الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٨

البدنية ، أم ـ فقط ـ نفسيا ، كالآتي بالمندوب او المفروض ، مستهل التطبيق ، ولكنه مستصعب في وجه الحكمة.

أم هو متكلّف فيه نفسيا وبدنيا كالتطوف بالصفا والمروة ، فاجتياز تلك المسافة البعيدة مرات سبع ، بزحام بالغ ، وحرّ حارق ، وصدام في الجمع حانق ، ذلك تكلف بدني! ثم هو تكلف نفسي في بعدين اثنين ثانيهما خفاء وجه الحكمة في ذلك الفرض الركن ، إضافة الى أوّلها ، تحرجا عن موقف الأصنام وسنة كأنها جاهلية.

فليس التطوع ـ إذا ـ ليدل على ندب المتطوع فيه كما لا يدل على فرضه ، فقد يكون ندبا ولا تطوع فيه كالسواك والنكاح أمّا شابه ، أو يكون فرضا فيه تكلف كفرض الحج بكل مناسكه ، فالتطوع في صيغة واحدة هو تكلف الطوع ، سواء أكان في فرض أو ندب ، ولقد كانت الدعوة الجادة الجديدة الحادة ضد الشرك وطقوسه ، هزت أرواحهم هزا ، وتغلغلت فيها إلى الأعماق ، فأحدثت انقلابا نفسيا حتى لينظرون بجفوة وتحرّز الى ماضيهم الجاهلي ، حيث انفصلوا عنه انفصالا تاما طاما كلّ كيانهم ، فلم يعد منهم في شيء ، ولم تعد دوامته في شيء ، فكيف يطوفون بالصفاء والمروة وهو من طقوس الجاهلية ـ بزعمهم ـ وهو موقف الأصنام في الواقع الماضي ، ومدفنها بعد الماضي!.

هذا ـ ولكن شرعة الحق تريد الإبقاء على بعض تلك الشعائر لأنها من شعائر الله ، مهما اتخذتها الجاهلية الجهلاء من شعائرها ، واستغلتها لحرمة الأصنام إذ كانوا يلمسونها في طواف البيت والسعي ، نزعا لها عن أصلها الجاهلي ، وعودا بها الى أصلها الإلهي ، فليست الشعيرة الجاهلية المتّخذة لتمحو الشعيرة الإلهية الأصيلة قبلها ف : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ...)!. وترى ما هي شعائر الله بوجه عام؟.

٢٤١

لقد جاءت شعائر الله في ثلاث أخرى ، كما (الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) (٢٢ : ٣٦) بل والحج بمناسكه ككل من شعائر الله : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (٢٢ : ٣٢) إذ هي تأتي بعد آية الحج بمناسك له : وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فجّ عميق. ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير. ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليّطّوفوا بالبيت العتيق. ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلّا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور. حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق. ذلك ومن يعظم شعائر الله ... (٣٢). فالحج ككل هي شعائر الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ...) (٥ : ٢). فلان تعظيم شعائر الله هو من تقوى القلوب ، وهي مفروضة قدر المستطاع ، ثم إحلالها ـ ومنه تركها ـ منهي عنه هنا ، إذا نتأكد أن التطوّف بالصفا والمروة هو من تقوى القلوب الواجبة ، لا يجوز إحلاله ، وإنما «لا جناح» سلب لجناح مزعوم.

ثم الشعائر ـ لغويا ـ هي جمع الشعيرة ، وهي ما تشعر وتعلن بدقة على كونها محسوسة باهرة ظاهرة ، كما الشعار هو ما يشعر به الإنسان نفسه أي يعلم ، فالمشاعر والشعائر هي المعالم الظاهرة المتظاهرة الإلهية التي تعلم وتعلن للناس حقائق جمة بدقة وهمامة ، فقد يكون شعار بلا شعور ، أم شعور بلا شعار ، ولكن شعائر الله تجمع إلى الشعار الشعور ، والى الشعور الشعار ، فهي مذياعات صوتية وصورية إلهية للإسلام تعريفا به ككلّ ، وتشريفا له ككلّ ، في مناسك هي في الأكثرية الساحقة أو المطلقة أعمال أم تروك بلا ألفاظ إلّا قلة

٢٤٢

قليلة هي التلبيات والصلاة ، إذا فليست الأعمال الجوانحية من شعائر الله ، ولا كل الواجبات أو الفرائض الجوارحية هي من شعائر الله ، وإنما هي مذياعات الشرعة الإلهية بطقوسها الجماعية المعلنة ، التي تدل بدقة ولطافة على حقائق رقائق في شرعة الحق.

وكما ان (الشَّهْرُ الْحَرامُ) في المائدة مصداق محوري للشعائر لأنه مسرح زمني لشعائر الحج ، كذلك (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) هما مسرح مكاني لشعيرة السعي ، فليس الزمان والمكان أيا كان شعيرة إلهية إلّا بما يحل فيهما من شعائر الله.

ولأن كونهما من شعائر الله يتفرع عليه هنا (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) نعرف كضابطة سارية ان الشعائر الإلهية لا يصد عنها أي صاد ، فإنها ماضية على أية حال ، قاضية على أي جناح مزعوم حين يفسح لها مجال.

