الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

الموت إذا لم يكن مانع عن هذه التوبة الربانية ، وهنا (عَسَى اللهُ) بيان لظروف مختلفة في بعضها يتوب الله وفي بعض لا يتوب ، وكل قضية الرحمة الصالحة الربانية (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ولو أن (عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) اختصا بغير العقيدة والطوية ، ف «آخرون» هم غير العدول من المؤمنين وهم الأكثرية الساحقة منهم ، إذ العدول قلة قليلة ، والله يعد من رجحت حسناته على سيئاته ، ومن يجتنب كبائر السيئات ، يعدهم ومن أشبه ، المغفرة والتكفير ، فلا موقع ل (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) بل هو الذي وعد التوبة عليهم.

ولقد وردت روايات حول شأن نزولها (١) ولكنها كسائر القرآن ليست لتختص بمنزل خاص ، فإنما العبرة بعموم اللفظ دون خصوص المورد.

وهنا (عَسَى اللهُ) نص في الرجاء ، إلّا أن الرجاء المنصوص من الله في العفو نص في العفو ، فإن الله لا يعفو إلّا فيما يصلح فيه العفو ويصح ، وأما ما لا يصلح أو يصح فلا مورد فيه ل «عسى» ومما تلمح له «عسى» سلبيا أنهم قد يرجعون إلى ذنبهم ويموتون عليه ، فكيف يعفى عنهم ، فقد تعني «عسى» بما عنت ، أنهم إن ماتوا على توبتهم فالله تائب عليهم.

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٧٢ عن ابن عباس في الآية قال : كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك فلما حضر رجوع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد وكان ممر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا رجع في المسجد عليهم فلما رآهم قال : من هؤلاء الموثقون أنفسهم؟ قالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوثقوا أنفسهم وحلفوا أنهم لا يطلقهم أحد حتى يطلقهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويعذرهم ، قال : وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين ، فلما بلغهم ذلك قالوا : ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا فأنزل الله عزّ وجلّ : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) وعسى من الله واجب انه هو التواب الرحيم.

٢٨١

وهنا مسائل مستفادة من آية الخلط :

العمل الصالح لا يحبط بالعمل السيء اللهم إلا فيما يستثنى بثابت النص وناصعه ، كالإشراك بالله وما أشبه.

«عسى» من الله حتم ، وعساه يعني فيما يقول «عسى» ـ إضافة إلى ما مضى ـ تدليلا على أنه ليس ملزما بالرحمة غير المستحقة ، وإنما هي تفضل يعبر عنه ب «عسى».

«اعترفوا» ماضيا دليل على سابق اعترافهم بذنبهم ثم (أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) دليل مستقبل التوبة المرجوة عليهم ، وعلّ الفصل يعني تكميل التوبة حيث الاعتراف بالذنوب ليس نفسه التوبة ، بل هو تقدمة لها.

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١٠٣).

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم (١) وغيرهم من

__________________

(١) في قصة أبي لبابة يروي القمي في تفسيره ... فلما كان بعد ذلك ورسول الله في بيت أم سلمة نزلت توبته فقال : يا أم سلمة قد تاب الله على أبي لبابة فقالت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفأؤذنه بذلك؟ فقال : لتفعلن فأخرجت رأسها من الحجرة فقالت يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك فقال : الحمد لله فوثب المسلمون ليحلوه فقال : لا والله حتى يحلني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا أبا لبابة قد تاب الله عليك توبة لد ولدت من أمك يومك هذا لكفاك فقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفأتصدق بمالي كله؟ قال : لا ، قال : فبثلثيه؟ قال : لا قال فبنصفه؟ قال : لا قال : فبثلثه؟ قال : نعم ، فأنزل الله : وآخرون ... خذ من أموالهم صدقة .. ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة.

أقول : وأبو لبابة هذا هو الذي خان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث أرسله أمينا إلى بني قريظة لما حوصروا. فقالوا له يا أبا لبابة ما ترى أنزل على ما حكم محمد ، فقال : أنزلوا واعلموا أن حكمه فيكم هو الذبح وأشار إلى حلقه ثم ندم على ذلك فقال خنت الله ورسوله ونزل من حصنهم ولم يرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومر إلى المسجد وشد في عنقه حبلا ثم شده إلى الأسطوانة التي تسمى اسطوانة التوبة ـ إلى آخر القصة ..

