الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

قَبْلِهِمْ) (٥٨ : ٥) (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ)(٥٨ : ٢٠).

فحين تعني المحادة ـ مفاعلة ـ أنهم يحاولون أن يجعلوا لله حدا في الألوهية والربوبية ، وللرسول حدا في الرسالة كما يشتهون ، بديلا عما يجعل الله لهم حدا على أية حال ، ويجعل لهم الرسول حدا في رسالته ـ حدا بحد ـ فهم من أنحس مصاديق (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ..) (٢٢ : ١١).

متاجرة مهاترة بينهم وبين الله ورسوله وكأنهم إلهة لله كما الله إلههم ، وأنهم رسل إلى الرسول كما الرسول رسول إليهم ، أخذا للعصا من البين وجعلا للبلد شطرين!.

فمن هو العبد حتى يحاد الله ورسوله أو يشاقق الله ورسوله ، تنزيلا لساحة الربوبية والرسالة وترفيعا لقاعة العبودية.

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) (٦٤).

«سورة» هنا تعني إلى سورة المنافقين الخاصة بفضحهم ، هذه السورة التي ثلثا آياتها أم تزيد نازلة بشأنهم الشائن ، فقد جربوا خلال أعمالهم المنافقة أن الله ليس ليذرهم يفتنون المؤمنين عن دينهم ، وهكذا سائر السور التي تتحدث عنهم في آيات ، وقد تشمل «سورة» جموع آيات سواء أكانت سورة مصطلحة أم أية سورة هي من السور المحيط بما يحيط ، فإن آيات المنافقين بارزة الدلالة ، ظاهرة المدلول ، مهما تفرقت بين سائر الآيات ، فضلا عما اجتمعت كما هنا في ثمان وأربعين آية (١)

__________________

(١) وهي الآيات التالية التي تخصهم ٣٨ ـ ٤٤ ـ الى ـ ٥٠ ـ ٥٢ ـ إلى ـ ٥٤ ـ ٥٦ ـ ٥٨ ـ ٦١ ـ إلى ـ ٦٩ ـ ٧٣ ـ ٧٤ ـ ٧٦ ـ ٧٧ ـ ٧٩ ـ ٨٠ ـ إلى ـ ٨٧ ـ ٩٠ ـ ٩٣ ـ إلى ـ ٩٦ ـ ١٠١ ـ ١٠٧ ـ إلى ـ ١١٠ ـ ١٢٥ ـ ١٢٦ ـ ١٢٧.

٢٠١

تتوارد على فضحهم بما يقولون ، أو ما ينوون وما يفعلون وما يضمرون من عداء عارم ضد المؤمنين ، ولقد سميت التوبة البراءة ـ فيما سميت ـ ب «الفاضحة» حيث تحمل فضحهم أكثر من كل سورة في القرآن ، فلذلك لا حرج هنا ولا حذر على المؤمنين ، فليكيدوا هم كيدهم ويميدوا ميدهم ، ف (قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ)(١).

ثم (سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ) لا تعني التي تختص بهم ، وإنما ما تحمل فضحهم بكثير أو قليل ، إذا فكل السورة التي تتحدث عنهم هي معنية ب (سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ).

وهنا «عليهم» لا تعني نزول سورة وحيا إليهم ، وإنما تعني «على» فضحا وإضرارا بهم ، ولقد جربوا أن الله ليس ليخفي على رسوله مكائدهم الظاهرة بينهم ضد المؤمنين ، والمبطنة عندهم ، فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو نفسه يعرفهم في لحن القول : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٤٧ : ٣٠).

ذلك ، فلا يرد على الآية ما خيّل إلى ناس بسطاء أم شياطين أن كيف (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ) وهم لا يؤمنون بالوحي فضلا (أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) وهي لا تنزل إلّا على رسول الوحي؟.

هذا لأنهم (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) فهم على

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٣٦ عن تفسير القمي في الآية قال : كان قوم من المنافقين لما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى تبوك يتحدثون فيما بينهم ويقولون : أيرى محمد أن حرب الروم مثل حرب غيرهم لا يرجع منهم أحد أبدا ، فقال بعضهم : ما أخلفه أن يخبر الله محمدا بما كنا فيه وبما في قلوبنا وينزل عليه قرآنا يقرأه الناس وقالوا هذا على حد الاستهزاء فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمار بن ياسر : ألحق القوم فإنهم قد احترقوا فلحقهم عمار فقال : ما قلتم؟ قالوا : ما قلنا شيئا إنما كنا نقول شيئا على حد اللعب والمزاح فأنزل الله (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ).

٢٠٢

استيقانهم بحق الوحي يجحدونه ظالمين ، والله يخبر عن طويتهم أنهم يحذرون بما هم يعرفون الوحي وما هم مجربون ، حيث تكرر إنباءات الله ورسوله والمؤمنين عن نياتهم وطوياتهم ، وعن قالاتهم سابقة ولا حقة.

وهنا (اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) يعني إخراجه عن مخبئه ، فإخراجا لمخبئه ، والأمر الظاهر الذي يمكن الحصول عليه بتجسس وتحسس ليس ليخرج ، إنما يخرج المكتوم غير المعلوم ، ولقد بلغ من حذرهم أن تنزل عليهم سورة تنبئهم أنهم (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) (٦٣ : ٤).

ذلك ، ثم الحذر لا يلازم العلم بالمحذور المحظور ، فقد يكفيه مجرد احتمال ، فهب إن هؤلاء المنافقين لم يكونوا على يقين بصدق الوحي ، ولكن احتماله على أية حال وارد ، إذ لا يملكون برهانا على كذبه ، وساطعة البراهين على صدقه ظاهرة باهرة.

