الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٨

فأحرى أن يرجع إليه إصلاحا لما أفسدوا زعم الانتساب اليه في شرعتهم وطقوسهم.

هنا يبدأ بشريطة الإمامة الابراهيمية ، وهي الابتلاء العظيم ، إمامة لها شروطها وظروفها الخاصة كنبراس شامل لإمامة الرسالة ورسالة الإمامة على طول الخط.

ذلك ـ وليعلم بنو إسرائيل ، ألّا يرثوا الإمامة من إبراهيم كسائر الميراث الذي لا شرط فيه إلا قرابة الدم واللحم على شروطها ، فانما هي على شرط التوفية الشاملة لكل الابتلاءات الربانية وترك المظالم كلها مهما لم يكن من ذريته ، أم كان منهم من إسرائيل ، ام كان من بني إسماعيل حين تنقرض شروطات الإمامة في بني إسرائيل :

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ١٢٤.

«ابراهيم» مذكورة في سائر القرآن (٦٩) مرة في (٢٥) سورة وهي لغة سريانية قد تعني أب الجماعة الكثيرة وقد قرأت بأشكال تسعة (١) أثبتها

__________________

(١) والثمانية الأخرى هي : «إبراهام ـ إبرهم ـ ابرهم ـ ابراهم ـ ابراهم ـ ابراهم ـ ابرهوم» والظاهر ان هذه كلها الا لفظ القرآن سريانية أم عبرانية ، والمعربة الصحيحة هي «إبراهيم» ، وقد فسرت بتفاسير عدة ك «أب رحيم» برىء من الأصنام هام الى ربه ـ الشديد النظر ـ والأولان بعيدان لأنها سريانية لا نفسّر بتجزئات عربية ، رغم ان ذلك خلاف التجزئة أيضا ، فأين أب من أب واين راهيم من رحيم! مهما عنت الأب الرحيم من غير هذا التحليل ، وقد يعني الأب العالي كما في قاموس الكتاب المقدس للدكتور بوست ، يعني أب الجماعة الكثيرة (التكوين ١٧ ـ ٤ و ٥) : «أما أنا فهوذا عهدي معك وتكون أيا لجمهور من الأمم ٤ فلا يدعى اسمك بعد إبرام بل يكون اسمك إبراهيم لأني أجعلك أيا لجمهور من الأمم ٥ واثمرك كثيرا جدا وأجعلك أمما»

١٢١

وأضبطها «إبراهيم» حسب متواتر القرآن.

ولماذا هنا (إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) تقديما للمفعول وهو مفضول؟ علّه اختصاصا له بذلك الابتلاء ، ام ولان «ربه» لا مجال له ادبيا لو لا تأخيره إلّا تحريرا له ك «ابتلى رب ابراهيم إياه» فنقصان في ادب اللفظ ، ام «ابتلى رب العالمين ـ او ـ الله ـ ابراهيم» فنقصان في حدب المعنى حيث القصد بيان ربوبية خاصة في ذلك الابتلاء.

وهنا ابتلاء رباني خاص لإبراهيم الخليل يبتليه به ربه في أخريات حياته كما تلمح له (مِنْ ذُرِّيَّتِي) فقد كانت له ذرية بعد الإياس : (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) (١٥ : ٥٥) فلما وهب له ذريته قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) (١٤ : ٤١).

ثم ومن أهم الكلمات التي ابتلي بها فأتمها بعد نفس الإمامة هي قصة ذبح إسماعيل وهو بكر ذريته : (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ... إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) (٣٧ : ١٠٦) (١).

إذا فقد كان ابتلاءه بكلمات فأتمهن ، وكان ذلك في أخريات حياته النيرة ، مهما شملت «كلمات» طول حياته النيرة التي كانت كلها ابتلاءات بكلمات مهما كانت درجات ف (مِنْ ذُرِّيَّتِي) تشمل ذريته من إسماعيل كما من إسحاق.

__________________

. وهنا نعرف ان «أب» في السريانية هو الأب و «راهم» هو جمهور الأمم.

(١) ومن ذلك ابتلاءه بابيه آزر ونمرود وسائر المشركين ، ومن أبرز بلاءه هنا إلقاءه في النار وقول جبريل له : ألك حاجة وجوابه : أما إليك فلا ، وعلّ فوقه بلاء ابتلاءه بذبح اسماعيله (عليهما السلام).

١٢٢

والابتلاء الرباني هو الامتحان الاختبار ليظهر بإتمامه مكنون اللباقة والياقة ، إما للمبتلي والمبتلى أمامه كما في الخلق ، أم دون الاوّل كما للخالق فانه يعلم السر وأخفى ، وقد يكون الابتلاء من خلفيات اعتداء الناس قضية إيمانك او سواه ، او من نتائج تخلفك عن شرعة الله.