٢٨٢

أصحاب الأموال «صدقة» هي الزكوة المفروضة ، ولأن (أَمْوالِهِمْ) جمع مضاف يفيد الاستغراق ، إذا فمستغرق الأموال هي كلها مجال واسع لأخذ واجب الصدقة ، دون اختصاص بالتسعة الشهيرة ، فحتى لو دل دليل على ذلك الإختصاص لكان ناسخا لهذه الآية إذ لا تقبل ذلك التخصيص فإنه مستهجن ، وإذ لا ناسخ لها في القرآن ، بل الآيات الآمرة بالزكوة والصدقات هي بين مستغرقة للأموال وصريحة في التخطي عن هذه التسعة (١) ثم السنة لو دلت على ذلك الإختصاص ـ ولا تدل ـ فليست لتنسخ القرآن على أية حال ، لا سيما وأن قرابة مائة من الروايات تدل على تحليق الزكوة على كافة الأموال ، واليتيمة القائلة «عفى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى ذلك» إما مطروحة أو مأولة ، إذ ليس من شأن الرسول العفو عما فرضه الله.

لذلك كله فهذه من عداد الآيات الدالة على تحليق الزكوة على كافة الأموال.

والقول إن (مِنْ أَمْوالِهِمْ) تبعّض الأموال المأخوذة منهم لمكان «من» قرينة على ذلك التبعيض؟ مردود بأن المأخوذ على أية حال بعض من المال الزكوي ، فلا يصح «خذ أموالهم» وإنما «من أموالهم» أي : بعضا من كل الأموال ، ولو عني البعض من البعض لكانت عبارته «خذ من بعض أموالهم».

ولأن «خذ» أمرا دليل الوجوب ، فهو «من أموالهم» المفروض الأخذ منها ، فهو ـ إذا ـ الزكوة المفروضة ، أمّا شئت أن تسميه إذ لا مشاحة في الألفاظ.

وقد قدر ذلك البعض في البعض من الأموال ب ٥ / ٢ ـ أو ـ ٥ ـ أو ـ ١٠ في المائة كضريبة لأقل تقدير ، ومن ثم ضريبة غير مستقيمة مستفادة

__________________

(١) كآية الأنعام : «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (١٤١).

٢٨٣

من آية العفو ، وهو الزائد عن الحاجة المتعودة.

(صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) تطهيرا لهم عن أدناس الأموال والذنوب والبخل وطموحات الفقراء ، وتزكية لهم بترفيع درجات ، فقد تعني «تطهرهم» واجهة السلب : «لا إله» و «تزكيهم» واجهة الإيجاب «إلا الله» فقد تحلق كلمة التوحيد على كافة الأحوال والأموال دونما استثناء.

ثم (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) مزيدا للرحمة (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) عما يعرضهم من بأس وبؤس في دفع الأموال واندفاع الأحوال.

ذلك وقد «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتي بصدقة قال : اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقته فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى» (١).

ذلك ، وليس (صَلِّ عَلَيْهِمْ) يختص بمن يأخذ من أموالهم صدقة ، بل هو يعم المؤمنين على درجاتهم وكما يروى رحمته وصلواته الشاملة لهم (٢).

وترى «خذ» تعني الأخذ البدائي ، أم الأخذ عند الإعطاء ، أم تعنيهما قضية طليق الأخذ الشامل لهما ، فالذين يؤتون الصدقات المفروضة يأخذها رئيس الدولة الإسلامية ، والذين لا يؤتونها يبعث عمالها ليأخذوها

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٧٥ ـ أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله ابن أبي أوفي قال : ...

(٢) المصدر أخرج ابن أبي شيبة عن جابر بن عبد الله قال أتانا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت له امرأتي يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صل عليّ وعلى زوجي فقال صلى الله عليك وعلى زوجك ، وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن خارجة بن زيد عن عمه يزيد بن ثابت وكان أكبر من زيد قال : خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما وردنا البقيع إذا هو بقير جديد فسأل عنه فقالوا فلانة فعرفها فقال : أفلا آذنتموني بها؟ قالوا : كنت قائلا فكبر هنا أن نؤذيك فقال : لا تفعلوا ما مات منكم ميت ما دمت بين أظهركم إلا آذنتموني به فإن صلاتي عليه رحمة.

٢٨٤

بحدودها وشروطها.

وظاهر النسبة في «أموالهم» أن الصدقة حق متعلق بذمم أصحابها دون عيون الأموال ، ولكن واجب الأخذ منها يجعل مستحقيها شركاء لأصحابها فيها ، ولا فرق بين زوال المال المستحق قبل إخراج زكاتها ، بين تعلق الحق بأعيانها أم بالذمة ، فإن فرط ضمن على أية حال.

ثم الأموال تشمل الحقوق المالية مع عيون الأموال ، لأنها من الأموال كما العيون.

ولأن (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) لا مورد لهما إلا البالغين ، إذا فليست أموال غيرهم متعلقة للزكوات.

