الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٨

كَرِيماً) (٤ : ٣١) ثم والكبيرة يعفى عنها بالتوبة ، أم وأخيرا بالشفاعة ، فأين ـ إذا ـ أحاطت به خطيئته ، واين خلود النار؟

الشوط القريب في هذه السفرة النكدة يعني من السيئة أمثال الشرك بالله والتكذيب بآيات الله ، وتحريف كتاب الله (١) ، فمن ثمّ (أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) التي هي من خلفيات تلك السيآت العظيمة!

وقد يعبر عن هذه الحيطة الخليفة ب «السيآت» : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١٠ : ٢٧) خلودا بخلود وعلى قدره وأثره ، حيث أغشيت كل وجوههم الظاهرة والباطنة بظلمات السيآت : (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٨ : ٨٤).

ثم أشواط أخرى في سيئات أخرى مهما كانت صغيرة ، حيث الإصرار فيها دون توبة يجر أصحابها إلى سيئات كبرى حتى ينتهي المسيء إلى تلكم السيآت الكبيرة التي تخلّف إحاطة الخطيئة ، سدا لمنافذ النور والتوبة.

فعلى أية حال ليست كل سيئة بالتي تخلّد في النار ، إنما هي التي تخلّف إحاطة الخطيئة ، فيموت صاحبها محاطا بالخطيئة عقائديا وعمليا ، فطبعا (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

ثم وفي (كَسَبَ سَيِّئَةً) دون «عمل ـ أو ـ اقترف» أمّا شابه ، تلميحة إلى حالة اقترافها ، أنها اجتراح لها بالتذاذ واستساغة كأنها من مكاسب الحياة ، فلو كانت كريهة في قياسه لما اجترحها متحمسا حريصا ، ثم وما تركها تحيط به

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٩٣ في التوحيد بسند متصل عن ابن أبي عمير قال سمعت موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول : لا يخلد الله في النار الا اهل الكفر والجحود واهل الضلال والشرك.

٤١

خطيئة ، فكان يأتيها كارها أو مكرها أم غافلا ثم يتوب عنها ، ويلوذ إلى كنف غيرها ، فهو ـ إذا ـ يتخلص عن تبعتها ، وهي إحاطة الخطيئة به ، حيث لم تغلق عليه منافذ التوبة.

فذلك هو التعبير الصحيح الفصيح عن حالة المسيء في هذه السيئة ، كما (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) تفسرها ، لمحتان اثنتان تخرجان سائر السيآت ـ صغيرة وكبيرة ـ عن هذه السيئة ، التي تخلف إحاطة الخطيئة (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)!

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ

٤٢

إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠)

٤٣

وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣))

هنا عرض لعشرة كاملة من المواثيق أمرا ونهيا ، التي نقضوها كلها وهم يعتبرونها من النواميس الأحكامية الأصيلة في الشرعة التوراتية ، ثم عرض آخر لإرسال الرسل إليهم تترى ، استكبارا أمام من لا تهواه أنفسهم تكذيبا لهم وقتلا ، وتكذيبا ـ في النهاية ـ بالقرآن وهم عرفوه من قبل استفتاحا ـ بمستقبل نزوله ـ على المشركين ، بحجة اختصاص إيمانهم بما نزل عليهم فقط وقد كفروا به وقتلوا أنبياءهم من قبل ، كما اتخذوا العجل أمام موسى.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) ٨٣.

٤٤

ميثاق في شرعة التوراة عليهم ، مذكور فيها بصيغة «الناموس» وتذكر هنا بنود الميثاق تقديما للأهم فالأهم :

١ (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) أمر بصيغة الإخبار ، تأكيدا أكيدا على تطبيقه وكأنه واقع قبله ، مما يوحي ألّا بديل عنه ولا عذر في تركه ، فكما الله واقع لا مرد له ، كذلك عبادة الله واقعة لا مرد لها ، مزوّدة بحكم الفطرة والعقل وكلّ الأعراف المصدّقة بوجود الله.