والجناح بمعنى الميل ، ميلا عنه وهو الأكثر استعمالا كما هنا ميلا بفاعله عن الحق ، أم ميلا إليه وهو الأقل استعمالا وعلّه أيضا ميل الى الباطل ، أم هي معرّبة عن «كناه» الفارسية ، وعلى أية حال فهي عصيان ، والسعي فريضة في حج البيت وعمرته (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) سواء أكان حج التمتع أو القران أو الإفراد ، أو العمرة مفردة وسواها ، فرضا وسواه ، فإنهما يفرضان بالإحرام ، والطواف هو الدوران حول الشيء إذا كان له حول كالكعبة المباركة ، وهو ـ ككل ـ السير الذي ينتهي آخره إلى أوّله ، فهو يعم السعي والطواف ، فالواجب فيه ـ ككل ـ الانتهاء الى حيث بدء.

وواجب البدءة في السعي هو من الصفا ، وكما ينتهي السير إليها ثم الى المروة ، ف

«ابدأ بما بدء الله به» (١) كضابطة عامة هنا وفي غيره.

__________________

(١) حديث مستفيض عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأئمة اهل بيته (عليهم السلام) في ـ

٢٤٣

والسعي من أهم المناسك وأحبّها إلى الله ، بل و «ليس لله منسك أحب إليه من السعي وذلك أنه يذل فيه الجبارين» (١) بل و «جعل السعي بين الصفا والمروة مذلّة للجبارين» (٢) هذا ـ ولكنه لا يؤتى به إلّا ضمن حج أو عمرة كما قال الله (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ ...) فالإتيان به دونهما جناح وبدعة ، واما الطواف بالبيت فجائز في غيرهما لثابت السنة وعدم الحظر عنه في آيته ، وهنا «فلا جناح» قد يعتبره في غير حج أو عمرة جناحا!.

ترى ومتى فرضت فريضة السعي بين الصفا والمروة ، وما هي الصفا وما هي المروة؟ قد يكون سمي الصفا صفا لأن المصطفى آدم هبط عليه فقطع الجبل اسم من اسم آدم (عليه السلام) يقول الله عز وجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً ...) وقد هبطت حواء على المروة ، وإنما سميت المروة مروة لأن المرأة هبطت عليها فقطع للجبل اسم من اسم المرأة (٣).

كما وان الصفيّة هاجر قامت على الصفا ـ حين عطش إسماعيل ـ فقالت : هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد فمضت حتى انتهت إلى المروة فقالت :

__________________

ـ مجالات عدة ، منها ما في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في حديث طويل : ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : ابدء بما بدأ الله به فأتى الصفا فبدأ بها. وفي الدر المنثور ١ : ١٦٠ ـ اخرج مسلم والترمذي وابن جرير والبيهقي في سننه عن جابر قال : لما دنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الصفا في حجته قال : ان الصفا والمروة من شعائر الله ، ابدءوا بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه. وعن الصادق (عليه السلام) ما من بقعة أحب إلى الله من السعي لأنه يذل فيها كل جبار عنيد.

(١) نور الثقلين ١ : ١٤٧ في الكافي عدة من أصحابنا عن سهل رفعه قال : ليس لله ...

(٢) فيه عنه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : جعل السعي ...

(٣) نور الثقلين ١ : ١٤٥ في علل الشرايع باسناده الى عبد الحميد بن أبي الديلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ...

٢٤٤

هل بالوادي من أنيس؟ فلم تجب ، ثم رجعت إلى الصفا فقالت كذلك حتى صنعت ذلك سبعا فأجرى الله ذلك سنة ...» (١)

و «لأن الشيطان ترايا لإبراهيم (عليه السلام) في الوادي فسعى وهو منازل الشياطين» (٢) : منازل الشياطين ـ تحت الأرضية ـ الأوثان ، التي دفنت في الصفا والمروة ، والشياطين فوق الأرضية الملاحقين الطائفين بالبيت ، فقد نطأ الأوثان بسعينا عليها ، ونفرّ عن الشياطين الذين يلاحقوننا بعد الطواف ، ليستلبوا عنا الروحية التوحيدية المخلّفة عنه ، فليس هو العدو كيفما كان ، فقد يعدو الساعي وقد يركض ، فكم من عاد غير ساع ، أو ساع غير عاد ، إنما هو الجد الهادف في العمل الجادّ ، والهرولة فيه هي سعي في سعي ، كذلك والشياطين الداخليين ، حيث السعي بهرولته تسقطهم عن قلبك ، كما استقطتهم عن قالبك ، إذا فثالوث الشيطنات تسقط بسعيك لو سعيت فيه كما أمرت. والسعي هو الجد الهادف ، تفتيشا دائبا عما يهمه ، ام فرارا عما ينعمه ، والساعي في السعي بين الصفا والمروة يفر عن الشيطنات الثلاث ، وليجد ضالة التوحيد عقبى ، وضالة العيشة دنيا ، كما ونلاحقهم سعيا وراءهم.