ثم وليس الابتلاء الرباني الايماني إلّا في أمور صعبة ملتوية معقدة ، لا يسطع لها إلّا الأشداء الأقوياء ، ويسقط دونها الضعفاء.

وإذا كان المبتلي هو الرب فالبلية هي الأشد حسب مختلف الأهداف منها بدرجاتها ، ولأن الإمامة الرسالية هي القمة المرموقة من درجات الكمال ، فالابتلاء الهادف إليها ، المحضّر لها ، هي أصعب البليات وأنسبها لهذه الدرجة العليا.

وهنا «ربه» دون «رب العالمين» أمّا شابه ، مما تلمح صارحة صارخة أن هذه البلية بكلمات هي بلية ربانية كما تناسب الساحة الإبراهيمية وسماحتها وكما يسطع له ويليق به دونما إطاقة تزيل الطاقة.

وهي مناسبة لتلك الإمامة الخاصة التي هي فوق الرسالة والنبوة حيث جعلت له بعدهما.

أترى ـ إذا ـ ما هي الكلمات؟ أهي ـ فقط ـ كلمات لفظية حمّلت عليه ليقولها؟ وليست فيها تكلّفات وبليات! فكثير هؤلاء الذين يكثرون من كلمات طائلة ـ أية كلمات ـ وليس لهم فيها ابتلاء ، ولا هم آهلون لمعانيها ومغازيها ، ولا أنهم مطبقوها! ثم التلفظ بهذه الكلمات ليس إتماما لها : «فأتمهن» بل هو «قالهن» أمّا شابه.

أم هي ـ فقط ـ أعمال شاقة لا يسطع لها إلّا أقوياء بالإيمان؟ وصحيح

١٢٣

التعبير عنها وفصيحه هو «الأعمال» أو «الصالحات» أما شابه دون «كلمات»!.

علّها هي كلمات الله التشريعية : الآمرة والناهية ، الخاصة بموقف الابتلاء الإبراهيمي ، التي يخلّف إتمامها الإمامة بإذن الله؟ ولكن «فأتمهن» بضمير جمع العاقل قد لا تناسبها!.

ام هي ـ فقط ـ تطبيق هذه الكلمات بما فيها تحمل الإمامة وذبح إسماعيل فتحقق ضمير العاقل؟ اضافة الى مواد عاقلة في سائر ابتلاءه فانها من منتوجات كمال العقل واللب.

قد تعني «كلمات» هنا كلا الأمرين الأمرين ، فاستماع تلك الكلمات التشريعية ولا سيما شرعة الإمامة ، الحصيلة عن سائر الكلمات ، إنه ابتلاء ، وتقبلّها دون تعنّت وسؤال ابتلاء ، وتطبيقها ابتلاء ، كما وقصة أمره بذبح إسماعيل (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) تشمل مثلث الابتلاء ، الذي لا يخلد بخلد اي مبتلى.

فإبراهيم : كلمة الله ، توجهت إليه كلمة الله ـ وهي أمر الله ـ أن يذبح إسماعيل كلمة الله ، وذبحه هو كلمة الله ، الدالة على قمة التسليم لله ، كما وتحمل الإمامة من عليا هذه الكلمات ، وهنا «فأتمهن» لائقة بهذه الكلمات ، فقد أتم استماع الأمر ، والايمان به ، والتسليم له ، ثم وتطبيقه.

ذلك! كما ومن الكلمات كلمات الله العليا الأربعة عشر المحمديون «أتمهن» إلى القائم اثنا عشر إماما تسعة من ولد الحسين (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٢٠ في الخصال عن المفضل بن عمر عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: سألته عن الآية ما هذه الكلمات؟ قال : التي تلقاها آدم من ربه فتاب ـ

١٢٤

والإتمام في ميزان الله ـ إن صح التعبير ـ هو إله الإتمام ، الذي ليس فوقه إتمام.

إذا فكل الابتلاءات الإبراهيمية طول حياته النيرة تشمله «كلمات» وهي الدالات على العناية القمة التربوية الربانية فيما أمره ربه ونهاه ، والدالات على قمة التسليم قلبيا إذ سلم له ، والدالات على تمام التسليم وكما له إذ طبقها ، و «أتمهن» هنا كما تعني أن الله أتم هذه الكلمات في ابراهيم تأييدا وتسديدا ، كذلك تعني أن ابراهيم أتمهن حسب الطاقة البشرية مزودة بعصمة ربانية ، ويقابله تركهن ، أو انتقصهن ، لا! بل «أتمهن» كما أراده الله منه ، وأتمهن الله تتميما لناقص الإرادة البشرية بعصمة إلهية.

(قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً).

هنا «قال» دون «فقال» : تفريعا للإمامة على إتمام الكلمات ، لأن إتمامها ليس إلا ظرفا صالحا لجعل الإمامة ، لا نتيجة ضرورية مفرّعة عليه ، أم ولأن من هذه الكلمات هي كلمات جعل الإمامة : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) ـ ومنها قوله : ومن ذريتي ، ثم جوابه : (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

فإن الإمامة ولا سيما هذه الكبرى ابتلاء عظيم بمسئوليتها الكبرى ، ثقيلة على من يحملها ، عظيم حملها بحملها ، ولكن ابراهيم (ع) أتمها وأتى بها كما أريد منه.

__________________

ـ عليه وهو انه قال : يا رب اسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين الا تبت على فتاب الله عليه أنه هو التواب الرحيم ، فقلت له يا ابن رسول الله فما يعني عز وجل بقوله فأتمهن؟ قال : أتمهن إلى القائم ...

١٢٥

ثم (إِنِّي جاعِلُكَ ...) مما يدل على انحصار جعل الإمامة بالله ، وانحساره عمن سواه ، و «جاعلك إماما ...» حيث اسم الفاعل عامل في مفعوليه هنا ، دليل انه جعل في الحال ، حيث الفاعل الماضي لا يعمل ، واما الاستقبال فهو مجاز يحتاج إلى دليل وصدق المشتق بمادته ليس إلّا بصادق واقعها في الحال.

والإمامة بإطلاقها هي القيادة الحقة كما هنا او الباطلة كما (جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) وليس المعني منها في ذلك الجعل ما دون العصمة من القيادة فان ابراهيم معصوم حينه بأعلى درجات النبوة ، وان الله لا يجعل قيادة روحية بانتصاب لمن هو دون العصمة ، فانه قد يخطأ او يقصّر او يقصر ، فكيف يأتمنه الله على قيادته للناس؟!.

بل وليست هذه الإمامة هنا هي الرسالة او النبوة ، فإنهما مجعولتان له ماضيتان ، ونفس (إِنِّي جاعِلُكَ) وحيا دليل على حاضر الوحي رسالة ونبوة ، فكيف يجعله صاحب وحي وهو رسول ، كما وهو الآن في مختتم عمره وقد آتاه الله الحكم والنبوة في شبابه : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (٢٦ : ٨٣) ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) (١٩ : ٤١) وذلك حين كان فتى وهو يحارب الآلهة المزيفة وعبّادها : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) (٤٩).

فلأن الإمامة هنا هي بعد كامل العبودية والنبوءة والرسالة والنبوّة والخلقة (١) حيث تخطّاها إلى القمة مرحليا كلّا تلو الأخرى ، إذا فهي الإمامة بين

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ١٤٩ عن الكافي بسند متصل عن زيد الشحام قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ان الله تبارك وتعالى اتخذ ابراهيم عبدا قبل ان يتخذه نبيا وان الله اتخذه نبيا ـ

١٢٦

المرسلين دون سائر الناس فحسب ، حيث الإمامة الرسالية على الناس كانت له سابقة ، فلتكن الإمامة الحاصلة بعد إتمام كلماتها هي الإمامة على المرسلين كما هم على سائر الناس.

فكل رسول ـ غير اولي العزم الذين دارت عليهم الرحى ـ هو إمام أمته ، وولي العزم فوقه هو إمامه ، مهما كان في زمنه أم يأتي بعده ، فقد جعل الله كلّا من اولي العزم إماما لسائر الرسل والنبيين.

فموسى إمام وكتابه إمام ، وطبعا لكافة الرسل الإسرائيليين إلّا المسيح (ع) : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً ...) (١١ : ١٧).

ثم الرسل الإسرائيليون بين الإمامين : موسى والمسيح ، هم كذلك أئمة لمن دونهما : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ. وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (٢١ : ٧٣) (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ. وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (٣٣ : ٢٤).

وهنا مرتبة ثالثة من الإمامة الرسالية تحلّق على ولاية العزم وما دونها من رسالات هي الإمامة المحمدية السامية ، المنقطعة النظير بين ملاء العالمين ، من الملائكة والجنة والناس أجمعين ، كما يبيّنها هكذا أمثال قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ

__________________

ـ قبل ان يتخذه رسولا وان الله اتخذه رسولا قبل ان يتخذه خليلا وان الله اتخذه خليلا قبل ان يتخذه إماما ، فلما جمع له الأشياء قال : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) قال : فمن عظمها في عين إبراهيم (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال : لا يكون السفيه إمام التقي.

