الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٨

الى ٢٤ ، ف ١٢ عند خط الإستواء ، و ٢٤ عند الدائرة القطبية ، ثم تأخذ في الزيادة في الدائرة القطبية من ١٢ ساعة الى ٢٤ وإلى شهر فشهرين إلى ستة أشهر ، وأعجب باختلاف زمنيّ بين نصف ساعة وستة أشهر!.

كما والسنة كلها حاضرة الفصول الأربعة في مختلف أيامها ، فالصيف في الشمال كمصر وأوروبّا شتاء عند أهل الجنوب ك «ناتال».

وكل ساعات الليل والنهار كائنة حاضرة في كل الساعات حسب مختلف الآفاق في كرتنا الأرضية ، فالصباح عندنا مساء عند آخرين وليل عند ثالث وفجر عند رابع وهكذا سائر الأوقات ، قضية الكروية لأرضنا ، واختلاف أنحاء الأرض قربا وبعدا.

اختلافات ثلاث منضّدة منتظمة ، فأصل حدوث كلّ بعد الآخر دليل على محدثهما ، ونضد المحدث دون تفاوت وتهافت دليل وحدة المحدث ، سبحان الخلاق العظيم.

ذلك! وإن توالي الإشراق والعتمة ـ فذلك الفجر وذلك الغروب ـ يعتز له المشاعر الحيّة ، والقلوب النابهة ، مهما فقد الإنسان وهلتها وروعتها مع التكرار ، ولكن القلب المؤمن تتجدد في حسّه هذه المشاهد ، ويظل دائبا في ذكر الله بهذه الآيات المكرورة.

٣ (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) فان جريانها هو برياح مسخّرة بين الأرض والسماء ، ام وبطاقات أخرى كشف عنها العلم وكلّ ذلك من نعم الرحمن (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٥ : ٢٤). ولو أن هناك آلهة دون الله لكانت هناك رياح متضاربة متطاحنة كلّ تحمل إلى جانب ، لكن (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ

٢٦١

مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٠ : ٢٢).

فجري الفلك في البحر آية ، واتجاه القلب في أعماق الفطرة الى ربوبية وحيدة في خضم البحر الملتطم ـ شئت أم أبيت ـ آية (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) (١٧ : ٦٨).

٤ (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ففي ضم ميت الماء بميت الأرض بما فيها من ميت الحبوب ، نرى في مثلث الميتات حياة ، سبحان الخلاق العظيم.

٥ (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) ومهما كان ضمير التأنيث في «فيها» راجعا إلى الأرض مبدئيا كظاهر التعبير لتقدم الأرض ، ولكنه راجع ـ أيضا ـ إلى السماوات لسبق ذكرها ، ولأن (مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (٤٢ : ٢٩).

فخلق الدواب وبثّها دون تهافت وتفاوت آية لقوم يعقلون أنهما من إله واحد.

٦ (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ ...) و «الرياح» جمعا هي في سائر القرآن رياح الرحمة ، والريح ـ إلّا الموصوفة بالطيبة ـ هي ريح العذاب ، وما هبت ريح قط إلّا جثا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) على ركبتيه وقال : «اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا ، اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٦٥ ـ اخرج الشافعي وابو الشيخ والبيهقي في المعرفة عن ابن عباس قال : ... قال ابن عباس : والله ان تفسير ذلك في كتاب الله : أرسلنا عليهم ريحا صرصرا ...

٢٦٢

فهناك أرياح خبيثة يعبّر عنها بصيغة الإفراد (رِيحٍ فِيها صِرٌّ) (٣ : ١٢٧) (رِيحٌ عاصِفٌ) (١٠ : ٢٢) «ريح قاصف» (١٧ : ٦٩) (الرِّيحَ الْعَقِيمَ) (٥١ : ٤٢) (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) (٦٩ : ٦) (رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) (٣٠ : ٥١) اللهم إلّا (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) (١٠ : ٢٤) لو لا وصفها لكانت خبيثة ، فهذه ستة.

ثم رياح بصيغة الجمع كلها طيبة كما هنا (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) و (هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (٧ : ٥٧) (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) (١٥ : ٢٢) (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) (٣٥ : ٩) وهذه أربعة.

وتلك ـ إذا ـ عشرة كاملة من الرياح بين خبيثة وطيبة ، كلها ـ فيما أراد الله ـ طيبة ، ف «الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فلا تسبّوها وسئلوا الله من خيرها وعوذوا بالله من شرها» (١).

ولو أن هناك مصرّفين للريح والرياح لتفاوت التدبير والتقدير ، و (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ).

