الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٨

غيرها أمركم به ، فلا تنكروا تدبير الله في عباده وقصده الى مصالحكم ... (١)

والمشرق والمغرب هنا هما تعبيران عن كافة الجهات الأرضية ، لأنهما النقطتان الأصيلتان ، فليس المشرق : القدس ـ فقط ـ لله ، أو المغرب : قبلة النصارى ـ فقط ـ لله ، بل والجنوب الكعبة فله الجهات كلها ، يحوّل عباده في صلاتهم وكل صلاتهم أينما يريد لمصالح وابتلاءات ، كما وأن أصل تحول شرعة الى شرعة ابتلاء : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٥ : ٤٨). فكما أن قبلة القدس ـ في وقتها ـ صراط مستقيم لاتجاه الصلاة ، كذلك الكعبة المباركة صراط مستقيم ، بل هي الأصل المقصود على مدار الزمن الرسالي ، ولا سيما الإسلامي ، وقبلة القدس ابتلاء وقتي لمصلحة وقتية وقد مضت.

وقد اختلفت الروايات في عديد الأشهر المدنية لقبلة القدس من خمسة الى سبعة الى سبعة عشر ، ولأن عديد الأشهر ليس من صميم قصته التحويل ، لم تشر إليها الآيات وكما لم تصرح للقبلة المكية ، فإنما الأصل في مسرح البحث هو تحويل القبلة ، وأن أصلها هو الكعبة المباركة.

ولقد انطلقت أبواق اليهود السفهاء ـ ومعهم سائر السفهاء من الناس مشركين ومنافقين ومسيحيين ـ تصرخ على المسامع (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) مرة أولى حين تحولت عن الكعبة الى القدس ، ومرة أخرى إذ تحولت عن القدس الى الكعبة ، انطلقت تلقي في صفوف المسلمين وفي قلوب

__________________

(١) هذا من تتمة الحديث السابق عن الامام العسكري ، ومكان النقط ... اربع عشرة سنة ، فهو من القسم الثاني الدال على ان القبلة في مكة كانت هي القدس ، ولكن باتجاه الكعبة.

١٨١

السذج منهم بذور الريبة والقلقة ، حيث النسخ ـ في زعمهم ـ دليل الجهل وهو لا يصدر عن مصدر الربوبية ، دليلا على أن محمدا لا يصدر عن ربه!.

ذلك! رغم ما سبق في (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ...) إذ بيّنت أن النسخ ـ على أية حال ـ تحمل مصلحة مماثلة أو خيرا مما نسخ ، وقبلة الكعبة خير من قبلة القدس كأصل على مدار الزمن ، كما وأن قبلة القدس كانت خيرا منها ـ مصلحيا وقتيا كاختبار ـ أو مثلها في أصل الاتجاه.

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ...) ١٤٣.

آية وحيدة تحمل صيغة الأمة الوسط ، لا تشبهها إلّا آية الحج إلّا في لفظ الوسط : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ...) (٧٨).

فهذه وإن لم تحمل صيغة الوسط ، ولكنها تواصفه تفسيرا له أنهم هم الوسط بين الرسول والناس ، «وكذلك» التحويل للقبلة الأصيلة الى قبلة يهودية ، خروجا عن العنصرية والطائفية فيها ، كذلك العبدى المدى ، الوسيع الصدى ، البليغ الهدى من صبغة الإسلام وإسلام الصبغة (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ...) فما هو الوسط لهذه الأمة ، ومن هم المعنيون ب «كم أمة؟» أهم الوسط بين إفراط الحياة الجسدانية وتفريط الحياة الروحية ، حيث الوسط بينهما جامع لهما مهما كانت الحياة الروحية هي الأصيلة بينهما؟.

وهذا مهما كان صحيحا في نفسه ، ولكنه لا يناسب خلفيته الصريحة هنا : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) فإن هذه الوسطية تتطلب مرجعية الأمة الوسط لطرفي الإفراط والتفريط ، لا أن تكون شهيدة عليهم ، إلّا بمعني الرقابة على

١٨٢

أعمالهم كشهادة خاصة! أم شاهدة عليهم في حقل الاعتدال ، نبراسا لهم في ترك الانانية والإنية الطائفية ، وتحلّلا في شرعة الله عن الانحيازات غير الشرعية ، اتباعا لأمر الله كيفما كان وإن في ترك المجد القبلي والقبلي ، كما وأن الوسط اليهودي والنصراني لا يمت بصلة لهذه الوسطية الإسلامية لأنهما من أهل الكتب السماوية وهي كلها تحمل الشرعة المعتدلة الوسط ، اللهم إلّا بالنسبة لإفراط اليهود في الاتجاهات المادية ، وتفريط النصارى فيها مبدئيا كنسيّا ـ مهما تورطوا في الماديات وأكثر من اليهود ، ولكن «جعلناكم» يختص الوسط بجعل رباني وليس الإفراط والتفريط يهوديا ونصرانيا من جعل الله! ... أم هم الوسط بين الرسول والناس ، كما ينادي به الانقسامات الثلاث : شهداء على الناس ـ الرسول الشهيد على الشهداء ، وناس ، فطبيعة الحال قاضية هنا باختصاص للشهداء على الناس بهذا الرسول الشهيد عليهم.