وقد يحتمل إضافة إلى ما قدمناه أن ضمير الجمع الغائب في «عليهم ـ تنبئهم» راجع إلى المؤمنين وفي «قلوبهم» إليهم أنفسهم ، والأول أرجح والجمع أنجح.

ومن ناحية أخرى في «عليهم» قد يوجه بأنهم عائشون خلال المؤمنين ، فالآيات التي تعنيهم كأنها منزلة عليهم ، وقد يقربه (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) (٢ : ٢٣١) حيث تعني «على» نزولا بشأنهم دون أن يوحي إليهم تنزيلا لوحي الكتاب ـ دون وسيط الرسول ـ عليهم (١).

__________________

(١) في تفسير الفخر الرازي ١٦ : ١٢٠ قال الحسن اجتمع اثنا عشر رجلا من المنافقين على أمر من النفاق فأخبر جبريل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأسمائهم فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن أناسا اجتمعوا على كيت وكيت فليقوموا وليعترفوا وليستغفروا ربهم حتى اشفع لهم فلم يقوموا فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك : قم يا فلان ويا فلان حتى أتى عليهم ثم قالوا : نعترف ونستغفر فقال : الآن؟ أنا كنت في أول الأمر أطيب نفسا بالشفاعة والله كان أسرع في الإجابة أخرجوا عني اخرجوا عني فلم يزل يقول حتى خرجوا بالكلية ، وفيه قال الأصم : إن عند رجوع رسول الله (صلى الله عليه وآله ـ

٢٠٣

ووجه آخر في ذلك الحذر أنه كان على سبيل الاستهزاء كما يؤيده (قُلِ اسْتَهْزِؤُا ..).

ذلك حذرهم في أنفسهم فحظرهم فيما ينزل عليهم ثم هم يتساءلون :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ)(٦٥).

(لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) عن هزءهم بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والذين معه ، وما في قلوبهم من طويات خبيثة «ليقولن ..» وهذا إخبار يغيب مستقبل ، وكان لهم ألا يقولوه لمّا سمعوا الوحي هكذا يفضحهم ، ولكنهم قالوه كما قال الله عنهم (إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) وهل الخوض في آيات الله واللعب بالله ورسوله يبرره أي مبرر ، وذلك استهزاء صريخ صريح : (قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ)؟ وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم (١) ما قال.

__________________

ـ وسلم) من تبوك وقف له على العقبة إثنا عشر رجلا ليفتكوا به فأخبره جبرئيل وكانوا متلثمين في ليلة مظلمة وأمره أن يرسل لهم من يضرب وجوه رواحلهم فأمر حذيفة بذلك فضربها حتى نحاهم ثم قال : من عرفت من القوم؟ فقال : لم أعرف منهم أحدا فذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أسماءهم وعدهم له وقال : إن جبرئيل أخبرني بذلك فقال حذيفة : ألا تبعث إليهم ليقتلوا؟ فقال : أكره أن تقول العرب قاتل محمد بأصحابه حتى إذا ظفر صار يقتلهم بل يكفينا الله ذلك.

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٥٤ ـ أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن عمر قال قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يوما : ما رأينا مثل قرآننا هؤلاء لا أرغب بطونا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء فقال رجل في المجلس كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزل القرآن قال عبد الله : فأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والحجارة تنكيه وهو يقول يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون ، وفيه عن قتادة في الآية قال بينما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوته إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين فقالوا : أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام ـ

٢٠٤

وهنا «تستهزءون» تعمم حكم الاستهزاء ـ وهو الكفر والارتداد ـ إلى كل من يستهزأ بالدين مهما كان مسلما مؤمنا ، فضلا عن المنافقين ، إذ لا يعني الاستهزاء ـ فقط ـ النكران ، بل هو شديد النكران ، فمن منكر ساكت لا يستهزأ ، وأما المستهزء فهو منكر ماقت!.

ويا له عذرا غادرا : (نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) وكيف يخاض في الدين ويلعب به إلّا بنكران هازئ ، حيث الحق لا يتحمل الخوض واللعب إلّا بذلك النكران البعيد والكفر الشديد!.

(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (٦٦).

«لا تعتذروا» حيث لا عاذرة عن الكفر المتعمّد و (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) وهنا تقابل الإيمان بالكفر دليل على أنهم بين منافقين وبسطاء مضلّلين ، فكفر طائفة منهم بعد إيمانهم هو جاهر الكفر بعد ظاهر الإيمان فلا يعفى عنهم ، وكفر طائفة أخرى هو واقع الكفر بعد واقع الإيمان ، فلذلك يصح هنا التقسيم (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) وهم المضللون حين يتوبون.

(نُعَذِّبْ طائِفَةً) أخرى (بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) حيث تعرّق الإجرام وتعمّق في قلوبهم ، فهم رؤوساء الضلالة وحملة مشاعل المتاهة والغواية حيث عاشوا ردحا بعيدا من الزمن ذلك الإجرام فكيف يعفى عنهم فهم ـ إذا ـ لا يتوبون (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ..) (٧٤) ، خلاف الأولين الذين كان كفرهم بسيطا

__________________

ـ وحصونها هيهات هيهات فأطلع الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك فقال نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) احبسوا على هؤلاء الركب فأتاهم فقال : قلتم كذا قلتم كذا؟ قالوا يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل الله فيهم ما تسمعون ، وفيه عن سعيد بن جبير قال : بينما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسيره وأناس من المنافقين يسيرون أمامه فقالوا : إن كان ما يقول محمد حقا فلنحن شر من الحمير فأنزل الله تعالى ما قالوا فأرسل إليهم ما كنتم تقولون فقالوا : إنما كنا نخوض ونلعب.