ومن عجائب الرياح انها تحصل وتفعل ما تفعل بين الأرض و/ ١٦٠٠٠ ذراعا فوقها ، والأغلب في تحصّلها أن الأشعة الضوئية الواقعة من الشمس على

__________________

ـ فأرسلنا عليهم الريح العقيم ... أرسلنا الرياح لواقح ، وأرسلنا الرياح مبشرات.

أقول : وهكذا نجد في القرآن كما في آيات الرياح العشر.

(١) المصدر ـ أخرج الشافعي وابن أبي شيبة واحمد وابو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي في سننه عن أبي هريرة قال : أخذت لنا الريح بطريق مكة وعمر حاج فاشتدت فقال عمر لمن حوله ما بلغكم في الريح؟ فقلت : سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ... وفيه عن ابن عباس ان رجلا لعن الريح فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا تلعن الريح فانها مأمورة وانه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه.

٢٦٣

الهواء تتبدل حرارة ، فتعرضها خفة قضية الحرارة ، فلا يستطيع الهواء على حمل ما يعلوها أو يجاورها من بارد الهواء الثقيل ، فيتساقط على الحار الخفيف ، فيجري الخفيف ـ إذا ـ إلى خلاف سمت الدفع ، وهذه هي الأغلب في ظاهرة الرياح.

٧ (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) والسحاب هو المسحوب من أبخرة الأرض ، حيث تركم وتمطر (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) وقد يعبّر عنه بالمزن والمعصر ، ولكن الغمام ما ليس فيه ماء ويحسبه الناظر سحابا.

ففي خلق السحاب بين السماء والأرض ، وإرسالها بصورة منظمة دون فوضى أم تهافت دليل أن صاحبها الساحب لها المطر بها إله واحد ، سبحان الخلاق العظيم.

فترى هذه السبع مؤتلفة متآلفة غير متخالفة وأن فيها (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) عقل فطرة وفكرة ، وعقل إحساس وعلم لو كانوا يعقلون.

فلو أن الإنسان ألقى إلى عقله عقليته ، وألغى عنه بلادة الغفلة وكرور الألفة ، فاستقبل مشاهد الكون بإحساسات متجددة جادّة ، ونظرات مستطلعة مستعلية على نزوات ، كالرائد الذي يهبط إلى الكون أوّل مرة ، فتلفت عينه كل ومضة ، وسمعه كلّ نأمة ، وحسّه كلّ حركة ، وتهز كيانه تلك الأعاجيب التي تتوالى كدائرة الشريطات على الأسماع والأبصار فالقلوب ، سبحان الله مقلب القلوب.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) ١٦٥.

٢٦٤

الأنداد هم الأمثال الأضداد ، أمثال في الألوهية بعضا أو كلا فأضداد في شؤون الألوهية كلّا أو بعضا ، و «يتخذ» هنا ، لا سيما بعد (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) لمحة صارحة أن لا أنداد لله ذاتيا أو متخذة من عند الله ، وإنما (مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) كما وان تنوين التنكير تهوين لمكانة هؤلاء الأنداد.

وقد يخرج من الأنداد الأولياء المعبودون من دون الله إذ هم ليسوا بأضداد لله ، مهما اتخذوا أندادا.

وهنا تنديد شديد بمن يتخذون من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله «فما ذا تعني كحب الله؟» هل هو كحبهم الله؟ ونراهم يحبون أندادهم أكثر مما يحبون الله ، بل وقد لا يحبون الله! أم هو كحب المؤمنين الله؟ (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) تلمح بأشدها أن هؤلاء الأنداد يحبون الله كما يحبون أندادهم! أم كحب يليق بالله وهو توحيد الحب إلهيّا ، وقد تعني (كَحُبِّ اللهِ) ككلّ المحتملات الثلاث ، أنهم يحبون أندادهم كحبهم الله ، أو كحب المؤمنين الله ، أو كحب يليق بالله ، وكل هؤلاء على دركاتهم تشملهم (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ).

ثم (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) تعني انهم أشد حبا له منهم لله أو لآلهتهم ، لأنهم يوحدون حبهم لله وهؤلاء يقتسمونه بين أندادهم ، وقد يحبون معهم الله ، مهما كان الأشد لا يشمل الملحدين الذين لا يحبون الله حتى يكون حب المؤمنين أشد منهم ، أو يحبونهم كحبهم لله في أصل الحب إلهيا حيث يحبونهم كآلهة كما المؤمنون يحبون الله لأنه الله ، مهما اختلفت درجات الحب عندهم تسوية بين الله والأنداد ، أم ترجيحا لها عليه ، ولكن (الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) إذ لا يشركون في حبهم بالله أحدا كما لا يشركون بالله.