٢ (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) دون «تحسنون بالوالدين» تنازلا عن أكيد الأمر الى مرحلة ثانية ، كما والإحسان بالوالدين ليس فرضه إلّا بعد فرض عبادة الله ، وليس ـ فقط ـ أن تحرم الإساءة إليهما ، بل الفرض هنا واجب الإحسان بهما في كافة الاتصالات والانفصالات الحيوية ، روحية ومادية.

٣ ـ ٥ (وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) مرحلة ثالثة من الفرض على اختلاف مراتب هذه الثلاث ، فالإحسان بهؤلاء يأتي في ظل الإحسان بالوالدين ، لتأخره عنه ، ودمجهم في «إحسانا» في الوالدين ، وكما الإحسان بالوالدين كان مدمجا في ظل عبادة الله ، وكل هذه من فروع عبادة الله.

ثم و «ذي القربى» في نفسها درجات (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) وكذلك اليتامى والمساكين ، الأيتم منهم والأسوء حالا ومسكنة.

فالأقرب الأيتم الأسكن ، هو أوجب ممن سواه ، وعلى هذا القياس دونما فوضى جزاف.

٦ (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) مرحلة سادسة من واجب الحسن والإحسان تجاه

٤٥

الخالق والخلق ، فانه «يعني الناس كلهم» (١)

ف «قولوا» تفرض حسن العشرة العملية بالأولوية القطعية ، وليس «قولوا» هنا إلّا بيانا لأقل الواجب تجاه الناس ، و «حسنا» دون «حسنا» تفرض خالص الإحسان وكأنه تجسّد للحسن ، مبالغة بليغة في الحد المفروض من حسن العشرة قولية وعملية مع الناس ، كضابطة ضابطة كلّ التخلفات الخلقية في عشرة الناس كل الناس (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ف (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ـ (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ).

فالضابطة السارية الجارية كأصل أوّلي في عشرة الناس هي الحسن ، بل ومعاقبة الظالمين أيضا حسن بالناس ، بل وحسن بالظالمين أيضا لكي يرتدعوا ، أم ينتهوا شاءوا أم أبوا ، ولكي يخفف عنهم يوم الحساب!.

ف «قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم» (٢) «ولا تقولوا إلّا خيرا حتى تعلموا ما هو» (٣) ف «اتقوا الله ولا تحملوا الناس على أكتافكم ...» (٤).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٨٥ ـ اخرج البيهقي في شعب الايمان عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الآية: ...

(٢) نور الثقلين ١ : ٩٤ في اصول الكافي باسناده الى جابر بن زيد عن أبي جعفر (عليهما السلام) في الآية ...

(٣) فيه باسناده الى معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية ...

(٤) في تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول : ان الله يقول في كتابه : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً).

٤٦

أجل«للناس كلهم مؤمنهم ومخالفهم ، أما المؤمنون فيبسط لهم وجهه ، وأما المخالفون فيكلمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى الإيمان فان ييأس من ذلك يكف شرورهم عن نفسه وعن إخوانهم ...» (١)

ف «لا تدع النصيحة في كل حال» (٢). فالمؤمن حسن ومحسن أيا كان وأيان ، يصلح ولا يفسد في كل مجالات العشرة الحيوية ، فكل قوله «حسن» وكل فعله «حسن» وكل نيته وعقيدته حسنة ، فهو في نفسه جنة لا تبوء إلى نار حتى يلاقي ربه في دار القرار.

ثم حسن القول يعم الدعوة الحسنى ، والأمر والنهي بالحسنى ، وسائر العشرة القولية بالحسنى ، ولكي يخلق المؤمن حسن الحب بحسن القول للناس وحسن المعاملة والعشرة معهم.

٧ و ٨ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ...) هنا إقام الصلاة عبارة أخرى عن (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) بأفضل مصاديقها وقد تعني إقام الصلاة فيما عنت إقام الصلوة على محمد وآله ، وهي من إتمام الصلاة (٣).

