

ـ قال : قد قلنا ذلك ، فقال : إذا قلتم ذلك فلم منعتمونا أن نقول : إن عيسى ابن الله؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنهما لن يشتبها لأن قولنا إن إبراهيم خليل الله فإنما هو مشتق من الخلة والخلة إنما معناها الفقر والناقة وقد كان خليلا إلى ربه فقيرا وإليه منقطعا وعن غيره متعففا مستغنيا وذلك لما أريد قذفه في النار فرمى به في المنجنيق فبعث الله تعالى جبرئيل (عليه السلام) فقال له : أدرك عبدي فجائه فلقيه في الهواء فقال حلفني ما بدا لك فقد بعثني الله لنصرتك فقال : بل حسبي الله ونعم الوكيل إني لا أسأل غيره ولا حاجة لي إلا إليه فسمي خليله أي فقيره ومحتاجه والمنقطع إليه عمن سواه ، وإذا جعل معنى ذلك من الخلة وهو أنه قد تخلل معانيه ووقف على أسرار لم يقف عليها غيره كان الخليل معناه العالم به وبأموره ولا يوجب ذلك تشبيه الله بخلقه ، ألا ترون أنه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله وإذا لم يعلم بأسراره لم يكن خليله وإن من يلده الرجل وإن أهانه وأقصاه لم يخرج عن أن يكون ولده ، لأن معنى الولادة قائم ، ثم أن وجب لأنه قال لإبراهيم خليلي أن تقيسوا أنتم كذلك فتقولوا : إن عيسى ابنه وجب أيضا أن تقولوا له ولموسى ابنه فإن الذي معه من المعجزات لم يكن بدون ما كان مع عيسى فقولوا : إن موسى أيضا ابنه ، وانه يجوز أن تقولوا على هذا المعنى أنه شيخه وسيده وعمه ورئيسه وأميره كما قد ذكرته اليهود ، فقال بعضهم لبعض : وفي الكتب المنزلة أن عيسى قال : أذهب إلى أبي ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن كنتم بذلك الكتاب تعلمون فإن فيه : أذهب إلى أبي وأبيكم فقولوا : إن جميع الذين خاطبهم عيسى كانوا أبناء الله كما كان عيسى ابنه من الوجه الذي كان عيسى ابنه ، ثم إن ما في هذا الكتاب يبطل عليكم هذا الذي زعمتم أن عيسى من جهة الاختصاص كان ابنا له لأنكم قلتم إنما قلنا أنه ابنه لأنه اختصه بما لم يختص به غيره وأنتم تعلمون أن الذي خص به عيسى لم يخص به هؤلاء القوم الذين قال لهم عيسى : أذهب إلى أبي وأبيكم فبطل أن يكون الإختصاص بعيسى لأنه قد ثبت عندكم بقول عيسى لمن لم يكن له مثل اختصاص عيسى وأنتم إنما حكيتم لفظة عيسى وتأولتموها على غير وجهها لأنه إذا قال : أبي وأبيكم فقد أراد غير ما ذهبتم إليه ونحلتموه وما يدريكم لعله عنى : أذهب إلى آدم أبي وأبيكم أو إلى نوح أن الله يرفعني إليهم ويجمعني معهم وآدم أبي وأبيكم وكذلك نوح بل ما أراد غير هذا ، قال : فسكت النصارى وقالوا : ما رأينا كاليوم مجادلا ولا مخاصما وسننظر في أمورنا ، الحديث ، وفي آخره قال الصادق (عليه السلام) : فو الذي بعثه بالحق نبيا ما أنت على جماعتهم إلا ثلاثة أيام حتى أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأسلموا وكانوا خمسة وعشرين رجلا من كل فرقة خمسة وقالوا : ما رأينا مثل حجتك يا محمد نشهد أنك رسول الله.

٣١

ولقد اشتد غضب الله في مواطن ثلاثة حسب المروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «اشتد غضبه على اليهود أن قالوا عزير ابن الله ، واشتد غضبه على النصارى أن قالوا المسيح ابن الله ، وان الله أشتد غضبه على من أراق دمي وآذاني في عترتي» (١).

