الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٨

هؤلاء الأنكاد كانوا يستعملون آلة الخير في الضر بالناس ، ويخيّل إليهم أنهم هم الضارون به بعيدا عن إذن الله ، حال أنهم ـ كضابطة عامة في كل ضر وشر أم خير ـ (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

أترى الله يأذن بتأثير الضر تكوينا ما لم يسمح به تشريعا وهو تناقض؟ هنا الضر بإذن الله ليس إلا بعد تكملة الإختيار من اصحاب الضر والشر ، فلا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين ، وكما لا جبر في فعل الخير او تركه ، كذلك لا جبر في فعل الشر او تركه ، وهكذا التفويض ، فأمر بين أمرين في هذين الأمرين ، أن المقدمات لكل فعل اختياريّ ، منها اختيارية يختارها الفاعل ، ثم الإذن التكويني الخاص بالله ـ قضية توحيد الأفعال ـ هو الذي يبرز عملية الإختيار إلى الوجود ، فقد يأذن الله تحقق محاولات الشر ، إذ لولاه لكان الشرير مسيّرا في ترك الشر ، كما في كل شرير واصل إلى شره ، وهذه ضابطة عامة تحلّق على الخيرات والشرور.

وقد لا يأذن ـ لأمور طارئة ، حكمة من الله ، أم لصالح فيمن يؤمن عن الشر ، أم هما كما لم يأذن الله للنار أن تحرق ابراهيم ، وهو يأذن لها ان تحرق كضابطة عامة سارية المفعول عند الشرائط الخلقية.

إذا ف «لا مؤثر في الوجود إلا الله» ولكن دون جبر أو تفويض في الأمور

__________________

ـ تجربة وبعضه علاج ، قال : فما تقول في الملكين هاروت وماروت ، وما يقول الناس بأنهما يعلمان السحر؟ قال : انهما موضع ابتلاء وموقف فتنة بتشييحهما اليوم لو كان فعل الإنسان كذا وكذا لكان كذا وكذا ، ولو يعالج بكذا وكذا لصار كذا اصناف السحر ، فيعلمون منهما ما يخرج عنهما فيقولان لهم : انما نحن فتنة فلا تأخذوا عنا ما يضركم ولا ينفعكم ، قال : أفيقدر الساحر أن يجعل الإنسان بسحره في صورة الكلب او الحمار او غير ذلك؟ قال : هو أعجز من ذلك وأضعف من ان يغير خلق الله ، ان من أبطل ما ركبه الله وصوره فهو شريك الله في خلقه تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

٨١

الاختيارية ، فانما الفعل يصبح اختياريا للفاعل ، او الترك للتارك ، إذا كانت بعض مقدماته اختيارية ، مهما كان الإختيار درجات او دركات في الخيرات والشرور ، حسب عديد المقدمات كثرة وقلة ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

(وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) من الشياطين ، فإنهم يعلّمون الناس السحر ضرّا ، أم من الملكين ، مهما علّموهم ما ينفعهم إبطالا لضر السحر وشره ، ولكنهم بسوء اختيارهم يستعملونه في الشر بدلا عن إبطاله.

والسحر هو كسائر العوامل الخفية ـ الطبيعية ـ عن جلّ الناس ، يؤثر أثره حين يأذن به الله ، والعلوم الباحثة عن خفيات التأثيرات الغريبة متشجرة ـ وهي في نفس الوقت متشاجرة ـ واعرف ما تداول منها : السيمياء ـ الليمياء ـ الهيمياء ـ الريمياء ـ والكيمياء(١) ، وهي مشتركة في كونها من السحر ، مختلفة في

__________________

(١) فالسيمياء هو العلم الباحث عن تمزيج القوى الارادية بقوى مادية خاصة للحصول على غرائب التصرفات في الأمور الطبيعية ، كالتصرف في الخيال المسمى بسحر العيون وهو من ابرز مصاديق السحر ، والليمياء هو الباحث عن كيفية التأثيرات الإرادية باتصالها بالأرواح القوية العالية كالارواح الموكلة بالكواكب والحوادث وغيرها بتسخيرها او باتصالها واستمدادها من الجن بتسخيرهم ويسمى بفن التسخيرات.

والهيمياء هو الباحث عن تركيب قوى العالم العلوي مع العناصر السفلية للحصول على عجائب التأثير وهو الطلسمات ، فان للكواكب العلوية والأوضاع السماوية ارتباطات مع الحوادث المادية كما ان العناصر والمركبات وكيفياتها الطبيعية كذلك ، فلو ركبت الأشكال السماوية المناسبة لحادثة من الحوادث كموت فلان وحياة فلان وبقاء فلان مثلا مع الصور المادية المناسبة انتج ذلك الحصول على المراد وهذا معنى الطلسم.

