الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٨

المساوات في القيمة ، فليس إسرافا في القتل ولا اعتداء بأكثر مما اعتدى ، وكما يؤيده صحيح الأثر (١).

فلا حجة في إجماعات تدّعى أو روايات تروى ، هي معارضة بمثلها ومعارضة للكتاب ، فالقوي قولا واحدا عدم جواز قتل الأكثر من واحد ، بل وفي الواحد منهم ايضا تأمل لأنه لم يستقل في القتل ، فلا تصدق في قتله (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) بل هو اعتداء عليه أكثر مما اعتدى! تأمل.

هذا! وأما إن قتل نفس نفسين أو زاد ، فهل يقتص من القاتل لواحدة ثم ولا دية لسواها حيث الثابت في القتلى إنما هو القصاص؟ و (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) تقتضي هنا قود النفس عن واحد وبديله عن آخرين ، وكما في المعتبرة «لا يبطل دم امرء مسلم» (٢). ام إنه بديل عنهما اقتساما لقوده بينهما ، ثم اقتساما في دية الفائض بينهما وهذا هو الأشبه الأصح ، ثم ان عفي عن القود فدية كاملة كبديل ، إلّا أن يعفى عنها فلا شيء على الجاني ، وترى إن عفى بعض أولياء الدم عن نصيبه من القود فهل للباقين رفضه بدفع نصيبه من الدية ثم المطالبة بالقود؟ الروايات هنا متضاربة (٣) فتعرض على الآية وتضرب

__________________

(١) هي صحيحة محمد بن مسلم على المحكي قال : سألت أبا جعفر (عليهما السلام) عن امرأتين قتلنا رجلا عمدا؟ قال : «تقتلان به ما يختلف فيه احد» (التهذيب في باب القود بين الرجال والنساء رقم ١٣).

(٢) الكافي ٧ : ٣٦٥ معتبرة أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل قتل رجلا متعمدا ثم هرب القاتل فلم يقدر عليه؟ قال : «إن كان له مال أخذت الدية من ماله وإلا فمن الأقرب فالأقرب وان لم يكن قرابة أداه إلى الامام فانه لا يبطل دم امرء مسلم».

(٣) الرواية المعارضة هي رواية جميل بن دراج عن بعض أصحابه يرفعه الى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل قتل وله وليان فعفا أحدهما وأبي الآخر ان يعفو؟ فقال : ان الذي لم يعف إذا أراد أن يقتله قتل ورد نصف الدية على اولياء المقتول المقاد منه (الكافي ٧ : ٣٥٦ رقم ١).

٣٠١

المعارضة لها عرض الحائط.

فنص الآية (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ).

فإطلاق «شيء» يشمل بعض القود كبعض الدية ، ثم (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) تفرض ـ فيما تفرض على الباقين ـ إتباعه ، عفوا عن نصيبهم من القود انتقالا ـ ككل ـ إلى الدية حيث القود لا يتبعض في واقعه ، اللهم إلّا عفوا يظهر في تبعّض الدية ، ثم (أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) و (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) ولا راد لرحمته وتخفيفه (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) ومنه مطالبة القود مع العفو عن بعضه (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)!

ف «أخيه» هنا استثارة لحنان الأخوة الإسلامية في أولياء الدم كما تدل على بقاء الأخوة الإيمانية بين القاتل وولي الدم رغم قتله ، و «من» هم القاتلون ، و (عُفِيَ لَهُ) عفو عن مكتوب القصاص قودا او دية ، و «له» دون عنه لأن الثانية عفو مطلق لا يبقى معه شيء ، والأولى هي مطلق العفو الذي يبقى معه شيء ، ف «شيء» تعم أي حق في هذا البين ، سواء أكان كل القود من مستقل في ولاية الدم أم شركاء فيها ، أم يعفو واحد منهم عن نصيبه ، أم أيّا كان من أيّ كان ، دون العفو المطلق المعبر عنه ب «عفي عنه» إذ لا مجال ـ إذا ـ ل «شيء»!

__________________

ـ وتعارضها وفقا للآية روايات منها صحيحة أبي ولاد قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل قتل وله أولاد صغار أرايت ان عفا الأولاد الكبار؟ قال فقال : لا يقتل ويجوز عفو الأولاد الكبار في حصصهم فإذا كبر الصغار كان لهم أن يطلبوا حصصهم من الدية (الوسائل ب ٥٣ من القصاص ح ١) ومنها قول امير المؤمنين (عليه السلام) في خبر إسحاق «من عفا عن الدم من ذي سهم له فيه فعفوه جائز ويسقط الدم وتصير دية وترفع عنه حصة الذي عفى» ، وفي الفقيه روى انه إذا عفا واحد من الأولياء ارتفع القود.

٣٠٢

فهنا إتّباع بالمعروف ضابطة صارمة في حقل العفو ، إتباع العافي عفوه دون نكول عن كمه أو كيفه أو أصله ، واتباع المعفو له في أداء ما عليه حين ينتقل القود الى الدية ، مادة ومدة وكيفية ، واتباع شركاء الدم ـ غير العافين ـ عفو العافي ، واتباع حكام الشرع ذلك العفو.

ف «ينبغي للذي له الحق أن لا يعسر أخاه إذا كان قد صالحه على دية ، وينبغي للذي عليه الحق أن لا يمطل أخاه إذا قدر على ما يعطيه ويؤدي إليه بإحسان» (١).