٢٠٥

دون تعنّد وتعمق (١).

واحتمال ثان أن يختص العفو بحاضر العذاب دون مستقبله لاختلاف دركات نفاقهم شدة وضعفاء ، ولكن الظاهر هو الأول ف «نعف» إذ يتوبون ، و «نعذب» إذ لا يتوبون ، أم وتوبتهم توبة نفاق غير وفاق.

هنا يذكر (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) لتشمل الذين آمنوا ثم كفروا ونافقوا عن جهل وبساطة ، إلى هؤلاء الذين أسلموا منافقين ، ثم ازدادوا كفرا ونفاقا ، ولذلك لما يفرد الآخرون يبدل الإيمان فيهم بالإسلام : (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ).

ووجه ثالث أن الإيمان يعم الإيمان باللسان إلى الإيمان بالجنان والأركان ، وكما يخاطب الذين آمنوا بوظائف عامة فتشمل كل من أقر بالإيمان.

ووجه رابع أنه صحيح الإيمان وخفيفة الذي يزول بعارض مّا ، وكما ل (الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (٧ :)

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٣٨ عن تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله : «لا تعتذروا ..» قال : هؤلاء قوم كانوا مؤمنين صادقين ارتابوا وشكوا ونافقوا بعد إيمانهم وكانوا أربعة نفر ، وقوله : (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) كان أحد الأربعة مخشى بن الحمير فاعترف وتاب وقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهلكني اسمي فسماه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبد الله بن عبد الرحمن فقال : يا رب اجعلني شهيدا حيث لا يعلم أحد أين أنا فقتل يوم اليمامة ولم يعلم أين قتل فهو الذي عفى الله عنه. أقول : لم يسم هذا الواحد طائفة فانه شأن لنزول الآية وهي تعني كل من يصلح للعفو كأمثاله على مدار الزمن ، وكما الطائفة الأخرى لا تعني الآخرين بأعيانهم.

وفي الدر المنثور ٣ : ٢٥٥ ـ أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وأبو الشيخ عن الكلبي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أقبل من غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة رهط استهزءوا بالله وبرسوله وبالقرآن ، قال كان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث يسير مجانبا لهم يقال له يزيد بن وديعة فنزلت إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ، قال : الطائفة رجل واحد.

٢٠٦

١٧٦) وهكذا (الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) (٤ : ١٣٧).

والقول ألا ملازمة لعذاب طائفة بالعفو عن طائفة ، خاو دون تأمل ، حيث العذاب هنا شامل قضية الحال ، فمعنى الشرطية ـ إذا ـ (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) لمصلحة ملزمة أو راجحة ، فلا يستلزم أن نعف عن طائفة أخرى دون أية مصلحة.

وترى إذا كان طائفة منهم يعفى عنهم فهم إذا معذورون ، فكيف يخاطبون مع غير المعفو عنهم ب «لا تعتذروا»؟

إنهم ككل غير معذورين عن كفرهم بعد إيمانهم وكذبهم أنهم لم يقولوا كلمة الكفر ، وإنما العفو لمن تاب توبة صالحة ولم يكن كفره عن ضلال وإجرام عريق.

ف (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) كشرط في هذا الحقل (نُعَذِّبْ طائِفَةً) كجزاء لذلك الشرط ، إشعارا بأن العفو عن طائفة لا يخلّف العفو عن أخرى لاختلافهما في المغزى: (بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) مضلّلين ، قد تعرق الإجرام في نفوسهم ، وأولئك كانوا مجرمين مضلّلين لم يعيشوا الأجرام.

فمجال العفو واسع فاسح ما لم يتعمق الكفر في النفوس فكانت التوبة إذا نصوحا دون أي غدر ونفاق مسوح (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٦٧).

مباعضة لعينة منافقة في مباضعة الإيمان الموافقة ، تشكل مناصرة في حقل النفاق ، ومن قضاياها الرزايا : (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) بكل طاقاتهم وإمكانياتهم (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) عن كل خير مادي أو معنوي لقبيل الإيمان ، وذلك لأنهم (نَسُوا اللهَ) نسيان تجاهل وتغافل معمّد معنّد «فنسيهم» في كل حقول الرحمة والعناية ، حيث

٢٠٧

عاملهم معاملة الناسي التارك لما هو كافله ، «فنسيهم» في كافة الرحمات الرحيمية الخاصة بالمؤمنين والمتحرين عن الإيمان ، نسيانا جزاء نسيان ، وفاقا لذلك العصيان (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً).

(فَنَسِيَهُمْ) حيث (نَسُوا اللهَ) و (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) كأن لا فاسق سواهم ، حيث تعمق فيهم الفسوق وتحمّق لأسفل دركاته ، فلأنهم في الدرك الأسفل من فسوق الكفر ، لذلك فهم (فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).

أجل وإن الله لا يسهو ولا ينسى ، وإنما ينسى ويسهو المخلوق والمحدث ، ألا تسمعه عزّ وجلّ يقول : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) وإنما يجازي من نسيه ونسي لقاء يومه بأن ينسيهم أنفسهم كما قال تعالى : «ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ، وقال عز وجل : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ، أي : نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا» (١).