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ١٢٢ عن الأمام العسكري (عليه السلام) قال قال الصادق (عليه السلام) وقولوا للناس حسنا ، قال : ... ثم قال : ان مداراة اعداء الله من أفضل صدقة المرء على نفسه وإخوانه ، كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في منزله ، إذن استأذن عليه عبد الله بن أبي سلول فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : بئس أخو العشيرة ائذنوا له ، فلما دخل أجلسه وبشر في وجهه فلما خرج قالت عائشة يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : قلت فيه ما قلت وفعلت فيه من البشر ما فعلت؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يا عويش يا حميراء ان شر الناس عند الله يوم القيامة من يكرم اتقاء شره.

(٢) نور الثقلين عن مصباح الشريعة قال الصادق (عليه السلام): قال الله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً).

(٣) تفسير بيان السعادة ١ : ١١١ قد فسر في الخبر اقامة الصلاة بإتمام ركوعها وسجودها وحفظ مواقيتها ـ

٤٧

كما وإيتاء الزكوة عبارة أخرى عن كل مراحل الإحسان روحيا وماديا ، حيث الزكوة تعم زكوة الأرواح الأحوال إلى زكوة الأبدان والأموال «وهي زكوة المال والجاه وقوة البدن»(١).

(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) ٨٣.

«توليتم» عن كل هذه الثمان أم بعضها (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) إذ أقبلوا إليها «وأنتم» المتولون «معرضون».

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) ٨٤

٩ ـ ١٠ هنا تكملة للعشرة ناموسا أحكاميا للشريعة ، حرمة الدماء والأموال : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) لأن سفك دم أخيك هو سفك لدمك نفسك ، فإن نفسه نفسك ونفسك نفسه ، فكما يحرم عليك سفك دمك ،

__________________

ـ وأداء حقوقها التي إذا لم تؤدّ لم يتقبلها رب الخلائق ، و (قال (عليه السلام) أتدرون ما تلك الحقوق؟ هو اتباعها بالصلاة على محمد وعلي وآلهما صلوات الله عليهم منطويا على الاعتقاد بأنهم أفضل خيرة الله والقوّام بحقوق الله والنصّار لدين الله تعالى.

قال (عليه السلام): وأقيموا الصلاة على محمد وآله عند احوال غضبكم ورضاكم وشدتكم ورخاكم وهمومكم المعلقة بقلوبكم

(١) تفسير البرهان ١ : ١٢٢ عن تفسير الامام العسكري (عليه السلام) قال : وآتوا الزكاة من المال والجاه وقوة البدن ، فمن الحال مواسات إخوانك المؤمنين ، ومن الجاه إيصالهم الى ما يتقاعسون عنه لضعفهم عن حوائجهم المترددة في صدورهم ، وبالقوة معونة أخ لك قد سقط حماره او حمله في صحراء او طريق وهو يستغيث ولا يغاث من يعينه حتى يحمل عليه متاعه وتركبه وتنهضه حتى يلحق القافلة وأنت في ذلك كله معتقد لموالات محمد وآله الطيبين وان الله يزكي أعمالك ويضاعفها بموالاتك لهم وبرائتك من أعدائهم.

٤٨

كذلك نفس محرمة أخرى غير مهدورة الدم ، لا يحل سفكه ، وكذلك إخراج أنفسكم من دياركم بنفس النمط ، فان حرمة مال المسلم كحرمة دمه.

ثم في واجهة أخرى إن قتل نفس الغير وإخراجها من ديارها يخلف نفس القتل والإخراج لأنفسكم قصاصا وجزاء ، ف «لا تقتلون ولا تخرجون» لها أبعاد ثلاثة كلها منهية مهما اختلفت.

تلك عشرة كاملة تولوا عنها وهم معرضون :

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ٨٥.

«أنتم» لحاضر الخطاب و «هؤلاء» لغائبه ، فكيف يجتمعان والحضور في الخطاب هنا هم الغيب؟

قد يعني «أنتم» شعب إسرائيل المتمثل في الحاضرين زمن الخطاب ، وهؤلاء هم السابقون منهم القاتلون أنفسهم والمخرجون ، دمجا للحضور في الغيب لأنهم نفس النمط ، ولهم نفس الخلق مأخوذين بنفس المأخذ ، لأنهم سلسلة موصولة فيما كانوا يفتعلون ، ولا أقل أنهم كانوا بما فعلوا راضين ، والراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم.