والريمياء هو الباحث عن استخدام القوى المادية للحصول على آثارها بحيث يظهر للحس أنها آثار خارقة بنحو من الأنحاء وهو الشعبذة ، وهذه الاربعة مع الكيمياء ـ الباحث عن كيفية تبديل صور العناصر بعضها الى بعض كانت تسمّى عندهم بالعلوم الخمسة الخفية ... ـ

٨٢

أسبابها وتأثيراتها وأبعادها في النفوس وواقع الحياة.

(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ) السحر من الشياطين الضارّين به ، أو الناس المشترين إياه منهم ، أم هما معا (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) ونصيب (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) إذ شروها بيعا بثمن السحر الضار ، فأبقوا نفوسهم بتعلم السحر والإضرار به ، واستحقوا العقاب ، ويكأنهم رضوا بالسحر ثمنا لنفوسهم ، إذ عرّضوها بعمله للهلاك ، وأبقوها لدائم العقاب ، وكانت كالأعلاق الخارجة عن أبدانهم بأنقص الأثمان وأدون الأعواض.

أولئك الذين بدلوا نعمة الله كفروا وأحلوا قومهم دار البوار. جهنم يصلوها وبئس القرار!

هذا ما يتسابق الى الفهم من مغزى الآية بصورة تجريدية صالحة لفظية ومعنوية ، والقرآن حمال ذو وجوه فاحملوه إلى أحسن الوجوه.

ف «الشيطان» هنا تعم شياطين الجن والإنس ، ومن الآخرين هؤلاء العلماء السوء الذين دسّوا في كتابات الوحي ما يمس من كرامة الساحة الرسالية لسليمان وأضرابه من المرسلين.

فقد كفر شياطين الجن إذ ألقوا إليهم ما ألقوا ، وكفر هؤلاء التلاميذ إذ دسوا في كتب الوحي ما دسوا.

__________________

ـ (تفسير الميزان نقلا عن الشيخ بهاء الدين العاملي) ثم يستمر قائلا : ومن العلوم الملحقة بما مر علم الاعداد والأوفاق وهو الباحث عن ارتباطات الأعداد والحروف للمطالب ووضع العدد او الحروف المناسبة للمطلوب في جداول مثلثة او مربعة او غير ذلك على ترتيب مخصوص ، ومنها الخافية وهو تكسير حروف المطلوب او ما يناسب المطلوب من الأسماء واستخراج أسماء الملائكة او الشياطين الموكلة بالمطلوب والدعوة بالعزائم المؤلفة منها للنيل على المطلوب ، ومنها التنويم المغناطيسي وإحضار الأرواح وهما كما مر من تأثير الارادة والتعرف في الخيال واشتهار أمرها يغني عن الإشارة إليها هاهنا والغرض مما ذكرنا على طوله إيضاح انطباق ما ينطبق منها على السحر او الكهانة.

٨٣

وما قصة نازل السحر على الملكين إلّا بلية صالحة لغربلة الناس ، ليظهر ناسهم عن نسناسهم ، فيعرفون أنفسهم ويعرفهم الناس ، كيف هم يبدلون نعمة الله كفرا ، ويستغلونها في الضر والشر؟. كما و (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ ...) (٢ : ٢٤٩) وإلى سائر الابتلاءات والفتن الربانية.

ولقد كثرت رواة هذه القصة وقلت رعاتها ، اهتماما بأيّة رواية ، وتغافلا عن أيّة رعاية ، ولا يصدّق منها إلّا ما صدقه كتاب الله ، ام ـ ولأقل تقدير ـ لم يكذبه ولم يأت برهان لتكذيبه ، فقد يحتمل إذا صدقه.

هذه القصة وأضرابها مما تمتّ بصلة إلى إسرائيل هي مسرح الأكاذيب والمختلقات الزور الغرور ، التي يدسها بين أحاديثنا الغرور ، ولا أصل لنا أصيلا نصدر منه ونرجع إليه إلّا القرآن العظيم.

وكثير من هذه الأحاديث ـ كغيرها ـ الواردة في مطاعن الأنبياء وعثراتهم ، هي مما دسته اليهود في أحاديثنا ، كما وأعانهم عليها قوم آخرون من المسيحيين ومنافقي المسلمين ، وجهالهم البسطاء!.

والقرآن يفصح عما دسوا وأخفوا ، ويفضح ما صفوا فيه ودفوا ، فانه مهيمن على ما بين يديه.