فآدم (عليه السلام) يسعى من الصفا الى المروة ـ بعد طواف البيت ـ إنشادا لضالته : المرأة ، فقد ضل عنها وضلت عنه في الطواف ، انقطاعا كاملا إلى الله ، وهنا ينشدها بأمر الله ، فإن كلّا من الأمرين هو في مجالته وحالته من أمر

__________________

(١) المصدر عن العلل باسناده إلى معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إن ابراهيم (عليه السلام) لما خلف إسماعيل بمكة عطش الصبي وكان فيما بين الصفا والمروة شجر فخرجت امه حتى قامت على الصفا ...

(٢) المصدر عن العلل باسناده الى حماد عن الحلبي قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) لم جعل السعي بين الصفا والمروة؟ قال : لان الشيطان ...

٢٤٥

الله ، رمزا للجمع بين الدين والدنيا ، الدين كأصل والدنيا كهامش لا تضربه بل وقد تؤيده ، وهذا درس أوّل في السعي من آدم.

ودرس ثان من الصفية هاجر حيث حلّت محل الصفي على الصفا تفتّش عن ماء وأنيس لإسماعيلها العطشان الوحيد ، فلا يؤيسها رمضاء الهواء وفاقد الماء ، او الاتكالية الفوضى ـ الفاضية ـ على الله دون سعي ، بل تسعى سعيها مرات سبع ، متكلة على الله بسعيها ، فتفور فائرة الماء من آرتزية زمزم.

فليسع الساعون للحصول على بغية الحياة الرامز إليها الماء ، دون أن يصدّهم صادّ ، متكلين على الله بسعيهم (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

ودرس ثالث من السعي ان نطأ مخابئ الأوثان «إساف ونائلة» أمّا شابه ، وذلك من شعائر التوحيد السلبية بعد إيجابية الطواف ، فلأنّ السلب في كلمة التوحيد أطول من الإيجاب وأعضل ، فليكن الإيجاب بين سلبين ـ فإنه أسهل ـ : أوّلهما سلبيات الإحرام أما شابه ، وثانيهما سلبيات السعي ، البادئة بوطئ الأوثان الدفينة تحت الأرض ، ثم الظاهرة عليها ، ومن ثم الدفينة في النفس ، فان حركات السعي ، ولا سيما الهرولة كما الآبال ، تسقط عنك ما علّقته بنفسك ما هو أجنبي عنها من إنيات وأنانيات.

وكل ذلك ـ كما الطواف ـ في سبعة أشواط ، سلبا لأبواب الجحيم السبع ، التي هي من شيطنات سبع ، المنقسمة من أصولها الثلاثة : «الشيطان ـ البقر ـ النمر» وحدويات ثلاث ، وإثينيات ثلاث ، وجمعية واحدة هي كلّ الثلاث.

أو ليس الصفا والمروة ـ بعد ـ من شعائر الله ، حيث يشعرنا برموز كهذه ، وهو من إذاعات إلهية بارزة لدحر الشياطين والشيطنات ، وإثبات حق الحياة ، والسعي في كلا النفي والإثبات في حيوية التوحيد الحق؟.

٢٤٦

ثم بعد كل ذلك (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) ربنا يشكرنا أن تطوعنا خيرا وهو خير لنا لا له : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) (٢ : ١٨٤)! ، لأن تطوع الخير هو خير الخير ، تكلفا نفسيا وبدنيا في السعي أما شابهه مما يتكلف فيه ... ومن صلات آية الصفا بما سبقها من آيات ، أن السعي هو من الشعائر الإبراهيمية ، ثم ل (بَشِّرِ الصَّابِرِينَ) موضع من صبره على إسماعيله الرضيع حيث وضعه وأمّه بواد غير ذي زرع ، وصبر هاجر عليه حتى سعت لتجد له أنيسا أو ماء ، ثم وموضع من الصبر على تطوع السعي ، نفسيا وبدنيا (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ)!

ولنقف حائرين مختجلين أمام ذلك التعبير العبير (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ) وكأنه أهديت إليه بهدية يشكر لها ، والمهدي في كل مجالات الهدايا هو الله!.

وإذا كان الرب يشكر عبده على واجب عبوديته الصالحة له دون ربه ، فما ذا على العبد في شكره لربه وهو غريق في خضمّ نعمه!.

مسائل فقهية أخرى في السعي

: ١ السعي ركن في الحج بأقسامه الثلاثة وفي العمرة مفردة وتمتعا ، يبطل كلّ من الحج والعمرة بتركه عمدا ، فان تركه ناسيا يعيده حيثما ذكر ان أمكن ، وإلّا فيطاف عنه (١) ، وهو بعد الطواف ، ثم بعده التقصير ـ فقط ـ في عمرة

__________________

(١) الكافي ٤ : ٤٣٦ والتهذيب ١ : ٤٨٩ صحيحة معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام): «من ترك السعي متعمدا فعليه الحج من قابل» واما الناسي ففي الحسن عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام) قال قلت له : رجل نسي السعي بين الصفا والمروة؟ قال : يعيد ذلك ، قلت : «فانه خرج؟ قال : يرجع فيعيد السعي» (التهذيب ١ : ٤٨٩ والاستبصار ٣ : ٢٣٨) وفي صحيح ابن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) سألته عن رجل نسي ان يطوف بين الصفا والمروة حتى رجع الى أهله؟ قال : يطاف عنه.

٢٤٧

التمتع ، وفي المفردة بين الحلق والتقصير ، وفي الحج ليس بعده حلق ولا تقصير.