ذلك وإلى قول فصل عن قصة البنوة العزيرية (٢) وليعلم بتفصيل أنها

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٣٠ ـ أخرج البخاري في تاريخه عن أبي سعيد الخدري قال : لما كان يوم أحد شبح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وجهه وكسرت رباعيته فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ رافعا يديه يقول : .. وعن ابن عباس قال أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جماعة من اليهود ـ سماهم ـ فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله!.

(٢) أورد المرحوم السيد رشيد رضا في تفسير المنار (١٠ : ٣٧٨ ـ ٣٨٥) خلاصة مفيدة عن مكانة عزرا عند اليهود وعلق عليها بعض التعليقات ، ننقل منها هنا كما يناسب سفرنا وموضوع البحث شطرات ، قال : جاء في دائرة المعارف اليهودية (ط ١٩٠٣) أن عصر عزرا هو ربيع التأريخ الملي لليهودية ، الذي تفتحت فيه أزهاره وعبق شذا ورده ، وانه جدير بأن يكون هو ناشر الشريعة لو لم يكن جاء بها موسى (التلمود ٢١ ب) فقد كانت نسيت ، ولكن عزرا أعادها أو أحياها ، ولو لا خطايا بني إسرائيل لاستطاعوا رؤية الآيات : المعجزات كما رأوها في عهد موسى .. وذكر فيها انه كتب الشريعة بالحروف الآشورية وكان يضع علامات على الكلمات التي يشك فيها ، وان مبدأ التاريخ اليهودي يرجع إلى عهده ، وقال الدكتور بوست الامريكي في قاموس الكتاب المقدس : عزرا (عون) كاهن يهودي وكاتب شهير سكن بابل مدة «ارتحشثتا» الطويل الباع ، وفي السنة السابعة لملكه أباح لعزرا أن يأخذ عددا وافرا من الشعب إلى أورشليم نحو سنة (٤٥٧ ق ـ م) (عزرا ص ٧) وكانت مدة السفر أربعة أشهر ـ

ثم قال : وفي تقليد اليهود يشغل عزرا موضعا يقابل بموضع موسى وإيليا ويقولون إنه أسس المجمع الكبير ، وانه جمع أسفار الكتاب المقدس وأدخل الأحرف الكلدانية عوض العبرانية القديمة وانه ألف أسفار «الأيام» و «عزرا» و «نحميا» ـ

ثم قال : ولغة سفر «عزرا» من ص ٤ : ٨ ـ ٦ : ١٩ كلدانية ، وكذلك ص ٧ : ١ ـ ٢٧ ، وكان الشعب بعد رجوعهم من السبي يفهمون الكلدانية أكثر من العبرانية ـ

وأقول : إن المشهور عند مؤرخي الأمم حتى أهل الكتاب منهم أن التوراة التي كتبها موسى (عليه السلام) ووضعها في تابوت العهد أو بجانبه ، قد فقدت قبل عهد سليمان