ثم وحين الانتقال ، (أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) كما عفي له من أخيه بإحسان ، إحسانا في أصل الأداء ، وإحسانا فيما قرّر من الأداء مادة ومدة.

«ذلك» البعيد الغور من أصل القصاص العدل خروجا عن قسوة الفوضى ، ومن سماح العفو والإحسان في الأداء ، ومن واجب الإتباع (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) عما كان في الجاهلية من قسوة ، وفي شرعة التوراة من عدم السماح عن القود وفي شرعة الإنجيل ـ خلافا لشرعة الله! ـ سماحا واجبا عن القصاص ، فانه عبث ثقيل كزميليه : الجاهلي واليهودي.

ففي سفر الخروج (٢١ : ١٢) «من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا» (٢)

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٥٧ في الكافي في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (فَمَنْ عُفِيَ ...) قال : ...

(٢) وفيه «ومن ضرب أباه أو أمه يقتل قتلا ١٥ ومن سرق إنسانا وباعه او وجد في يده يقتل قتلا ١٦ ومن شتم أباه او امه يقتل قتلا ١٧ وان حصلت اذية تعطي نفسا بنفس ٢٣ وعينا بعين وسنا بسن ويدا بيد ورجلا برجل ٢٤ وكيا بكي وجرحا بجرح ورض برض ٢٥».

وفي سفر الأعداد ٣٥ ان ضربه باداة من حديد فمات فهو قاتل ان القاتل يقتل ١٦ وان ضربه بحجر يد مما يقتل به فمات فهو ـ

٣٠٣

«ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل إنه يقتل أم ولا تأخذوا فدية ليهرب إلى مدينة ملجئه ... وعن الأرض ولا يكفر لأجل الدم الذي سفك فيها إلا بدم سافكه» سفر الأعداد ٣٥ : (٣١ ـ ٣٤).

وفي سفر التكوين (٩ : ٦) «سأسفك دم الإنسان بالإنسان اسفك دمه»

فآية المائدة ـ (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ...) (٤٥) ـ إنها تتحدث عما في التوراة الحالية ، إلّا في (فَمَنْ تَصَدَّقَ) ثم آية البقرة تنسخها في شيء من إطلاقها وعمومها.

ثم «ورحمة» هنا بعد (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) علّها هي رحمة التخفيف ، في رحمة بين الإخوة ، رحمة على المجرم النادم ، او الذي يتندّم بعفوه ، ورحمة على القتيل حين يعفى عن القاتل صدقة على القتيل.

(فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) اعتداء على حكم الله ، واعتداء على القاتل ، واعتداء بعد العفو ، وعلى الجملة اعتداء من العافي أو المعفو أم شركاء ولي الدم ، أو اعتداء من حكام الشرع ، تجاوزا على أية حال عن حكم الله كما حكم (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) إما هنا ام وفي الآخرة.

اجل «ذلك» الحكم العدل في القصاص تخفيف عن ثقل الجاهلية واليهودية والنصرانية الى سهولة الإختيار قصاصا بعدل ، او انتقالا الى دية ، ام

__________________

ـ قاتل ان القاتل يقتل ١٧ او ضربه باداة يد من خشب مما يقتل به فمات فهو قاتل. ان القاتل يقتل ١٨ ولي الدم يقتل القاتل حين يصادفه يقتله ١٩ وان دفعه ببغضه او ألقى عليه شيئا يتعمد فمات ٢٠ او ضربه بيد بعداوة فمات فانه يقتل الضارب لأنه قاتل ، ولي الدم يقتل القاتل حين يصادفه ... فتكون لكم هذه فريضة حكم إلى اجيالكم في جميع مساكنكم ٢٩ كل من قتل نفسا فعلى فم المشهود يقتل القاتل ٣٠ ـ ولا تأخذوا فدية ...

٣٠٤

عفوا كاملا ، كل كما تقتضيه المصلحة اسلاميا ، فرديا وجماعيا ، «ورحمة» بين الجماعة المسلمة.

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ١٧٩.

هذه كأصل وضابطة ، والعفو تبصرة صالحة في مواردها حيث تقتضي الحكمة والرحمة و «القصاص» معرفا تعريف بها كما شرعت ، إيجابيا حين تقتضيه التقوى ، وسلبيا حين تقتضيه تقوى اخرى ، ف (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تعم المرحلتين ، «ولكم» : الكتلة المؤمنة ككلّ (فِي الْقِصاصِ) بكل حقولها في الأنفس والأطراف والأعراض والأموال «حياة» صالحة في كل الحيويات النفسية والعرضية والاقتصادية أماهيه (يا أُولِي الْأَلْبابِ) والعقول العميقة الخارجة عن قشورها الخاطئة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الممات في مختلف مسارحه المخلّفة من ترك ملاحقة المجرمين.

فمهما كان في عفو المجرم وترك ملاحقته او التخفيف عنه (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) كأحوال جانبية مرهونة بمصالحها ، ولكنما القصاص ، كأصل وضابطة فيها حياة لأولي الألباب بل وسواهم : حياة لأهل الحق كيلا يموت الحق وشفاء لصدورهم من حقد فاتك ورغبة في الثأر الذي لم يكن يقف عند حدّ وكما نراه في واقعنا اليوم حيث تسيل الحياة على مذابح الأحقاد العائلية في اجيال ولا تكف عن المسيل إذ لا تجد الى القصاص السبيل.