٢ واجب السعي هو الأشواط السبعة ، ابتداء من الصفا ، واختتاما الى المروة بنيّة السعي للحج أو العمرة.

٣ واجب الأشواط أن تكون بين الجبلين حيث النص (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) دون «عليهما ـ أو ـ فوقهما» وكما في الأثر الصحيح «السعي بين الصفا والمروة فريضة» فلو انحرف عن الحد بين الجبلين أجبره.

٤ يبطل السعي بالزيادة عمدا كما «الطواف المفروض إذا زدت عليه مثل الصلاة إذا زدت عليها فعليك الإعادة وكذلك السعي» (١) وسائر التفاصيل الخارجة عن مدلول آية السعي راجعة الى فقه المناسك (٢).

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (١٥٩).

الكتمان هو الستر على ما يجب إفشاءه أم هو فاش ، سئل عنه أم لم يسأل ، فانما هو هنا الأمر المنزل لكافة المكلفين ، فانه لغويا : ستر الحديث ، وهو يعم الحديث الفاشي المستور بعد الظهور او الذي لا يظهر ، وهو بصيغة أخرى : ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهاره ، وهذا أخف مراحل الكتمان ، ثم (ما أَنْزَلْنا) يعم نازل الوحي من كتاب وسنة ، و «البينات» هي الحج الباهرة ، سواء أكانت بينات التوحيد او الرسالة

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٨٩ والاستبصار ٣ : ٢١٧ و ٤٣٩ عبد الله بن محمد عن أبي الحسن (عليه السلام).

(٢) راجع كتابنا (اسرار ـ مناسك ـ ادلة الحج) باللغة الفارسية.

٢٤٨

والمعاد ، ام بينات لمادة الرسالة ، فهي على أية حال بينات للهدى فانها مادة الرسالة ، حيث الشرعة مركبة ـ ككل ـ من بينات وهدى ، والثانية ناتجة عن الأولى ، فقد تكتم البينات كإخفاء لآيات الهدى تكوينية أو تشريعية ، أم تكتم الهدى الناتجة عن تلكم البينات كتمانا لدلالتها على هداها ، تأويلا لها إلى غير معناها.

ثم (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) لها مرحلتان ، من بينات وهدى بينت لناس أم لكل الناس ثم تكتم بتدجيل وتجديف ، وتلك هي الدركة السفلى من الكتمان.

ومن بينات وهدى بينت لغرض أن تبيّن للناس ، فانها ليست ـ ككل ـ مبيّنة دون وسيط لكل الناس ، لأنّ منهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أماني فكيف بيّنت لهم؟ ومنهم دارسون لا يقرؤن الكتاب فكيف بينت لهم؟ ومنهم من يتلون الكتاب ولا يعرفون كل بيناته وهداه ، وهم كلهم من ضمن الناس الذين يقول الله عنهم (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) ، فسواء بين لناس دون وسيط ، أم بين بوسيط يحمّل تبيينه لسائر الناس ، وكما تقسّم الأرزاق قسمين ثانيهما ان يرزق المرزوق بما ينفق عليه المنفقون بإذن الله تكوينا وتشريعا ، فانه أيضا من رزق الله ، فقد تشمل الآية الكتمانين ، كما تشمل الكاتمين كتابيا ومسلما ، كتمانا لأصول من الدين أم فروع منه (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٤٩ في احتجاج الطبرسي عن أبي محمد العسكري (عليهما السلام) حديث طويل وفيه : قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) من خير خلق الله بعد أئمة الهدى ومصابيح الدجى؟ قال : العلماء إذا صلحوا ، قيل : فمن شر خلق الله بعد إبليس وفرعون وثمود وبعد المسمّين بأسمائكم وبعد المتلقبين بألقابكم والآخذين لأمكنتكم والمتأمرين في ممالككم؟ قال : العلماء إذا فسدوا ، هم المظهرون للأباطيل ...

٢٤٩

فالله يبين ما أنزل من البينات والهدى للرسول بيانا للناس ، والرسول يبينه لمن يأهل تعلما لكلّ ما أنزل وهم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، وهم يعلّمون العلماء على مراتبهم ، ثم يعلمون سائر الناس ، لأن النازل من الله ليس ـ فقط ـ للرسول او الائمة أو العلماء ، إنما (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (١٦ : ٤٤) و (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (٣ : ١٣٨).

ف شر خلق الله العلماء إذا فسدوا وهم المظهرون للأباطيل ، الكاتمون للحقائق وفيهم قال الله (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (١).

وكما يحرم على علماء الكتاب كتمان ما أنزل الله ، كذلك يحرم على الجهال كتمان أنفسهم عن تعلّم ما أنزل الله ، والحق الأوّل هو على العلماء ، فان من الجهال من يجهل انه يجهل ، أم يعلم جهله ولكنه لا يجد سبيلا الى التعلم ، فعلم الدين كالماء يجب إرساله الى كل مكان لينتج نتاجه أيّا كان وفي أيّ كان.