٣٢

__________________

ـ (عليه السلام) فإنه لما فتح التابوت في عهده لم يوجد فيه غير اللوحين اللذين كتبت فيهما الوصايا العشر كما تراه في سفر الملوك الأول وان (عزرا) هذا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي بالحروف الكلدانية ، واللغة الكلدانية الممزوجة ببقايا اللغة العبرية التي نسي اليهود معظمها ، ويقول أهل الكتاب : إن عزرا كتبها كما كانت بوحي أو بإلهام من الله .. وهذا ما لا يسلمه غيرهم وعليه اعتراضات كثيرة مذكورة في مواضعها من الكتب الخاصة بهذا الشأن حتى من تآليفهم كذخيرة الألباب للكاتوليك ـ وأصله فرنسي ـ وقد عقد الفصلين الحادي عشر والثاني عشر لذكر بعض الاعتراضات على كون الأسفار الخمسة لموسى ومنها قوله : جاء في سفر (عزرا ٤ : ف ١٤ عدد ٢١) إن جميع الأسفار المقدسة حرقت بالنار في عهد (نبوخذ نصر) حيث قال : إن النار أبطلت شريعتك فلم يعد سبيل لأي امرئ أن يعرف ما صنعت ويزاد على ذلك أن عزرا أعاد بوحي الروح القدس تأليف الأسفار المقدسة التي أبادتها النار ، وعضده فيها كتبته خمسة معاصرون ولذلك ترى «ثرثوليانوس» والقديس «يريناوس» والقديس «ايرونيموس» والقديس «يوحنا الذهبي» والقديس «باسيليوس» وغيرهم يدعون (عزرا) مرمم الأسفار المقدسة المعروفة عند اليهود .. إلى أن قال : «نكتفي بهذا البيان هنا ولنا فيه غرضان : أحدهما أن جميع أهل الكتاب مدينون لعزير هذا في مستند دينهم واصل كتبهم المقدسة عندهم ، وثانيهما أن هذا المستند واهي النسيان متداعي الأركان وهذا هو الذي حققه علماء أوروبة الأحرار ، فقد جاء في ترجمته من دائرة المعارف البريطانية بعد ذكر ما في سفره وسفر نحميا من كتابه للشريعة : أنه جاء في روايات أخرى متأخرة عنها أنه لم يعد إليهم الشريعة التي أحرقت فقط ، بل أعاد جميع الأسفار العبرية التي كانت أتلفت وأعاد سبعين سفرا غير قانونية : (أبو كريف) ثم قال كاتب الترجمة فيها : وإذا كانت الأسطورة الخاصة بعزرا هذا قد كتبها من كتبها من المؤرخين بأقلامهم من تلقاء أنفسهم ولم يستندوا في شيء منها إلى كتاب آخر ، فكتاب هذا العصر يرون أن أسطورة عزرا قد اختلقها أولئك الرواة اختلاقا (أنظر ص ١٤ ج ٩ من الطبعة الرابعة عشرة سنة ١٩٢٩)» ـ

«وجملة القول أن اليهود كانوا وما يزالون يقدسون عزيرا هذا حتى أن بعضهم أطلق عليه لقب (ابن الله) ولا ندري أكان إطلاقه عليه بمعنى التكريم الذي أطلق على إسرائيل وداود وغيرهما أم بالمعنى الذي سيأتي قريبا عن فيلسوفهم (فيلو) وهو قريب من فلسفة وثني الهند التي هي أصل عقيدة النصارى وقد اتفق المفسرون على أن إسناد هذا القول إليهم يراد به بعضهم لا كلهم ...»

«وأما الذين قالوا هذا القول من اليهود فهم بعض يهود المدينة كالذين قال الله فيهم : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ..) و (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) ردا على قوله ـ

٣٣

واقعة لا مرد لها.

وعزير هذا هو الذي جدد التوراة بعد اندراسه وانطماسه حيث كتبها من جديد بعد غائلة بنوكد نصّر : بخت النصر ـ ملك بابل ، حيث افتعل ما افتعل بهم وأحرق كتبهم ، وعند ما فتح «كورش» الملك الإيراني بابل شفع لهم عنده عزير فسمح له أن يعيدهم إلى بلادهم وأن يكتب لهم التوراة وقد مات مائة سنة ثم بعثه الله كما في آية البقرة : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ ..) ، فلذلك عظموه فاتخذوه ابنا لله تكريما له ـ بزعمهم ـ كريما لحد البنوة الإلهية المستحيلة! وظالما لم يكن زعم بنوته الإلهية منهم أجمع ، إلا أن جمعا منهم اتبعوا حملة ذلك المشعل ، وآخرون سكتوا ، ثم قلة باقية لم يكن لهم أمامهم صيت ولا صوت.

إذا ف (قالَتِ الْيَهُودُ) هي قالة لجمع منهم جميع دون الجميع ، وهكذا النصارى ، ولو لم تكن لهذه القالة واقع حاضر فيهم لكانت هذه تهمة تكفي في تزييف المواجهة القرآنية ، ولما سكتوا ـ إذا ـ عن تكذيبه ، فحيث الكثرة الكثيرة منهم انحرفوا هكذا عن حق التوحيد ، والقلة القليلة ما كانت أمامها تؤخذ بعين الإعتبار ، بل كانت تؤاخذ وتلاحق لما ذا تخلفت عن ذلك الاختلاف ، لذلك صح القول (وَقالَتِ الْيَهُودُ) (قالَتِ النَّصارى) إضافة إلى أن المواصفات المذكورة في الآية السالفة تضيق نطاق الموضوع هنا ، فهم إذا كفرة اليهود والنصارى كلهم ، و «اليهود» كما «النصارى» هما المعهودان بتلك المواصفات الكافرة ، فاللام ـ إذا ـ للعهد دون الجنس فضلا عن الاستغراق.