وحياة للمجرمين كيلا يكرروا إجرامهم حين لا يقتلون بقصاص ، ففي القصاص تنبثق حياة من كف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء ، فالذي يوقن انه يدفع حياته ثمنا لحياة من يقتله ، جدير به ان يتروى ويكفر ويتردد فيرتد الى عقله ولبه ، وحياة لهم أخرى في الأخرى حين يقتلون ان يصدّ عن إجرامهم ، وحياة لسائر المسلمين كيلا يجرموا ام يتخاذلوا أمام المجرم ، وحياة لحكام الشرع

٣٠٥

إزالة للفوضى واحياء لروح الأمن والطمأنينة ، وعلى الجملة حياة للمسلمين ككل (١) اللهم إلّا فيما كان في ترك القصاص او التخفيف عنه حياة ف (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ...).

فالقشريون الذين لا ألباب لهم يفضلون ترك القصاص زعم أنه رحمة وعاطفة إنسانية وذلك تفريط بحق القصاص ، وآخرون مفرطون يعملون الفوضى في القصاص ، أم يجعلون عدل القصاص أصلا لا يستثنى ، وشريعة القصاص القرآنية عوان بين الإفراط والتفريط بشأنها ، أصلا كقانون حقوقي عام (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) وفرعا كتبصرة حين تقتضيها المصلحة فوق مصلحة القصاص : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ)! وهذه شرعة أولى الألباب ، الذين يراعون كل جوانب المصلحة ، فردية وجماعية.

فأين هذه البلاغة الأدبية والمعنوية البارعة على اختصار الآية وسائر تعبيرات البلغاء ك : قتل البعض إحياء للجميع ـ أكثروا القتل ليقل القتل ، ومن أبلغها عندهم وأفصحها : القتل أنفى للقتل!

ف «القصاص» هي أعم من القتل ، و «حياة» تعم كل مراحلها ، و «لكم» تعم كل المسلمين ، و (أُولِي الْأَلْبابِ) تربط تلك الحياة العظيمة كحصيلة للقصاص بحكم الألباب ، خارجا عن قشرية الرحمة وهمجية الهجمة غير العادلة ، ولا تجد عبارة كهذه البالغة المدى ، البليغة المعنى على إيجازها طول

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٥٨ في الاحتجاج للطبرسي باسناده الى علي بن الحسين (عليهما السلام) في تفسير الآية : ولكم يا امة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) في القصاص حيوة لأن من هم بالقتل يعرف انه يقتص منه فكف لذلك عن القتل الذي كان حيوة للذي كان هم بقتله ، وحياة لهذا الجاني الذي أراد ان يقتل وحياة لغيرهما من الناس إذ علموا ان القصاص واجب لا يجسرون على القتل مخافة القصاص (يا أُولِي الْأَلْبابِ) اولي العقول (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

٣٠٦

تاريخ الحقوق وعرضه ، مما يجمع بين جمال التعبير وجلال المعنى وشموله لكافة المتطلّبات العادلة في حقل القصاص ... وهنا «في» تعني ظرف القصاص وجوه لا نفسه ، فان نفسها ليس حياتا وإنما فيها حياة ، ثم وتنكير حياة تفخيم لها وتوسعة لحقولها ، و «القصاص» المعرف تعريف بما يقصه القرآن من قصاص عادلة يسمح فيها بالعفو بعضا او كلّا ، ولا ينبئك مثل خبير بهكذا التعبير العبير.

فليس القصاص في شرعة القرآن انتقاما جافا جافيا وإرواء للأحقاد ، بل هي في سبيل الحياة ، واستحياء للقلوب واستجاشة لتقوى الله.

فليست لتقوم شرعة ولا حكومة أخرى بغير القصاص الخاص المنتهي ب (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ولا يفلح قانون ولا يتحرج متحرج ، ولا تكفي التنظيمات الخاوية من روح التقوى صدا عن الطغوى.

فالتقوى هي التي تحمل القاتل على الاعتراف بالجريمة في محكمة الشرع كما حصل كرارا زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) والائمة (عليهم السلام) ، فلقد كانت هنالك التقوى هي الحارسة اليقظة داخل الضمائر المؤمنة وفي حنايا قلوبهم ، الى جانب الشرعة النيرة البصيرة بخفايا القلوب.

فهل إن شرعة القصاص ـ بعد ـ همجية وجفاوة خلاف الحفاوة الإنسانية ، كما تقول الحضارة المادية المتفرنجة : إذا كان القتل الأول فقدا فالثاني فقد على فقد ، ثم وهو من القسوة وحب الانتقام ، البعيدة عن ساحة الإنسان العطوف الرؤوف ، وبالإمكان تأديب القاتل بما دون قتله.

ثم إن جريمة القتل ليست إلّا خلفية أوتوماتيكية لانحراف الروح ومرض النفس ، فقضية الرحمة والحكمة ـ إذا ـ أن يحوّل القاتل إلى مستشفيات الأمراض النفسية.

٣٠٧

والجواب عن كل هذه الأقاويل الزور الغرور نجده في آيات القصاص (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ...) ـ ف (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) (٥ : ٣٥).

وهل إن فقدا واحدا على فقد أفقد ، ام فقد جماعة إبقاء للمجرم سجينا أم سواه ، ولا سيما إذا اختلق له عذر المرض النفسي ، مما يسمح لأي أحد ان يخوض في هذه الجريمة لغايات رديئة ثم يؤخذ في كل مرة الى رياحة المستشفى النفسي؟.