إنهم كفروا بذريعة الايمان والأمان ، وطغوا فيها بديلا عن التقى :

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ١٠٣.

«لو» الأولى تحيل إيمانهم وتقواهم ، كما الثانية تحيل علمهم بمثوبة الله ، وهما استحالتان بالاختيار : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ).

٨٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ

٨٥

عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) (١١٥)

٨٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)١٠٤.

(مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (٤ : ٤٦).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) صيغة سائفة في القرآن لقبيل الايمان ، يختص بها المؤمنون بهذه الرسالة الأخيرة ، وهذه هي المرة الاولى في القرآن حسب التأليف ـ دون التنزيل ـ ونجدها في القرآن زهاء خمسة وثمانين مرة.

ثم الأمم الأخرى حسب التعبير القرآني هم بين : قوم ـ اصحاب ـ بني ... ناس ـ وأضرابها ، مما يبرز شرف هذه الأمة الاخيرة على ما قبلها ، ولأن ايمانها أشرف ايمان بين مؤمني الأمم بأسرها.

«راعنا» في لغة المسلمين لا تعني إلّا : أنظرنا رعاية لحالنا ، وهي ـ ليّا باللسان ـ في لغة إسرائيل : سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع أمّا شابه نقيضا لإسلاميتها ، واليهود المتعودون على تحريف الكلم من بعد مواضعه كانوا يستعملون هذه الصيغة السائغة لقبيل الايمان ، كصيغة لقبيل الكفر ، متظاهرين أنها كالأول ، مستهزئين بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين ، فنهى الله المسلمين أن يقولوها ابتعادا عن ذريعة إسرائيلية الى بغية لئيمة ، وكذلك عما تعطيه «راعنا» من هيّن المعنى وهو إدارته الحفظ مع تولي الأمر ، وليس هي على الرسول (ص) وإنما عليه البلاغ ثم النظر الى المبلّغ إليهم كيف يعلمون؟.

إذا ففي «راعنا» ذريعة إسرائيلية لعينة ، ومزرءة اسلامية مهينة ، ولكن

٨٧

«أنظرنا» نظرا رساليا كشهيد على المرسل إليهم ، ذلك تعبير نظيف حفيف.

(قُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا) سمعا لمقالات الرسالة ، وتطلّبا من الرسول أن ينظر إليهم نظر الرقابة هل عملوا بما سمعوا ، ام هل وعوا ما سمعوا ، ليطابق الوعي البلاغ ، ويوافق العمل ما بلّغ ، تكميلا لنقص الوعي ، وتقويما في التطبيق.

فهذا هو المطلوب من الرسول بعد البلاغ ، دون الرعاية لأحوالهم وكأنه هو الشارع ، فليخفف عنهم في شرعته ، ففي تركهم قول «راعنا» سدّ على ثغرة إسرائيلية ، وآخر على مجهلة إسلامية.

ثم «راعنا» عربيا مفاعلة من الرعاية ، طلبا لها ، فقد يعني ليّها بألسنتهم ليّ التعبير ك «راعنا» يعنون بها أن الرسول ما هو إلّا راعي الإبل فينا دون رسالة او ميّزة أخرى؟.

ام «راعنا» من الرعونة بحذف أداة النداء «يا راعنا» مدللا فيما تدعيه من الرسالة؟.

ام ليّ المعنى إيهاما بها للمساوات ك : ارعنا سمعك لنرعيك أسماعنا؟.

أم ليّا فيهما ، ففي التعبير ليّ يحرّف «راعنا» عن عربيته مثل «رعنا» : حمقا ، ثم المعنى كخليفة له : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) كما في آيتها الأخرى تفسيرا لها؟ ولا نجده في ليّ عربي إذ لم يكن يعني إلّا الرعونة وراعي الإبل واين هما من مثلث المعني هنا؟.

وعلّهم كانوا يجمعون بين اللّيين ، جمعا للمعنيين اللئيمين ، والقرآن يكتفي في آيته

الثانية بالثاني.

وقد بدل الله هنا «عصينا» ب «أطعنا» ـ ثم (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ)

٨٨

ب «اسمع» و «راعنا» ب «انظرنا» إصلاحا شاملا كاملا يسد الى ثغرة إسرائيلية : (طَعْناً فِي الدِّينِ) ثغرة إسلامية : جهلا في الدين ، وقد يناسب (طَعْناً فِي الدِّينِ) تفسيرا ل «راعنا» في ليّها ، بأنها من الرّعن ، وهي في العبرانية : الحمق ، أن كانوا يقولون «رعنا» اي : حمقا ، وحمق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وعوذا بالله ـ طعن في الدين عن بكرته ، فان الشرط الأوّل للرسالة هي العقلية البارعة للرسول ، وقد يروى عن الامام الباقر (ع) «هذه الكلمة سبّ بالعبرانية إليه كانوا يذهبون» (١) «يقولون راعنا يريدون شتمه» (٢).