فهل هم ـ بعد ـ كل الأمة الإسلامية؟ وفيهم بغاة وفساق طغاة! أم وعدول لا يصلحون للشهادة على الناس! (١) اللهم إلّا شهادة على حق الوسط الاعتدال.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٣٥ عن تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قال الله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ...) فان ظننت ان الله عنى بهذه الآية جميع اهل القبلة من الموحدين ، أفترى أن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟ كلّا! لم يعن الله مثل هذا من خلقه ، يعني الأمة التي وجبت لها دعوة ابراهيم (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وهم الأمة الوسطى وهم خير امة أخرجت للناس.

أقول : فكما الرسول شهيد على الامة الوسط كذلك الامة الوسط شهيدة على الناس ، وقد تعني الشهادة هنا كل مراحلها ولكنها محصورة في الشهادة على ، من شهادة على الأعمال لكي تكون وسطا ، وشهادة عليها إلقاء لها يوم يقوم الاشهاد فلا بد أولا من تلقّيها.

١٨٣

إن نفس الشهادة على الناس كوسط بين الرسول والناس ، يحد موقف الأمة الوسط ، فهنالك شهادة متعدية بنفسها : شهده ، وهنا «شهد على» ام شهادة له لصالحه كدعاية ذاتية ، أم تمثيلا للكيان الرسولي؟ وهنا «شهد على».

ف «شهده» تتطلب حضورا عند العمل أيا كان ، حضورا ذاتيا أم علميا ، ولا يتيسّر إلّا للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) والمعصومين من عترته! (عليهم السلام).

و «شهد له» محصورة في بعديها بالعدول الصالحين من الأمة المسلمة.

ثم و «شهد عليه» هنا في الدعاوي ، تتطلب العدالة ، وليست الأمة ـ ككل ـ عادلة ، ولا أن الآية تختص الشهادة بالدعاوي.

و «شهد عليه» هنا في الأعمال ، تختص بالصالحين الداعين إلى الخير الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر ، دون كل الأمة ولا كل العدول ، وتلك الدعوة ـ على شروطها ـ لا تختص بالأمة الإسلامية. و «شهد عليه» ـ إلقاء للشهادة على الأعمال يوم يقوم الأشهاد ـ يتطلب تلقيا لها هنا حضورا ذاتيا أو علميا بما يعلّمهم الله ، وذلك مخصوص بالمعصومين! ثم ولا تختص تلك الشهادة بخصوص المعصومين من هذه الأمة!.

وعلى كلّ فلا تعني الآية كلّ الأمة الإسلامية دون ريب ، فقد تعني عدول الأمة حيث يمثّلون الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) على قدر عدلهم بين الناس : مسلمين وسواهم ، ثم وبأحرى العدول الدعاة من الأمة ، الآمرة الناهية : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (٥٧ : ١٩) (١) ، فهي مهما عمت كل المؤمنين ، إلّا أن مؤمني هذه الأمة أعلى محتدا ممن سواهم.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٣٣ عن الكافي باسناده الى أبي جعفر الباقر (عليهما السلام) حديث طويل ـ

١٨٤

ثم في القمة ، الائمة الاثنى عشر المعصومون (عليهم السلام) ، فإنهم القمة العليا بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) من الشهداء بكل معاني الشهادة ومغازيها ومراميها ولا سيما الشهادة على الأعمال والأحوال ، فالوسط في الأمة هي العدل على مراتبه ومراتبهم (١) فلأن العدل في هذه الأمة أعدل منه في غيرها وأفضل ، فكأن العدول منهم هم الشهداء ـ فحسب ـ على الناس ، سواء ناس المسلمين او الكتابيين او المشركين والملحدين ، إلّا أن لكل شهادة أهلها الخصوص دونما فوضى جزاف.

فمؤمنو هذه الأمة شهداء على الناس شهادة ذاتية بأعمالهم وأحوالهم ، وشهادة على كيان هذه الرسالة السامية ، شهودا منه (صلّى الله عليه وآله وسلم) على محتده الرسالي.

والدعاة الى الله منهم شهداء على الناس رقابة على أعمالهم وأحوالهم ، ودعوة لترقيتهم عن نقائصهم ممثلين للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) في كل دعواتهم الصالحة.

والائمة المعصومون منهم ـ إضافة الى هذه وتلك ـ هم شهداء على أعمالهم

__________________

ـ وفيه يقول : ولقد قضي الأمر أن لا يكون بين المؤمنين اختلاف ولذلك جعلهم شهداء على الناس ليشهد محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) علينا ولنشهد على شيعتنا وليشهد شيعتنا على الناس.

(١) الدر المنثور ١ : ١٤٤ ـ اخرج جماعات عدة عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس وجماعة آخرين عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ان «وسطا» في الآية تعني «عدلا» والعدل درجات كما بيناه في درجات الشهادات.

وفي نور الثقلين ١ : ١٣٥ عن كتاب المناقب وفي رواية حمران بن أعين عنه (عليه السلام) انما انزل الله (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) يعني : عدولا ـ لتكونوا ... ولا يكون شهداء على الناس إلّا الأئمة والرسل (عليهم السلام) ، فاما الأمة فانه غير جائز ان يستشهدها الله وفيهم من لا تجوز شهادته في الدنيا على حزمة بقل.

١٨٥

وأحوالهم ، بل وعلى كافة المكلفين على مدار الزمن الرسالي دون إبقاء (١).