أقول : «نبيا» هنا تؤول الى النبوءة فبعدها الرسالة ثم لم يذكر النبوة بعدها اكتفاء بالخلة.

١٢٧

اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) اضافة إلى أنه إمام سائر المكلفين ، كذلك هو إمام المرسلين والنبيين ، وإمام على اولي العزم من الرسل نوح وابراهيم وموسى وعيسى ، كما وهو امام على الأئمة الإثني عشر من عترته المعصومين سلام الله عليهم أجمعين ، وامام على كافة الكروبيين.

ف (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) تعني الإمامة الوسطى ، دون العليا المحمدية ، ولا الدنيا الرسالية لغير من دارت عليه الرحى من الرسل.

اجل! وإنها لا تعني أية إمامة رسالية بدرجاتها ، لكي تطرد رسالة آدم (ع) إذ ظلم بما أكل من الشجرة فغوى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) يعني عهد الإمامة الوسطى كما لإبراهيم ، وباحرى العليا كما لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) دون سائر الإمامات في سائر الرسالات وأدناها رسالة آدم وقد (عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٢٠ : ١٢١).

ف «عهدي» هنا هو ذلك العهد الخاص ، دون أي عهد كان ، فعهد الفطرة الإنسانية ـ المعبر عنها بفطرت الله ـ يناله كل إنسان ، وعهد العقلية الإنسانية يناله كل عاقل ، وعهد الشرعة الإلهية يناله كل مؤمن ، وعهد الرسالة الإلهية لا يناله إلّا المصطفون مهما سبق لهم ظلم مّا كآدم ، ثم عهد الإمامة بين المرسلين لا ينال الظالمين ، مهما كان ظلما سابقا مغفورا.

وحتى إذا عنت «عهدي» كل إمامة في مثلها ـ شاملة لرسالة آدم ـ لم تكن «الظالمين» تعم ماضية الحال ، بل هي حسب الوضع والاستعمال تعني

١٢٨

الحال والاستقبال ، فليكن من يجعل إماما غير ظالم حال جعله وحتى آخر عمره.

أترى آدم الذي ظلم بما عصى (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) هل هو طي هذه المراحل تشمله «الظالمين» وصفا ماضيا بدّل إلى تمام العدل والاصطفاء؟!.

إذا فلتشمل «المشركون» كل الموحدين الذين كانوا مشركين ، ثم آمنوا وأصبحوا من المقربين كسلمان أمن شابهه من أفاضل المؤمنين.

وكما «الظالمين» حالا عند جعل الإمامة خارج عن «عهدي» كذلك «الظالمين» استقبالا ، بمناسبة العهد الخاص الرباني الواجب ذكره على اية حال.

بل وكذلك «الظالمين» ماضيا حين يكون فاحشا كالشرك ، ام أيا كان حين تكون الإمامة المطلقة التي تقتضي الاصطفاء المطلق بين ملإ العالمين.

فكما لا ينال عهد الإمامة الوسطى مثل آدم عليه السلام على عصمته حين اصطفاءه بالرسالة ، فبأحرى ألا ينال أمثال الخلفاء الثلاث ، أن يحملوا الإمامة القمة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

فالإمامة التي هي عهد خاص رباني هي القيادة الروحية ، مهما حملت ـ واقعيا كما هو شرعيا ـ القيادة الزمنية.

فمهما عنون الخلفاء الثلاث ثم الائمة الرابع بعنوان الإمام ، فهم ليسوا أئمة يحملون شرعة الله بذلك الانتصاب الخاص بعهد خاص.

ثم «عهدي» هنا ـ وإن على القدر المتيقن ـ هو عهد الامامة الإبراهيمية وهي بعد المحمدية فضلا عنها ، و «الظالمين» بعد «فأتمهن» هم المنتقصون

١٢٩

الكلمات المبتلى بها ، ولان الابتلاء لإبراهيم بتلك الكلمات يحلق على كل حياته ، فإتمامها كذلك حذو النعل بالنعل.

فكل من انتقص كلمة من هذه الكلمات طيلة حياته ، انتقاصا في عدّتها ام عدّتها ، في مادتها ام هيئتها ، فقد يعد من «الظالمين» الذين لا ينالهم «عهدي» هذا.

ومن أشر الانتقاص هو الإشراك بالله ، فكيف يجعل إماما ـ بهكذا إمامة أم فوقها وهي المحمدية ـ من عبد وثنا ردحا عظيما من عمره.

فمهما لم تدل «الظالمين» على الماضي ، إلّا الانتقاص في تلكم الكلمات المحلّقة على مثلث الزمان ، يمنع منعا باتا عن جعل تلك الامامة الكبرى.