٢٦٥

فكما يجب توحيد الله في كافة ميّزات الألوهية والربوبية ، كذلك توحيده في حبه ، ألّا يساوى ولا يسامى في الحب بسواه ، لا كإله وان في ذرة مثقال ، ولا كمحبوب سواه اللهم إلّا حبا في الله فانه قضية حب الله : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ...) (٣ : ٣١).

والحب الأشد من حبهم ـ للمؤمنين ـ ذو بعدين اثنين : أشد من حبهم لله ، وأشد من حبهم لأندادهم ، فان ذلك حب موحّد خالص دون أيّ شريك وهذا حب فيه شركاء أو شريك ، فقضية الإيمان الموحّد هي الحب الأشد الموحّد لله ، لحدّ لا يبقي مجالا لحب غير الله كإله ولا سواه.

وحين يندّد بمؤمنين ساقطين يحبون غير الله أحب من الله ، فليس القصد منه هو الحبّ الإيماني ، بل حبا عمليا أنهم يعاملون غير الله كأحب من الله ، غفلة أو تغافلا عن حب الله : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٩ : ٢٤).

فإنهم لا يحبون هؤلاء ـ إذ يحبونهم ـ كأنداد لله فانه إشراك بالله ، بل كأحباء اعتياديين قضية العواطف والمصلحيات البشرية الحاضرة ، التي قد يغيب معها حب الله المتفوق عليها ، وذلك فسق في الحب وليس كفرا فيه.

وحب من سوى الله بين ممنوع وممنوح ، فالأوّل هو حب الأنداد وهو إشراك بالله ، وبعده حب أهل الله كما تحب الله ـ على سواه ـ دون إشراك لهم بالله ولا تأليه ، وهو يتلو الإشراك بالله ، ومن ثم حب من لا يحبه الله لا كإله ولا كأهل الله ، وهو تخلّف عن شرعة الحب في الله.

والثاني هو حب الله والحب في الله ، ثم التسوية في حب أهل الله على

٢٦٦

اختلاف درجاتهم ضلال ، كأن تحب سلمان كما تحب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في درجة واحدة ، إفراطا بحق سلمان وتفريطا بحق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكما الذين «اتخذوهم أئمة من دون الإمام الذي جعله الله للناس اماما» (١) قد اتخذوا لهم أندادا يحبونهم كما هم ، فكفر الحب وإلحاده أن تحب غير الله ولا تحب الله ، وإشراكه تأليها أن تحب من دون الله أندادا كحب الله ، وفسقه ـ دون تأكيد ـ أن تسوي في الحب بين الله وأهل الله ، أم أن تحبهم أقل منه استقلالا بجنبه ، وإيمان الحب أن توحد حبك لله كإله مهما تحب سواه ، وأعلى منه ألّا تحب سواه إلّا في الله ، وقمته أن تصبح بكل كيانك حبا لله.

إن دوافع الحب الموحد الأصيل لله حاضرة حاصرة ، وهي في حب غير الله كما الله غائبة خاسرة حاسرة ، فبصيغة واحدة حب غير الله لا في الله إشراك في شرعة الحب بالله مهما اختلفت دركاته ، فمطلق الكمال ـ أيا كان ـ محبوب فطريا وعقليا ، فضلا عن الكمال المطلق وهو الله تعالى شأنه فكيف نحب من سواه كما نحبه؟.

ومطلق المنعم ـ أيا كان ـ محبوب كذلك ، فضلا عن المنعم المطلق وهو الله تعالى شأنه ، ومطلق العلم والقدرة أما شابه من كمال محبوب ، فضلا عن العالم القدير اللّانهائي في كل كمال مرغوب وهو الله تعالى شأنه.

وقد خرف وهرف وانحرف من تقوّل ألّا يمكن حب الله ، اللهم إلّا حبا

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٥١ في اصول الكافي بسند عن جابر قال : سألت أبا جعفر (عليهما السلام) عن هذه الآية قال : «هم والله فلان وفلان اتخذوهم ... هم والله يا جابر أئمة الظلمة وأشياعهم» أقول : هذا من باب الجري والتأويل الى مصداق ادنى ، فان حرمة التسوية بين غير المتساوين جارية على كل حال.

٢٦٧

لنعمه وإكرامه ومن عباد الله من يحبونه لأنه الله ، لا طمعا في جنته ولا خوفا من ناره.