ولا بد أن يكون ذلك الأخذ مطهرا لهم ومزكيا ، فالأخذ قهرا وغلظة غير مسموح ، بل اللين المكين هو واجب الأخذ أدبيا.

وهنا (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرر أن الأخذ لا بد أن يكون من ناحية رئيس الدولة الإسلامية ، وقد يحتمل أن «تظهرهم» تعني الصدقة ثم (تُزَكِّيهِمْ بِها) تعني الآخذ ، فطبيعة الحال في الصدقات أنها تطهر أصحابها ، ثم الآخذ الرسولي أو الرسالي يزكي أصحابها بها بما يرفع به من نفسيتهم ، أم إن «تطهرهم» تعم الآخذين إلى نفس الصدقة فإنهما مطهران.

ذلك ، وهنا في أخذ الضرائب أدب بارع أن (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) وهكذا يجب أن يراعى الأدب والحنان في أخذ الصدقات ، ومن نماذجها البارعة بعد النموذج الرسولي ما كتبه علي أمير المؤمنين إلى عمال الصدقات :

انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له ، ولا تروّعنّ مسلما ، ولا تجتازنّ عليه كارها ، ولا تأخذنّ منه أكثر من حق الله في ماله ـ

فإذا قدمت على الحي فأنزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم ، ولا تخدج بالتحية لهم ، ثم تقول :

٢٨٥

عباد الله! أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم ، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟ فإن قال قائل : لا ، فلا تراجعه ، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده أو تعسفه أو ترهقه ، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة ، فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه ، فإن أكثرها له ، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ، ولا عنيف به ، ولا تنفّرنّ بهيمة ولا تفزعنّها ، ولا تسوءنّ صاحبها فيها ، واصدع المال صدعين ، ثم خيّره ، فإذا اختار فلا تعرّضنّ لما اختاره ، ثم اصدع الباقي صدعين ، ثم خيّره ، فإذا اختار فلا تعرّضنّ لما اختاره ، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله ، فأقبض حق الله منه ، فإن استقالك فأقله ، ثم اخلطهما ، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق الله في ماله ، ولا تأخذنّ عودا ، ولا هرمة ، ولا مكسورة ، ولا مهلوسة ، ولا ذات عوار ، ولا تأمننّ عليها إلّا من تثق بدينه رافقا بمال المسلمين حتى يوصّله إلى وليهم فيقسمه بينهم ، ولا توكّل بها إلّا ناصحا شفيقا وأمينا حفيظا ، غير معنّف ولا مجحف ولا ملغب ولا متعب ، ثم أحدر إلينا ما اجتمع عندك ، نصيّره حيث أمر الله فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وبين فصيلها ، ولا يمصّر لبنها فيضرّ ذلك بولدها ، ولا يجهدنّها ركوبا ، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها ، وليرفّه على اللّاغب ، وليستعين بالنقب والظالع ، وليوردها ما تمر به من الغدر ، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطرق ، وليروّحها في الساعات ، وليمهلها عند النّطاف والأعشاب حتى تأتينا بإذن الله بدّنا منقيات ، غير متعبات ولا مجهودات ، لنقسمها إلى كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن ذلك أعظم لأجرك ، وأقرب لرشدك إن شاء الله (الوصية ٢٥).

ومن عهد له (عليه السلام) إلى بعض عماله وأمره أن لا يجبههم ، ولا يعضههم ، ولا يرغب عنهم تفضلا بالإمارة عليهم ، فإنهم الإخوان في الدين ، والأعوان على استخراج الحقوق ـ

وإن لك في هذه الصدقة نصيبا مفروضا ، وحقا معلوما ، وشركاء

٢٨٦

أهل مسكنة ، وضعفاء ذوي فاقة ، وإنا موّفوك حقك فوفّهم حقوقهم ، وإلّا فإنك من أكثر الناس خصوما يوم القيامة ، وبؤسا لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين ، والسائلون والمدفوعون والغارم وابن السبيل ، ومن استهان بالأمانة ، ورتع في الخيانة ، ولم ينزّه نفسه ودينه منها ، فقد أحل بنفسه في الدنيا الذّل والخزي ، وهو في الآخرة أذل وأخرى ، وإن أعظم الخيانة خيانة الأمة ، وأفظع الغش غش الأئمة والسلام (العهد ٣٦).

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١٠٤).

أجل ، إنه فقط (قابِلِ التَّوْبِ) (٤٠ : ٣) لا سواه ، فإنه هو المعصي دون سواه ، فكيف يقبل التوبة من سواه ، فالخرافة الجازفة المسيحية أن الأقاسسة يغفرون الذنوب ويتوبون على العصاة ، إنها تعني لهم ربوبية أمام الله ، أم وكالة عن الله في غفران الذنوب وقبول التوبات! فليس لأحد قبول التوبة حتى رسول الله ، فضلا عمن سواه.