فقد (نَسُوا اللهَ) إذ تركوا طاعة الله «فنسيهم» : فتركهم (٢) تركا جزاء ترك في الأولى والآخرة.

وهنا نتلمح أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى معاكسة الأمر بينهما ، وإلى قبض اليد عن الرحمة ، كل ذلك من نسيان الله وعصيانه.

وفي ضم «المنافقات» هنا إلى «المنافقين» تحليق لنفاقهم على قبيلي الذكور والأناث ، فإن لهن دورا دائرا مائرا في عمليات النفاق ، إضافة إلى كيدهن العظيم في حقل النفاق ، كما والمعروف المنهي عنه والمنكر المأمور به يعمان كل حقول المعروف والمنكر ، عقيديا وعلميا

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٣٩ في عيون الأخبار والتوحيد للصدوق باسناده إلى عبد العزيز بن مسلم قال : سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله تعالى : نسوا الله فنسيهم فقال : ..

(٢) المصدر في تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر (عليهما السلام) «نَسُوا اللهَ».

٢٠٨

وعمليا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا وحربيا ، دركات سبع من جحيم المباعضة المنافقة في المباضعة عن الموافقة.

إنهم ككل (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) طبيعة واحدة وطينة واحدة ، سوء الطوية ولؤم السريرة ، وكل همز ولمز ودس وغمز ، وضعف عن صريح المواجهة وصريخ العقيدة ، وكل ذلك ينعكس في كل سلوكهم ومسالكهم ، معاكسين كل خير إلى شر ، وكل شر إلى خير ، ركسة ونكسة محلقة على كل كيانهم.

وهنا أسس البلاء ، المنعكس على العقيدة والخلق والعملية أماهيه ، هو (نَسُوا اللهَ) في ألوهيته وربوبيته وعلمه وقدرته وواجب معرفته وعبوديته وطاعته ، ونشأة حسابه وجزاءه (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) ولذلك :

(وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٦٨).

هنا «والكفار» تعميم بعد تخصيص ، تأخيرا لهم عن المنافقين تدليلا على أنهم (فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) ، ثم (خالِدِينَ فِيها) هو الخلود ما دامت النار و «هي حسبهم» في قسطاس العدل ، خلودا في النار قدر خلودهم في بواعث النار ، فكما كانوا مقيمين على نفاقهم وكفرهم حتى الموت ، كذلك (لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) في النار ما داموا هم ودامت النار ، بل ليست النار إلّا حصيلة نفاقهم وكفرهم المحدود في أصله وفصله (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) وما أشبه برهان قاطع لا مرد له بين سائر البراهين أن للنار والخالدين فيها نهاية بنهاية العذاب المستحق لمن لا يستحقون ثوابا ، قضية عدل الله وقسطه.

فلا يعني مقيم العذاب إقامته معهم إلى غير نهاية ، فإنها ظلم إلى غير نهاية ، وإنما «مقيم» كمقيم الاستحقاق وقدره ، حيث الزيادة على قدر الاستحقاق ظلم مهما كانت محدودة ، فضلا عن كونها غير محدودة كما يهرفه هارفون ويخرفه خارفون أم قاصرون في إدراك الحق بحق الله العدل الرحيم.

٢٠٩

هنا لأهل النار الخالدين (عَذابٌ مُقِيمٌ) قضية عدل الله ونقمته ـ (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٥ : ٣٧) مقيم ما قامت النار دون خروج عنها ، وليس فناء من في النار مع النار خروجا منها ، والإقامة اللّانهائية لأهل النار في النار خروج عن العدل والنصفة وعوذا بالله.

وهناك لأهل الجنة (نَعِيمٌ مُقِيمٌ) قضية فضل الله ورحمته ، فأين مقيم من مقيم ، مقيم يقيمه عدل الله فله نهاية ، ومقيم يقيمه فضل الله فليست له نهاية ، بل هو عطاء غير مجذوذ (١) ، حيث : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) (٥ : ٣٧).

وترى ما هو الفارق بين ثالوث : «نار جهنم ـ خالدين فيها ـ (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)؟

هنا قوس تصاعدي أن لهم أولا : (نارَ جَهَنَّمَ) ولكن ليس لزامه خلودهم فيها ، فبعض الداخلين فيها هم غير خالدين ، كبعض العصاة من الموحدين ، حيث يخرجون عن النار دون خلود فيها هو البقاء مدة طويلة ،

__________________

(١) في تفسير العياشي عن ثوير عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال : إذا صار أهل الجنة في الجنة ودخل ولي الله إلى جنانه ومساكنه وأتكئ كل مؤمن على أريكته حفنة حذامه وتهدلت عليه الثمار وتفجرت حوله العيون وجرت من تحتها الأنهار وبسطت له الزرابي ووضعت له النمارق وأتته الحذام بما شاءت هواه من قبل أن يسألهم ذلك ، قال : وتخرج عليه الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ما شاء الله ، ثم إن الجبار يشرف عليهم فيقول لهم : أوليائي وأهل طاعتي وسكان جنتي في جواري ألا هل أنبؤكم بخير ما أنتم فيه؟ فيقولون : ربنا وأي شيء خير مما نحن فيه فيما اشتهت أنفسنا ولذت أعيننا من النعم في جوار الكريم؟ ـ قال : فيعود عليهم القول فيقولون ربنا نعم فأتنا بخير مما نحن فيه فيقول تبارك وتعالى لهم : رضاي عنكم ومحبتي لكم خير وأعظم مما أنتم فيه ، قال : فيقولون نعم يا ربنا رضاك عنا ومحبتك لنا خير وأطيب لأنفسنا ثم قرء علي بن الحسين (عليهما السلام) هذه الآية (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ ..) وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن جابر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله : هل تشتهون شيئا فأزيدكم؟ قالوا : يا ربنا وهل بقي شيء إلا وقد أنلتناه؟ فيقول : نعم رضاي فلا أسخط عليكم أبدا.