والحب هو أول تعلق فطري بين المنعم ومنعمه ، وله درجات حسب درجات النعمة والمنعم والمعرفة به (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) هم درجات في ذلك الأشد لحد الشغف ، ألّا يبقى في قلبه وفي كلّ كيانه الّا حب الله أمّن يحب الله طول حب الله وطوله ، بحوله تعالى وقوله ، وإنهم تجسّد لحب الله وكأنهم هم حب الله ، لا كون لهم ولا كيان إلا حب الله وطاعته ، وأفضلهم رسول الله محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) فانه أوّل العابدين والعارفين بالله ، ومن أسماءه الحبيبة «حبيب الله» وهو أفضل أسماءه وسماته كما «الله» أفضل أسماء الله.

وترى «أندادا» هنا هي كل ما سوى الله من أوثان وطواغيت؟ ولا مرجع لضمير العاقل في «يحبونهم» إلّا ذووا العقول الذين قد اتخذ وامن دون الله أندادا! ولا يعقل حب الأصنام كحب الله! ولا أن الأصنام متبعون مهما هم معبودون ، وهنا تبرء (الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) إذا فهم كل من يعبد من دون الله اللهم إلّا الصالحين إذ ليسوا اضدادا لله مهما اتّخذ واله شركاء ، ولا هم متّبعون إذ لا يدعون إلى أنفسهم.

ومن أندّ الأنداد وألدّها الهوى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) وقال (صلّى الله عليه وآله وسلم): «أبغض إله عبد في الأرض الهوى»! فمن يحب هواه كما يحب الله ، حبا لها كإله أم سواه ، فقد ضل عن شرعة الحب مهما اختلفت دركاته إشراكا بالله وفسقا عن شرعة الله.

وقضية حب الإنسان نفسه أن يحب ربه المستكمل لها الخالق إياها ، فليحب نفسه إذا أحبها الله حبّا في الله ، وليبغضها إذا أبغضها الله بغضا في

٢٦٨

الله ، وليقدّر نفسه متعلقة ـ ككل ـ بالله يروضها بتقوى الله ، ويمحور الله بمرضاته في حياته كلها دون سواه ، وهذا هو من حق توحيد الله.

حب كل شيء راجع الى حب النفس ، وليرجع حب النفس إلى حب الله ، لا ان يحب الله لأنه من حب النفس ، بل يحب نفسه لأنه من حب الله ، موحدا في الحب دون إشراك بالله حتى نفسه على إيمانه ، فضلا عنها على كفره وإشراكه!.

كلّ منا يحول في كل حياته حول نفسه في كل حركاته الآفاقية والأنفسية ، ولتكن نفسه طائفة حول ربه ، فهو في كل حركاته وسكناته الحائرة فيها حور نفسه ، حائر في العمق حور ربّه ، لا يبتغي إلا مرضاته ، تطوافا على طول خط الحياة بخطوطها وخيوطها حول ربه ، حولا معرفيا وحبّيا وعمليا ، مبتعدا عن كل محور سوى الله حتى نفسه المؤمنة بالله ، وذلك هو التوحيد الحق.

وللحب مراحل خمس هي الود والعشق والهيمان والخلة والشغف والخامسة هي البالغة مبالغ الحق ومراحلها إذ بلغت شغاف القلب ولبه وفؤاده.

إن حب الشغف والخلة هما المعتمد عليهما في شرعة الحب ، أن ليس معلّلا بما يرجع الى منتفعات النفس أو الابتعاد عن مضارها فإنهما حب العبيد والتجار ، وذلك الحب غير المعلّل هو حب الأحرار ، أن تحب الله لأنه الله ، لا ـ فقط ـ لأنه الرحمن الرحيم ، بل لأنه الكمال والجمال والجلال اللانهائي ، وهو المحبوب فطريا دون سبب إلّا هو ، فانه هو حظه ذاتيا ، فكما الإنسان يحب نفسه لأنه هو ، فليحب ربه لأنه أكمل مما هو ، بل وهو بكل ما له ومنه ، يكون منه ، فلا محبوب له ـ إذا ـ إلّا هو.

إذا فذات الله عين حظه ، ثم ذوات أخرى محبوبة لله هي على الهامش ، حبا في الله ولله لا سواه ، وذلك الحب لا يتغير إلّا تقدما كما الله لا يتغير ، وأما

٢٦٩

الحب المعلّل فهو متغير بتغير أسبابه أمام صفات الجمال والجلال للحق المتعال.

(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) ١٦٥.

«لو» هنا في موقف التحسر ومسرح التأثر التكسّر للذين ظلموا في شرعة الحب ، ف «لو» مدوا بأبصارهم الى مسرح العذاب ومصرح القوة لله جميعا ، و «لو» تطلعوا ببصائرهم إلى حين يرون العذاب ، لرأوا حينذاك (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) دون سواه ، ورأوا (أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ).