فأعلى الوسط بين الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبين الناس هم هؤلاء الأكارم ، تمثيلا للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، كما هو ، وتبيينا لشريعة الحق كما هي «إلينا يرجع الغالي وبنا يلحق المقصر» (٢).

كما وأن الشرعة الإسلامية هي الوسط المعتدل بين كل إفراط وتفريط مختلقين في كتابات السماء ، فنفس تحوّل القبلة الى القدس ردحا من الزمن وسطية واعتدال حيث تزال به العصبية القومية في القبلة ، رغم ان القبلة الإسلامية هي الكعبة المباركة ، بل هي القبلة في كل الشرائع الإلهية ، فرغم كل ذلك يومر المسلمون قضاء على الانحيازية القِبلية والقَبلية ان يتجهوا الى القدس شطرا من العهد المدني ، حال ان أهل الكتابين ليسوا تابعين قبلة بعضهم البعض رغم وحدة الشرعة التوراتية بينهم ، فقد تعني «وسطا» كلّ هذه الأوساط ، متمحورة الوسط المعصوم الرسالي المتمثل في الائمة الاثنى عشر (عليهم السلام) أجمعين.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٣٤ في تفسير العياشي عن أبي بصير قال سمعت أبا جعفر (عليهم السلام) يقول : نحن نمط الحجاز ، فقلت : وما نمط الحجاز؟ قال : أوسط الأنماط ، ان الله يقول : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً وثم قال : إلينا

(٢) نور الثقلين ١ : ١٣٤ عن اصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : نحن الامة الوسطى ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في ارضه ، ورواه مثله بريد العجلي عن الباقر (عليه السلام). وفيه عن المجمع روى الحاكم ابو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل باسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن علي (عليه السلام): ان الله تعالى إيّانا فأعنى بقوله : لتكونوا شهداء على الناس فرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) شاهد علينا ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه ونحن الذين قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً).

١٨٦

ثم ذلك الجعل يعم حقلي التكوين والتشريع ، فكينونة هذه الأمة الأئمة ومن دونهم من العدول ، هي مجعولة بجعل رباني بما سعوا ، كما وشرعتهم بما طبقوها فيما سعوا : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) تمثلا بالحقلين ، جمعا بين الجعلين ، فكما (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) بكلا الجعلين ثم جعل القدس قبلة مؤقتة ابتلاء للمسلمين وإزالة للفوارق الطائفية (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ ...) أهل القبلة الواجبة لهم دعوة إبراهيم (عليه السلام).

ووسط الرأي في الأمة الوسط ، بعيدا عن كلّ الانحيازات إلّا في حوزة الوسط وحيازتها ، إنها هي الوسط بكل معاني الوسط مهما اختلفت درجاتها وصلاتها :

(أُمَّةً وَسَطاً) كمجعولة إلهية ـ في التصور والعقيدة ، بعيدا عن غلو التجرد الروحي ، وحمأة الركسة المادية ، معطية لكلّ من الروح والجسد حقه دون أي إفراط أو تفريط.

ووسطا في المشاعر والإدراكات ، دون تجمّد على حاضرها لتغلق عليها كل منافذ المعرفة تجريبيا أماهيه ، ولا اتّباع أعمى لكل ناعق ، بل هي منطلقة على ضوء الهدي القرآني والسنة المحمدية ، قابلة كل ما يوافق هديها المعصوم وعقلها المقسوم وصراطها المرسوم.

(أُمَّةً وَسَطاً) في تنسيق الحياة ، فلا تطلقها ـ فقط ـ للضمائر والمشاعر ، ولا تدعمها ـ فقط ـ للتشريع والتأديب ، وإنما ترفع ضمائرها بالتوجيه والتهذيب ، فلا تكل الناس الى سوط السلطان ولا ـ فقط ـ الى وحي الوجدان.

(أُمَّةً وَسَطاً) في العلاقات الحيوية ، لا تؤصّل الفرد فالمجتمع كهامش له

١٨٧

خادم ، ولا تلغي شخصية الفرد تأصيلا للمجتمع ، بل هما عندها أصلان ، كلّ يخدم الآخر ، ترجيحا لكفة ميزان المجتمع لأنه مجموعة أفراد.

(أُمَّةً وَسَطاً) في كل وسط وفي جميع الأوساط ، خارجة عن حدي الإفراط والتفريط ، فوسطا في النهاية تتمحورها كل الأمم حيث تسدد البشرية بسلطتها المهدوية في آخر الزمن.

فلا تعني وسطا وسطا بين الأمم في الواقع الزمني للأمم ، حتى يتعلق به متعلق ممن ينكر خاتمية الأمة الإسلامية ، انها الوسط بين الأمم ، فقد تأتي أمم رسالية بعدها.

فان «كذلك» وكذلك (لِتَكُونُوا شُهَداءَ ...) تنفيان ذلك ، حيث الوسطية بين الرسول والناس هي غير الوسطية بين الأمم ، فتلك الوسطية تقتضي الخاتمية لهذه الأمة ، حيث الوسطية الزمنية ليست فخرا ولا مستلزمة لكونهم وسطا بين الرسول والناس ، فإنما يعني من «وسطا» هنا ما يناسب تحويل القبلة كشرعة معتدلة ، أو يناسب الشهادة على الناس وسطا بين الرسول وبين الناس.