٢١٠

فثانيا : (خالِدِينَ فِيها) مدة طويلة هي منقسمة بين عذاب مؤقت وعذاب مقيم ، ثم ثالثا (لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أبدي ما داموا هم ودامت النار ، فلا يخرجون عن النار ، ولا تخمد النار وهم أحياء ، بل هما متقارنان ، يقيمون مع مقيم العذاب ، كما أن مقيم العذاب معهم ما داموا أحياء ، فهم :

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٦٩).

هؤلاء الأنكاد الأبعاد هم (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) منافقين وكافرين تشابهت قلوبكم وهم (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً).

وقضية هذه المشابهة اللعينة أنهم على كثرة قوتهم وأموالهم وأولادهم (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) وهو النصيب المكتسب صالحا أو صالحا حسب مختلف الخلق ، وهو ما خلق للإنسان في الحياة الدنيا ذريعة للأخرى ، فالخلاق الصالح هو نصيب صالح في الأخرى ، وكما الخلاق الطالح هو نصيب طالح فيها ، ولا يعني سلب الخلاق يوم الأخرى إلّا سلب صالحه المرتقب حيث أتلف خلاقه في الأولى (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (٢ : ٢٠٠) (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (٢ : ١٠٢).

ذلك ، والخلاق : النصيب المكتسب ، هو المخلوق في أصله لكل مكلف ، وهو يكلّف بالتذرع به إلى مرضات الله ، وهو الفطرة والعقلية الصالحة وكافة الطاقات الأنفسية ظاهرية وباطنية ، التي هباها الله إيانا لنكون له من الشاكرين.

ذلك الخلاق قد يستمتع بها متعة الحياة الدنيا لمن (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١١ : ١٦).

٢١١

فقد نسوا نصيبهم من الدنيا ذريعة للآخرة ، ذلك لأنهم «استمتعوا (بِخَلاقِهِمْ) متعة الحياة الدنيا ، (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) استمتاعا متشابها بين سلف وخلف في الخلاق ، خلاق الحياة الدنيا بحذافيرها ، التي خلقها الله لصالحنا ، ولكنها اختلفت عن صالح مغزاها بسيّئ الخلق إبصارا إليها فأعمتهم ، دون إبصار بها حتى تبصّرهم.

كما «وخضتم» في آيات الله ناكرين مستهزئين (كَالَّذِي خاضُوا) : كما خاضوا ف (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) سلفا وخلفا (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) كأن لا خاسر سواهم.

و «أعمالهم» هنا هي الحسنة في نفس الذات حيث السيئات هي حابطات دون إحباط ، فأعمالهم الحسنة التي قد تفلت من ذات أيديهم حابطة غير ثابتة إذ (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) فهي حابطة في الآخرة ليس لهم بها فيها من أجر ، ثم أعمالهم التي يعملونها في الدنيا لإزهاق الحق وفّت ساعده وكسر عضده ، هي حابطة فيها إذ لا يقدرون أن يضروا الله بها شيئا ، فإنما النافع لهم منها في هذه الأدنى متعة الحياة الدنيا ليس إلّا.

وهنا ضمير الجمع في «خاضوا» غير راجع إلى «الذي» حتى يصبح ممسكا على أدب القرآن لهؤلاء الذين ليس لهم أدب إلّا الخوض في آيات الله البينات ، بل هو راجع إلى (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) و «الذي» هو عبارة أخرى عن أصل الخوض ، تعني «كما خاضوا» (١). ولأن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني ، فقد تعني «الذي» هنا بديلا عن «ما»

__________________

(١) فضمير الصلة للموصول هو غائب مفرد «خاضوه» راجعا إلى «الذين» وليس الراجع هو ضمير الجمع في «خاضوا» حتى يخالف الأدب خلافا لخلاف الأدب من هؤلاء الخائضين في القرآن ، فقد حاولوا طول القرون القرآنية أن يمسوا من كرامة وحيه فلم ينالوا ما يبغون ، رغم الكثير من أتعابهم في هذه البغية الظالمة ، مما يدل على صالح الوحي القرآني دون آية نقطة سوداء في أدب اللفظ وحدب المعنى.

٢١٢

عمق الخوض وحمقه من (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فأنتم الأوغاد الأنكاد تتابعونهم في : كم خاضوا وكيف خاضوا ، المعنيين ب (كَالَّذِي خاضُوا) كما وكيفا.

والخوض في آيات الله يشمل كل حدث في الإسلام وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أحذركم أن تحدثوا حدثا في الإسلام وعلم أنه سيفعل ذلك أقوام من هذه الأمة فقال الله : (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ)(١).

فكما يحدث من أحكام وأعمال وسنن لا توافق الكتاب والسنة ، إنها ككل أحداث في الإسلام بإحداث ما ليس منه فيه.