أم إن «هؤلاء» هنا كمنادى تكرار منبّها لهؤلاء الحماقي أم كإشارة إليهم تأكيدا لصدور الجريمة منهم.

والآية تتحدث عن واقع قريب العهد ، قبيل غلبة الإسلام على قبيلي

٤٩

الأوس والخزرج ، فقد كانوا كلهم مشركين ، ويهود المدينة هم ـ وقتئذ ـ أحياء ثلاثة ، مرتبطة بعهود ، كلّ مع كلّ من حيي الشرك ، فبنوا قينقاع وبنو النضير هما حلفاء الخزرج ، وبنو قريظة هم حلفاء الأوس ، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق من اليهود مع حلفاءه المشركين ضد آخرين ومعهم يهود آخرون ، فيقتل اليهودي مثله كما يقتل المشرك دونما تمييز تمسكا بالأحلاف ، وتناسيا لحلف الله وميثاقه الذي واثقهم به.

كما وكانوا يخرجون فريقا منهم من ديارهم إذا غلب فريقهم ، نهبا لأموالهم وسبيا لفريق منهم حلفاء مع عدوهم (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) كما تتظاهرون على خلطاءهم المشركين ، وهذا خلاف نص الميثاق في ناموس التوراة.

ومن ثم (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) دافعين الفدية عنهم حتى تستلموهم وتحرروهم ، وفقا لنص آخر من التوراة (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) فكيف الجمع بين قتالهم وقتلهم وإخراجهم وأسرهم ، وبين مفاداتهم (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) فتفادونهم (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) فتقاتلونهم وتخرجونهم من ديارهم وتأسرونهم؟.

و «هو» هنا إمّا ضمير شأن ، أو مبتدء مبهم مفسّر ب «محرمّ» والجملة الخبرية خبرها.

(فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ) النقض لشرعة الميثاق التوراتي (مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أن تقاتلوهم إخوانكم لصالح أعداءكم المشركين (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) لأن ذلك من أشد العصيان لشرعة الله (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) خلاف ما أنتم تزعمون.

٥٠

ولكي يلفت أنظار المسلمين إلى أهمية ذلك المحظور ، دون اختصاص باليهود ، يخاطبهم :

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ٨٦.

إعلان صارخ في هذه الإذاعة القرآنية يحذر المسلمين عن مثل ما افتعله اليهود ، كيلا يحارب بعضهم بعضا لصالح الكافرين.

خطة تقليدية لعينة إسرائيلية في إمساك عصيهم من أوساطها ، انضماما إلى المعسكرات المتطاحنة كلها حيطة على مصالحهم المادية ومغانمهم على أية حال ، نقضا لميثاق الله الذي واثقهم به ، وتحكيما لميثاقهم مع أعداء الله ، مصلحة وقائية وقتية ، تجعل شرعتهم على هامشها ، أم رفضا لها عجالة حتى يربحوا المسرح ، اشتراء للحياة الدنيا بالآخرة!.

وترى الآخرة كانت مملوكة لهم حتى يشتروا بها الدنيا فهم مالكوها؟ وذلك بيع ما لا يملك!.

لكلّ من المكلفين نصيب مقدّر من نعيم الآخرة إن عمل لها ، فالذي لا يعمل لها كأنه باعها حيث بطل على نفسه استبدالا بها نعيم الدنيا ، و (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ).

(فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) في تجارتهم الخاسرة من خسارهم (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) إذ لا ناصر يومئذ إلّا الله وليس بمخفف العذاب.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) ٨٧.

٥١

آية التقفية هذه نراها يستدل بها عند المبشرين المسيحيين على أن المسيح خاتم النبيين ، يقول قائل منهم : في القرآن كله ، في النصوص كلها التي يرد فيها ذكر المسيح ، ظاهرتان : الأولى : يقفي القرآن على كل الرسل بالمسيح ، ولا يقفي على المسيح بأحد (٢ : ٨٧) يعني هذه ، و (٥ : ٤٦) (٥٧ : ٢٧).