وهل إن في قصاص القاتل المتعمد جفاوة وخلاف رحمة ، وليس في إبقائه يخوض في قتل آخرين جفاوة وخلاف رحمة؟.

إن في شرعة القصاص حفاظا على حقوق الناس فرادى وجماعات ، ثم في العفو بموارده الصالحة تربية لنفوس مستهترة تقبل التربية والرجوع الى عقلية صالحة ، ولكن لا يجبر أولياء الدم على العفو فانه سماح عن الحق الثابت لهم ، مهما ينصح القرآن بالعفو في مصالحه.

ثم وهؤلاء المتحضرون الناقدون شرعة القصاص هل يتوقفون عن حروب مستأصلة لجماهير دفاعا عن كيانهم في صالح الحيوية المادية ، فهم أولاء يفتون بعدم سماح القصاص حفاظا على أصل الحياة بمختلف حقولها ، التي هي أم النواميس الواجب الحفاظ عليها بكل الطاقات والإمكانيات.

أم هل يتوقفون عن إباده جمع ظنوا أنهم يعزمون الثورة على الحكم؟ حتى يفتوا بحرمة قتل القاتل الفاتك حرم حياة الإنسانية!.

أم إنهم ـ على حيادهم المدّعى المزعوم لحياة الإنسان ، بسنّ مختلف القوانين ـ هل استطاعوا القضاء على جريمة القتل ، وهي تزداد يوميا بينهم

٣٠٨

بمختلف الأساليب الخبيثة الوحشية اللّاإنسانية! أفهم رحماء على حياة الإنسان والإسلام

من الأشداء عليها ، الألدّاء لها ، لأنه يسمح ان يعتدى على المعتدي بمثل ما اعتدى: (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) (٤٢ : ٤٠) فكما العفو مسموح بغية الإصلاح ، كذلك الجزاء لا يعني إلا الإصلاح ، أم ولأقل تقدير عدم إماتة الحق.

وهنا (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لمحة إلى حكمة الوقاية عن الجرائم المتوقعة لولا القصاص ، حصرا لها بحالة الوقاية عن تكرر الإجرام ، وهذه طبيعة الحال في المجرم أنه حين يأمن الملاحقة بالمثل يتجرأ على متابعة الإجرام ، فلو لا شرعة القصاص كضابطة لأصبحت الحياة بكل شؤونها متأرجفة ، ولو لا رحمة العفو كهامش على هذه الشرعة لما ظهرت التقوى في النفوس الأبيّة السمحة ، ولا استفاد المجرمون التائبون الآئبون من تلك السماحة الإيمانية ، ففي القصاص أصلا وفرعا حياة للجماعة المؤمنة ، لعلهم يتقون محاظير تركها ، او السماح فيها ، حيث «القصاص» المعرّف هنا هي التي تقبل العفو والسماح في مصالحه.

إذا «ففي القصاص» ايجابيا كأصل وسلبيا كهامش وفرع (حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ١٨٠.

الوصية هي التوكيل فيما لا يستطيع عليه الموكّل ، أم لا يناسب محتده وكيانه كوصايا الله سبحانه (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ...) ـ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) (٤٢ : ١٣) فالوحي إلى كل مكلف لا يناسب محتد الربوبية

٣٠٩

كما لا يليق به كل مكلف ، فهنا الوصية إلى المرسلين ليبلغوا رسالات ربهم إلى كل المرسل إليهم.

وهي في غير الله ظاهرة في وصية الموت حيث الحي لا يحتاج إليها في حياته لإمكانية تصرفه بنفسه إلّا شذرا ، أم فيما يختص بآخرين كالوصية بالتقوى وما شابهها ، ثم وهنا (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) تجعلها صريحة في وصية الموت.

وللوصية رباطات ثلاث بالموصي والموصى له والموصى إليه ، ففي ذلك المثلث تتحقق الوصية على شروطها ، و «كتب» هنا مما تفرض هذه الوصية فانها صريحة في فرضها ، متأبية عما يحوّلها عنه الى ندب أمّا شابه ، من غير الفرض ، ثم (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) تؤكد فرضها ، وليست التقوى راجحة حتى تلمح برجحان الوصية دون فرض ، بل هي واجبة على أية حال ، (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) و (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

ثم وآيات الفرائض تعبّر عن الوصية بما يؤكّد فرضها ثالثة ، فقد تتكرر (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) (يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) (تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) بعد أصول الفرائض ، ف (يُوصِي بِها) دون «إن أوصى بها» مما تلمح كصراح «ان الوصية حق على كل مسلم» (١) فكيف تنسخ آية الوصية بآيات

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٣ : ٣٥١ ح ٢ صحيحة أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن الوصية فقال : هي حق على كل مسلم ، وعن أحدهما (عليهما السلام) انه قال : ... ومثله ما عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) وح ٦ محمد بن محمد بن النعمان المفيد في المقنعة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ... قال صاحب الوسائل والأحاديث الواردة في ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أوصى وأن الأئمة (عليهما السلام) أوصوا كثيرة متواترة من طريق العامة والخاصة.