وهنا سرد لبنود من كفرهم بالله واليوم الآخر ، وأنهم لا يحرمون ما حرم

__________________

ـ تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) ويحتمل أن يكون قد سبقهم إليه غيرهم ولم ينقل إلينا ، روى ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله ..».

٣٤

الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ، أنهم تبنوا لله ، في أي من بنوده الثلاثة ، مضاهاة للمشركين العائشين من قبل.

ثم اتخاذهم من دون الله من يشاقون الله في أحكام من أحبار ورهبان ، أمّن هو نفسه من عباد الله المخلصين ، وفي ذلك نكران لرسالة الله ، كما هو نكران لكون المشرع ـ فقط ـ هو الله.

ثم استحلالهم لأكل أموال الناس بالباطل ، وكنزهم للذهب والفضة وصدهم عن سبيل الله ، حيث (لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) وكلّ ذلك تخلفات عن كل شرائع الله ورسالاته ، دون هذه الأخيرة فقط.

كما وكل ذلك تبيين لمواد من كفرهم في أصول أو فروع ، تبريرا لقتالهم حتى ...

ثم (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) والقول بطبيعة الحال ليس إلّا بالأفواه؟ قد يعني أنهم لا يعتقدون فيه (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (٣ : ١٦٧) أم حين يعتقدونه فلا يستندون فيه إلى برهان ، وإنما (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) فحتى إن اعتقدوه فما هو إلّا تقليدا أعمى للذين كفروا من قبل (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).

فقد جمعوا ركاما من الباطل ظلمات بعضها فوق بعض لا يكاد يوجد فيها نور : ١ قول بأفواههم وليس بقلوبهم. ٢ وإن كان بقلوبهم فليس من مختلقاتهم أنفسهم. ٣ فإنما هو مضاهاة للذين كفروا من قبل ، فيا ليتهم ضاهئوا كتابيين من قبل أمّن أشبه من الموحدين ، ولكنهم اصطفوا في عقيدة اللّاهوت تقوّلات من المشركين.

ذلك حمقهم في عمقهم تقليدا أعمى للمشركين ، ومن ناحية أخرى نرى جهالة عميقة حميقة أخرى لهم أنهم يعارضون العقل في لاهوت الألوهية حفاظا على خرافة الثالوث وابن الله ، كما وكانوا يعارضون العلم وصالح العقيدة في محاكمهم الكنسية ، فنراها في القرن (١٣) م تفتش العقائد المعارضة لخرافات إنجيلية ، والعلوم المتقدمة غير المؤاتية لهذه

٣٥

الأناجيل (١) :

__________________

(١) إن منظمة أنگيزيسيون : تفتيش العقائد قتلت عشرات الآلاف من هؤلاء المتخلفين عن خرافات إنجيلية ، مهما كانت بمجرد تهمة غير ثابتة.

ففي خلال (١٨) سنة فقط (تركمادا)(TORQUMADA) رئيس واحد من محاكم التفتيش الكنسية ، حكم بإحراق زهاء ١٠٢٢٠ شخصا أن يحرقوا أحياء ، وإن كانت جماعة منهم خنقت قبل الحرق كتخفيف لهم عن الحكم القاسي!.

ومن تعذيبات هذه المحاكم أنه كل من يتهم بالكفر والإلحاد ـ على حد زعمهم ـ يلقى عليه القبض ، وكانوا يضغطون عليه بألوان التعذيب والتنكيل حتى يعترف بما أتهم به وإن لم يكن حقا واقعا.

إن السجناء البريئين من هذه التهم ما كان يخلّى عنهم حتى يقروا بما لم يفعلوا تحت وطأة التعذيبات غير المتحمّلة حتى يعترفوا أخيرا بما لم يفعلوا.