الثانية : المسيح نفسه في ما ذكر القرآن عنه لا يبشر بأحد من بعده على الإطلاق إلّا في بعض تلك الآية اليتيمة : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) وهذا يجعل تعارضا ما بين الموقف المتواتر والموقف الشاذ اليتيم فيه ، والعقيدة في كتاب منزل تؤخذ من المحكم فيه لا من المتشابه (١).

يستدل بآيات التقفية ـ الثلاث ـ على أن المسيح هو خاتم النبيين ، فالثانية (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٤٦).

والثالثة : (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ ...) (٢٧).

ولكن آية البقرة تؤتي موسى الكتاب ثم تقفّي من بعده بالرسل ، فلو كان المعني منهم كل الرسل لخرج المسيح (ع) ايضا عن جماعة الرسل ، فهم ـ إذا ـ معظم الرسل الإسرائيليين ، وقد قفى من بعدهم بالمسيح وهو خاتم الرسل الإسرائليين ، وليست هذه التقفية الإسرائيلية إلّا توطئة لبيان انتقال الرسالة إلى رسول غير إسرائيلي (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا

__________________

(١) ذكره الحداد البيروتي في كتابه مدخل الى الحوار الاسلامي المسيحي ص ٣٦٤ ...

٥٢

مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٩٠)! فقد تلعن ـ بين الملعونين ـ القائلين أن المسيح هو خاتم المرسلين على الإطلاق ، ناكرين رسالة القرآن العظيم!

كما وأن آية المائدة أيضا لا تقفّي بالمسيح إلّا على الرسل الإسرائيليين : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ... وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ...) مما يبرهن ان المسيح (ع) هو آخر الرسل الإسرائيليين التابعين لشرعة التوراة ، ثم (لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ ... وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)!

وكذلك آية الحديد ، فإنها لا تقفي بالمسيح إلّا الرسل الذين ذكروا قبله ، لا كل الرسل ، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ... ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ...) ثم يقفي بهذا الرسول خاتما لكل الرسالات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ...) (١).

فتراهم ـ هؤلاء البعيدين عن علم الكتاب ـ كيف يستندون بآيات الرسالة الختمية المحمدية على نكران رسالته عن بكرتها ، ولا يفصحون إلّا أنفسهم لو كانوا يشعرون!(٣٨).

ثم التقفية بالرسول أم برسول تعني تأييد كل لا حق من الرسل سابقه ،

__________________

(١) راجع رسول الإسلام في الكتب السماوية ١٦٢ ـ ١٧٧.

٥٣

وبيان ما حرّف بأيدي الدس والتحريف ، فليست لتعني الختم في الرسالة على أية حال ، فالرسالات الإلهية هي سلسلة موصولة طول التاريخ الرسالي ، ف (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)!

لقد أتاهم رسلهم تترى تلو بعض ولصق بعض ، كلّهم رسل التوراة ، داعين إليه ، وآخرهم عيسى بن مريم المزوّد بالبينات ، المؤيد بروح القدس ، ولكنهم كفروا وكذبوا : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) على هؤلاء الرسل (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ).

هذه صنيعتهم برسلهم في ماضيهم النّحس النّجس ، فما ذا يرجى من حاضرهم أمام نبيّ إسماعيلي؟!.

وإذا كانت رسالات إسرائيلية لا تمشي على أهواءهم فهم بها يكفرون رغم توافق العنصرية ، فما ذا يرجى منهم أمام رسالة غير إسرائيلية لا توافق هذه العنصرية.

(وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) علّه روح القدس الرسالي ككل وهو مثلث الوحي والعصمة الرسالية وملك الوحي ، وهذه الثلاث لا يصيبها ما يصيب سائر الأرواح الإنسانية (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٩٨ في أصول الكافي باسناده الى المنخل عن جابر عن أبي جعفر عليهما السلام قال : سألته عن علم العالم؟ فقال لي : يا جابر إن في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح : روح القدس وروح الايمان وروح الحياة وروح القوة وروح الشهوة ، فبروح القدس يا جابر عرفوا ، تحت العرش الى ما تحت الثرى ، ثم قال يا جابر! إن هذه الأربعة الأرواح يصيبها الحدثان الا روح القدس فإنها لا تلهو ولا تلعب.

وبإسناده إلى محمد بن سنان عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن عم الامام بما في أقطار الأرض ، وهو في بيته مرضى عليه ستره؟ فقال : يا مفضل إن الله تبارك وتعالى جعل في ـ

٥٤

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) ٨٨.

«غلف» هي جميع أغلف أو غلاف ، وهو الذي في غلاف مبالغة ، أو كالمتعود من غلاف السيف ، فهل يعنون بغلف قلوبهم أنها (فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) لا تنفذ إليها دعوة جديدة غير إسرائيلية : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) (٤١ : ٥).

فهي ـ إذا ـ غلف بطبيعة الحال عما تدعونا إليه ، فما هو ذنبنا وقد خلقنا غلف القلوب ، والجواب كلمة واحدة : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) ـ (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ـ (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) (٦ : ٢٥).

فليست هي غلفا بما خلق الله ، بل (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) (٥ : ١٣).

أم يعنون أنها غنية عن أية شرعة غير إسرائيلية ، فهي مغلفة عن غيرها ، غنية بها ، مليئة منها ، ومن ثم «أنها أوعية للخير والعلوم قد أحاطت بها واشتملت عليها ، ثم هي معذلك لا تعرف لك يا محمد فضلا مذكورا في شيء من كتب الله ولا على لسان أحد من أنبياء الله» (١).

قد يعنون ذلك الثالوث من غلف القلوب ، وردا عليهم فيها كلمة

__________________

ـ النبي خمسة أرواح روح الحيوة فبه رب ودرج ، وروح القوة في نهض وجاهه ، وروح الشهوة فبه أكل وشرب وأتى النساء من الحلال ، وروح الايمان فبه آمن وعدل ، وروح القدس فبه حمل النبوة ، فإذا قبض النبي انتقل روح القدس فصار إلى الامام ، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو ولا يلعب ، والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتلهو وتزهو وروح القدس كان يرى به.

(١) تفسير الامام الحسن العسكري قال (عليه السلام) في تفسير الآية ... ومثله في الدر المنثور عن ابن عباس.

٥٥

واحدة : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) قلوب لعينة مقلوبة عن الخير بكفرهم ، امتناعا لقبول الحق بالاختيار!.

ولأن الله لعنهم بكفرهم (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) قليلا منهم ، وقليلا من الإيمان ، والقلتان معنيتان ، فإنهما من خلفيات لعنهم بكفرهم ، فقليلا منهم يتخلصون عن كفرهم ، وقليلا يؤمنون حين يتخلصون.

ويروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «القلوب أربعة قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر ، وقلب أغفل مربوط على غلافه ، وقلب منكوس ، وقلب مفصح ، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه وأما القلب الأغلف فقلب الكافر وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر ، وأما القلب المفصح فقلب فيه ايمان ونفاق ، ومثل الايمان فيه كمثل البقلة يمدّها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم فاي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه (١).

لقد قالوا قولتهم الهارفة الخارقة هذه تئييسا لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعليلا لعدم إجابتهم له :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٨٧ ـ اخرج احمد بسند جيد عن أبي سعيد قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ... وفيه ـ اخرج ابن أبي شيبة في كتاب الايمان والبيهقي في شعب الايمان عن علي رضي الله عنه قال : ان الايمان يبدو لحظة بيضاء في القلب فكلما ازداد الايمان عظما ازداد ذلك البياض فإذا استكمل الايمان ابيض القلب كله ، وان النفاق لحظة سوداء في القلب فكلما ازداد النفاق عظما ازداد ذلك السواد فإذا استكمل النفاق اسود القلب كله وايم الله لو شققتم على قلب مؤمن لوجدتموه ابيض ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه اسود».