وفيه ٣٥٥ ح ٣ عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام) قال : من لم يوصي عند موته لذوي ـ

٣١٠

الفرائض؟ و «نسختها» (١) في بعض الروايات لا تعني إلّا نسخ الإطلاق ، وكما نسخت (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) آية الوصية (٢) ، اي استثنت عنها الوصية المجانفة ، فالنسخ وهو الإزالة قد تحلّق على المنسوخ ككل كما هو

__________________

ـ قرابته ممن لا يرثه فقد ختم عمله بمعصيته ، أقول : اختصاص من لا يرثه بالذكر لأنهم أحوج حيث يحرمون الإرث.

وفيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): من لم يحسن وصيته عند الموت كان نقضا في مروته وعقله ، قيل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكيف يوصي الميت؟ قال : إذا حضرته وفاته واجتمع الناس إليه قال : اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ، اللهم إني أعهد إليك في دار الدنيا أني اشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك وان محمدا عبدك ورسولك ، وان الجنة حق وان النار حق وان البعث حق والحساب حق والقدر والميزان حق وان الدين كما وصفت وأن الإسلام كما شرعت وان القول كما حدثت وان القرآن كما أنزلت وأنك أنت الله الحق المبين ، جزى الله محمدا وآل محمد بالسلام ، اللهم يا عدتي عند كربتي وصاحبي عند شدتي ويا ولي نعمتي إلهي وإله آبائي لا تكلني الى نفسي طرفة عين أبدا فانك ان تكلني إلى نفسي أقرب من الشر وأبعد من الخير ، فآنس في القبر وحشتي واجعل لي عهدا يوم ألقاك منشورا. ثم يوصي بحاجته وتصديق هذه الوصية في السورة التي يذكر فيها مريم في قوله عز وجل (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) فهذا عهد الميت ، والوصية حق على كل مسلم أن يحفظ هذه الوصية ويعلمها ، قال امير المؤمنين (عليه السلام) علمنيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) علمنيها جبرئيل.

(١) نور الثقلين ١ : ١٥٩ عن تفسير العياشي عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) في الآية قال : هي منسوخة نسختها آية الفرائض التي هي المواريث ... أقول وهذا نسخ لاطلاقها ألا تصح الوصية بكل ما ترك ام بما زاد عن ثلثه.

(٢) المصدر ٥٤٢ عن الكافي بسند متصل عن محمد بن سوقة قال : سألت أبا جعفر (عليهما السلام) عن قول الله عز وجل (فَمَنْ بَدَّلَهُ ...) قال : نسختها الآية التي بعدها قوله : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) فيما اوصى به اليه فيما لا يرضي الله به من خلاف الحق فلا اثم على الموصى إليه ان يرده الى الحق والى ما يرضى الله به من سبيل الخير.

٣١١

المصطلح ، ام يقيّد إطلاقه او يخصّص عمومه وهذا هو الأكثر استعمالا في الأحاديث التي تحويه ، والرواية اليتيمة المروية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ان «لا وصية لوارث» (١) مختلقة او مؤولة بالوصية بما زاد على الثلث (٢) ، ولكنه لا يختص بوارث! فهي لا توافق القرآن ، وتعارضها المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وهم روات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الصادرون عنه دون خطأ ولا تجديف (٣).

ولقد احتجت بآية الوصية ـ فيمن احتج ـ الصديقة الطاهرة جمعا بينها وبين آيات الإرث ، فهل هي بعد منسوخة وبعد ارتحال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)! دون أية حجة إلّا إجماعا يدّعى وروايات يتيمة تروى لا حجة فيها أمام القرآن الناطق بفرض الوصية؟

فحتى لو تواترت الرواية على غير فرضها كانت مضروبة عرض الحائط ،

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٧٥ ـ أخرج احمد وعبد بن حميد والبيهقي في سننه عن أبي امامة الكابلي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع في خطبته يقول : ان الله قد اعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ، وفيه عن عمرو بن خارجة ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) خطبهم على راحلته فقال : ان الله قد قسم لكل انسان نصيبه من الميراث فلا تجوز لوارث وصية ، وفيه أخرج عبد بن حميد عن الحسن قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : لا وصية لوارث إلا ان تجيزه الورثة.

(٢) الوسائل ٣٥٦ عن أبي حمزة عن بعض الأئمة (عليهما السلام) قال : ان الله تبارك وتعالى يقول : ابن آدم تطولت عليك بثلاثة : سترت عليك ما لو يعلم به أهلك ما واروك وأوسعت عليك فاستقرضت منك فلم تقدم خيرا ، وجعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك فلم تقدم خيرا.

(٣) كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : سألته عن الوصية للوارث فقال : تجوز ، قال : ثم تلى هذه الآية ، وصحيحته الاخرى عنه (عليه السلام) قال : «الوصية للوارث لا بأس بها» ورواه صحيح أبي ولاد الحناط قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الميت يوصي للوارث بشيء؟ قال : نعم ـ او قال : جائز له.(الكافي ٧ : ٩).

٣١٢

فضلا عن آحاد معارضة بأكثر منها وأصح سندا! وجواز الوصية في بعض الأحاديث يعني عدم الحظر عنه لأنها بوجود الوارث في مظان الحظر ، او يعني مضيّها جوازا وضعيا يضم جوازه تكليفيا ، ام يعني رجحانها قبل حضور الموت ، فان فرضها حسب الآية خاص بما إذا حضر أحدكم الموت.

وبعد كل ذلك فآية المائدة في إشهاد الوصية ـ وهي آخر ما نزلت ـ تثبت الوصية بشهود لكي لا تفلت ، وهل الوصية هذه المهمة إلّا للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين.