فما من شرعة حولت فيها القبلة كما حولت في شرعة الإسلام ، ولا أمة وسط بين الرسول والناس ، هم شهداء على الناس كما الرسول شهيد عليهم ، اللهم إلّا شرعة الإسلام بأمتها.

فتلك الشرعة البعيدة عن كافة الانحيازات والامتيازات القبلية والعنصرية ، هي الوحيدة بين كل شرائع الدين.

كما أن تلك الأمة الشهيدة على الناس هي الوحيدة بين كل الأمم الرسالية على مدار الزمن الرسالي ، والنظر إلى الآيات السابقة يوسع تلك الوسطية ، فإنها

١٨٨

تلتزم بصبغة الله دون الصبغة اليهودية او النصرانية ، وتلتزم يهدى الله تصديقا بكل رسالات الله وكل ما أنزل الله دون التجمد على طائفية كتابية : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٣٥).

وكما هو وسط في القبلة ، لا خصوص الكعبة ولا خصوص القدس ، بل هما معا مهما كانت الكعبة هي الأصيلة الدائبة ، وكما كانت قبلة لكافة الموحدين أحياء وأمواتا طول الزمن الرسالي.

(وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ...) ١٤٣

(وَما جَعَلْنَا ...) فيها بيان الحكمة الحكيمة لجعل القبلة الابتلائية السابقة ، بلمحة أنها كانت مؤقتة لمصلحة وقتية ، وكأن الله يعتذر فيها الى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) من جعل تلك القبلة ، وعلّه لم يسمّها تخفيضا لشأنها أمام الكعبة المباركة ، ولمحة في لمحات أن لم يبتدء الإسلام بها عند بزوغه ، وإلّا كان الحق الصحيح والفصيح ان يعبر عن القدس كقبلة وإن في مرة يتيمة ، ولا نجد في القرآن كله بيت عبادة ومتجه للصلوة إلّا الكعبة المشرفة ، تارة ك (أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) ـ وطبعا ليس للسكن ، فإنما للطواف حوله والصلاة تجاهه ـ وأخرى (مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) ومن مثابته : المقبل ، إقبالا إليه حجا له ، واستقبالا للصلاة إليه ، وثالثة يؤمر الخليل بتطهيره (لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) وهذه الثالثة المعبرة عن الصلاة تعم الصلاة فيه أم في المسجد الحرام ، ثم في المعمورة كلها ، ومن ثم الكون كله ، أن يستقبلوا البيت الطاهر عن قذارات خبيثة ، وعن الرجس من الأوثان.

ولا موقع ل «لنعلم» إلا في ظرف التحول عن الكعبة الى القدس دون

١٨٩

العكس فإنّه مرغوب لكل من أسلم ، والكبيرة إلّا على الذين هدى الله ليست إلا القدس المتحول إليها من الكعبة ، فهذه من اللمحات اللمعات كصراحة أن القدس هي ثاني القبلتين.

و «نعلم» هنا هي من العلم العلامة ، كما تشهد له وحدة المفعول وللعلم مفعولان اثنان (١) ف (الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) وهي القدس ، جعلناها قبلة بديلة عن القبلة الأصيلة ، ردحا مؤقتا في بداية العهد المدني (ما جَعَلْنَا إِلَّا لِنَعْلَمَ ...) علامة واقعية ظاهرة باهرة ل (مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) لى الله عليه وآله وسلم) حقا (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) جاهليا.

فلقد كانت العرب تعظّم البيت الحرام عربيا جاهليا ، ولمّا آمن منهم من آمن وكانت قبلتهم إسلاميا هي قبلة مجدهم القومي ، ولمّا يخلصوا ويتخلصوا عن آصرة القومية ، أراد الله منهم أن يتجردوا في قبلتهم ـ كما في كل شيء ـ إسلاميا ، تخليصا حثيثا من كل تعلقة بغير المنهج الإسلامي ، فابتلاهم في الفترة الأولى المدنية ـ وهم بين اليهود ـ أن يتحولوا إلى القدس (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) كرسول لا كعربي ، اتباعا مجردا من كل إيحاء غير إسلامي (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) صراحا أم نفاقا عارما من هؤلاء الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم ، أو لمّا ، فإن فيها رواسب من الجاهلية الجهلاء ، ليسوا ليستقبلوا قبلة اليهود ، تاركين بيت مجدهم القومي القديم! فإنه الآن على أشراف تأسيس دولة إسلامية ، لا تصلح لها إلا أعواد وأعضاد وأعماد صالحة ، خالصة عن كل نزعة غير إسلامية ، فليبتلوا بذلك البلاء العظيم ، ليعرف الغثّ من السمين والخائن من الأمين (وَإِنْ كانَتْ الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) «لكبيرة» ثقيلة (إِلَّا عَلَى

__________________

(١) في آيات عشر او تزيد نجد هذه الصيغة مصوغة من العلم لا العلم ، وفي الكل نجد مفعولا واحد لا يناسب العلم المتطلبة مفعولين ، فلا حاجة الى تعليلات عليلة لها.

١٩٠

الَّذِينَ هَدَى اللهُ) بما اهتدوا بهدى الله ، بعيدين عن كل هوى إلّا هوى الله وهدى الله ، و «إن ناسا ممن أسلم رجعوا فقالوا مرة هاهنا ومرة هاهنا» (١).