يقول (كرى ولف) ـ وهو من المحققين الأوروبيين ـ عن ألوان التعذيبات : إن موظفي محاكم تفتيش العقائد كانوا يحمون المتهم لحد الحرق ، ويعلقونه لحد كانت أعضائهم تتفكك ، ويقطعون بالمعضات الحديدية لحومهم ويضغطون على أيديهم وأرجلهم بمعاقد حديدية لحد تسمع دقات تفلك عظامهم ، ويدخلون الإبر تحت أظفارهم حتى يقرب المتهم إلى حالة النزع فيلجأ إلى الإقرار بما يريدونه منه ، وكانت نتيجة ذلك الإقرار أنهم يخنقونه قبل حرقه ، وما الذين لا يقرون فإلى الإحراق أحياء.

ومن جملة هؤلاء المعذبين الفيلسوف الأوروبي (وانينت) إذ قطعوا لسانه ـ قضية عدم إقرار بما يريدونه منه ـ وأحرقوه أمامه ، ثم قتلوه شر قتلة.

ويقول (ژوان آنتونيولورنت) ١٨٠٠ م وهو من أعضاء محكمة تفتيش العقائد في (مادريد) :

إن قلمي يستحي من عرض هذه التعذيبات الوحشية بحق المتهمين ، وأرى تناقضا ظاهرا بين العطف المسيحي (عليه السلام) وهذه الخشونات الوحشية بحق المتهمين.

ويقول : لما تجاوز عديد المحكومين من المتهمين بالإحراق ، اضطر حاكم (سويل) أن يبني محرقة خارج البلد في صحراء باسم (تابلادا) وتكون دائمة الاضطرام ، وقد وضعت تماثيل أربع من النبيين على أضلاعها الأربعة ، وكان يحرق فيها الكافرون بالمسيحية الكذائية!.

ويقول العالم السوكيتي (لوزينسكي) في تقدمته لكتاب (شارل لنا) مؤرخ محاكم تفتيش العقائد ، يقول : حين أفكر أن هذه المحاكم تتبنى الإنجيل في هذه الأحكام الوحشية ،

٣٦

إن موظفي محاكم تفتيش العقائد كانوا يحمون المتهم لحد الحرق ، ويعلقونه لحد كانت أعضائهم تتفكك ، ويقطعون بالمعضات الحديدية لحومهم ، ويضغطون على أيديهم وأرجلهم بمعاقد حديدية لحد تسمع دقات تفكك عظامهم ، ويدخلون الإبر تحت أظفارهم حتى يقرب المتهم إلى حالة النزع فيلجأ إلى الإقرار بما يريدونه منه ، وكانت نتيجة ذلك الإقرار انهم يخنقونه قبل حرقه ، وأما الذين لا يقرون فإلى الإحراق أحياء.

ومن جملة هؤلاء المعذبين الفيلسوف الأوروبي (وانينت) (١) إذ قطعوا لسانه ـ قضية عدم إقراره بما يريدونه منه ـ وأحرقوه أمامه ، ثم قتلوه شر قتلة.

__________________

ـ يشكل علي كثيرا أن أكتب عنها باطمئنان.

ذلك ، فمدراء الكنائس الإنجيلية كانوا يعاملون المتهمين هكذا ، والمسيح نفسه كان يواجه الملحدين بكل لطف وحنان حتى يجلبهم إلى الحق.

هؤلاء أحرقوا خلال سنين أكثر من / ٣٢٠٠٠ متهما وعذبوا / ٣٤٠٠٠ شخصا لحد أنهى إلى موتهم ، وفي الجمعين عديد من العلماء الذين كانوا يتشككون في الأناجيل المزخرفة ، أم كانوا يخترعون ما لا تمضيه الأناجيل.

ذلك ، ونموذجا من سائر الجرائم الكنسية إليكم العرض التالي :

يقول الدكتور جوستاولوبون الفرنسي في تاريخ التمدن الإسلامي : أن عظيم الأساقفة أمر في المحكمة المقدسة! أن يقتل الأعراب غير المسيحيين مع نساءهم وأطفالهم بالسيف ، وراهب آخر تخطى هذه الجريمة البشعة وأمر بقتل الأعراب مسيحيين ومسلمين عن بكرتهم ، باحتمال أن إيمان المسيحيين منهم غير صادق.