فقبل نزول آيات المواريث بفرائضها كانت الوصية في كل ما ترك من خير ، ثم اختصت بقسم قدر في السنة بالثلث ، وكما تصرح آيات الفرائض (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ).

فحقا إنها تفرض الوصية كما آيات الفرائض تفرض الفرائض وتلمح ـ أيضا ـ إلى فرض الوصية ، والجمع بين الفرضين أن الأولى لا تعدو الثلث والثانية تخص الثلثين عند الأولى ، امّا زاد حين تنقص الوصية عن الثلث ، أم الأثلاث الثلاثة إذ لا وصية وكل ذلك من بعد دين.

وترى «عليكم» تعم قبيلي النساء والرجال؟ اجل وبطبيعة الحال فان ترك خير وترك الوالدين والأقربين وأوامر الإنفاق ، لا تختص بقبيل الرجال ، إضافة الى عموم التكليف حتى لو اختص اللفظ بقبيل الرجال ، وأنّ (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) تخاطب الذين خاطبهم من ذي قبل وهم كل (الَّذِينَ آمَنُوا).

ثم (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) لا تعني حالة الاحتضار لأنها حالة الغفوة والاستتار ، والميت فيها منهار لا يستطيع أمرا عاقلا باختيار! إنها تعني الحالات التي تعتبر في كل الأعراف أنها حالات حضور الموت ، لمّا قل الرجاء بالبقاء ، دون الموت اليقين لأنه مجهول حتى حالة الاحتضار ، فحين ينقطع الرجاء من

٣١٣

الحياة فالوصية ـ إذا ـ مكتوبة.

ولماذا الوصية مكتوبة هي خاصة بما إذا حضر أحدكم الموت؟ إذ إنه قبل حاضر الموت مسئول شخصيا عن الوالدين والأقربين في نفقات واجبة وإنفاقات أخرى تحملها آيات ، فلما يحضر الموت فلا يقدر شخصيا ان يعمل بواجبه تجاه الوالدين والأقربين فليوص لهم بما يجبر واجبه في حياته ، ولا سيما إذا هم ليسوا ممن يرث لحجب من كفر او ارتداد أمّا شابه! لمكان الأمر (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) ومنه الوصية لهما ، وكذلك من يرث ولا يكفيه نصيبه ، او يوفّر عليه لمرجح آخر (بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).

وفرض الوصية هذه هو بطبيعة الحال خاص بما (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) من أموال وحقوق مالية أمّاهيه من خير كان يملكه وهي محسوبة من التركة ، وخير عبارة عن التركة الموصى فيها هو «خيرا» لشمولها الحقوق إلى جانب الأموال ، واختصاصها بما تحصل عليها من حلّه ، وما تبقى عندك بعد إخراج الحقوق الواجبة فيه ، وبعد إخراج الديون منه ، فلا وصية ـ إذا ـ في كل ما ترك إذ ليس له إلا خيره في نطاق الشرع ، فكيف يوصي بما لا يملكه؟.

فهل إنه كل ما يتركه مما قل منه او كثر؟ وقليل المال ليس شيئا يذكر ، كما وأن في الوصية به للأقربين ممن يرث فضلا عمن لا يرث إضرارا بسائر أهل الفرائض ، أو تقليلا لميراث من هو خارج عن الوصية من الورثة (١) ، إذا ف «خيرا» هنا هو المال الواسع الذي لا يؤول بوصيته إلى شرّ وضرّ ، كما هو الحال في مطلق الإنفاق زائدا على الفرض حال الحياة ، أن ينفق على الوالدين

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٧٤ عن عروة ان علي بن أبي طالب دخل على مولى لهم في الموت وله سبعمائة درهم او ستمائة درهم فقال : ألا اوصي؟ قال : لا! انما قال الله : ان ترك خيرا وليس لك كثير مال فدع مالك لورثتك.

٣١٤

والأقربين بقدر يقدر به رزق عياله ويضيّق عليهم ، إذا ف «خيرا» تختلف من زمان الى زمان ، ومن بيئة الى بيئة ، ومن عائلة وارثة إلى عائلة ، ليس يحدد بحد خاص كضابطة سارية لما تصح فيه الوصية ، فهو المال الذي يتحمل الوصية وهنالك وراث ، دون اي مال توصي به وتحرم الورثة المحاويج ، إكثارا على غيرهم او توفيرا لبعضهم على بعض في غير ما حق ولا رجحان.

ثم «الأقربين» بعد الوالدين هم بطبيعة الحال الأولاد فنازلا الى سائر طبقات الوارثين وسواهم ، و «بالمعروف» إخراج عن حدّي الإفراط والتفريط فلا تظلم فيها الورثة ولا تهمل ، وحدّه في متواتر السنة الثلث ، يوصي به أم اقل منه حسب العدل والنصفة ، رعاية للأقرب والأحوج الأليق في ميزان الله ، فإنهما من الموازين الثابتة في كافة الإنفاقات واجبة وراجحة.

وما شرعة الوصية بالثلث إلّا رعاية لأحوال المحاويج من الوالدين والأقربين ، وارثين منهم وغير وارثين ، فان الورثة درجات حسب الحاجيات ، والموازنة الصالحة بينهم في قدر الحاجات مقدرة في الثلث ، والوصية بالمعروف هو العدل فيها حسب القرابة والحاجة ، فكما الواجب على من عنده خير الإنفاق بالعدل على الوالدين والأقربين في حياته ، كذلك عليه الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ، تسهيما بالعدل من ثلث ماله او ماله من حق ، فان الورثة وسواهم من الأقارب ضروب شتى في الحاجة ، فيسد ثغور الحاجات بالوصية الصالحة.