وهنا (يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) تجعلنا نراعي كل حرمة وتبجيل لأيدي الفقراء ، إذا فحق للمتصدق أن يسترجع ما تصدق ويقبّله ثم يرجعه (١) كما

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٧٥ عن أبي هريرة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة طيبة من كسب طيب ولا يقبل الله إلّا طيبا ولا يصعد إلى السماء إلّا طيب فيضعها في حق إلّا كانت كأنما يضعها في يد الرحمن فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى أن اللقمة أو التمرة لتأتي يوم القيامة مثل الجبل العظيم وتصديق ذلك في كتاب الله العظيم : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ).

وفي نور الثقلين ٢ : ٢٦١ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل وفيه وإذا ناولتم السائل شيئا فسلوه أن يدعو لكم فإنه يجاب له فيكم ولا يجاب في نفسه لأنهم يكذبون ، وليرد الذي يناوله يده إلى فيه فيقبلها فإن الله عزّ وجلّ يأخذها قبل أن تقع في يده كما قال عزّ وجلّ : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ).

وفيه عن تهذيب الأحكام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إن الله لم يخلق شيئا إلا وله خازن يخزنه إلّا الصدقة فإن الرب يليها بنفسه وكان أبي إذا تصدق بشيء وضعه في يد ـ

٢٨٧

على الأخذ مثل ذلك.

ذلك لأن الآمر بالصدقة هو الله ، ففي أخذها وإيتاءها ملتقى يد الله ، وكما على مؤتيها كامل الحرمة عند إيتاءها ، كذلك على آخذها حيث يأخذها من يد الله ، فهنا ملتقى رباني على طرفي الإيتاء والأخذ أن يراعيا حرمة التصدق في سبيل الله ، ولأن الآخذ قد يحس بذلّ فقد يحق على المؤتي أن يسبقه إلى ذلك تطامنا لأمر الله وتضامنا مع الآخذ وترفيعا لمنزلته ، إضافة إلى أن النص أن الله (يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) فليرجح جانب الآخذ لها على مؤتيها.

وصحيح أن الآخذ هنا هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : خذ من أموالهم ، ولكنه أخذ بأمر الله ، فالله هو الآخذ في الحق كما (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى).

وقد يلمح قرن (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) ب (يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) بأن الصدقة هي من مصاديق التوبة ، ولم لا؟ وهي تطهر وتزكي أصحابها!.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥).

«قل» لكلا الصالحين والطالحين «اعملوا» على مكانتكم ، فليس العمل أيّا كان يذهب هباء منثورا ، بل هو ثابت منشور في المسجلات

__________________

ـ السائل ثم ارتده منه فقبله وشمه ثم رده في يد السائل.

وفيه عن تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خصلتان لا أحب أن يشاركني فيهما أحد ، وضوئي فإنه من صلاتي وصدقتي من يدي إلى يد السائل فإنها تقع في يد الرب.

وفيه كان علي بن الحسين (عليهما السلام) إذا أعطى السائل قبل يد السائل فقيل له لم تفعل ذلك؟ قال : لأنها تقع في يد الله قبل يد العبد وقال : ليس من شيء إلا وكل به ملك إلا الصدقة فإنها تقع في يد الله.

٢٨٨

الربانية ، صوتية وصورية (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (فَسَيَرَى اللهُ) ما ستعملونه هنا «ورسوله» بما يشهده الله «والمؤمنون» الأئمة هنا وغيرهم يوم يقوم الأشهاد ، فمهما خفيت هنا رؤية الله عن الجاهلين بالله فضلا عن رؤية رسول الله ، ثم ولم تكن هنا رؤية للمؤمنين بالله (فَسَيَرَى اللهُ) كما كان يراه «ورسوله» كما كان يريه الله «والمؤمنون» بعد أن لم يكونوا يرون مهما كان يراه أئمة المؤمنين كما الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (١) فالرؤية الربانية مستمرة هنا ويوم يقوم الأشهاد ، بل وقبل العمل حيث يعلمه الله من قبل ومن بعد ، والرؤية الرسولية هي بعد العمل بإراءة الله ، وهكذا الرؤية الرسالية لعترته المعصومين (عليهم السلام) ، والرؤية لسائر المؤمنين هي يوم يقوم الأشهاد.

فلا تعني (فَسَيَرَى اللهُ) أصل الرؤية بالحيطة العلمية ، بل هي واقعها المشهود يوم الجمع لأهل الجمع فضلا عن الله.