ذلك فقد (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) واعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من مضى قبلكم ، ممن كان أطول منكم أعمارا ، وأعمر ديارا ، وأبعد آثارا ، أصبحت أصواتهم هامدة ، ورياحهم راكدة ، وأجسادهم بالية ، وديارهم خالية ، وآثارهم عافية ، فاستبدلوا بالقصور المشيّدة ، والنمارق الممهّدة ، الصخور والجبال المسنّدة ، والقبور اللاطئة الملحدة ، التي قد بني بالخراب فناءها ، وشيد بالتراب بناءها ، فمحلها مقترب ، وساكنها مغترب ، بين أهل محلة موحشين ، وأهل فراغ متشاغلين ، لا يستأنسون بالأوطان ، ولا يتواصلون تواصل الجيران .. وكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه ، وارتهنكم ذلك المضجع ، وضمّكم ذلك المستودع ، فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور ، وبعثرت القبور ، (الخطبة ٢١٧).

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٧٠).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٥٥ ـ أخرج أبو الشيخ عن الربيع أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حذركم ...

٢١٣

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ) وقد أتاهم بألسنة الوحي منافقين وكتابيين ، بل ومشركين وملحدين ، حيث الأنباء متناقلة متداولة بين كل الأمم مهما قلّت أو كثرت ، ومن أهم هذه الأنباء نبأ قوم نوح غرقا ، وعاد وهم قوم هود حيث أهلكوا بريح صرصر عاتية ، وثمود وهم قوم صالح حيث أخذتهم الرجفة ، وقوم إبراهيم بما فعلوا به حرقا زعمهم فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ، ثم أهلك ملكهم نمرود وسلب عنهم النعمة ، وأصحاب مدين أهلكوا بعذاب يوم الظلمة بكل مهانة وذلة ، وبصورة عامة (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) وهي المنقلبات بقراها حيث جعلت أعاليها أسافلها كقوم لوط ، فقد عم عذاب الاستئصال بمختلف صورة أمثال هؤلاء الطغاة الغاوين البغات فأصبحوا مثلا للآخرين (١).

ولأن النبأ هو خبر ذو فائدة عظيمة ، فهو هنا منقسم إلى (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) وما أتاهم من عذابات تكذيبا لهذه البينات (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) هنا وهناك (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) تكذيبا للبينات وابتلاء بالمثلات والمؤتفكات.

إنهم ظلموا انتقاصا أنفسهم النجيسة النحيسة ، حيث الانتقاص بظلمهم ليس ليرد على الله وعلى الحق ، ومهما ورد على أهل الحق في حيوية مادية ـ وليست روحية ـ فخلفيتها الأصيلة هي واردة عليهم أنفسهم ، إذ لا تذرهم ما هم أحياء في مثلث النشآت.

فمن نبأ هؤلاء الأنكاد : (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) (٤٣ : ٥٦) ثم أولئك الآخرون يستمتعون غير شاعرين ، سائرين سبيل الهلكى متغافلين ، فقوم نوح يغمرهم الطوفان ويطويهم إليهم في تيار الفناء

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : في من لا يحضره الفقيه روى جويرية بن مسهر قال أقبلنا مع أمير المؤمنين (عليه السلام) من قتل الخوارج حتى إذا قطعنا في أرض بابل حضرت صلاة العصر فنزل أمير المؤمنين (عليه السلام) ونزل الناس فقال علي (عليه السلام) : أيها الناس إن هذه الأرض ملعونة قد عذبت في الدهر ثلاث مرات ـ أو مرتين ـ وهي تتوقع الثالثة وهي إحدى المؤتفكات.

٢١٤

المرهوب ، وأمثالهم من هؤلاء المذكورين وسواهم.

وهكذا تكون النفس المنحرفة المنجرفة إلى هوّات ، حيث تبطرها النعمة فتحوّل نعمة ونقمة ، ولا تنتفع بعظات الغابرين ولا تعتبر ، ولا تنفتح بصائرهم لإدراك سنة الله التي لا تتحول ، فلا تبصر مهاوي ومصارع الأقوياء الأغوياء قبلها.

هذه هي الضفّة المنافقة والكافرة ، ومن ثم الضفّة الإيمانية :

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٧١).

هذه الولاية هي ولاية المحبة والرقابة والنصرة التامة الطامة على بعضهم البعض ، أن يلي كل أمر الآخر في خطوات الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ـ دون الولاية الشرعية الخاصة بمدراء الشريعة ـ وفي نهاية المطاف وعند كمال الدعوة ومعرفة كاملة بالمعروف والمنكر ـ وشروط أخرى مفروضة التحصيل قدر المستطاع ـ (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فكل فاعل منهم لمعروف وتارك لمنكر يأمر تارك هذا المعروف وينهي مقترف هذا المنكر ، وكما يأتمر فيما هو تاركه بفاعله وينتهي فيما هو فاعله بتاركه ، تآمرا بالمعروف وتناهيا عن المنكر ، فيكون كلّ مرآتا للآخر يرى صالحه فيريه إياه أمرا به ، ويرى طالحه فيريه إياه نهيا عنه ، دون تدخل لعوامل الفرقة بين صفوفهم ، فحيثما وجدت فرقة في هذه الجماعة المؤمنة فثمة تدخل عنصر غريب عن طبيعتها وعقيدتها ، وثمة غرض أو مرض يمنع السمة الأولى التي قررها العليم الخبير.

وهذه الصفات الخمس في المؤمنين : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقام الصلاة وإيتاء الزكوة وطاعة الله ورسوله ، هذه تقابل صفات للمنافقين : الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ونسيان الله وقبض الأيدي ، وعصيان الله.