والحق ان «رعنا» هو الأنسب ليا خفيا فيه لفظيا ، ثم طعنا في الدين معنويا ، مهما ليّوا إلى جانبه سائر اللي.

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ١٠٥.

__________________

(١). نور الثقلين ١ : ١١٥ عن المجمع.

(٢) تفسير البرهان عن الامام العسكري (عليه السلام) قال موسى بن جعفر (عليه السلام) وكانت هذه اللفظة «راعنا» من ألفاظ المسلمين الذين يخاطبون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقولون «راعنا» اي : ارع أحوالنا واسمع منا كما نسمع منك ، وكان في لغة اليهود معناه : اسمع لا سمعت ـ فلما سمع اليهود المسلمين يخاطبون بها قالوا : كنا نشتم محمدا إلى الآن سرا فتعالوا الآن نشتمه جهرا فكانوا يخاطبون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ويقولون راعنا يريدون شتمه ففطن لهم سعد بن معاذ الأنصاري فقال : يا اعداء الله عليكم لعنه الله أراكم تريدون سب رسول الله توهمون انكم تجرون في مخاطبته مجرانا والله لا أسمعها من أحد منكم إلا ضربت عنقه ، ولولا اني اكره أن أقدم عليكم قبل التقدم والاستئذان له ... لضربت عنق من قد سمعته منكم ... فأنزل الله يا محمد (مِنَ الَّذِينَ هادُوا ...) وانزل (لا تَقُولُوا راعِنا ...) فانها لفظة يتوصل بها أعداؤكم من اليهود الى سب رسول الله وشتمكم (وَقُولُوا انْظُرْنا) اي : قولوا بهذه اللفظة لا بلفظة «راعنا».

٨٩

التسوية بين قبيلي الكفر في «ما يودّ» تنديدة شديدة بكفار أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بهذه الرسالة السامية ، ف «ما يودّ» فيهم ، لها صبغة عنصرية إسرائيلية و «ما يود» في المشركين ، لها صبغة الجهالة القاحلة ، المستبعدة في الأصل أن ينزل الوحي على بشر ، (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) دون حبس لها وقصر على أهواء أولاء وهؤلاء ، (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) دون ما يزعمونه من فضل محدّد محدود ، أم فضل عميم لا يختص بأحد ، وجوابا عن نسخ آية رسالية أو إنساءها :

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ١٠٦.

وهذه ـ في وجه ـ نظرية آية النحل (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٠١).

وقد تعني آية البقرة من «آية» ما هي أعم من آية النحل ، من آية تحمل حكما أو أحكاما ، إلى آية الرسالة في أصلها ، وآية : الرسول ، فهي ـ إذا ـ مثلث الآية دون اختصاص ببعضها ، والأنسب للمقام هما الأخيران ، إلّا أن يعنى من آية الحكم كل كتاب الوحي : القرآن ، الناسخ لما بين يديه في أحكام.

وعلى أية حال فلا تعني (أَوْ نُنْسِها) ـ فيما تعني ـ إنساء آية عن خاطر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مهما كانت منسوخة الحكم (١) ، إذ سبقتها مكية كافلة لعدم

__________________

(١). ومن الاسرائيليات المختلقة الزور هنا ما في الدر المنثور ١ : ١٠٤ ـ اخرج جماعة عن ابن عباس قال : كان مما ينزل على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) الوحي بالليل وينساه بالنهار فانزل الله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) وفيه عن قتادة قال : كانت الآية تنسخ الآية وكان نبي الله يقرأ الآية والسورة وما شاء الله من السورة ثم ترفع فينسها الله نبيه فقال الله يقص على نبيه : ما ننسخ ...

٩٠

نسيانه أيّة آية : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) إقراء رباني يضمن ألّا ينسى ما اقرء ، و (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) راجع إلى «سنقرئك» دون «تنسى» ، كما فصلناه في محله.

هنا يخرّ سقف المختلقات الزور من آيات يدعى أنها كانت من القرآن ثم نسخت أو أنسيت عنه وعن خاطر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ يخر سقفهم من فوقهم وينهد صرحهم (١).