وليس يجب تعليم الدين ـ فقط ـ لمن يسأل ، بل ومن لا يسأل أم لا يعرف كيف يسأل ، بل هما أحرى ممن يسأل ، والكتمان يشمل موارد السؤال وسواها ، ف «من سئل من علم عنده فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» ، و «من كتم علما مما ينفع الله به الناس في أمر الدين ألجمه الله

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٦٢ عن أبي هريرة ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : وفي تفسير البرهان ١ : ١٧٠ العياشي عن زيد الشحام قال : سئل ابو عبد الله (عليه السلام) عن عذاب القبر قال : ان أبا جعفر حدثنا ان رجلا أتى سلمان الفارسي فقال : حدثني فسكت عنه ثم عاد فسكت فأدبر الرجل وهو يقول ويتلو هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ...) فقال له : أقبل ـ إنا لو وجدنا أمينا لحدثناه ولكن أعد لمنكر ونكير إذا أتياك في القبر فسألاك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن شككت او التويت ضرباك على رأسك بمطرقة معهما تصير منه رمادا ، فقلت ـ

٢٥٠

بلجام من نار» (١) ، و «مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدّث به كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه» (٢).

وقد تعني (ما أَنْزَلْنا) ـ فيما عنت ـ : فطرت الله التي فطر الناس عليها ، والعقل ، فإنهما مما أنزل الله من البينات والهدى ، مشمولة ل (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى).

فمن الناس من يكتم فطرته وعقليته ، صدا على نفسه منافذ الهدى ، وآخرون يصدون على آخرين ، وثالثة تجمع في الكتمان بين بينات نفسه وهداها ، وما للآخرين فطريا وعقليا ، ثم يكتم البينات الأخرى وهداها ، فهو في ثالوث اللعنة العصيان!.

إذا ف (ما أَنْزَلْنا) تشمل المنزل تكوينا وتشريعا ، انفسيا كالفطرة والعقلية الإنسانية وآفاقيا ككل البينات الكونية والشرعية ، والفرق بين البينات وهي الآيات الربانية الباهرة ـ والهدى ، ان الثانية هي نتيجة الأولى فالآيات البينات هي دالات على الهدى في كل حقول الدلالات ، فمن يكتم البينات عن دلالاتها ، أو الهدى بعد واقعها بتلك البينات (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) فكلّ ذلك كتمان مهما اختلفت دركاته حسب مختلف درجات البينات

__________________

ـ له : ثم مه؟ قال : تعود ثم تعذب ، قلت : وما منكر ونكير؟ قال : هما قعيدا القبر ، قلت : أملكان يعذبان الناس في قبورهم؟ قال : نعم.

(١) المصدر عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ... وفيه أخرج ابن ماجة عن جابر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إذا لعن آخر هذه الأمة أولها فمن كتم حديثا فقد كتم ما انزل الله.

(٢) المصدر أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : ...

٢٥١

والهدى ، ومختلف دركات الكتمان قبل البيان وبعد البيان وصدا عن التبيان ، ف «أولئك» الكاتمون (يَلْعَنُهُمُ اللهُ) إبعادا عن رحمته يوم الدنيا ويوم الدين (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) استبعادا لهم من الله عن رحمتيه ، وقد يشمل «اللّاعنون» ـ إلى جنب الملائكة والجنة والناس ـ الدوابّ (١).

وطبعا هم «اللّاعنون» بحق ، فان هناك لاعنين بغير حق ، وغير لاعنين الكاتمين ، ف «اللّاعنون» هنا هم الذين يلعنون مع الله وبحكم الله وكما يلعن الله ، فلأن اللعنة الناتجة عن كتمان ما أنزل الله تشمل المحرومين عنه ، وتخلق جوّ البعد عن رحمة الله ، فكأن الكاتمين تحولوا بذلك الكتمان الى ملعنة ينصب عليها اللعن من مصادره ، ويتوجه إليها بعد الله من كل لاعن!.

ثم «ويلعنهم» ليس ـ فقط ـ إخبارا عن واسع اللعن ، بل وهو إنشاء أمرا لمن يأتمر أن يلعن الكاتمين ، في مثلث الجنان والقال والفعال ، خلقا لجوّ اللعنة عليهم حتى يحيدوا عن غيهم أن يذبلوا بعيّهم ، فإنهم ألعن الناس وأظلم الناس ، قلوبهم آثمة وفي بطونهم نار ، فما أنزل الله للناس هو شهادة لله عند العالمين به : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) (٣ : ١٤٠) وهو من إثم القلب الذي هو قلب الإثم : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (٢ : ٢٨٣) وقد أخذ الله ميثاق العلماء على التبيين (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) (٣ : ١٨٧) (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٦٢ ـ أخرج ابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن البراء بن عازب قال : كنا في جنازة مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال : ان الكافر يضرب ضربتين بين عينيه فيسمعه كل دابة غير الثقلين فتلعن كل دابة سمعت صوته فذلك قول الله (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

٢٥٢

النَّار) (٢ : ١٧٤) (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (٤ : ٣٧).

وبيان ما أنزل الله واجب كفائي ليس على أعيان العلماء ككلّ ، ويكفيه برهانا أن ليس بعد بيان من فيه الكفاية أيّ خفاء فلا كتمان ، ولكنما الكفاية قلّما تتفق أم لا تكون إمّا لعدم قيام من فيهم الكفاية ، أم عدم الكفاية في العلماء الحضور ، فيجب التعلم قدر الكفاية حتى يمكن التعليم ممن فيه الكفاية ، فما دام في العالم جهّال فالعلماء الساكتون ـ غير المعذورين ـ لا يعذرون ، وكذا الذين بإمكانهم التعلّم حتى يعلموا ولا يتعلمون.