أقول : يعني منه قلب الروح و «لو» المحيلة لذلك الشق يؤيده ولا استحالة في شق قلب الجسم.

٥٦

يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) ٨٩.

هنا (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) لا تصدق كلّ ما معهم ، فإنه دخيل من كل تحريف وتجديف ، إذا فهو الذي كانوا يستفتحون به على الذين كفروا من بشارات هذه الرسالة السامية القرآنية (١).

ثم وفي وجه آخر لما معهم ، هو وحي التوراة خالصا عما يشوبه ، حيث القرآن يصدق كل كتابات الوحي ، ويزيف كل دخيل فيها لأنه مهيمن عليها : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ...) (٥ : ٤٨).

والاستفتاح هنا هو طلب الفتح على المشركين ، كقولهم فيما يروى «اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي إلا نصرتنا عليهم» (٢) أو وطلب الفتح منهم أن

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ١٢٦ قال الامام العسكري (عليه السلام) ذم الله اليهود فقال : (وَلَمَّا جاءَهُمْ) يعني هؤلاء اليهود الذين تقدم ذكرهم وإخوانهم من اليهود جائهم (كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) القرآن «مصدق» ذلك الكتاب (لِما مَعَهُمْ) من التوراة التي يبين فيها ان محمدا الامي من ولد إسماعيل ...

(٢) الدر المنثور ١ : ٨٨ ـ اخرج ابو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس قال : كانت يهود بني قريظة والنضير من قبل ان يبعث محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) يستفتحون الله يدعون على الذين كفروا ويقولون : اللهم ... فلما جاءهم ما عرفوا ـ يريد محمدا ولم يشكوا فيه ـ كفروا به. ومن طريق أصحابنا في نور الثقلين أخرجه بأسانيد وأخصرها متنا ما رواه القمي عن إسحاق بن عمار قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : كان قوم فيما بين محمد وعيسى صلوات الله عليهما ، وكانوا يتوعدون اهل الأصنام بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ويقولون ليخرجن نبي فليكسرنّ أصنامكم وليفعلن بكم وليفعلن ، فلما خرج رسول الله (صلى الله ـ

٥٧

يخبروهم هل ولد من وصفته التوراة؟ ولكنه لا يصلح إلّا ضمن المعني من الاستفتاح عليهم لأنه طلب الفتح منهم لا عليهم!.

لقد كانوا يستفتحون ببشارة القرآن في توراتهم ، على المشركين ، كمصلحة وقتية (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) من ذلك الفتح الرسالي (كَفَرُوا بِهِ) مصلحية الحفاظ على الشرعة العنصرية (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ).

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) ٩٠.

فالإنسان ـ أيا كان ـ يعادل نفسه بثمن ما قليلا أو كثيرا ، وأما أن يعادلها بالكفر بآيات الله ، فتلك هي أبخس الصفقات وأنحسها ، وذلك واقع إسرائيلي أن اشتروا أنفسهم بالكفر ، بغيا وحسدا من عند أنفسهم أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ، كفرا بما عرفوه في استفتاحهم ، وبما حسدوا صاحب هذه الرسالة الأخيرة (فَباؤُ) رجوعا عن ذلك المتجر الخاسر الحاسر (بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) لبعدي الكفر بالتوراة وبالقرآن (وَلِلْكافِرِينَ) المغضوب عليهم (عَذابٌ مُهِينٌ) كما أهانوا رسالة الله.