لو يرون ذلك المسرح المصرح ، الحاسم الموقف ، القاصم الظهر ، لانتبهوا عن غفوتهم ولكن لا حياة لمن تنادي! ... لو يرون.

(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) ١٦٦.

اجل (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (٢٩ : ٢٥) (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) (٧ : ٣٨) (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٤٣ : ٦٧) ، بل ورأس الأنداد ورئيسهم إبليس يتبرأ من تابعيه : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) (١٤ : ٢٢)! فهناك ويلات الحسرات للذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله.

فهنالك الأسباب بينهم كلها متقطعة بهم ، إذ ينشغل كلّ بنفسه عن سواه ، وتسقط كافة الصّلات غير الأصيلات ، اللهم إلّا صلة التقوى ، وظهرت أكذوبات الأنداد وكل القيادات الضالة وخوت ، وهنالك يتحسر التابعون :

(وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ

٢٧٠

اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) ١٦٧.

أتراهم ليس لهم ان يتبرأوا منهم هناك كما تبرأوا منهم حتى هم ناظرون (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً ...)؟ نعم! ولكن لا يفيدهم ـ فقط ـ التبرؤ منهم هناك ، وإنما هو التبرّؤ في حياة التكليف : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ...).

«كذلك» البعيد المدى ، العميقة الأسى (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) رؤية لملكوت أعمالهم ، التي هي جزاءهم يوم الحساب ف (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : ـ (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ...).

(وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) ما دامت النار ، وأما إذ لا نار ولا أهل نار ، فما هو ـ إذا ـ بخروج عن النار ، وإنما خروج عن الحياة بخروج النار عن حياتها! ، فلا تدل ـ إذا ـ على البقاء اللّامحدود في النار ، وإنما الخلود الأبدي فيها ، انهم في النار ما دامت النار.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ

٢٧١

كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦))

٢٧٢

بعد ما بينّ الله حق وحدة الألوهية ووحدة الحب إليها لنفسه ، هنا يقرر حق التشريع له وحده ، مناحرا لما كان يفعله المشركون من تحليل او تحريم لا يرجع الى دليل :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ١٦٨.

الحلال فعال من الحلّ والحلّ مقابل العقد ، فالشيء غير المعقود ولا المحظور حلال ، سواء سبقه عقد الحظر أم لم يسبقه ، وليس للمأكول مما في الأرض سابق حظر كأصل ، إلّا انه لله ، فلا يحل اكله إلّا بمرضات الله ، وهو يحله في أمثال هذه الآية كأصل وضابطة عامة تحلّ الحظر عما يؤكل.

والطيب ـ هنا ـ هو كل ما تستطيبه النفس أكلا ، وطبعا النفس الباقية على الطبع الإنساني الأولى ، دون المنحرف عنه ، المنجرف الى دركات الحيونة الوحشية التي تستطيب أكل كل ما يمكن ابتلاعه ، مهما كان حشرة ، كما في الطباع الأوروبية المنحرفة عن إنسانيتها.

ثم هي النفوس ككل ، دون كل نفس ، فقد يستطاب أكل شيء عند أشخاص خصوص متخلفة عن الجماهير ، ام يستقذر كذلك ، والمعيار هو الاستطابة الجماهيرية بالطباع الأوّلية ، حيث الأحكام الشرعية يراعي في تشريعها جمهرة الناس دون الخواص.

أترى (مِمَّا فِي الْأَرْضِ) تبعيض لمأكولات الأرض ، أن : كلوا بعض المأكولات ، ثم (حَلالاً طَيِّباً) بيان لذلك البعض؟ فهما ـ إذا ـ حالان ل (مِمَّا فِي الْأَرْضِ) ام مفعولان ل «كلوا»؟ فالآية ـ إذا ـ مجملة بالنسبة ل «حلالا» إذ لم يبين الحلال مهما عرف «طيبا» بما تعرفناه!.

٢٧٣

فلنعرف خصوص الحلال مما في الأرض ، الطيب ، حتى يسمح لنا أكله ، فحين نشك في حلّه الخاص لا يحل أكله ، وهذه هي أصالة الحظر ، المطرودة بنصوص كقوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٣ : ٢٩) وقد تنافي ـ أيضا ـ سماحة هذه الشرعة وسهولتها!.

أم إن (مِمَّا فِي الْأَرْضِ) تبعيض لما في الأرض ، فان منه مأكولا ومنه غير مأكول ، ولم يقيد النص (مِمَّا فِي الْأَرْضِ) بالمأكول ، حتى يبعّض بأداته ، فمطلق النص (مِمَّا فِي الْأَرْضِ) يشمل كل ما في الأرض ، ثم «من» تبعّضه بالبعض المأكول.