ثم البيان في كل عصر ومصر يتطور حسب الحاجة والإمكان ، دون جمود على سنّة خاصة متعوّدة ، فلكل حال مقال ، ولكل مجال حال ، كما الأدواء تختلف حسب مختلف الحال.

فمن المجاهيل من هم بحاجة إلى كلتا البينات والهدى ، ومنهم من تنقصه البينات وهو منجذب إلى الهدى ، ومنهم من تنقصه الهدى دون البينات ، ف (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٦ : ١٢٥).

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٦٠).

هنا استثناء عن اللعنة الناتجة عن الكتمان بتوبة عنه ، ولا فقط قلبية بينه وبين ربه ، بل «وأصلحوا» ما أفسدوا بكتمانهم «وبيّنوا» ما كتموا ، ومنه كتمانهم كتمانهم ، إذ كانوا كاتمين أنهم كانوا كاتمين ، فكل من فسد وأفسد بكتمانهم لا بد وأن يصلحوه معرفيا وعمليا ، فمن كان حيا فأصلحه وبين له فله ، ومن مات على فساد الكتمان فعليه ، وتوبة الله عليه تختص بما أصلح

٢٥٣

وبين دون سواه ، قاصرا عنهما بموته أم مقصرا بتكاسله ، فانه على أية حال مقصر في كتمانه ولا عفو كليا إلّا إصلاحه.

فحين يتوب ويستطيع الإصلاح عما كتم والبيان لحدّ يرجع المضلّل عما ضل بكتمانه ، (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) وحين لا يتوب إطلاقا ف (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) في الأولى والأخرى ، وحين يتوب ولا يصلح او يبين على مكنته مقصرا ، أم لا يتمكن لصمود المضلّل على ضلاله أم موته ، فهو عوان بينهما ، فالتوبة درجات كما الكتمان دركات و (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) ، ولأن قبول التوبة رحمة من الله وحنان ، فهي غير مفروضة على الله إلا كما كتب على نفسه ، فهنا يسقط السؤال انه حين لا يقدر على إصلاح ما أفسد ولا البيان فما هو ذنبه في قصور ، حيث الجواب انه معاقب على ما قصر اللهم إلا فيما جبر ، فهو بالنسبة لما لم يجبر من كتمانه مستحق اللعنة قصر ام قصّر مهما بان البون بينهما.

وإذا لم يستطع هو على الإصلاح بنفسه والبيان فليحاول فيهما بعلماء ربانيين بامكانهم ما هو عنه قاصر ، حيث إن واجب الإصلاح لا يختص بنفسه دون وسيط.

فهؤلاء المصلحون الذين بيّنوا بعد ما أفسدوا بما كتموا ، يفتح لهم القرآن هذه المنافذ المضيئة الثلاث ، ذريعة الخلاص ، يفتحها لهم فتنسم لهم نسمة الأمل على ضوء جادّ العمل ، في إعلان صارخ لكل التائبين المصلحين : (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

فأما المصرون على كتمانهم فلا يزدادون إلّا لعنات على لعنات :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ١٦١.

٢٥٤

(الَّذِينَ كَفَرُوا) ايّا كان كفرهم ، ولا سيما كفر الجحود بالله أم برسالات الله ، أم وكفر الكتمان لما أنزل الله من البينات والهدى (وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) دون توبة وإصلاح (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ) إبعادا عن رحمته «والملائكة» إمساكا عن إنزالها بإذن الله ، واستمساكا بالله في ذلك الإبعاد (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) قد تعني جمع الناس الى الملائكة ، ثم جمعهم في لعنتهم الى الله استدعاء منه ، مهما خرج ناس عن كونهم لا عنين كالملعونين أنفسهم وأضرابهم ، أم وهم أنفسهم يلعنون أنفسهم بما حرموها عن رحمة الله ، كلعنة تكوينية الى تشريعية لمكلفي المؤمنين (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ، وهل (الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا تعم المرتدين عن إيمان؟ طبعا نعم ، مهما كان منهم الذين لم يؤمنوا وأمامهم دلائل صدق الإيمان ، وكذلك الذين كفروا لا عن إيمان ولا عن دلائل الإيمان الحاضر ، وإنما لم يفتشوا عن صالح الإيمان ، فقد تشمل (الَّذِينَ كَفَرُوا) ثالوثه مهما كانوا دركات كما الإيمان درجات وهل إن الموت هنا ـ فقط ـ هو حتف الأنف ، فإن جن على كفره ثم مات بعد ردح لم يمت كافرا حيث المجنون لا مؤمن ولا كافر؟.

القصد من الموت هو انقطاع التكليف دونه ، أن لم يكن يفيق في حياة التكليف عن جنّة كفره ، وليست النجاة عن وصمة الكفر إلّا بالتوبة الصالحة وهذا لم يتب حتى جن ومات على جنته ، فقد مات وهو كافر ، ام مات عن حياة التكليف على حاله ، ام ولأقل تقدير لم يتب ، والمستثنى من اللعنة هو التائب المصلح المبين!.