«آية» هنا هي آية الرسالة والآية الرسول ، ام وآية تحمل حكما ، ونسخ الآية الأولى وإنساءها هو نسخ الآيات المعجزات البصرية ، حيث نسخت بآية القرآن بصيرة خالدة تمشي مع الزمن ، والقرآن الآية خير من كلّ آيات الرسالات صورة ومادة ومدة ، نسخت تلكم الآيات وأنستها ، وكما نجد القرآن في عشرات من آياته يتحدى الناكرين بنفسه ، ويجعله كافية عن سائر الآيات الرسالية : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ...)!

__________________

(١). كما في الدر المنثور ١ : ١٠٥ ـ اخرج جماعة عن أبي موسى الاشعري قال : كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوفه الا التراب ، وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات أولها : سبح لله ما في السماوات ، فأنسيناها غير اني حفظت منها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة) وفي نقل آخر عن أبي موسى نفسه : قال : نزلت سورة شديدة نحو براءة في الشدة ثم رفعت وحفظت منها : ان الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ، وفيه عن أبي واقد الليثي قال : كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إذا اوحي اليه أتيناه فعلمنا ما اوحي اليه ، قال : فجئته ذات يوم فقال : ان الله يقول : انا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكوة ولو ان لابن آدم واديا لأحب أن يكون له الثاني ولو كان له الثاني لأحب ان يكون إليهما ثالث ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب ويتوب الله على من تاب. ولقد نسب اليه فيما يروى عن بريدة انه قرء هذه الجملات في صلاته كأنها آيات؟!

أقول : وحتى الطفولة في معرفة القرآن تضحك على هذه العبارات ، فأين هي في ألفاظها ومعانيها من القرآن. ان هي الا إسرائيليات تعني للقرآن ما عني لكتاباتهم المحرفة!

٩١

كما وأن الآية الرسولية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نسخت الرسل السابقين أو أنستهم ، لأنه جمع كلّ فضائل الرسل والرسالات وزيادات ، لحدّ هم يعتبرون تقدمات لمجيء هذا الرسول (ص) ، كما يعتبر وحيهم الرسالي بجنب وحيه وصية.

ثم الآيات الأحكامية الناسخة في القرآن ـ وهي قلة قليلة ـ قد أتى الله بها خيرا من المنسوخة او مثلها في الأثر الصالح للامة الأخيرة ، وقد يجري ذلك في آيات الإمامة إلّا في الإنساء فإنهم معروفون على مدار الزمن ، وقد يصدق «بِخَيْرٍ مِنْها» في صاحب الأمر ، ك «مثلها» في سائر الائمة خلفا لسلف (١).

ثم الآيات الرسالية قبل القرآن ، هي كذلك ، لا تأتي آية لا حقة منها إلّا ناسخة للسابقة او منسية ، وهي خير منها او مثلها ، والقصد من الآية الرسالية تثبيت الرسالة ، كلّ حسب المقتضيات والمصالح التي قد لا يعلمها إلّا الله ، فليست الآية الرسالية ـ وكما الرسولية ـ لتحصر في واحدة ، وتحسر عن سواها ، بل هي محلّقة على كل ما هو الأصلح للرسل والمرسل إليهم ، دلالة قاطعة على رسالاتهم.

وهنا مقابلة «ننسخ» ب «ننسها» تجعل النسخ إزالة الحكم مهما بقي في العلم ، وتجعل الإنساء إزالة عن العلم كما أزيل حكمه ، ومهما عمت «من آية» مثلث الآيات ، فلا تعمها (أَوْ نُنْسِها) فقد تنسى آية رسالية أم رسولية بين أمة لا حقة ، ولكن لا تنسى آية حكمية عن خاطر رسول ، حكما له او لمن

__________________

(١). نور الثقلين ١ : ١١٥ عن اصول الكافي علي بن محمد عن اسحق بن محمد عن شاهديه بن عبد الله الجلاب قال : كتب إلى ابو الحسن (عليه السلام) في كتاب : أردت ان تسأل عن خلف بعد أبي جعفر وقلقت لذلك فلا تغتم فان الله عز وجل لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ، ما يتقون ، وصاحبكم بعدي ابو محمد ابني وعنده ما تحتاجون اليه يقدم ما يشاء الله ويؤخر ما يشاء ما ننسخ من آية او ننسها نأت بخير منها او مثلها. قد كتبت بما فيه بيان وقناع لذي عقل يقظان.

٩٢

قبله ، ولا سيما محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى).

إن مشكلة النسخ كانت مشكلة كتابية إسرائيلية ، إحالة له أحيانا ، ونكرانا له أخرى ، سواء أكان نسخا لآية رسالية (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ...) (٦ : ١٢٤).