فقد شاء الله بفرض الوصية للوالدين والأقربين ألّا يحرموا النصيب العدل ، وليست سهام المواريث لهم ككلّ ، لموانع اصيلة او طارئة تحول دون الإرث ، ثم وليست السهام المفروضة تحلق على مختلف المحاويج منهم ، اللهم إلّا ضابطة ثابتة روعي فيها الأحقية من حيث القرابة ، وأما هي من حيث

٣١٥

الحاجة فلا ضابطة فيها حيث الحاجات لا تنضبط تحت ضابط ، ولا بد للموصي النظر الثاقب إليها والوصية الصالحة بحقها.

إذا فالتقسيم العادل هو بين وصية الله بسهام المواريث ووصية المكلفين كما أمر الله للوالدين والأقربين بالمعروف ، وهو صالح التقسيم سدا للثغور وتسوية من حيث الحاجات ، إذا فهذه الوصية واجبة كواجب سهام المواريث على سواء ، ثم عن الوصية المحرمة في شرعة الله ، ثم عن الوصية الفوضى غير المراعى فيها درجات القرابة والحاجة.

(حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) حقا على عواتقهم للوالدين والأقربين ، فرضا واجبا ، كما (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٤ : ٩).

وقد تلمح صارحة بوجوب الوصية لهم ، أنها إذا تركت أبدل عنها برزقهم إذا حضروا القسمة ، وهم غير الوارثين ، فضلا عن الوالدين وأولي القربى الوارثين.

فهنا واجبات ثلاث : واجب تطبيق السهام كما فرض الله ، وواجب الوصية للوالدين والأقربين كما أمر الله بالمعروف ، ثم واجب الرزق من الميراث لمن يحضر من اولي القربى واليتامى والمساكين.

كل ذلك حفاظا على حقوق المحاويج الذين كان لهم نصيب طول حياة الموصي ، ما أمكن له من إنفاق عليهم ، تقديما لجانب الأقربين ثم سائر القرباء على مراتبهم ، ثم اليتامى والمساكين وابن السبيل.

ف «بالمعروف» في حقل الوصية هو نفسه المعروف في كل حقول الإنفاق.

٣١٦

وترى ان الأقربين هم فقط أقارب النسب؟ والأزواج هم من أقرب الأقربين مهما كانت قرابتهم بالسبب؟ إطلاق الأقربين يشملهم دون ريب حيث القرابة السببية قرابة كما النسبية ، فمهما كانت القرابة النسبية اثبت ، فان القرابة السببية أربط ، فهما إذا قرابتان مهما اختلفتا في الثبت والربط.

ثم (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) تحصر فرض الوصية بحضور الموت ، ولا تمنع عن رجحانها قبله كما تظافرت به الروايات ، كما ولا تحصر أصل الوصية بالوالدين والأقربين ، وإنما هم يقدّمون على من سواهم ، ام انهم أعم من قرابتي النسب والسبت ، ان يشملوا قرابة الأخوة الإسلامية ، مع رعاية الأقرب والأحوج ، ثم الإشهاد على الوصية واجب في واجب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ. فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٥ : ١٠٨ ـ ١٠٦).

ثم في الوصية أحكام أخرى قد تأتي بطيات آياتها الأخرى كما تناسبها إن شاء الله تعالى.

(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ١٨١.

أترى ضمير الذكر إلى م يرجع؟ أهو الوصية لأنها مؤنث مجازي جائز

٣١٧

الوجهين؟ ولا وجه للذكورة لسابق المرجع المؤنث المجازي! ولا أن الوصية تبدّل في نفسها إثما لأنها فعل الموصي وله تبديلها إذا شاء وفق المصالح المتجددة! إنه حكم الله في الوصية ان يبدل من واجبها الى ندبها ، وأصل الوصية ان تترك ، ومادة الوصية الحاصلة أن تبدل ، أماذا مما فرضت في هذه الآية.

ف «بدّله» تعم كل تبديل موضوعي او حكمي ، بعضا او كلّا ، كتابة أم شهادة أم واقعية ، سواء أكان مبدّله ـ أيا كان المبدّل ـ وصيا او شاهدا أم ثالثا ، او جلّهم ام كلّهم ، فهو ـ إذا ـ تبديل مطلق او مطلق تبديل ، فالمعنى فمن بدل ما ذكر من الأمر بالوصية ومن مادتها ومن تطبيقها فانما ...

فمن ذلك التبديل تبديل الحكم المكتوب في الوصية (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) الى الندب ، فتوى فالإثم ـ إذا ـ على المقلّد حين لا يعلم المقلّد خطأه.

ومنه تبديله عمليا ممن يعرف وجوب المكتوب ثم لا يوصي ، كما منه تبديل كتاب الوصية تمزيقا او تغييرا من أيّ كان.

كل ذلك تشمله (فَمَنْ بَدَّلَهُ) مهما اختلفت دركاته كما تختلف درجات الوصية بالمعروف!.