صحيح ان المجنون لا هو مؤمن ولا كافر ، ولكن الذي كفر ثم جن ومات على جنونه لم يمت وهو مؤمن فما هو السبب لتكفير عن كفره ، بل مات وهو كافر حيث استمر كفره الى جنونه وهو مرحلة من موته ، مهما لم يكن مكلفا حال جنونه.

٢٥٥

وهل إن أضرابهم من الكفار ـ أيضا ـ يلعنونهم كما المؤمنون؟ وهم يستحسنون كفرهم! إنهم يلعنونهم هنا إبعادا زائدا عن رحمة الله بما يستحسنون : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (٢٩ : ٢٥) كما وكل كافر يلعن الكفار والظالمين زعما منه أنه مؤمن جهلا مقصرا.

وقد تلمح آيتنا أن التوبة عن الكفر قبل الموت ـ أيّا كان ـ مقبولة بشروطها ، والقول الفصل حول أحكام الكفر والارتداد والتوبة راجع الى محله الأليق كآل عمران : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٨٦ ـ ٩١).

(خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ١٦٢.

والخلود ـ كما لمحنا له في مختلف المجالات ـ هو البقاء مدة طويلة ، و (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ) وما أشبه لا تدل على لا نهائية العذاب ، بل هو دليل عدم تخفيفه ما داموا ودام العذاب قدر الاستحقاق ، وأما إذا فنوا بفناء النار فليس ذلك تخفيفا في أيّ من الأعراف إلّا إذا فنت النار قبل ذوقهم ما يستحقون من العذاب ، أم خرجوا عن النار قبل كمال العذاب الذي يستحقون ، فإنهما تخفيف عن مدة العذاب ، ام خفف عنهم العذاب عدّة لا مدّة ، ام خفف فيهما ، فكل ذلك تخفيف ، وأما إذا ذاق مستحق العذاب كما وكيفا ثم فنى بفناء النار ، أم أخرج قبل فناءها باستحقاق ، فما ذلك بتخفيف في العذاب.

٢٥٦

فأسطورة اللّانهائية في العذاب كشريطة تدار بين من لا يحسبون لحق الله وخلقه حسابا ولا يرجون لله وقارا أم هم غافلون ، إنه ظلم عظيم أن يقابل العصيان المحدود بأثر محدود من عاص محدود ، بعذاب غير محدود ف (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)؟!.

وضمير التأنيث في «فيها» راجع إلى اللعنة ، فهم ـ إذا ـ خالدون ـ ما هم أحياء في النار ـ في لعنة مثلثة الزوايا ، فهي تجنح إليهم وهم في النار بما خلّفوا من سنة الكفر والكتمان ، كما ويعذّبون بهذه اللعنات في أمد الخلود أبديا وسواه.

ثم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) في خلود العذاب غير المخفّف عنهم ، حين يستنظرون ، بل يقال لهم (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ).

ذلك لأنهم أغلقوا على أنفسهم كل منافذ الرحمة يوم الدين ، فقد حملوا معهم لعنة مطبقة من كل لاعن لا ملجأ منها ولا صدر حنون ، وتلك اللعنة هي أم العذاب وأساسه ، والنار هي مؤله ومساسه ، لعنة متسيطرة ما دام في حياة التكليف جنة أو ناس ، حيث إن كفر الكتمان خلّف لعنة طول خط الحياة ، على المؤمنين خلقا لجوّ اللّاإيمان ، مما شكّل عليهم مصائب لتطبيق الإيمان ، فأشكل عليهم حياة الإيمان ، وعلى سواهم من قاصرين إذ ابتعدوا عن الإيمان ، وعلى المقصرين إذ أوثق رباط كفرهم ضد كتلة الإيمان.

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ١٦٣ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ١٦٤.

٢٥٧

هنا وحدة الألوهية مزودة بآيات سبع (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) حقّ العقل ، وهي : «١ خلق السماوات والأرض ـ عبارة أخرى عن خالقيته ـ ككل ـ لكل كائن ـ ٢ واختلاف الليل والنهار ـ ٣ والفلك ... ـ ٤ وما أنزل الله ـ ٥ وبت فيها ... ـ ٦ وتصريف الرياح ـ ٧ والسحاب المسخر».

و «إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ونصر النبيين بالبيان ودلهم على ربوبيته بالأدلة فقال : وإلهكم اله واحد ...» (١).

فإن «وجود الأفاعيل دلت على أن صانعا صنعها» (٢) وهذه الأفاعيل السبعة دالة بإتقان على خالق ومدبر واحد (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) حيث الرحمة الرحمانية العامة والرحيمية الخاصة هنا وهناك نجدها بانتظام دون تفاوت واصطدام : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ...)؟!.

آيتنا تلك هي من أوسع الآيات التوحيدية دلالة على توحيده تعالى من جوانب شتى، وفي أسباب النزول أنها نزلت بديلة عما اقترحته قريش عليه (صلّى الله عليه وآله وسلم) «ان يجعل لنا الصفا ذهبا ...» (٣).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٤٩ في اصول الكافي بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم قال قال لي ابو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) يا هشام ...