ولم تقل «ينال عهدي العادلون» لأن العدل مهما كان ظرفا لتأهل الإمامة لم تكن لزامه الإمامة ، فقد اكتفى بالشرط السلبي وهو عدم انتقاص الكلمات في مثلث ازمنة الحياة ، حيث يراد هذه الإمامة الخاصة.

إذا فكيف يحل الإمامة المحمدية وهي المطلقة القمة ، من عبد وثقنا فيما مضى ، لا وحتى آدم الذي عصى ربه فغوى ، ولا ذا النون إذ ذهب مغاضبا ... فنادى في الظلمات (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ولا موسى (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) فضلا عن الخلفاء الثلاث الذي لا يسوون شسع آدم عليه السلام!.

ثم (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) لا يستلزم انه يناله غير الظالمين بصورة مطلقة ، وانما هو سلب لأهلية هذه الامامة عن الظالمين ، لا واثبات للزوم الإمامة لغيرهم ، فهم إذا من هو كإبراهيم ام فوقه ، وقد تحققت الامامة فوق الإبراهيمية لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته المعصومين اللهم إلّا لفاطمة (ع) حيث اكتفي بعصمتها.

١٣٠

فإنما «أبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة فصارت في الصفوة» (١) وهم المصطفون حين جعل الإمامة حتى الموت ، مهما زادت الصفوة العليا صفوة في ماضيها ، كما في حالها واستقبالها بأدلة أخرى.

أجل قد يمنع الظلم الماضي من عهد الإمامة إذا كان من كبائر الإثم والفواحش ومن أكبرها وأفحشها الإشراك بالله مهما كان مغفورا بالإيمان ، ولكنه ليس مغفورا لمنصب الإمامة ، فان الاصطفاء ، وقاعدة إمكان الأشراف ، يمنعان انتصاب من كان مشركا لمنصب الإمامة ، مهما أصبح من أعدل العدول ، كما والغضاضة الشركية السابقة تمنع المأمومين على الائتمام بذلك الإمام ، مهما صحت الصلاة خلفه ، وصح قضاءه وشهادته أمّا ذا سوى القيادة الروحية العليا وهي إمامة الأمة (٢).

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ١٥٠ عن الكافي بسند متصل عن عبد العزيز بن مسلم في حديث فضل الامامة قال : كنا مع الرضا (عليه السلام) بمرو ـ الى ان قال (عليه السلام): ـ ان الامامة اجل قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وامنع جانبا وابعد غورا من ان يبلغها الناس بعقولهم او ينالوها بآرائهم ويقيموا اماما باختيارهم ، ان الامامة لله عز وجل خص بها ابراهيم الخليل بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه بها وأشاد بها ذكره فقال عز وجل (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فقال الخليل مسرورا بها (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) قال الله تبارك وتعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فأبطلت هذه الآية ...

(٢) روى الشيخ في اماليه بسند متصل عن عبد الله بن مسعود والشافعي ابن المغازلي في المناقب على ما في تفسير اللوامع ١ : ٦٢٩ ـ باسناده يرفعه اليه قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكيف صرت دعوة إبراهيم أبيك؟ قال : اوحى الله عز وجل الى ابراهيم (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فاستخف ابراهيم الفرح فقال يا رب ومن ذريتي مثلي ، فأوحى الله عز وجل اليه ان يا ابراهيم إني لا أعطيك عهدا لا أفي لك به ، قال : يا رب ما العهد الذي لا تفي به؟ قال : لا أعطيك عهدا الظالم من ذريتك ، قال يا رب ومن الظالم من ولدي لا ينال عهدك؟ قال : من سجد لصنم من دوني لا اجعله إماما ابدا ولا يصلح ان يكون اماما ، قال ابراهيم : واجنبي وبني ان ـ

١٣١

ثم (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) تنفي عن مثل آدم عهد الإمامة المعني ب «عهدي» فليس يكفي في ذلك العهد حاضر العدالة ، بل وماضيها كما في حاضرها ، حتى تحل في ظرف ظريف طريف حفيف في مثلث الزمان لكل أبعاد العدالة.

مطلق الإمامة الشامل لإمامة الجماعة وإمامة القضاء وإمامة التقليد ، لا يقتضي هذه المرتبة القمة من الاصطفاء ، ولا تعني الإمامة في الآية مطلقها الشامل لها ، بل هي الإمامة المطلقة لمكان «للناس» دون اختصاص بحقل او ناس خاص ، كما وأنها فيها بعد الرسالة والنبوة.