إذا ف (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) سماح عام لأكل كلّ ما يؤكل ، فهل إن (حَلالاً طَيِّباً) هما مفعولان ل (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) تقييدا لسماح الأكل؟ فكذلك الأمر! حيث الآية ـ إذا ـ مجملة في الحلّ ، ثم (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) دون قيد الحل ، و (إِنَّما حَرَّمَ ...) الحاصرة الحرمة فيما حصرت مهما كان نسبيّا هما لا تساعدان على أصالة الحظر ، أم إجمال الآية في الحلّ!.

أم انهما حالان ل (مِمَّا فِي الْأَرْضِ) كما ل «كلوا» كلوا أكلا حلالا طيبا ، مما في الأرض حلالا طيبا ، حلّا عاما كضابطة لأصل الجواز ، وطيبا تقييد لذلك الحل كأوّل ما يقيد الأكل والمأكول ، وكما تؤيده (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ...) إذا في «حلالا» حال لواقع الأكل والمأكول على أية حال ، ثم «طيبا» حال ثان او وصف تقييدي ل «حلالا» يخرجه عن إطلاق الحلّ ، ام إن «طيبا» لها دور «حلالا» بيانا لأصالة الطيب ، ألّا يسمح باستقذار مأكول مما في الأرض إلّا ما ترفضه الطباع الإنسانية ، فتصبح «طيبا» أوسع مجالا مما كان تقييدا ، إذا فيكفي في حلّ المأكول عدم استقذاره نوعيا واقعيا ، لا واستطابته كذلك.

٢٧٤

وقد يقيد الأكل عن حلّه العام بعد طيبا ب (ما رَزَقْناكُمْ) و (مِمَّا غَنِمْتُمْ) : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) (٨ : ٦٩) (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) (١٦: ١١٤) تقييدا للحل بكونه مما ملكته من مشروعه : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) (٤ : ٢٩).

إذا فكل مأكول طيّب يحل أكله بغير باطل ، كضابطة عامة ، إلّا ما استثني من حل الأكل مادة او مدة ، كما او كيفا ، فالمشكوك جواز أكله داخل في ضابطة الحل إلّا ما ثبت الحظر عنه بدليل من كتاب أو سنة.

ومن القيود العامة لحل الأكل في آيتنا (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) وكخطوة الإسراف والتبذير فإنهما من الشيطان ، وخطوة التحريم لغير المحظور أكله والتحليل للمحظور أكله ، وكخطوة أصالة الحظر ، مهما اختلفت هذه الدركات في الخطوات ، وعلى أية حال فاتباع خطوات الشيطان هو الانجذاب في قياده ، ان تكونوا سيقة للشيطان فيما يخطوه.

ولأن الخطوة هي ما بين القدمين من المسافة حالة المشي ، فقد تعني خطوات الشيطان وسائله وذرائعه الى بغيته الأخيرة وهي الإشراك بالله والإلحاد في الله ، فليس الشيطان ليورد الإنسان إلى أخيرة المهالك إلّا بخطوات من صغيرة الى كبيرة الى كبرى ، فعند ذلك الطامة الكبرى وكما قال الله :

(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ١٦٩.

فالسوء هنا هو ما دون الفحشاء ، كما الفحشاء هنا هي دون (أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وبصيغة أخرى الفحشاء هي أقبح انواع السوء ، (وَأَنْ تَقُولُوا) هي أقبح انواع الفحشاء ، فالفحشاء هي المعصية المتجاوزة حدّها إما في نفسها ام الى غير العاصي ، ام تجمعهما ، ثم العقيدة السيئة ، والفاحشة هي أفحش من عملية السوء والفحشاء.

٢٧٥

فاتباع خطوات الشيطان محظور في كل الحقول ، أكلا كما هنا ، أمّا سواه من أفعال وتروك كما : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢ : ٢٠٨) ـ «ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين. ثمانية ازواج ... قلءآلذكرين حرم أم ...» (٦ : ١٤٣) ـ وعلى أية حال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ...) (٢٤ : ٢١) : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ، هنا (وَأَنْ تَقُولُوا ...) هي قولة الفرية على الله في تحريم او تحليل ما لم يأذن به الله ، وأفحش منه المشاقة الصريحة لحكم الله ، أنني أحرم مهما أحل الله ، أم أحلّل مهما حرم الله.

وقبلهما سوء وفحشاء علي وعقيدي ، فمن سوء عملي أكل الحرام الخفيف مادة وحرمة ، ومنه عقيديا تحليله افتراء على الله ، ومن فحشاء عملي الحرام المغلظ والعقيدي منه فريته على الله ، والسوء والفحشاء العقيديان هما أسوء وأفحش منهما عمليا ، فلذلك يفرد العقيدي بالذكر بعد مطلق السوء والفحشاء : (وَأَنْ تَقُولُوا ...).