وهذا الراهب المسمى ب (بلدا) يذكر بكل سرور أن ثلاث ملايين من هؤلاء المحكومين قتلوا في الطريق ، وفي مهجر من مهاجر المسلمين وعددهم / ١٤٠٠٠٠ شخصا ، إذ كانوا يهاجرون إلى أفريقيا قتل منهم / ١٠٠٠٠٠ شخصا.

وهكذا أحرق (كزيمنس) عظيم الأساقفة / ٨٠٠٠٠ كتابا إسلاميا ظنا منه أنه قضى بذلك على الإسلام المناوئ للمسيحية.

وكل ذلك كان في أسبانيا : الأندلس ، عند التغلب عليها ، ويكتب (آناتول فرانس) إن الحملة الوحشية لشمالي الأوروبا على الأندلس محقا لكثير من المسلمين القاطنين فيها ، وطمسا لآثارها العلمية الإسلامية ، إن ذلك سبب تأخر الأوروبا عن التقدم العلمي / ٥٠٠ سنة.

٣٧

وهنا (قاتَلَهُمُ اللهُ) ليس دعاء حيث الدعاء ليس إلا ممن لا يقدر على أن يحقق مأموله بنفسه فيطلب ممن هو فوقه ، فهو إخبار أن قتل الله فطرهم وعقولهم كما قتلوها قضية المفاعلة المعنية من المقاتلة ، فلما قالوا ما قالوه وفعلوا ما فعلوه وافتعلوا ما افتعلوه ختم الله على قلوبهم بما ختموا ف (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٣١).

اتخاذ الربوبية في هذا المثلث لا يعني فقط أنهم ربّبوهم كما الله ، بل وهو معاملتهم معهم كما يعامل الرب في البعض من اختصاصات الربوبية ، فقد اتخذوا المسيح ربا في خرافة الأقانيم واتحاده بذات الله ، وعبادتهم له كما الله ، وذلك يختلف عن سائر الاتخاذ في أحبارهم ورهبانهم ، حيث أطاعوهم كما يطاع الله مشرعا ، فاتخذوهم أربابا في حقل التشريع ، فأصغوا إليهم كامل الصغي فيما أحلوا أو حرموا (١) ، وفي الفصل بين (أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ) وبين (الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) تلميح لاختلاف الاتخاذين ، كما أن «ابن مريم» تستأصل الأخير ، ذلك ومن أحبارهم ورهبانهم من يخيل إليهم أنهم نواب المسيح (عليه السلام) في البنوة الإلهية أو الإلهية نفسها نسخة طبق الأصل ، بما يشربون الخمر ويأكلون الفطير ، بان الخمر دم المسيح والفطير لحمه ، فهم يصبحون ـ إذا ـ نفس

__________________

(١) في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليهما السلام) في قوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ...) أما المسيح فعصوه وعظموه في أنفسهم حتى زعموا أنه الله وأنه ابن الله وطائفة منهم قالوا : ثالث ثلاثة ، وطائفة منهم قالوا : هو الله ، وأما أحبارهم ورهبانهم فإنهم أطاعوا وأخذوا بقولهم واتبعوا به ما أمروهم به ودانوا بما دعوهم إليه فاتخذوهم أربابا بطاعتهم لهم وتركهم أمر الله وكتبه ورسله فنبذوه وراء ظهورهم وما أمرهم به الأحبار والرهبان اتبعوه وأطاعوهم وعصوا الله ورسوله ، وإنما ذكر هذا في كتابنا لكي نتعظ بهم فعير الله تبارك وتعالى بني إسرائيل بما صنعوا يقول الله تبارك وتعالى : وما أمروا ألا ليعبدوا إلها واحدا سبحانه وتعالى عما يشركون.

٣٨

المسيح (عليه السلام) وقد ندد بهم المسيح (عليه السلام) في نقل الإنجيل بقوله : «أفلا تفهمون بعد أن كل ما يدخل الفم يمضي إلى الجوف ويندفع إلى المخرج» (متى ٥١ : ١٧).