فمن يحمل قيادة الأمة الاسلامية ككلّ بعد إمام الائمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس إلّا من أصفى الأصفياء كما محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في قمتهم علي الإطلاق ، فكيف يصح أن تشمل هذه الإمامة من عبد صنما ، كما و (إِنِّي جاعِلُكَ) تختص جعل ذلك العهد بالله ، والخلفاء الثلاث بعد الرسول لم يكونوا منتصبين من قبل الله ، ولا هم أصفياء الامة ككل ، بإجماع الامة الإسلامية ككل!.

ثم النسبة بين هذه الإمامة والنبوة عموم من وجه ، فقد يكون نبيا وليس هكذا إماما ، كآدم ومن فوقه من غير اولي العزم ، أم يكون إماما وليس نبيا ولا رسولا ، كالائمة الإثني عشر المحمديين ، ام هو إمام ونبي كالخمسة أولي

__________________

ـ نعبد الأصنام رب انهن أضللن كثيرا من الناس ، ومن ثم قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فانتهت الدعوة إلي والى اخي علي (عليه السلام) لم يسجد أحد منا لصنم قط فاتخذني الله نبيا وعليا وصيا(تفسير البرهان ١ : ١٥١).

وممن أخرجه عن ابن مسعود المير محمد صالح الترمذي الكشفي في مناقب مرتضوي ص ٤١ ، روى عن الحميدي عن عبد الله بن مسعود عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ما ترجمه انه قال : ان دعوة ابراهيم الإمامة لذريته لا تصل إلّا لمن لم يسجد لصنم قط ومن ثم جعلني الله نبيا وعليا وصيا لي.

١٣٢

العزم ، ام هو إمام الأنبياء والائمة ككل وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولان أئمة اهل البيت عليهم السلام يحملون الإمامة فهم أفضل من سائر اولي العزم عليهم السلام وقد تدل على ذلك آية التطهير وما أشبه.

وترى الخليل تطلّب من ربه الإمامة المجعولة له للبعض من ذريته : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)؟ علّها هي إمامة مطلقة لا مطلق الإمامة كما وانها قضية الموقف : (إِنِّي جاعِلُكَ ...) إذا ف (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) تجتث كل دركات الظلم ، ناحية منحى كل درجات العدل في حياة الإمام كلها ، وذلك منطبق على أئمة المرسلين بعده : موسى والمسيح ومحمد عليهم السلام ، أمّن حذى حذوهم من أئمة الإسلام المعصومين ، فلا تشمل ـ ولأقل تقدير ـ مثل آدم ، الذي عصى ربه قبل رسالته فغوى ، مهما اجتباه ربه ـ بعده ـ فتاب عليه وهدى.

ومن ميّزات هذه الإمامة أن ليس يختص وحيها بالعلوم والمعارف بل وفعل الخيرات ، كما والهداية بأمر الله تكوينيا وتشريعيا ، فكما هم مهتدون بأمر الله فيهما ، كذلك هم هادون بأمر الله فيهما ، وهم عاملون الخيرات بوحي الله : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (٢١ : ٧٣).

وإطلاق القول (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) ضاربا الى كل أبعاد الماضي ـ وهي قبل الإمامة ـ ذلك الإطلاق يخرج كمثل آدم عليه السلام.

وفي رجعة أخرى إلى آية الابتلاء

: «و» اذكر يا إمام أئمة الهدى ، الرسول المصطفى ، «اذكر» ذكرى من ابراهيم الخليل (ع) كأفضل مثل من أمثولات الإمامة بالابتلاء ، ولكي تكون على أهبة لابتلاء أشد وأقوى لإمامة هي أشمل وأنبل وأعلى ، اذكر (إِذِ ابْتَلى

١٣٣

إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ...) فربك يبتليك بكلمات ويجعلك للناس إماما على العالمين أجمع ـ كما جعله.!.

«فأتمهن» ابراهيم و «أتمهن» ربه ، وأين إتمام من إتمام ، وكذلك الله يتم لك وتتمه أنت ، واين كلمات من كلمات.

(قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) وقد جعلت أنت إماما على النبيين (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ ...).

(قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) وكما قال موسى (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) ولكن الله جعل لك من ذريتك أئمة يحملون أمانة إمامتك ككل وكما يبدو من آية التطهير ، الجاعلة طهارتك القمة لأهل بيت رسالتك القدسية وهم الائمة الإثني عشر عليهم السلام.

وقد تعني «بكلمات» قسما منها يناسب الإمامة الإبراهيمية ، ولمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كل الكلمات لأن إمامته هي كل الإمامات : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) (٧ : ١٥٨) ايمانا علميا وعقيديا وعمليّا في كل الحقول المعرفية والعملية ، دون إبقاء لكلمة يبتلى بها إلّا وأتمها كأتمّها حتى نال الإمامة الكبرى.