ام آية رسولية كالرسالة الإسماعيلية الناسخة للرسالات الإسرائيلية ، فرغم البشارات المحمدية في كتبهم أنكروه لمّا جاءهم لأنه ليس إسرائيليا.

ام آية او آيات أحكامية ، كما القرآن بالنسبة لما بين يديه ، والإنجيل بالنسبة للتوراة في أحكام ، ولا يعني النسخ الأحكامى ـ وكما النسخ الرسالي والرسولي ـ تجهيلا لساحة الرب أنه علم بعد جهل ، إنما الناسخ بيان لأمد المنسوخ ، كما الآيات المنسوخة القرآنية تلمح بنفسها أنها لأمد سوف يبيّن (١) فالحكم المنسوخ ان كان محددا بحد معلوم أم غير معلوم ، كان الناسخ بيانا للمجهول في غير المعلوم حدّه ، وتوضيحا للمعلوم والحكم الآتي بعده.

وإن لم يكن محدّدا بحدّ فهو مطلق فيه ، كان الناسخ كتقييد لإطلاقه وقتيا ، إذا فلا نسخ في الشرعة ـ في نفسها او لشرعة اخرى ـ بمعنى التعارض ، بل هو ـ ككلّ ـ بيان لانتهاء حكم سابق وابتداء حكم لاحق.

وفي (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) برهان قاطع لا مرد له أن الآية الثانية ـ أيا كانت ـ لا تقل عن الأولى ، بل وقد تزيد ، آية رسولية ام رسالية أم أحكامية ، فلا يصح القول بتقديم الأقدم من أولى العزم وتفضيله على لاحقة ، فإمّا هما

__________________

(١). فمثل قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ... فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) والسبيل هنا هي التي تحملها آية النور : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ).

٩٣

على سواء ، ام اللاحق خير من سابقه كما يصدق تماما في خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم).

و (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) تعم مثلث الرسالة وحيثها وحيثيتها مادة ومدة ، عدّة وعدّة.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومنه مثلث الآيات رسالية ورسولية وأحكامية :

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ١٠٧.

(أَلَمْ تَعْلَمْ) فيهما لا تخص بخطاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) اللهم إلا من باب إياك أعنى واسمعي يا جاره ، بل هو كلّ من يأهل لذلك الخطاب العتاب ، المعترض على نسخ آية أو إنساءها ، او المتلبّك فيه.

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) ١٠٨.

هذه تؤيد أن «من آية» في آية النسخ تعني ـ كأصل ـ آيتي الرسالية والرسولية ، إذ كانوا يستبعدون نسخها إلى شاكلة أخرى غير السابقة المتعوّد عليها في الرسالات ، كما و «أم» اضراب عما سبق من تساءل جوابه آية النسخ ، إذ تعنتوا متثاقلين متسائلين في هذه الآية الرسالية والرسولية.

و (كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) هو مثل سؤال الرؤية : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ...) (٤ : ١٥٣) : «وقالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ...) وكما برزت هذه الإرادة السيئة في أسؤلة جاهلة قاحلة من المشركين :

٩٤

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ... أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) (١٧ : ٩٢) (١).

ولان (أَمْ تُرِيدُونَ) تشمل أهل الكتاب والمشركين ، فالسؤال ـ إذا ـ يعمهما كما الأول للأولين والآخر للآخرين (٢).

ولقد آل أمر التسائل التجاهل لحد سألوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط ، وهي شجرة كان المشركون يعبدونها ويعلقون عليها التمر ، وكما سأل بنو إسرائيل موسى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) كما وتطلّبوا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ألّا يكسر اللّات ـ مهما كسر سائر الأصنام ـ حتى يؤمنوا!.

وترى الخطاب في (أَمْ تُرِيدُونَ) تشمل ـ فيما شملت ـ المسلمين؟ اللهم نعم ، قضية الإطلاق ، ولكنه ـ فقط ـ لحد إرادة السؤال دون واقعة ، ثم اللهم لا ، في واقع السؤال ، حيث الايمان لا يلائم هكذا سؤال ، اللهم إلّا من المنافقين ، وكما في أضرابهم من الكتابيين.

(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ) يقبل الكفر بدلا «بالايمان» في مسرح التبادل بين الكفر والايمان (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) تجارة خاسرة ، حاسرة عن أية عائدة.

__________________

(١). الدر المنثور ١ : ١٠٧ عن ابن عباس قال قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه او فجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك فأنزل الله في ذلك (أَمْ تُرِيدُونَ ...).