وتلك الولاية هي قمة الولايات الإيمانية المحكمة المتحكمة بين

٢١٥

المؤمنين ، كخطوة أولى في الدعوة وكما قال الله : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (٥ : ١٠٥) في وجه من وجوهه العدّة ، ولأن (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ) هنا «كما المنافقون والمنافقات» هناك جمعان يحلّقان على كل من يحمل إيمانا أو نفاقا ، فقد يعني الجمع فيها جمع كل خلف إلى سلفه ، سلسلة موصولة مع بعضها البعض ، يتابع كلّ خلف سلفه ، كما يتابع بعضهم بعضا في كل سلف وكل خلف ، دون انفصام في عدّتهم عن عدّتهم إيمانا أو نفاقا ، مباعضة شاملة تخطّيا عن فواصل الزمان والمكان والأواصر حيث يجمع كلّا عقيدته الخاصة به في حقل الإيمان.

فالولاية الإيمانية هي امتداد بين أهليها طول الزمان وعرض المكان ، وهكذا الولاية الكافرة نفاقا وسواه ، طالما الولاية الإيمانية عريقة لا تنفصم ، والولاية الكافرة هي في انفصام دائم ، فلذلك هم (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) وأولئك الأكارم (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

فالولاية الصادقة بحاجة إلى نجدة وشجاعة جادّة ، وإلى تعاون صارم وتكاليف قائمة وليست هكذا ولاية النفاق.

ولأن «يأمرون وينهون» هنا محذوف المتعلّق فقد يشملان إلى التآمر والتناهي فيما بينهم التعاون الصالح في أمر الآخرين ونهيهم بعد كامل الدعوة العاذرة البينة.

ذلك (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) صلة بالله (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) صلة بعباد الله بأمر الله (وَيُطِيعُونَ اللهَ) أصلا في الطاعة ، متمثلة في كتاب الله «ورسوله» فرعا فيها رسالة عن الله ، متمثلة في سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأن هذه الثلاثة هي من ميزات الإيمان معدودة في عديد الولاية الإيمانية فلتكن في رقابة جماهيرية أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكوة ويطيعوا الله ورسوله في حقل الولاية وبصورة جمعية متضامنة ، فكما أن تطبيق المعروف وترك المنكر شخصيا ولا يكفي ، بل ويليها واجب الأمر والنهي ، كذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكوة وطاعة الله ورسوله ، فعند ذلك

٢١٦

يرحمهم الله رحمة عالية تشملهم ، حيث تجعلهم أقوياء أمام الأغوياء ، ف (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) على ضوء هذه الحياة الإيمانية التضامنية ، وكما هي مذكورة في آل عمران من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ..) إلى (لَنْ يَضُرُّوكُمْ). ف (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) في الدنيا والآخرة ف (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

إذا فالخارجون عن هذه الخماسية المجيدة خارجون عن رحمة الله إلى عذابه.

ذلك ، وهل إن من قضايا تلك الولاية الإيمانية أن يحمل مؤمن مؤمنة أو تحمل مؤمنة مؤمنا بأمان إيمان وظل ظليل رباني؟ أجل «فإن المؤمن محرم المؤمنة ..» (١) ولكن في غير ما هو مخصوص بالمحارم الرسميين أقرباء وأنسباء ، حيث إن الولاية الطليقة الصالحة تقتضي ذلك الحمل رعاية لصالح بعضهم البعض.

ذلك ف (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ) لإخائهم في الله يتحابون بجلال الله والولاية لله و «رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس ولن يهلك رجل بعد مشورة وأهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة وأهل المنكر في الدنيا أهل المنكر في الآخرة» (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٤٠ في تفسير العياشي عن صفوان الجمال قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) بأبي وأمي تأتيني المرأة المسلمة قد عرفتني بعملي وعرفتها بإسلامها وحبها إياكم وولايتها لكم وليس لها محرم؟ قال : فإذا جائتك المرأة المسلمة فاحملها فإن المؤمن محرم المؤمنة وتلا هذه الآية (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

(٢) الدر المنثور ٣ : ٢٥٦ ـ أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا عن سعيد بن المسيب قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : .. أقول وذيل الحديث مروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بطريق كثيرة وألفاظ عدة ومنها ما عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أحب عباد الله إلى الله عز وجلّ من حبب إليه المعروف وحبب إليه فعاله ، وفيه عنه قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله جعل للمعروف وجوها من خلقه وحبب إليهم فعاله ووجه طلاب المعروف إليهم ـ

٢١٧

ولأن هذه الولاية الجماهيرية هي من لزامات الإيمان ، فعلى كافة المؤمنين والمؤمنات أن يحصلوا على جدارة هذه الولاية ، تقديما لكل طاقاتهم وإمكانياتهم في هذه السبيل بمقدماتها ، كالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، فليكن كل واعظا آمرا ناهيا غيره كما يعظ ويأمر وينهى نفسه ، بادئا بنفسه حتى يصلح واعظا لغيره.

وحين يصبح الجو في المجتمع الإيماني جو الدعوة والعظة والأمر والنهي بشروطها ، فقد يسلم ذلك الجو الطاهر ، القاهر على التخلفات عن كافة النكبات ، ولكي يربي العائشين فيه من غير المؤمنين فضلا عن المؤمنين أنفسهم.

ذلك ، فكل فاعل لمنكر أو تارك لمعروف عليه مسئولية مضاعفة ما دام في ذلك الجو معروف متروك أو منكر مفعول ، أولاهما هي التخلف الشخصي عن شرعة الله ، وثانيتها التخلف عن جدارة الولاية بالنسبة لأمثاله من المتخلفين.