وهكذا تتجرد القلوب متخلصة من كل رواسب الجاهلية ووشائجها ، ومن كل سماتها القديمة ووصماتها ، ومن كل رغائبها الدفينة ، متعرية من كل رداء لبست في الجاهلية ولمّا تخلعها مهما ادعت خلعها ، فتنفرد هذه القلوب لشعار الإسلام وشعوره تاركة كلّ شعور وشعار لغير الإسلام.

إن العرب كانت تعتبر ـ ولا تزال ـ أن الكعبة المباركة هي بيت العرب المقدس ، والله يريد لها منهم ان تكون بيت الله المقدس «مثابة للناس وقياما للناس ـ (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) دون تميّز لقوم ، ولا تمييز بين عربي وأعجمي.

ومهما كان الانخلاع ـ وان مؤقتا ـ عن (أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) الذي رفع قواعده الخليل وعظّمه الجليل ـ مهما كان «كبيرة» لكنها على من لم يهدي الله (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ).

ثم وردّا على غيلة السفهاء من الناس ـ القائلة ـ : إذا فصلوات الذين صلّوا إلى الكعبة طيلة العهد المكي باطلة ـ إذا كانت القبلة هي القدس ـ أم وصلوات الذين صلوا إلى القدس باطلة حين حولت القبلة عنه إلى الكعبة المباركة ، وكما «قال رجال من المسلمين : وددنا لو علمنا من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة كيف بصلاتنا نحو بيت المقدس» فأنزل الله (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). ١٤٣

هنا تسمى الصلاة نحو القبلة الشرعية ـ كعبة أو قدسا ـ إيمانا ، لأنها

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٤٦ ـ اخرج ابن جرير عن ابن جريح قال : بلغني ان ناسا ...

١٩١

قاعدة الإيمان وعمود الدين ، وأنها كانت بنزعة الإيمان ، فالذين صلوا نحو القدس تركا لبيت مجدهم القديم لم يصلوا نحوه إلّا إيمانا بالله واحتراما لأمر الله ، بل وصلاتهم أقرب إلى الله زلفى ممن صلوا من قبل ومن بعد إلى المسجد الحرام ، فكيف يضيع الله إيمانهم وهو الذي أمرهم باستقبالهم نحو القدس (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) فهل إن علامة اتباع الرسول ضائعة عند الله؟! ... هنا (إِلَّا لِنَعْلَمَ) هي ثاني التأشيرات بعد (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ) تأييدا لكون القبلة المكية هي الكعبة المباركة ، حيث العلامة هذه تحصل في بداية الفترة المدنية ، دون حاجة الى هذه الطائلة المكية المزعومة بلا طائلة : أربعة عشر سنة ، فلو أنهم أمروا في العهد المكي باتجاه القدس ـ ولم تكن فيه يهود ليزدادوا ابتلاء بهم ـ لكان ذلك رادعا عن إسلامهم ، وهم قوم لدّ ليسوا ليؤمنوا بكل الجواذب والتبشيرات ، فكيف كان لهم ان يؤمنوا وهم يفاجئون في بزوغ الدعوة بترك القبلة المكية ، وما هو الداعي لتكون القبلة المكية هي القدس إلّا صدا عن دخولهم في دين الله بداية الدعوة؟ ثم ولم ينقل ولا مرة يتيمة أن جماعة من العرب امتنعوا عن الإسلام لأن قبلته متخلفة عن الكعبة المباركة ، ولا أنه كان يصلي إلى القدس في مكة متحولا عن الكعبة! ... ولو كانت القبلة في العهد المكي هي القدس لشملت قصتها الكتب وتواترت في الألسن ، ونقلت اعتراضات متواترة من عرب الحجاز على هذه القبلة!.

ثم وإن هوى أهل مكة كان في الكعبة فأراد الله ان يبين متبع محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) ممن خالفه باتباع القبلة التي كرهها ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمر بها (١) لا يشبه حديث الحق ، فإن مجال مخالفة

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١١٤ في كتاب الاحتجاج قيل يا ابن رسول الله فلم امر بالقبلة الاولى؟ فقال :لما قال عز وجل (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) وهي بيت المقدس (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ ـ

١٩٢

الهوى في شرعة الحق ـ وبهذه الصورة القاسية ـ ليس في غضون الدعوة التي تتطلب لينة وجاذبية لهؤلاء القوم اللّدّ! ، والبداية بقبلة القدس هي من أعضل المشاكل صدا عن دخولهم في دين الله!.

نعم قد يروى شطر قليل من العهدين لقبلة القدس أن صلينا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرا وصرفت القبلة الى الكعبة بعد دخوله الى المدينة بشهرين ... (١) وهو وسط بين الأمرين ، وفيه محنة لأهلي البلدين في العهدين.

هذا ـ وأما القبلة المدنية في بداية الهجرة فالجوّ اليهودي فيها كان يزيد ابتلاء لتحول القبلة إلى القدس ، فبرزوا بارزين من الناجحين في ذلك الامتحان العظيم كأعضاد للدولة الجديدة.

ثم لا معنى ل «لنعلم» في تحول القبلة ، إلا في تحولها عن الكعبة الى القدس ، حيث اتباع من اتبع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ليس علامة الإيمان إلا هنا ، وأما اتباعه في التحول الى الكعبة بعد القدس فهو رغبة المسلمين أجمع ، وحتى أهل الكتاب الذين اسلموا فضلا عن أهل الحرم!.