وهذه نبهة الغافلين والمتجاهلين كأن الله لا يرى أعمالهم ، فضلا عن رسوله والمؤمنين ، وأما الله تعالى شأنه ف : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٩) فلا يفلت أي عمل من أي عامل هباء انمحاء في الهواء ، بل الأعمال مسجلة في سجلاتها التي قررها الله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٧ : ١٤) : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (٣ : ٣٠) ، وهكذا (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) : ردا إلى حسابه وجزاءه.

ذلك ، فقد استعملت «سيرى» في مختلف معانيه ومصاديقه ، مما يدل على جواز استعمال اللفظ في معان عدة ، فإن رؤية الله بعد رؤية

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٦٢ عن العياشي عن بريد العجلي قال قلت لأبي جعفر (عليهما السلام) في قول الله (اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ) «فقال : ما من مؤمن يموت ولا كافر يوضع في قبره حتى يعرض عمله على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي فهلم إلى آخر من فرض الله طاعته على العباد» ، أقول : وهذا متظافر معنويا في روايات عدة.

٢٨٩

العلم في أصله هي رؤيته بما يرى الناس أنه كان يرى ، ثم رؤيته حسابا للأعمال ، ومن ثم رؤية جزاء الأعمال ، وهما منذ الموت ، و (فَسَيَرَى اللهُ) تعمها كلها مهما كانت الرؤية الأولى دائمة خارجة عن «سيرى».

ثم رؤية الرسول هي رؤية الشهادة ـ بما تلقاه من الأعمال يوم يقوم الأشهاد ـ ، ورؤية ما كتبه الكرام الكاتبون ، وسائر المرئي مما تنطق به الجوارح والأرض بفضائها.

ومن ثم رؤية المؤمنين فإنها رؤية دون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلّا ما هي للأئمة من آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). والمستقبل المستفاد من «سيرى» هو لجمعية الرؤية إلّا ما كانت ظاهرة حاصلة من ذي قبل.

وقد تعني «سيرى» طليق مستقبل الرؤية في النشآت الثلاث ، ومن ثم «ثم تردون» هي رؤيته الأخيرة يوم الأخير ردا إلى جزاء الأعمال.

و «اعملوا» للصالحين تحريض على صالح الأعمال ، وللطالحين تعجيز بمستقبل الأعمال ، إذ لا يفلت عنه تعالى فالت ولا يعزب عازب ، فكله لازب من صادق وكاذب.

(فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إنباء عمليا إظهارا لملكوت أعمالكم بعد ظهورها بكل مظاهرها المرئية : ولو أن أحدكم يعمل في صخرة صمّاء ليس لها باب ولا كوّة لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان (١).

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٠٦).

«وآخرون» هنا هم غير (آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) لمكان «آخرون» بعد «آخرون» الأولون ، فهم أولاء (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) والآخرون الأولون فقط (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) دون (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ)

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٧٦ عن أبي سعيد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ..

٢٩٠

فهم ـ إذا ـ أبعد حالا ومآلا منهم ، ولكن نفس «إما» تجويزا ل (يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) قد تفرض برحمته الواسعة أن يتوب عليهم ، حيث الرحمة سابقة على العذاب ما كان إليها سبيل ، ولم يكن العذاب مفروضا لكي يكون تركه مرفوضا في عدل الله (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالهم «حكيم» بما يصنع بهم ، فهناك لمن (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قضية ذلك الخلط ، وهنا (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قضية ما هو أدنى من ذلك الخلط ، فمن هم ـ إذا ـ (آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ)؟.

هؤلاء .... ثم إنهم دخلوا في الإسلام فوحدوا الله وتركوا الشرك ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنة ، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النار ، فهم على تلك الحال (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ)(١).

وأما المستضعفون الذين ليسوا من المؤمنين ولا الكافرين ، فإن كان استضعافهم قصورا مطلقا فلا يستحقون عذابا مطلقا قضية عدم التقصير ، وإن كانوا مستضعفين بتقصير فهم صنوف منهم من هم مرجون لأمر الله ، فليس المستضعفون ككل منهم (٢).

ذلك ، فهم على أية حال بين الإيمان والكفر ، وبينهما منازل منهم (آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) وبينهما المستضعفون ، وبينهما آخرون خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا (٣).

فبالكفر يستحق النار وبالإيمان يستحق الجنة ، فالعوان بينهما لا

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٦٥ في أصول الكافي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تعالى : «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ ..» قال : ...

(٢) المصدر في تفسير العياشي قال حمران : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المستضعفين؟ قال : هم ليسوا بالمؤمن ولا بالكافر وهم المرجون لأمر الله.