فقد يعصي العاصي معترفا انه عاص ، وأخرى محللا له تقصيرا في التفتيش عن دليل ، فتوى بغير علم ، ام افتراء على الله بمعارضة الدليل ، ام مشاقة لله بمصارحة أنني أحلل وأحرم ، رغم ما حكم الله ، وذلك ثالوث منحوس بدركاته الثلاث قد تعمه (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ام قد يفلت الأخير من نصها داخلا في الأولوية.

فالقول على الله بغير علم ـ بدركاته ـ هو أسوء من السوء وأفحش من الفحشاء العمليين ، مهما كان القسم الأوّل من الثالوث سوء أمام الثاني ، وهذا

٢٧٦

فحشاء أمام الثالث من الناحية العقيدية.

فمن السوء عمليا في ظلال آيتنا ترك أكل ما لم تثبت حرمته ، اللهم إلّا حائطة ثابتة بدليل ، ومنه عقيديا أصالة الحظر.

كما من الفحشاء عمليا أكل الثابت حرمته ، ومنها عقيديا القول بحليته دون علم ، ثم بعلم ، ثم فوقهما عمليا التورط في المحرمات الكثيرة الكبيرة ، وعقيديا تحليلها افتراء على الله ، ام مشاقة علنية لحكم الله ، وكما منه الاستناد الى القياس والاستحسان أما شابه مما ليس دليلا شرعيا ، بل الأدلة الشرعية تعارضه ، كل هذه قد تشمله ثالوث خطوات الشيطان بمختلف دركاتها.

فحذار حذار من ويلات خطوات الشيطان ، فانه لا يحمل المؤمن المتقي على ثالثة الدركات إلا أن يخطو به أولاها ثم ثانيتها ، عمليا او عقيديا ، حتى يورده في مسيره الى مصير الهلاك الأخير «جهنم يصلونها وبئس المصير».

وإنها ثالوث الخطوات في حصر «إنما» وليست وراءها خطوة ، وهي بين آفاقية عملية (بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) وأخرى انفسية (وَأَنْ تَقُولُوا) قولا بغير علم!.

أترى الشيطان يأمر ـ فقط ـ بالسوء و...؟ ونراه قد يأمر ـ فيما يأمر ـ بالخير! إنّ أمره بغير السوء هو في الحق أمر بالسوء فأمر سوء ، إذ يتذرعه إغراء إلى سوء ، كمن يأمره بقراءة القرآن ، ثم يجمده على حروفه ويصرفه عن أحكامه فيصبح صاحبه تاليا للقرآن والقرآن يلعنه.

ففي الحق لا يأتي من الشيطان إلّا عملية الشيطنة وعقيدتها مهما أمر في ظاهر الحال بخير ، ثم لا يتمكن الشيطان ـ ام أي كان ـ أن يأمر بسوء وفحشاء بمقدمات كلها شريرة ، وإنما يخلط حقا بباطل وباطلا بحق وهو بدء وقوع الفتن كما يروى عن قاطع الفتن علي (عليه السلام) : «إنما بدء وقوع الفتن أهواء

٢٧٧

تتبع وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله ويتولى عليها رجال رجالا فلو أن الحق خلص لم يكن للباطل حجة ولو أن الباطل خلص لم يكن اختلاف ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا فهنالك استحوذ الشيطان على أولياءه ونجى الذين سبقت لهم من الله الحسنى».

فخير الشيطان شرّ إذ يبوء الى شر ، وشر الرحمن خير إذ يبوء الى خير «ونبلوكم بالخير والشر فتنة وإلينا ترجعون» (٢١ : ٣٥).

وقد يجرّ الشيطان الإنسان من الأفضل إلى الفاضل ليتذرع به لإخراجه الى غير الفاضل وإلى الشر ، أم يجره من الفاضل الأسهل الى الأفضل الأشق ليشق عليه فيترك الفضل عن بكرته!.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) ١٧٠.

وذلك هو الدرك الأسفل من الخطوات العقيدية الإبليسية ، مشاقّة الله في حكمه بحكم الآباء القدامى التقليديين ، معارضة الدليل بالتقليد الخاوي عن الدليل ، وقبله خطوة الحكم غير التقليدي خلاف حكم الله ، وقبله القول على الله بغير علم دون أية حجة من كتاب أو اثارة من علم قياسا او استحسانا أما شابه ، وقبله الفتوى دون تفتيش صالح عن دليل ، دركات اربع عقائدية في خطوات الشيطان ، وقبلها او معها خطوات عملية من سوء إلى فحشاء.