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا

__________________

ـ الرسول ممن ينقلب على عقبيه الا لنعلم ذلك منه وجودا بعد ان علمناه سيوجد ، وذلك ان هوى ... ولما كان هوى اهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها والتوجه الى الكعبة ليبين من يوافق محمدا فيما كرهه فهو يصدقه ويوافقه ... فعرف ان الله يتعبد بخلاف ما يريده المرء ليبتلي طاعته في مخالفة هواه ... أقول : تفسير «لنعلم» يشبه تفسير المتفلسفين ، ثم وسائر مواضيع الحديث يشبه التقاطات ملفقة بين حق وباطل.

(١) الدر المنثور ١ : ١٤٦ ـ اخرج ابن ماجة عن البراء قال صلينا.

١٩٣

الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) ١٤٤.

لقد بلغت محنة الامتحان في قبلة القدس لحدّ يتقلب وجه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في السماء ، نظرة الأمر بتحول القبلة الممتحن بها إلى القبلة الأصيلة التي يرضاها ، فمهما يرضى كلما يرضاها الله من قبلة ، ولكن الكعبة المباركة هي أوّل بيت وضع للناس مباركا وهدى للعالمين. فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وهي مثابة للناس وقيام ، فهذه جهة من رضاه بها ، وأخرى هي انتهاء أمد الابتلاء بقبلة القدس ، وثالثة ان اليهود يحتجون عليه وعلى المسلمين بهذه القبلة ، إذا ف «ترضاها» لا تعني إلّا مرضات الله ، إذ (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٧٦ : ٣٠) كما ولا تعني سخطه لقبلة القدس ، فإنما هو سخط لاستمرارية الحجة اليهودية على المسلمين ، زعزعة في إيمانهم ، وزحزحة عن إيقانهم وكما قال الله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ...) ثم «التقلب» دون «التقليب» تلمح أنه ما كان يقلّب وجهه ، وإنما يتقلب وجهه أتوماتيكيّا في السماء كما كانت تقتضيه الحالة الرسالية الأخيرة ، الناظرة للقبلة الأصيلة ... ثم (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) هي ثالثة التأشيرات لكون القبلة المكية هي الكعبة المباركة ، إذ كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبها منذ عرف نفسه ومنذ أرسل ، فهل كان يتقلب وجهه في السماء طيلة العهد المكي إضافة الى ردح من المدني : أربعة عشر سنة؟ وصيغته الصالحة «تقلبات وجهك» تدليلا على التكرار والاستمرار ، دون (تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) اللّامح إلى مرة يتيمة جديدة جادّة ، عرف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها أن الامتحان حاصل ، وأمر التحويل الى المسجد الحرام على الأشراف ، ولكنه لم يتفوه بدعائه واستدعائه لذلك التحول ، فإنما إشارة الانتظار بتقلب وجهه في سماء الوحي نظرة نزول رسول الوحي حاملا تحويل

١٩٤

القبلة ... (قَدْ نَرى ... فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) هي الكعبة المباركة التي أنا أرضاها ، بعد الفترة الابتلائية المدنية لقبلة القدس (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

كل ذلك يشي بتلك الرغبة القوية الرقيبة الظروف المؤاتية لتحول القبلة بعد ما كثر حجاج اليهود ولجاجهم ، إذ وجدوا في اتجاه المسلمين الى قبلتهم في تلك الفترة الخطيرة ، وسيلة للتمويه والتضليل والبلبلة والتجديل ، فأخيرا ـ ولما أحسن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) بخاتمة البلية ، أصبح يقلب وجهه في السماء ، دون أن يصرح بدعاء (١) حرمة لأمر ربه على إمره ، وتحرجا من اقتراح مبكّر ليس في وقته ، فأجابه ربه فور تقلب وجهه (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ...) (٢) ولقد أمر بتلك التولية وهو يصلي في المسجد المسمى لذلك ب «القبلتين» (٣).

__________________

(١)نور الثقلين ١ : ١١٤ في تهذيب الأحكام الطاطري عن محمد بن أبي حمزة عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن قوله عز وجل (وَما جَعَلْنَا ...) أمره به؟ قال : نعم ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان يقلب وجهه الى السماء فعلم الله عز وجلّ ما في نفسه فقال : (قَدْ نَرى ...).

(٢) فالروايات القائلة انه دعى مقترحا بوسيط ملك الوحي ترجع الى رواتها ، كما يروى عن الامام العسكري (عليه السلام) ... وجعل قوم من مردة اليهود يقولون : والله ما ندري محمد كيف يصلي حتى صار يتوجه الى قبلتنا ويأخذ في صلوته بهدينا ونسكنا واشتد ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما اتصل به عنهم وكره قبلتهم وأحب الكعبة فجاء جبرئيل فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يا جبرئيل لوددت لو صرفني الله عن بيت المقدس الى الكعبة فقد تأذيت بما يتصل بي من قبل اليهود من قبلهم ، فقال جبرئيل (عليه السلام) فاسأل ربك ان يحولك إليها فانه لا يردك عن طلبتك ولا يخيبك من بغيتك ، فلما استتم دعائه صعد جبرئيل ثم عاد من ساعته فقال اقرء يا محمد (قَدْ نَرى ...).