(٢) تفسير البرهان ١ : ١٤١ قال الامام العسكري (عليه السلام) قال علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) «أَمْ تُرِيدُونَ» بل تريدون يا كفار قريش واليهود «ان تسألوا رسولكم» ما تقترحونه من الآيات التي لا تعلمون فيه صلاحكم او فسادكم «كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ» واقترح عليه لما قيل له «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ...».

٩٥

هؤلاء يتبدلون الكفر بالايمان لأنفسهم ويودون آملين نفس القصة للمؤمنين :

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ١٠٩.

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).

إعلان صارخ عن كيد لئيم يكيده كثير من اهل الكتاب جموع المؤمنين (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ ...) تمنيا باطلا قاحلا في ودّهم المضلّل «يردونكم كفارا» ولماذا؟ (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) لا جهلا بحقكم ، فإنما مجال الحسد منقبة لا ينالها الحاسد ام لا يريد نيلها ولكنه يراها منقبة ، وذلك (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) و «هم» يعمهم وأهل الحق ، ويا للعجب أن هؤلاء الحماقى في الطغاة يودون لو يردونهم كفارا ، والحق مبين لهم وللمؤمنين ، فقد (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) ويودون أن يتحول المؤمنون أمثالهم ، شيطنة مدروسة مدسوسة بين قبيل المؤمنين من هؤلاء الشياطين ، فما دائهم ـ إذا ـ وما دوائهم؟ فهل يحاربهم قبيل الايمان ، ذودا عن أنفس مؤمنة بسيطة سريعة التأثر بالدعايات المضادة؟ ام عفوا وصفحا في العجالة حتى يأتي الله بأمره ـ؟! ـ :

(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وكيف يعفى عن تلكم الدعاية المضللة الخطرة ، أم كيف يصفح عن الساعين في الأرض فسادا؟ ونفس العفو والصفح دليل حاضر القوة الدافعة والمحاربة!.

إنه ليس العفو عنهم والصفح إلّا مصلحة وقتية (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) فهو

٩٦

مطلق العفو المحدّد بإتيان أمره وليس العفو المطلق مهما بلغ أمر الكيد والإفساد منهم.

ولقد دافع الله عنهم سوء هذه الدعاية اللئيمة والشكيمة ـ فيما دافع (١) ـ بما أخبر رسوله والمؤمنين بكيدهم هذا ، فلا تجب قتالهم كدفاع عن إفساد العقيدة ، فانما أمر بالعفو والصفح لمصلحة ربانية ، علّ منها أن يعلم اهل الكتاب بفضحهم في كيدهم ، والمسلمون على قوتهم وعلمهم بذلك الكيد اللعين أمروا بالعفو والصفح ، علّهم يحيدون عما يكيدون آئبين الى ربهم ، ثم بعد ردح يومر بقتالهم حيث الإياس عن نبهتهم : و (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) منه امر السياسة الصالحة وجاههم حين لم يرتدعوا ولم يرعووا ، ومن أمره الآتي : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٩ : ٢٩).

وهنا الأمر بعد حدّه الزمني محدّد بسلوب أربعة ، انتهاء إلى استسلامهم (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) دفعا للجزية بعد انتهاء شرهم.

كما ومن أمره أمر هدايته لمن اهتدى بعد ضلال ، وارتدع بعد دلال ، ف

__________________

(١) التفسير الكبير للفخر الرازي ٣ : ٢٣٦ روي ان فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا الحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد : ألم تروا ما أصابكم ، ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلا ، فقال عمار : كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا : شديد ، قال : فإني عاهدت أني لا اكفر بمحمد ما عشت ، فقالت اليهود : أما هذا فقد صبأ ، وقال حذيفة : واما انا فقد رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا ، ثم أتيا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأخبراه فقال أصبحتما خيرا وأفلحتما ، فنزلت هذه الآية.

٩٧

«أمره» يعم التكوين والتشريع ، اللذين لم يكونا حاضرين حالا فيحضران استقبالا.

ويا لمقابلة أسوء السوء بالحسن لعلّهم يرتدعون ام يهتدون ، وليعلموا ان الله يردع المؤمنين عن قتالهم وهم أقوياء أمام هؤلاء الضعفاء الأغوياء ، الذين جمعوا كل شر وضرّ في ذوات أنفسهم :

(وَدَّ ... لَوْ يَرُدُّونَكُمْ ... حَسَداً ... مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ...)! والحسد هو ذلك الانفعال الأسوء الأسود الرديء الذي فاضت به نفوس اليهود تجاه الأمة المسلمة وما زالت تفيض ، منبعثة منه كل دسائسهم وتدابيرهم اللئيمة في كل دوائر السوء ضد الأمة المرحومة ، وقد كشف القرآن لنا منها لنعرفه فنحذرهم ، وقد يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «إن لنعم الله أعداء ، قيل وما أولئك؟ قال الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله» (١).