(٢) المصدر عن كتاب التوحيد قال هشام فكان من سؤال الزنديق أن قال : فما الدليل عليه؟ قال ابو عبد الله (عليه السلام) : وجود الأفاعيل ... ألا ترى انك إذا نظرت الى بناء مشيد مبني علمت أن له بانيا وان كنت لم تر الباني ولم تشاهده.

(٣) الدر المنثور ١ : ١٦٣ ـ أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال قالت قريش للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أدع الله ان يجعل لنا الصفا ذهبا نتقوى به على عدونا فأوحى الله إليه إني معطيهم فاجعل لهم الصفا ذهبا ولكن ان كفروا بعد ذلك عذبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فقال رب دعني وقومي فأدعوهم يوما بيوم فأنزل الله هذه الآية.

٢٥٨

الآية الأولى من السبع : ١ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وترى أنه «خلقه السماوات ...»؟ والناكر لربوبيته ناكر لخلقه واحدا أو كثيرا ، مهما اعترف المشركون أنه خالق!.

فكأن «خلق» هنا بمعنى «مخلوق» : إن في مخلوقية السماوات والأرض ، أو أنه «خلق» دون فاعل مصرح ، يصرح به الكون المخلوق ، وعلى أية حال فحدوث الكون بسماواته وأرضه دليل أن له محدثا ، وأصول الدلالة على حدوث الكون ككلّ هي : التركّب ـ التغيّر ـ الزمان والحركة ، فإنها أدلة قاطعة لا مرد لها على حدوث الكون بمادته الأولية الأم ، إذا فله محدث.

ولأن الخلق على شتات أجزاءه وخواصه منسجم كهيكل واحد ذي أجزاء مرتبطة مع بعضها البعض ، ف (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) فذلك دليل وحدة الخالق ، فان من لزامات تعدد الخالق عديد الصنع المتفاوت ، إضافة إلى استحالة التعدد في الكمال المطلق اللّامحدود ، حيث العدد بحاجة إلى مايز بين أصحاب العدد مزيجا بجهة الاشتراك وذلك تركّب وعجز ونقص في كيان الخالق.

٢ (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ولنأخذ مثالا ماثلا بين أيدينا ليل نهار ، الليل والنهار الأرضيين ، والاختلاف افتعال من اخلف ان يتكلف الإتيان خلف الآخر ، او الخلف ان يختلف عن الآخر تخلفا عن مسيره أو مصيره ،

__________________

ـ وفيه عن أبي الضحى قال : لما نزلت : وإلهكم إله واحد عجب المشركون وقالوا إن محمدا يقول : وإلهكم إله واحد فليأتنا بآية ان كان من الصادقين فأنزل الله ...

وفيه عن عطاء قال : نزل على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة : وإلهكم إله واحد لا إله إلّا هو الرحمن الرحيم ـ فقال كفار قريش بمكة كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله : (إِنَّ فِي خَلْقِ ...).

٢٥٩

فالاختلاف ـ إذا ـ منه رحمة ومنه زحمة ، والأوّل هو المعني من اختلاف الليل والنهار ، أن يأتي كل خلف صاحبه وفق نظام التدبير من الخلاق العظيم. فالليل والنهار كلّ مختلف صاحبه ، وليس مختلفا عن صاحبه متخلفا عن مسيره ، ولا مختلفا «في» مع صاحبه ، وذلك الاختلاف يأتي في أبعاد هي ـ إضافة الى اختلاف كلّ صاحبه في الظهور ـ اختلاف في البعد الزماني والمكاني ، فاننا نجد في كرتنا الأرضية على كل حال ليلا ونهارا مع بعض في أفقين متقابلين اختلافا مكانيا ، ونجد كلّا من الليل والنهار تختلف ساعاته ، فأقصر الأيام هو نصف ساعة كما في السويسرا ، وأطولها ستة أشهر كما في القطبين ، وبينهما عوان من ١٢ ـ الى ـ ٢٠ ـ الى ٢٤ ساعة ، فالحركة اليومية الأرضية على محورها ترسم لها الليل والنهار بمواجهة نصف الكرة أو يزيد مع الشمس ، اكتسابا من نورها وحرارتها فيسمى النهار ، واستتار الشمس عن النصف الآخر أم يقل ، فتدخل تحت الظل المخروطي وتبقى مظلمة فتسمى الليل ، اختلاف دائب لكلّ من الفرقدين وراء بعضهما البعض حول الأرض.

وعامل ثان هو ميل سطح الدائرة الإستوائية او المعدل عن سطح المدار الأرضي في الحركة الانتقالية شمالا وجنوبا ، وقضيته ميل الشمس من المعدّل شمالا أو جنوبا راسما للفصول ، وهو سبب استواء الليل والنهار في خط الإستواء في القطبين.

أما القطبان أنفسهما فلهما في كل سنة شمسية تامة يوم واحد وليلة واحدة كل منهما نصف سنة ، والليل في قطب الشمال نهار في قطب الجنوب وبالعكس.

فالسنة في المنطقتين القطبيتين نصفها ليل ونصفها نهار على التساوي ، ثم بينهما وخط الإستواء يختلف كلّ من الليل والنهار عن الآخرين من ١٢ ساعة

٢٦٠