ولئن نال الخليل مرتبة الإمامة بعد العبودية والرسالة والنبوة والخلة كما تناسب إمامته ، فقد نال الحبيب الإمامة الكبرى بعد أن أصبح اوّل العابدين : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) ثم أصبح آخر النبيين ورسولا إليهم أجمعين : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ ...) ثم حبيبا لرب العالمين لحد يحلف بعمره ربّه (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٥ : ٧٢) كما ويحلف بنفسه (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ...) (٤ : ٦٥).

وترى الخليل ـ بعد ـ يتطلب من ربه إمامته للبعض من ذريته دون شرط

١٣٤

إلّا انهم من ذريته؟ وذلك بعيد عن مقام الخليل أمام ربه الجليل ، وقد ابتلي هو نفسه بكلمات ، فكيف يدعو لذريته دون ابتلاء!.

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) ليست لتتعلق ـ فقط ـ ب (إِنِّي جاعِلُكَ ...) بل وقبلها ب (ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) إذا فلدعاءه بعدان اثنان ، أن يبتلي ربه من ذريته ـ كما هو ـ بكلمات ، ثم يجعله بإتمامهن إماما ، فأضاف ربه إليهما بعدا ثالثا (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فلا يصلح الظالم أن يبتلي بكلمات تلك الإمامة حتى يجعل إماما.

وترى ابراهيم الخليل (ع) هو بعد كأضرابه من النبيين ، حكمت عليه رغبة امتداد الإمامة في ذريته فسألها لهم ربه؟ ولا وراثة فيها ، ولا تقدم لها فيهم لأنهم ـ فقط ـ ذرية!.

نقول هنا : إضافة إلى أن امتداد الشخصية ـ زمنية او روحية أما هيه؟ ـ هو رغبة فطرية ، أودعها الله في فطرت الإنسان ، تنمية للحياة ، ومضيا في طريقها المرسوم ، وقد قرر الإسلام على أساسه شرعة الميراث وسائر الإختصاص في حقل التربية مادية ومعنوية : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ـ (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) نقول إضافة إلى ذلك إنه استدعاء بشروط ، دونما فوضى جزاف ، ودون سلب لغير ذريته ، ومن ثم فدعاءه ـ كسائر فعله ـ إنما هو بإذن ربه ودعاءه ـ قضية التسليم المطلق لساحة الربوبية وقد عرف وحيا من ربه ان من ذريته من إسماعيل من يأهل لتلك الإمامة.

وكما في دعاءه (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ...) (٢ : ١٢٨) وما البعد الثالث لتحقيق ذلك الدعاء : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) إلّا توضيحا لسائر الأجيال في هذه الإذاعة القرآنية العالمية ، وليس تفهيما لإبراهيم ، العارف شروطات تلك الإمامة الكبرى كما لمسها في نفسه.

١٣٥

فطالما يدعو ابراهيم إمامته للبعض من ذريته ، ولكنه يشترط شرط إتمام نفس الكلمات ، مما لا يحصره في ذريته ، اللهم إلّا بما أوحى إليه ربه ، ألّا يصلح لشروطاتها إلّا بعض من ذريته كمحمد وعترته المعصومين عليهم السلام أجمعين.

وهنا «من ذريتي» لا تعني إلّا البعض منهم ، وهم بين عادل وظالم ، فتراه أراد الظالمين منهم فقط ترجيحا للمفضول على الفاضل! ام عنى الفريقين؟ و «من» تبعض! فهو ـ إذا ـ يعنى العدول منهم ـ ولأقل تقدير ـ حالة الإمامة ، و (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أخرجت كل ظالم منتقص كلمات الابتلاء ، ماضيا او مستقبلا فضلا عن الحال ، فلم يشمل عهد الامامة كل العدول حال الجعل ، بل هم العدول في مثلث الزمان لقمة العدالة وهي عدم الانتقاص في الكلمات المبتلى بها هكذا إمام.

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (١٢٥).

«البيت» هنا هو البيت العتيق : الكعبة المشرفة ، والجعل هنا تشريفي تشريعي ، وواقعي تكويني ، في مثابته وأمنه ، فما هي «مثابة» وما هو «أمنا».

«مثابة» هي في الأصل المثوبة اسم لمكان «البيت» ام ومصدرا ميميا ، ام وعلى هامشهما اسم زمان ، فان لإتيانه حجا زمان خاص ، والتاء للمبالغة ، فالبيت مصدر لكل صادر بكل معاني «مثابة» كما هو ملجأ لكل حائر سادر ، فهو «مثابة» مصدرا وزمانا ومكانا.