(٣) نور الثقلين ٢ : ٢٦٦ عن تفسير العياشي عن الحارث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته بين الإيمان والكفر منزلة؟ فقال نعم ومنازل لو يجحد شيئا منها أكبه الله في النار وبينهما آخرون ...

٢٩١

يستحق نارا ولا جنة ، ولأن دار الحساب لا تخلو من جنة أو نار ، فهم ـ إذا ـ من أهل الجنة قضية رحمة الله الواسعة ، ثم المقصرين غير الكافرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم بما قصّروا ، أو يتوب عليهم بما قصروا ف : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً)(٤ : ٩٩).

فهؤلاء الآخرون (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) وهم بين من (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) ومن هم (مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) و (عَسَى اللهُ) تقدم الأوّلين حيث الآخرون (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) قضية استحقاق للعذاب (١).

وعلى أية حال هم التائبون لمكان (إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) حيث التوبة من الله ليست إلّا بعد التوبة من العبد.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ١٦ : ١٩١ قال ابن عباس نزلت هذه الآية في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية فقال كعب : أنا أخره أهل المدينة جملا فمتى شئت لحقت الرسول فتأخر أياما وأيس بعدها من اللحوق به فندم على ضيعه وكذلك صاحباه فلما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قيل لكعب : اعتذر إليه من ضيعك ، فقال : لا والله حتى تنزل توبتي وأما صاحباه فاعتذر إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : ما خلفكما عني فقالا : لا عذر لنا إلا الخطيئة فنزل قوله تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) فوقهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نزول هذه الآية ونهى الناس عن مجالستهم وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهاليهن فجاءت امرأة هلال تسأل أن تأتيه بطعام فإنه شيخ كبير فإذن لها في ذلك خاصة وجاء رسول من الشام إلى كعب يرغبه في اللحاق بهم فقال كعب : بلغ من خطيئتي أن طمع فيّ المشركون ، قال : فضاقت على الأرض بما رحبت وبكى هلال بن أمية حتى خيف على بصره فلما مضى خمسون يوما نزلت توبتهم (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ) و (عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ).

٢٩٢

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠) إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى

٢٩٣

بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَ

٢٩٤

الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)

هنا آيات أربع تتحدث عن أخطر مشاكلة لعارم النفاق ومارده أن يتخذ بيت الله إرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ، يواجههم الله بشديد النكير والتعبير ، كما ويؤمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بإحراقه ، ونراه لحد الآن غير عامر بأية عمارة :

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(١٠٧).

فلذلك البنيان قواعد أربع لعينة ـ مهما سمي مسجدا ـ هي : «ضرارا ـ كفرا ـ تفريقا ـ إرصادا» يكفي كل واحدة من هذه القواعد لكي يهدّم ذلك المسجد تهديما ، للمحادّة والمشاقة الكافرة ضد بنيان الإيمان الرصين.

«والذين» علّها عطف على السابقين من صنوف المنافقين لمكان

٢٩٥

الواو ، وأنه ليس له خبر حتى نهاية الآيات الأربع ، لكن الخبر على أية حال ضرورة ل «الذين» وعلّه هو خبر لمبتدء محذوف هو «ومن هؤلاء المنافقين الماردين ..» وما أشبه ، أم خبره «هم من مردة المنافقين» وما أشبه ، ثم لا فرق أن تكون الواو عاطفة أم استئنافية.

ف «ضرارا» هي الغاية الأولى لاتخاذ مسجد الضرار ، مضارة بمسجد قبا الذي أسس على التقوى ، وبأهله المؤمنين الآهلين للمحبة والوداد ، وذلك الضرار هو من محاربة المسجد بالمسجد ، هو من أخطر الضرار ضد كتلة الإيمان ، فلتكن المساجد وسائر الأبنية الإيمانية متناصرة إلى توحيد الكلمة وكلمة التوحيد ، وتوحيد صفوف المؤمنين وتوطيدهم بصفوفهم ، فأما إذا كانت لهدف الضرار فلا قيام لها ولا إقامة لصلاة فيها.

ومهما كان التنديد الشديد هنا بمربع الشيطنات ولكن كل واحدة منها محظورة على حدها ومدها.

ف «ضرارا» هي ضابطة ألّا ضرار في الإسلام ، وإنما هو مقابلها (تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) ثم المعبر عنها (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ).

فكل إضرار وضرار ممنوع في شرعة الله ، اللهم إلّا الاعتداء بالمثل حسب الحدود المقررة في شرعة الله.

وكما أن التعاون على البر والتقوى يعم كل النواميس الخمس ، كذلك الضرار والتعاون على الإثم والعدوان يشملها كلها ، وكلّ محبور أو محظور على حدّه.