ذلك وهنا (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) حيث اقتسموا إلى بعضين اثنين ، قد يعنى من البعض الأول الجامعون لشروط الولاية ككل ، كالعدول في كل شيء ، ومعهم الجامعون لشروط الولاية في بعض الأمور ، ثم المولى عليهم هم المقصرون ، فهناك ولاية من طرف واحد ، ثم موالاة بين بعض وبعض حسب مختلف التخلفات فيهما.

إذا فهم بين آمرين وناهين من جانب ومأمورين ومنتهين من جانب آخر ، وآخر متآمرين ومتناهين فيما إذا اشتركوا في ترك واجب واقتراف محرم.

وقد تعني الأمة الآمرة الناهية وهم خير أمة أخرجت للناس الأولين ،

__________________

ـ ويسر عليهم إعطاءه كما يسر الغيث إلى الأرض الجدبة ليحييها ويحيى به أهلها وإن الله جعل للمعروف أعداء من خلقه بغض إليهم المعروف وبعض إليهم فعاله وحظر عليهم إعطاءه كما يحظر الغيث عن الأرض الجدبة ليهلكها ويهلك بها أهلها وما يعفو الله أكثر.

٢١٨

ثم يليهم الآخرون المتآمرون المتناهون ، فولاية الأولين في حقل الأمر والنهي طليقة ، وهي للآخرين محدودة بما هم فيه غير مقتصرين.

ثم لا ولاية لتاركي المعروف ومقتر في المنكر إلا ـ علّها ـ فيما هم فاعلوه من معروف أو تاركوه من منكر.

فالمقصر المطلق لا ولاية له على أحد في هذا الحقل ، والعادل المطلق له الولاية المطلقة فيه ، والعوان بينهما له ولاية نسبية فيما لا يقصر فيه.

ذلك ، ولأن العدالة المطلقة قلما توجد بين المسلمين ، ولا كفاية في هذه القلة القليلة قياما لواجب الأمر والنهي ، ونصوص آيات وعلى ضوءها روايات لا تمنع إلّا عن الأمر بمعروف آمره تاركه ، وعن النهي عن منكر ناهيه فاعله ، ثم وآيات واجب الأمر والنهي بوجه الكفاية طليقة أو عامة يكتفى بتخصيصها أو تقييدها بالآمر التارك لما يأمر ، والناهي الفاعل لما ينهى ، إذا فواجب الأمر والنهي غير ساقط عن الباقين مهما كانوا باغين في غير ما يأمرون به وينهون عنه.

وترى المجاهر بالفسق له أو عليه أن ينهى عن فسق آخر؟ وفي أمره ونهيه مزرءة بشرعة الله ، ومنقصة أو معاكسة في التأثير!.

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) قد تمنع عن الآمر بالبر الناسي نفسه فيه ، ولكنها محددة بنفس البر الذي به يأمرون ، وإلا رجعت مشكلة عدم كفاءة العدول في كل شيء ، ثم (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) تحدد المحرم الماقت في القول أمرا وسواه بما لا يفعله نفسه.

صحيح أن في الأمر والنهي من غير العادل منقصة في التأثير ولكنه ليس ـ مع الوصف ـ عدم التأثير ، إذ لا حجة للمأمور والمنهي في عدم ائتماره وانتهاءه بأن الآمر تارك لما يأمر ، أو الناهي فاعل لما ينهى.

ثم آية التناهي نص في واجب النهي والانتهاء ، ولو كانت العدالة الطليقة شرطا لوجوب ـ فضلا عن جواز ـ الأمر والنهي فلا دور إذا للتناهي ،

٢١٩

كما وأن التناهي تعاون على البر والتقوى وهو فرض جماعي بين الجماعة المؤمنة.

فكما يجب على المكلفين فعل الواجبات وترك المحرمات فرضا شخصيا على أشخاصهم كذلك يجب التآمر والتناهي وليس إلّا في غير العدل المطلق.

إذا فالواجب الأول على كل المكلفين وقاية أنفسهم بصورة عادلة طليقة ، ثم وقاية الآخرين ، وحين يفسق المكلف أحيانا ويعدل أخرى ، فهو حالة عدله مفروض عليه أن يكلف التاركين له أن يحققوه ، أمرا بمعروف هو فاعله ، ونهيا عن منكر هو تاركه ، دونما تعد طوره أن يأمر بمتروكه وينهى عن مفعوله ، مهما كان خفية فضلا عن كونه جهرا.

فالمصلي التارك للصوم والصائم التارك للصلاة ، يجب عليهما التآمر بأن يأمر الأول الثاني بالصلاة ، ويأمر الثاني الأول بالصوم ، وهكذا التناهي.

ولو لا خلق جو التآمر والتناهي لأظلم الجوّ بصورة واسعة شاسعة إذ لا كفاءة في العدول الطليقين في شيء.

فهنا ـ في حقل واجب الأمر والنهي ـ هذه الآية هي أعم الآيات فيهما ، ثم تخصص ب (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) ثم تخصص آية الأمة هذه ب (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ..) و (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) و (ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) وهذه الثلاث تنضبط دلاليا ب (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ).

والمهم في هذا البين ضرورة استمرارية لسان الأمر والنهي بين المؤمنين ، متجنبين عن سوء التأثير إن لم يكن لهما حسن التأثير.

ففاعل المنكر وتارك المعروف جهارا ، محرم عليه الأمر والنهي فيما لا يفعله من معروف أو لا يتركه من منكر ، قطعا ، ثم يتلوه غير الجاهر فيما يأمر وينهي ، لمكان الإطلاق في هذه الآيات الثلاث.

ومن ثم الجاهر بغير ما يأمر أو ينهى ، فالأشبه وجوبهما عليه إلا إذا

٢٢٠