وفي المجمع عن القمي عن الصادق (عليه السلام) : ... ثم وجهه الله الى مكة وذلك ان اليهود ـ

١٩٥

(فَوَلِّ وَجْهَكَ) عن القبلة المؤقتة الابتلائية (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) كأمر يختصه تشريفا لسماحته وتعظيما لساحته ، ثم أمر يعم المسلمين كافة : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فما هو الشطر القبلة هنا ، وهل هو قبلة ـ فقط ـ للنائين ، أم وللقريبين إلى المسجد الحرام ، أم والكائنين فيه أمام الكعبة المباركة؟.

الشطر ـ لغويا ـ هو نصف الشيء ووسطه ، وهو نحو الشيء (١) وجهته ، وهو بعده ، ويجمعهما جانب الشيء إما بجنبه داخليا وهو نصفه ، أم خارجيا وهو نحوه بعيدا عنه. فهل هو بعد : البعض؟ ولم تأت في اللغة كبعض! والمعنى ـ إذا ـ بعض المسجد الحرام ، فتراه أيّ بعض هو؟ أهو أي بعض منه؟ وتعبيره الصحيح (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) دون شطره ، أم شطرا من المسجد الحرام ، فان (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يعني شطرا خاصا منه! ، ثم

__________________

ـ كانوا يعيّرون على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقولون : أنت تابع لنا تصلي الى قبلتنا فاغتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك غما شديدا وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من الله في ذلك أمرا فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم وقد صلى من الظهر ركعتين فنزل جبرئيل (عليه السلام) فأخذ بعضديه وحوّله الى الكعبة وانزل عليه (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ...) فكان قد صلى ركعتين الى بيت المقدس وركعتين الى الكعبة فقالت اليهود والسفهاء (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها).

(٣) وفي نور الثقلين ١ : ١١٤ عن أحدهما في حديث القبلة قال : ان بني عبد الأشهل أتوهم وهم في الصلاة وقد صلوا ركعتين الى بيت المقدس فقيل لهم ان نبيكم قد صرف إلى الكعبة فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء ، وصلوا الركعتين الباقيتين الى الكعبة فصلوا صلاة واحدة الى قبلتين فلذلك سمي مسجدهم مسجد القبلتين.

(١) عن تفسير النعماني باسناده عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) في الآية قال : معنى شطره نحوه ...

١٩٦

الشطر العام هو طبيعة الحال لمستقبله ، إذ لا يمكن لأي أحد أن يستقبل كل المسجد الحرام!.

أم هو شطر خاص ولا أخص من الكعبة؟ فلما ذا ـ إذا ـ شطر المسجد الحرام دون «الكعبة» وهي أصل القبلة! ثم وعين الكعبة لا يمكن أن تكون هي القبلة للنائي!.

أم هو نصف المسجد الحرام؟ فهل هو أيّ نصف منه؟ فلما ذا ـ إذا ـ نصفه لا نفسه حيث تعني أي نصف منه ثم وتعبيره الصحيح «شطرا من المسجد الحرام» ثم وكيف يولي وجهه نصفه؟ ولا يولّى إلّا جزءه قدر الوجه لو أمكن! ثم لا يتمكن البعيد أن يولي وجهه لا نصفه ولا بعضه! ... أم هو منتصفه «الكعبة» وهو غير النصف! ثم صالح التعبير عنه «الكعبة» دون منتصف المسجد الحرام ، ثم ونفس الكعبة لا يمكن أن تكون قبلة النائين!.

أم هو نحوه وجانبه؟ وذلك هو الصحيح ، وتعبيره ذلك الفصيح! فليس بإمكان النائي أن يولي وجهه إلّا نحوه حيث يسع بين المشرق والمغرب وكما في الأثر المستفيض «بين المشرق والمغرب قبلة».

و (حَيْثُ ما كُنْتُمْ) يعني خارج الحرم ، أم ـ وبأحرى ـ خارج مكة ، والسند (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) يعني من مكة ، وليس (حَيْثُ ما كُنْتُمْ ...) تكرارا ، حيث الأول خطاب لخصوص الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقد يظنّ ان حكمه يخصه ، والثاني يعم عامة المسلمين ، ثم «فول» لا تدل على ان القبلة هي (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أينما كانوا و (حَيْثُ ما كُنْتُمْ) تصريحة لشمولية الجهات ، ثم الوجه ـ وهو ما يواجه أو يواجه ـ هو بأقل تقديره ثلث الدائرة ، فالوجه المولّى وشطر المسجد الحرام المولى إليه ، هما يصدّقان «بين

١٩٧

المشرق والمغرب قبلة» والكل مصدّق ب (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).

ثم الوجه هنا لا يخص خصوص الوجه ، بل وكل مقاديم البدن ، فلتوجّه كلها نحو المسجد الحرام ، فان للوجه وجوها حسب المولّى إياه ، فوجه القرائة هو البصر ، ووجه الوضوء هو كل الوجه ، ووجه الاتجاه لجهة سفرا أو صلاة هو كل وجوه البدن ، اللهم إلّا اليد فإنها لا وجه لها ، أم لا وجه لتوجيه وجهها المسجد الحرام.