فخلق جو الضرار ، ابتداء ممن يضر بأخيه فيدفعه إلى الدفاع ثم هلم جرا ، ذلك ضرار محظور في شرعة الله ، فحين تضر بغيرك ولا دفاع فهذا إضرار دون ضرار ، فمحظور في أصله ، ولكن الإضرار الذي يجلب الدفع اعتداء بالمثل أم يزيد ، فمحظور في أصله ونسله حيث يخلف جو الضرار بين الجماهير ، وذلك تعاون على الإثم والعدوان.

والحكم الضرري ليس من الإسلام ابتداء أو استمرارا ، مما يحلق

٢٩٦

على سلب الشرعية عن كل حكم يخلّف ضررا على المسلمين فرادى وجماعات ، اللهم إلا الأحكام الضررية في موضوعاتها بدائيا كأصل دائمي أو أكثري ، ومن الأوّل الإنفاقات المجانية ، ومن الثاني الجهاد أمرا بالمعروف أو نهيا عن المنكر أو قتالا في سبيل الله.

وأما الأحكام غير المبتنية على الضرر كلا أو في الأكثر فلا تحمل إضرارا فرديا أو جماعيا فليست إذا إسلامية ، كتصبر الزوجة على حياة سيئة بئيسة مع زوجها سواء انضرت فقط هي بها أم هي حياة المضادّة المضارّة ، وكما تؤيدها آيات الحظر عن الزواج الذي فيه ترك لحدود الله ، حيث الإبقاء عليه تثبيت لتركها فمعارضة بين حكمي الله.

وهكذا تكون الصلاة المضرة والوضوء المضر والحج والصوم المضران وما أشبه ، إذ إن الله يريد بنا اليسر ولا يريد العسر ، فالقول بأن الحالة الضارة الفلانية محكومة بحكم الله ، قول بالإضرار في حكم الله.

ذلك ، فلا يباح أي مباح فيه إضرار بالنفس أو بالغير ، أمّا يغلب ضره على نفعه وكما يقول الله في الخمر والميسر (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) «يدعو لمن ضره أقرب نفعه» (٢٢ : ١٣) ففي الضر أو الإضرار دون أي نفع يكون الحظر أكثر.

وأما فعل الواجب أو ترك المحرم إذا كان في أحدهما إضرار بالغير كأصل فهو محرم دون ريب ، إلّا إذا كان الغير ينضر به دونما مبرر ، كالذي يغضب إذا أنت تصلي أو تؤدي فرضا آخر أو تترك محرما ، إنما الضرر أو الإضرار المحظور هو الضرّ بحالة عاديّة غير عادية معتدية.

فكل مضرّ في شرعة الله محرم حتى تعلّمه : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) (٢ : ١٠٢) وهكذا المضارة في كل حقولها من حقل الزوجية : (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) (٦٥ : ٦) و (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) (٢ : ٢٣٣) وفي المبايعة : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) (٢ : ٢٨٢) وفي الوصية : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) (٤ : ١٢).

٢٩٧

ذلك ، والاستقراء الأحكامي يؤكد تحليق الحظر على كل ضر وإضرار من قبلنا ، فترى ـ إذا ـ يحكم الله بأحكام تضر بنا أو تجعل مضارة بيننا ، ومهما كان في بعض الموضوعات كالأمر والنهي والجهاد أضرار فهي مجبرة بمنافع دنيوية أو أخروية أم فيهما.

ذلك ولا فحسب هنا «ضرارا» بل «وكفرا» أن تكون الغاية لبناية المسجد الكفر بالله ، محاولة لحمل جماعة على الكفر ، ولآخرين على أن يكون لهم مكانا ومكمنا وناديا.

ومن ثم (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) باسم الإيمان ، وأخيرا (إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) ليكون لهم مرصدا مقويا لساعد الكفر ومكسرا لساعد الإيمان.

فقد جاءه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوم من المنافقين فقالوا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتأذن لنا فنبني مسجدا في بني سالم للعليل والليلة المطيرة والشيخ الفاني ، فأذن لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو على الخروج إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله لو أتيتنا فصليت فيه؟ فقال : أنا على جناح الطير فإذا وافيت إنشاء الله أتيته فصليت فيه ، فلما أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من تبوك نزلت هذه الآية في شأن المسجد وأبي عامر الراهب ، وقد كانوا حلفوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم يبنون ذلك للصلاح والحسنى فأنزل الله هذه الآيات الأربع (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٦٦ في تفسير علي بن إبراهيم حول الآية ... وفي الدر المنثور ٣ : ٢٧٦ عن ابن عباس في الآية قال : هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدا فقال لهم أبو عامر ابنوا مسجدكم واستمدوا بما استطعتم من قوة سلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فأتي بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا عند فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة فأنزل الله (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ..) وفيه عن قتادة في الآية قال : إن نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنى مسجدا بقبا فعارضه المنافقون بآخر ثم بعثوا إليه ليصلي فيه فأطلع الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك.