(بَعْدَ ما سَمِعَهُ) كذلك تعم سماع حكم الله في بعدي فرض الوصية وتنفيذها ، أم سماع الوصية ، والسماع هنا لا يحدّد بنفسه ، إنما هو الذريعة المتعوّدة للعلم ، إذا فهو العلم كيفما حصل بأيّ من حلقات الوصية حكما وتنفيذا ومادة وكيفية ، فلا تبديل في ذلك الحقل لأيّ من جنبات الوصية ، اللهم إلّا من الموصي وهو خارج عمن بدّله.

ثم (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) تحصر إثم التبديل على من بدّل ، فقد يحاول الوصي تطبيق الوصية كما هي والشاهد يبدلها ، او الشاهد يشهد لها كما

٣١٨

الوصي ثم الوكيل او الورثة امّن هو ممن له مدخل الى حقل الوصية ، هو الذي يبدله ، فلا إثم ـ إذا ـ على من سبقه حيث طبقه ، ولا على الوصي حين أوصى كما يجب.

و (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) الوصية والشهادة ، وسميع قول من بدلّه «عليم» بما يخفي أو يعلن ، فتبديل الوصية الصالحة في كل مواقفها إثم مهما اختلفت دركاته حسب مختلف التبديل ، حتى إن أوصى بمال له ليهودي او نصراني (١) ما لم يكن

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٦١ عن الكافي علي بن ابراهيم عن أبيه عن الريان بن شبيب قال : أوصت ماردة لقوم نصارى بوصية فقال أصحابنا اقسم هذا في فقراء المؤمنين من أصحابك فسألت الرضا (عليه السلام) فقلت : إن أختي أوصت بوصية لقوم نصارى وأردت أن أصرف ذلك الى قوم من أصحابنا المسلمين فقال : امض الوصية على ما أوصت به قال الله تعالى : (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) وفيه عن أبي سعيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سئل عن رجل أوصى بحجة فجعلها وصية في نسمة؟ فقال : يغرمها وصية ويجعلها في حجة كما أوصى به فإن الله تبارك وتعالى يقول (فَمَنْ بَدَّلَهُ ...) وفيه عن حجاج الخشاب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن امرأة أوصت إلي بمال ان يجعل في سبيل الله فقيل لها : أيحج به؟ فقالت : اجعله في سبيل الله ، فقالوا لها نعطيه آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)؟ قالت : اجعله في سبيل الله فقال ابو عبد الله (عليه السلام) اجعله في سبيل الله كما أمرت ، قلت : مرني كيف اجعله؟ قال : اجعله كما أمرت ان الله تبارك وتعالى يقول (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) أرايتك لو أمرتك ان تعطيه يهوديا كنت تعطيه نصرانيا؟ قال : فمكثت ثلاث سنين ثم دخلت عليه فقلت له مثل الذي قلت له اوّل مرة ، فسكت هنيئة ثم قال : هاتها ، قلت : من أعطيها؟ قال : عيسى شلقان أقول : في سبيل الله في عرف ذلك الزمان ـ كما هو ظاهر الحديث ـ تعني الجهاد ، وصحيح محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اوصى بما له في سبيل الله؟ فقال : أعطه لمن أوصى به وان كان يهوديا او نصرانيا إن الله تبارك وتعالى يقول: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ ...).

أقول : كل ذلك إذا كانت الوصية لغير المسلم من المعروف تأليفا لقلوبهم او مودة إليهم كما قال الله : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) ـ الى قوله ـ (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) والوصية بر ، وهو

٣١٩

في أصل الوصية محظور.

ولماذا (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) ومن يقبل ذلك التبدل او لا يعارض المبدل وهو عارف بالوصية هما ايضا آثمان؟ لأن امكانية المعارضة وواقع القبول ، انهما ليسا في كل الأحوال ، ثم إثم القابل وغير المعارض هو على هامش اثم المبدل ، فهو ـ إذا ـ آثم لقبوله الإثم او تركه النهي عنه ، كما تدل عليه ادلة وجوب النهي عن المنكر.

(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ١٨٢.

الجنف خلاف الحنف هو الميل عن الحق ، والإثم هو التباطؤ عن الخير ، ثم «خاف جنفا أو إثما» ليس إلا خوفا عن واقعهما ، لا الذي يخاف أن يقع ، فان خوف وقوعهما لا يفسد حتى يصلح بينهما ، فهي كخوف نشوز الزوجين : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ ...) (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً).

فالوصية ثلاثة : وصية بالمعروف فلا تبديل فيها ، ووصية بجنف أو إثم

__________________

ـ يعم الموت والحياة. ذلك! فضلا عمن لا يعرف هذا الأمر موصى اليه او موصيا كما رواه المشايخ الثلاثة عن يونس بن يعقوب ان رجلا كان بهمدان ذكر أن إياه مات وكان لا يعرف هذا الأمر فأوصى بوصية عند الموت وأوصى أن يعطى في سبيل الله فسئل عنه ابو عبد الله (عليه السلام) كيف يفعل به؟ فأخبرناه أنه كان لا يعرف هذا الأمر فقال : لو ان رجلا أوصى أني أضع في يهودي او نصراني لوضعته فيهما ان الله عز وجل يقول : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ ...) فانظر إلى من يخرج إلى هذا الوجه ـ يعني بعض الثغور ـ فابعثوا به إليه.(الوسائل ٦٧٠ من الوصايا) أقول : والأحاديث الواردة في المنع عن إشباع كافر محمولة على موارد الحظر ، فان من المؤلفة قلوبهم كفارا تمال قلوبهم الى الإسلام ولهم نصيب من الصدقات حسب النص في آيتها!.

٣٢٠