ذلك ، وكل اتخاذة لغير الله كما الله في ربوبية من ربوبياته ، ذلك إشراك بالله فيما يختص به الله ، فكما التوحيد درجات كذلك الإشراك دركات (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) بالله في ذات أم أفعال أم صفات ، تسوية لخلق الله بالله ، وهي ككل ضلال مبين : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢٦ : ٩٨).

فهنا مشركون رسميون وهم عبّاد الأوثان بصورة رسمية ، وهناك مشركون دخلاء قد يعبدون غير الله زعم أنه الله كما المسيح ، أو يطيعون غير الله كأنه الرب في التشريع ، كما اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، أو يميلون إلى غير الله مع الله كالذين يراءون في عباداتهم ، ثالوث من الإشراك بالله بما لكلّ من دركات ، والقسم الأول هو المصطلح المتعود المقصود فيما يطلق الإشراك ، ثم الأوسط مرحلة ثانية هي مع المنحرفين عن التوحيد من أهل الكتاب ، ثم الأخير يحلق على كل هؤلاء المرائين.

ولقد يروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تفسيرا للآية : «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه» (١) ولا يعني التحليل والتحريم الإفتاء ، بل

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٣٠ ـ أخرج جماعة عن عدي بن حاتم قال أتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يقرأ في سورة براءة : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) فقال : ..» وفي المجمع روى الثعلبي باسناده عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي عنقي صليب فقال : يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك ، قال : فطرحته ثم أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يقرء من سورة براءة هذه الآية .. فقلت له : انا لسنا نعبدهم ، قال : أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟ قال : فقلت بلى فقال : فتلك عبادتهم ، وفي أصول الكافي عن أبي بصيرة قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن هذه الآية فقال :

٣٩

هو تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله قاصرين أو مقصرين أو مقصرين وقاصرين ، فلا يحل التقليد الطليق بل ولا أصل التقليد ممن هذه صفته بتقصير أم قصور.

ذلك ، فاتباع غير الله كما الله اتخاذ له ربا كما الله ، وأما الرسل وسائر المعصومين فاتباعهم هو اتباع الله ف (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٤ : ٨٠) ولكن غير المعصومين الذين يجوز عليهم الخطأ قصورا أو تقصيرا فليس إتباعهم طليقا مطبقا ، إنما يتبعون فيما يعلم أنهم صادرون فيه عن الله أم لا يتهمون ، وأما المشكوك فضلا عن المعلوم تخلفهم عن حكم الله ، فليس إتباعهم فيهما إلا اعتبارا لألوهتهم أو رسالتهم عن الله ، أما الرسالة فكيف يكذب الرسول على الله أو يعارضه في حكمه ، وأما الألوهية فهي هيه في هذه الطاعة الطليقة الخاطئة.

فلذلك ، كما الاجتهاد في الدين تفصيليا فرض على المستطيعين ، كذلك الاجتهاد إجماليا فرض على القاصرين ، أن يتأكدوا ممن يقلدونه أنه صادر حسب مكنته عن الله ، فأما المشكوك فيه ، فضلا عن المتأكد كونه صادرا عن هواه ، فليس إتباعه إلا تأليها له كما الله ، فإن الله هو الذي يحلّل أو يحرم دون سواه ، ولا رسول الله.

هذا ، وفي تبديل صيغة الربوبية هناك : (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) بالألوهية هنا : (إِلهاً واحِداً) لمحة لامعة أن الربوبية هي من لزامات الألوهية ، فاختصاص العبادة بالله هو اختصاص للربوبية بالله ، ومنها الطاعة الطليقة حيث تختص بالله.

فلما أطاعوا أحبارهم ورهبانهم طليقة وهم يعلمون تخلفهم عن شرعة الله ، فقد عبدوهم كأرباب ، فقد ألّهوهم ـ إذا ـ كما الله في حقل

__________________

ـ أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم ولكن أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون ، وعنه (عليه السلام) من أطاع رجلا في معصية الله فقد عبده ، وعنه في الآية : أما والله ما صاموا لهم ولا صلوا ولكنهم ...

٤٠