٢٩٨

فهنا «ضرارا» خطوة أولى منافقة ضد الإيمان والمؤمنين ، ثم «كفرا» هو ضد رسول الإيمان محاولة لإخراجه عن مهجره كما أخرج عن عاصمة دعوته ثم (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) بذلك الضرار أن يتفرقوا بعضهم عن بعض (١) وبذلك الكفر أن يتفرقوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومن ثم (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) وهم أبو عامر الراهب ورهطه (٢) ومن أشبه هؤلاء.

فاتّخاذ مسجد ضرارا وكفرا و... هو من ضابطة ثابتة مدروسة من شيطنات المنافقين أن يحاربوا الدين بالدين والدينين بالدينين ، حربا ضارية مختلقة بين مظاهر الدين وأصله ، فصلا للدينين عن الدين وللدّين عن الدينين.

ذلك (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) : النية الحسنى ، والعملية الحسنى ، فالبداية الحسنى والغاية الحسنى ، توسعة للضعاف ولأمكنة العبادة ، وتوفيرا على جموع المسلمين ، (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في حلفهم.

ويا لمسجد الضرار من أخطار ، فقد اتخذ على عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما نسمع الله يقول ، مكيدة على الإسلام والمسلمين ، إضرارا بهم وكفرا بالله وبرسوله ، وستر المتآمرين على

__________________

(١) وذلك لأن المنافقين قالوا : نبني مسجدا فنصلي فيه ولا نصلي خلف محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن أتانا فيه صلينا معه وفرقنا بينه وبين الذين يصلون في مسجده فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وبطلان الألفة.

(٢) أبو عامر هذا والد حنظلة غسيل الملائكة ، وسماه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الفاسق وكان قد تنصر في الجاهلية وترهب وطلب العلم فلما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عاداه لأنه زالت رياسته وقال : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ولم يزل يقاتله إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر وآت من عنده بجند فأخرج محمدا وأصحابه فبنوا هذا المسجد وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد.

٢٩٩

المؤمنين ، الكائدين لهم في الظلام والعتام ، والتعاون ضدهم مع أعداءهم ، ولمّا يقوى ساعد الجماعة المؤمنة في المدينة ، فهو أول كيد لئيم ضد الإسلام ورسول الإسلام والذين آمنوا معه.

وذلك المسجد ليس ليقف عند ما اتخذ زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بل هو لا يزال يتخذ في شتى الصور الكائدة ، بنشاط ظاهر للإسلام ومكيدة باطنة لسحق الإسلام وتشويهه وتمويهه وتمييعه ، ككل الأحزاب المتترسة وراء أسماء براقة ، المتحاربة مع بعضهم البعض وكل باسم الإسلام ، تتخذ على مدار الزمن في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها تترّسا وراءها ضده ، وفي صورة تشكيلات وتنظيمات ودعايات وادعاءات تتحدث عن الإسلام ، ولكنها تكمن محق الإسلام ومحوه ، وهذه شيطنة خطيرة ماكرة هي أخطر من الجاهرة.

وهنا الإذاعة القرآنية ترسم صورة حافلة بالحركة عن مصير كل مسجد ضرار يتخذ إلى جوار مسجد أسس على التقوى ، لتقوى الطغوى وتضعف التقوى.

فكما المسلمون يد واحدة بألسنتهم وألوانهم وقومياتهم وإقليمياتهم وطبقاتهم العدة ، كذلك ـ وللحفاظ على صالح الوحدة ـ يحظر عليهم اختلاق مختلف الجمعيات بمختلف التسميات التي تفضل بعضهم عن بعض ولا سيما باسم الإيمان.

فلا تسمح لجماعة عدة أن تتسمى باسم «حزب الله» أما أشبه بتنظيم خاص متميز أم سواه ، حيث تعد ـ إذا ـ سائر المسلمين خلاف حزب الله فهم حزب الشيطان!.

وهكذا اختلال أسماء وسمات عامة إسلامية لجماعة خصوص كجمعية أنصار محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنصار القرآن أو أنصار الله ، مما تجعل المسلمين شذر مذر ، تناسيا للفاعليات والقابليات الإسلامية والإيمانية وتغاضيا عنها إلى أسماء ليست لها مسميات خاصة.

ذلك ، وكما أن التسمّي باسم الإيمان لغير المؤمن محظور ، كذلك

٣٠٠