وليست هذه التوسعة إلّا رعاية للسعة في الاتجاه نحو الكعبة المباركة ، فالمتمكن لاستقبال عين الكعبة يستقبلها ، ثم المتمكن لاستقبال المسجد الحرام يستقبله ، ومن ثم استقبال شطر المسجد الحرام ، المحدّد بما بين المشرق والمغرب باتجاه الجنوب من كل أنحاء الكرة الأرضية ، كما وأن الكرة الأرضية ككل هي (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) لسكان سائر الكرات!.

وهذه طبيعة الحال في زاوية الاتجاه الى قبلة وسواها ، فكلما ابتعد مكان الاتجاه عنها انفرجت زاويتها لحدّ يصدق أن «ما بين المشرق والمغرب قبلة» وهي الزاوية المنفرجة حسب انفراج المستقبل بعدا عن القبلة.

ف (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وهو ناحيته وجهته ، ليس له حدّ خاص ، بل هو حسب بعد الجهة يتشطر أكثر ، كما في قربها تنقلب منفرجة الزاوية الى قائمة والى حادة ، وكل ذلك حسب امكانية الاتجاه كالعادة المستمرة ، مهما هندست واجهة القبلة في عصر العلم بما يقرب شطر المسجد الحرام ، إلّا أن رعاية الجهة المهندسة ثابتة شرط ألّا يكون عسر أو حرج.

ومن لطيف أمر السعة في القبلة إضافة سعة الوجه للمستقبل الى سعة المواجهة للقبلة ، فالوجه هو ثلث الدائرة ، وشطر المسجد الحرام هو الجهة التي

١٩٨

فيها المسجد الحرام ، فالاتجاه بجزء من الوجه في زاوية قدرها (٦٠) درجة ، نحو المسجد الحرام كلما صدق عليه زاوية الاتجاه ، ذلك هو فرض النائي ، والنتيجة كما في المستفيضة «ما بين المشرق والمغرب قبلة» يعني جهة الجنوب وهي قرابة تسعين درجة ، خارجا عن نقطة الشرق والغرب ، ما صدق أنه جهة الجنوب.

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (١٤٤).

(أَنَّهُ الْحَقُّ) علّه (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) كقبلة ، وبأحرى الكعبة المباركة كقلب القبلة ، أم وهو الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) لسابق ذكره ، إذا فقبلته حقّ ضمن رسالته ، أم هما معنيان على البدل والأصل هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتراهم كيف يعلمون أنه الحق من ربهم؟ قد تعني أن السنة الكتابية هي النسخ ابتلاء وتدريبا ، فكما أن سائر كتابات السماء فيها نسخ ما قل أو كثر ، فليكن كذلك القرآن! ، أم إن معرفة كتابات الوحي تحمل على تصديق القرآن كواحد منها لأقل تقدير ، فليصدّق ـ من ضمنه ـ البيت كقبلة!.

أم ولأن في هذه الكتابات تأشيرات أم تصريحات بالكعبة المباركة كقبلة إسلامية أم وأممية إلّا شطرات في تاريخ الرسالات.

ومنها ما في (أشعياء ٥٦ : ٨) حسب الأصل العبراني : «كي بيتي بيت تفيلا ييقارء لخال هاعميم» «بيتي بيت صلاة يدعى لجميع الشعوب».

مع العلم ان «بيتي» صيغة خاصة للكعبة المباركة ، ولم تستعمل بهذا الإختصاص إلّا فيها.

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ

١٩٩

قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١٤٥).

(الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) تعم كافة اهل الكتاب في الرسالات الكتابية على مدار الزمن ، فالانحيازات الكتابية ـ ككلّ ـ من جهة ـ إلّا من آمن ـ

والعنصرية الإسرائيلية بوجه خاص ، ثم الطائفية الكتابية في الرسالة الإسرائيلية بوجع عام ، هما من الموانع لأن يتبعوا قبلتك ـ إلّا قليلا منهم ـ وان أتيتهم بكل آية بينة ، ثم (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) سنادا إلى حجة الوحي الصارم ، وقبلة القدس المؤقتة لم تكن متبوعة لك كقبلة يهودية ، وانما «لنعلم ...» وليعلم أهل الكتاب انك لست جامدا على قبلة عنصرية أم طائفية ف (ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) تنفي هذه التبعية بأمر الله ـ فضلا عن سواه ـ من الحال حتى آخر زمن التكليف ، فهي عبارة أخرى عن انها ـ بعد ـ لا تنسخ ، قطعا لآمال أهل الكتاب ، وصدا عما يخلد بخلد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من التحول الى قبلة القدس تقريبا لأهلها الى الإسلام.

ذلك! وكما نفت ـ عما سلف من قبلة القدس ـ إتباعه لها لمجرد هوى أهلها ، فانه اتباع لأمر الله في مصلحة وقتية ، ثم هنا مقابلة بين حق القبلة وباطلها ، فهم (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) سلبا باطلا (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) سلبا حقا.

ثم وكيف بالإمكان اتباع قبلتهم وهي بين القدس والمشرق ، فاتباع كلّ رفض للآخر ، فليترك اتباع الأهواء المختلفة ـ المستحيل تحقيقها ـ إلى اتباع هدى الله.

ثم (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) فالبعض اليهود مستقبلون القدس على طول الخط دون تحول الى شرق المسيحي ، والبعض المسيحي مستقبلون الشرق

٢٠٠