__________________

ـ عليه وآله وسلم) ـ كفروا به. وفيه عن روضة الكافي عنه (عليه السلام) يقول فيه بعد تفصيل للقصة وكانت اليهود تقول لهم ـ المشركين القاطنين بالمدينة ـ اما لو قد بعث محمد لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا ، فلما بعث الله محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلم) آمنت به الأنصار ـ وهم وقتئذ من المشركين ـ وكفرت به اليهود وهو قول الله عز وجل (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ...) وفي تفسير الامام العسكري (عليه السلام) ... وكان الله عز وجل امر اليهود في ايام موسى وبعده إذا دهمهم أمر او دهتهم داهية ان يدعو الله عز وجل بمحمد وآله الطيبين وان يستنصروا بهم وكانوا يفعلون ذلك ، حتى كانت اليهود من اهل المدينة قبل ظهور محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بسنين كثيرة يفعلون ذلك فيكفون البلاء والدهماء والداهية

٥٨

وإليكم إشارات من بشارات الفتح التي كانوا بها يستفتحون ، ففي كتاب حبقوق النبي (٣ : ٣ ـ ٦) في الأصل العبراني :

«إلوه متيماه يا بوء وقادوش مهر پاران سلاه كيثاه شاميم هودو ويتهلاتو ماليآه ها ارص ٣ ونغه كاأور تهيه قرنيم ميادو لو شام حبيون عوزه ٤ لفاناي يلخ دابر ويسيء رشف لرجلايو ٥ عامد ويمودد أرص رآه ويتر غويم ويت تصصو هر ري عد شحو جبعوت عولام هليخوت عولام لو ٦».

«الله من تيمان يأتي والقدوس من جبل پاران : حرى ـ فأراني (يأتي) مع الأبد. غطى جلاله السماوات وامتلأت الأرض من تسبيحه ٣ شعاعه كالشمس وشع من يمينه النور وهناك استتار قوته ٤ قدام وجهه يسير الوباء ، وأمام قدميه تبرز حمى ملهبة ٥ وقف ومسح الأرض ، نظر وأذاب الأمم ، وتبددت الجبال القديمة وخسفت وانحنت إكام وأتلال القدم ، مسالك الأزال له ٦».

وفي الأصل العبراني (تث ٣٣ : ١ ـ ٢) من التوراة :

«وزئت هبراخاه أشر برخ موشه إيش ها إلوهيم ات بني يسرائيل لفني موتوا ١ ويومر يهواه مسيني باو زارح مسعير لامو هو فيع مهر فاران وآتاه مر ببت قدش مى مينو اش دات لامو ٢».

«وهذه بركة باركها موسى رجل الله بني إسرائيل عند موته ١ وقال : الله من سيناء جاء ، تجلى من ساعير ، تلعلع من فاران ، وورد مع آلاف المقدسين ، من يمينه ظهرت الشريعة النارية ٢».

هنا يبشر الله بلسان موسى (ع) بتجليات ربانية ثلاث ، فموسى «من سيناء» والمسيح «من ساعير» ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) «من فاران» تعبيرا عن الكل بالماضي تثبيتا لتحقق وقوعها ، تزويدا لمحمد المتجلي من فاران أنه ورد مع آلاف المقدسين ،

٥٩

من يمينه ظهرت الشريعة النار وهي شريعة الجهاد.

وفي سالفة لها تختصر البشارة بآيتين «من تيمان» وهو مبعث المسيح فانه ساعير جنوبي القدس ، ومن فاران وهو مبعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم تصفه بشرعته ما تصف ، بهيمنة وشوكة وأبدية ... (١).

هكذا كانوا يستفتحون به على الذين كفروا وهم يعرفونه (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ).

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ٩١.

(نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) جوابا عن (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) قسمة ضيزى في الإيمان بما أنزل الله ، قضية العنصرية الحمقاء فيهم ، ف (يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) أيا كان النازل وعلى أيّ كان ، ما لم يكن نازلا على إسرائيل! «وهو» «ما أنزل الله» الخالص الناصع دون خليط ولا تبدّل حتى آخر زمن التكليف ، فمهما كان النازل عليهم حقا في أصله فهو حقّ وليس «هو الحق» كلّه ، وهذا «هو الحق» كلّه هنا لكونه (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) فيما كانوا به يستفتحون.

وحتى لو أنكم تؤمنون بما أنزل إليكم (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) وهم منكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بخصوص الوحي النازل على الرسل الإسرائيليين؟!

__________________

(١) راجع رسول الإسلام في الكتب السماوية ٤٤ ـ ٥٣.

٦٠