هنا (قالُوا بَلْ) رفض لاتّباع ما أنزل الله إلى (ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) اتباعا عمليا وعقيديا ، في تقليد جاهل قاحل «أو لو كان آباءهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون».

ف «لو» الامتناعية هنا تنازل الى سماح التقليد لو أنهم عقلوا شيئا

٢٧٨

واهتدوا ، ثم مماشاة معهم في استحالة «لا يعقلون ولا يهتدون» ولكن على فرضه ـ وكما هو الواقع الملموس ـ أفتتبعون آباءكم ضد ما أنزل الله حتى إذا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ، تقليدا جاهلا في أصله وفصله ونسله ، بعيدا عن كل الأعراف في التقليد محبورا ومحظورا(١).

فقد يجوز تقليد من يعلم ويهتدي ، وترك اتباع ما أنزل الله خلاف صارح صارخ للعلم والهدى ، فانه تعالى مصدر العلم والهدى فكيف يعارض فيهما بتقليد أعمى!.

وترى كيف بالإمكان للآباء ـ أيا كانوا ـ انهم (لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) وهم يعقلون أشياء ويهتدون إلى أشياء يحتاجونها في حياتهم؟

«شيئا» هنا هو شيء الحق ، فمن عرف شيئا من الحق اتبع ما أنزل الله ، وكذلك شيء الهدى ، ثم «لو» قد تلمح إلى أن ذلك فرض أخير لحالة الآباء ، وبه تلحق سائر فروض التقليد الجاهل في مسرح اللايعقل واللّايهتدي وإن قليلا ، حيث التقليد العاقل بحاجة إلى عقل كامل عن شرعة الله ، وهدى شاملة إليها ، والتقليد الجاهل هو نفسه من خطوات الشيطان.

وفي تعقيب (لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) ب (وَلا يَهْتَدُونَ) عطفا بعد ردف ، لمحة بارعة أن الاهتداء هو من خلفيات العقل ، مقدرا بقدره ، فحين لا يعقلون شيئا من الحق ، فهم لا يهتدون إليه بطبيعة الحال ، فالعقل ذريعة الهدى كما الهدى حصيلة العقل وكما يروى «العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان».

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٦٧ عن ابن عباس قال دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) اليهود الى الإسلام ورغبهم فيه وحذرهم عذاب الله ونقمته فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف : بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا أعلم وخيرا منا فأنزل الله : وإذا قيل لهم ...

٢٧٩

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ١٧١.

علّ ذلك مثل للذين كفروا في ثالوث تقليد الآباء ، وعبادة الأصنام ، وترك قبول الدعوة الإلهية ، فالذي ينعق بما لا يسمع ـ هو في الأخير ـ الدعوة الرسالية ، فإنهم لا يسمعونها إلّا دعاء ونداء كما الأنعام ، وفي الأولين هو الأوّلان ، في نعقهم بآباءهم القدامى وهم أموات ، بل وهم عند حياتهم ايضا أموات عن إجابة صالحة لأبنائهم إذ لا يسمعون إلّا دعاء ونداء ، وفي نعقهم بأصنامهم أم وطواغيتهم هم بين اللّاإجابة أصلا إذ لا يسمعون حتى دعاء ونداء ، او اللّاإجابة حيث إجابتهم لا يحمل سؤالا لعابديهم.

ولأن (لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) تتضمن السمع ، فدعاء الأصنام ـ إذا ـ هو ضمن المعني من الدعاء ، والأصل هو دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إياهم ودعوتهم آباءهم ، ولأن الآباء القدامى أموات لا يسمعون حتى دعاء ونداء ، فالأصل هو ـ فقط ـ دعوة الرسول إياهم ، كما وتؤيده (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) صمّ عن سماع كلمة الحق إذ أصمهم الله بما صمّوا ، بكم عن الإفصاح بالحق إذ أبكمهم الله بما خرسوا عن الحق وبكموا ، عمي عن مشاهدة الحق إذ أعماهم الله بما عموا ، وبالنتيجة (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) فان عقل الحقائق بحاجة الى سمعها والإفصاح بها والإبصار إليها ، وهم صدوا عن أنفسهم منافذ العقل (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) بما صموا وابكموا وعموا.

فمن أهم منافذ العقل عن الحقائق السمع والبصر واللسان الإنسانية ، فالصمّ البكم العمي لا يعقلون فلا يهتدون ، فهم في ثالوث الضلال بما ضلوا والزيغ بما زاغوا (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

٢٨٠