وهنا ـ في الوقت الذي تتجلى للمؤمنين هذه الشكيمة اليهودية ـ يدعو القرآن أتباعه إلى الارتفاع عن المقابلة بالمثل ، توجها الى الصفح والعفو (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) آمرا لهم بالمضي في طريقتهم المختارة :

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ١١٠.

فلا يزعزعهم ذلك الخطر الحادق عن ركني الايمان عمليا : إقام الصلاة وإيتاء الزكوة ، وبصورة عامة تقديم كل خير عقائدي وعملي لهذه الأنفس الطيبة المطمئنة بالله ، الناظرة لأمر الله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٣ : ٢٣٧.

٩٨

اللهِ) إذ يبقى ولا يفنى ، لا أصوات الأقوال ولا صور الأعمال ولا سير النيات والأحوال (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يخفى عليه خافية.

فلا تعني «تجدوه» ـ فقط ـ وجدان الثواب ، بل وحضور نفس الأعمال الخيرة (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ...).

ثم إن في إقام الصلاة بشروطها صلة وثيقة بينهم وبين ربهم ، كما في إيتاء الزكوة ماديا وروحيا وثيق الصلة بينهم أنفسهم ، فلا يبقى فيهم منفذ من تشكيكات العدو وعرقلاته كما ان «من خير» تحلّق على الصلتين في كافة الخيرات المأمور بها في شرعة الحق ، وفي تطبيقها ضمان اللّانفوذية من الكتلة المضللة.

ومن قيلات اهل الكتابين ، الغيلات الويلات ، التي طمأنتهم كما يزعمون فلا يحيدون عن أية خاطئة :

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ١١١.

وإذا انحصرت الجنة فيهما ـ كما يدعيها كل لنفسه ـ فانحسرت عمن سواهم طول تأريخ الرسالات ، فأين ـ إذا ـ مؤمنوا الشرائع السابقة على شرعة التوراة والإنجيل؟ أفهم في النار على إيمانهم! أم لا في جنة ولا نار!.

فيا للحقد من طيش قاحل وحكم جاهل أن (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) كما يدعيه اليهود و «لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى» كما تدعيه النصارى ، فلكي يطردوا المسلمين ـ ككل ـ عن الجنة لأنهم على شرعة جديدة يطردون معهم كافة المؤمنين في كل أدوار الرسالات قبل موسى والمسيح عليها السلام.

٩٩

(تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) كلّ أمانيهم ، على ما هم عليه من تخلفات عقائدية وعملية ، فمجرد الجنسية اليهودية او النصرانية تكفي لدخول الجنة فوضى جزاف! ولكن الإيمان والعمل الصالح في غيرهما لا يكفيان لدخولها! (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) فطريا ام عقليا ام كتابيا ، ام في ايّ من الأعراف البشرية السلمية (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أمانيكم.

وترى كيف تكون (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) جمعا فضلا عن كل أمانيهم؟ ولم تأت هنا إلّا واحدة (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ)!

لقد ذكرت هنا أماني عدة هذه أخيرتها ، ثم وهي تجمع كل أمانيهم الساقطة فانها كخلفيّة شاملة لها كلها.

أترى القرآن هنا يعارض دعواهم بالمثل ، معاكسا تلك القولة الخاوية أن «لن يدخل الجنة إلا من كان مسلما» كجنسية اسلامية تكفيها النسبة كيفما كانت؟ كلّا! وإنما :

(بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ١١٢.

«بلى» هنا تزييف ل (لَنْ يَدْخُلَ) ـ «بلى» يدخلها غير الهود والنصارى ، وكضابطة عامة رافضة لحواجز الجنسيات والطائفيات (بَلى مَنْ أَسْلَمَ ...).

فانما هو إسلام الوجه لله بكل الوجوه ظاهرة وباطنة ، عقائدية وعملية ، فردية وجماعية ، «أسلم ... وهو محسن» إسلام الإحسان وإحسان الإسلام وهما الإسلام عقائديا وعمليا ، (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) على قدر إسلام وجهه وإحسانه ما هو مسلم محسن (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

فقد يسلم مسلم وجهه لله في وجهيه وهو غير محسن ، كالعقيدة غير

١٠٠