١٣٦

ولقد أتت «مثابة» في مختلف المناسبات لمعان عدة ، فلا تختص بواحدة دون أخرى ، وقضية الإفصاح البليغ في مذهب الفصاحة البالغة ، ان يؤتى باللفظ قدر المعنى المرام ، لا زائدا على المعنى ولا ناقصا عنه ، وخرافة استحالة استعمال لفظ واحد في اكثر من معنى واحد تنحل في ألفاظ الكتاب والسنة بأن للقائل مقام جمع الجمع فلا مشكلة له في هكذا استعمال جامع بين شتات ، وذلك من اختصاصات الكتاب والسنة ، اختصارا في التعبير ، وعناية للمعنى الكثير.

كما وتنحل في اصطلاح من يقوم لما يستعمله من ألفاظ كل المعاني الصالحة في اللغة ، دون حاجة الى لحاظها ردف بعض حتى يحيله قوله تعالى (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ).

فمختلف التفسير لمثابة مختلف عن تفسيرها المعني منها دون أية حجة لواحد من معانيها ، وهي :

١ المقام ـ ٢ المرجع ـ ٣ المجتمع ـ ٤ الممتلئ ـ ٥ الملجأ ـ ٦ الماتي متواترا ـ ٧ المقبل ـ ٨ المتاب ـ ٩ محل الثواب ـ ١٠ المنتبه ـ ١١ المستقى ـ ١٢ مجتمع الماء ... وبضرب مثلث الصيغة من «مثابة» إلى المعاني الإثني عشر تصبح معانيها المعنية ستة وثلاثين مهما اختلفت عنايتها في درجات ، واين هي من معنى واحد لا دليل له ، وهو في نفس الوقت خلاف الفصيح بل وغير صحيح!.

اجل إنه ١ مقام الإسلام ومنطلقه ، ومقام المسلمين بكل انطلاقاتهم الحيوية السامية.

٢ ومرجعهم حيث يرجعون اليه في مشاكلهم الروحية والجماعية أماهيه؟ «لا يقضون منه وطرا» (١).

__________________

(١) كما يروى عن باقر العلوم (عليه السلام) تفسيرا لمثابة : يرجعون اليه ...

١٣٧

٣ ومجتمعهم (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ ...) اجتماعا عن كل التفرّقات والتفرقات.

٤ وممتلئ مجدهم بجمعه الحافل الكافل لحل كل المشاكل بتشاور وتحاور مليء بما يغنيهم.

٥ وملجؤهم في مخاوفهم عن مفازاتهم في سياساتهم الزمنية والروحية ، وسائر حاجياتهم الحيوية.

٦ يأتونه متواترا في حجهم وعمرتهم دونما انقطاع ، قطاعات عظيمة من مختلف الألسن والألوان من مشارق الأرض ومغاربها ، من كل فج عميق.

٧ مقبلين اليه زيارة له ، واستقبالا في صلواتهم وسائر عباداتهم ، استقبالا لقبلته الواحدة.

٨ ومتابهم عن ذنوبهم فردية وجماعية ، فإنهم فيه من ضيوف الرحمن وحاشاه ان يرجعهم خائبين!.

٩ ومحل ثوابهم إذ يثيبهم الله بزيارته حقها كما وعد عباده الثائبين اليه التائبين.

١٠ ومنتبها لهم عن كل غفلاتهم وغفواتهم ، وليشعروا ماذا عليهم في مسئولياتهم الإسلامية الهامة.

١١ ومستقى لهم من تروية ماء الحياة في كل حقولها الروحية والمادية ، من مشارف بئره العظيم ، بدلاء التضامن والتعاضد الأخوي الاسلامي.

١٢ ومجتمع مياه الحياة في كافة الجنبات : العلمية ـ العقيدية ـ الأخلاقية ـ العبادية ـ الاقتصادية ـ السياسية والعسكرية أماهيه.

١٣٨

ذلك هو كيان جعل البيت في الإساس ، يجمعها (قِياماً لِلنَّاسِ) : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) (٥ : ٩٧) ومباركا وهدى للعالمين : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ...) (٣ : ١٦).

و «الناس» كل الناس هم المحور الإساس في مثابة البيت وأمنه والقيام فيه وبركته وهداه ، مما يلمح أن الحج فريضة إنسانية تصلح الحيوية الجماهيرية.

«وأمنا» هنا دون «آمنا» كما ل (مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) مما يدل على خالص الأمن والسلام فيه ، أمنا في شرعة الله اكثر من كل بيت ، وأمنا واقعيا ليس في ايّ بيت ، مهما يوجد فيه خلاف الأمن من متخلفين ، ولكنه اقل بكثير من غيره على طول الخط.

والبيت هنا «مثابة وأمنا» لا يخص الكعبة المباركة ـ مهما كانت هي الأصل فيهما ـ بل والمسجد الحرام والحرم كله كما (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) و (حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) تشهد على هذه الشمولية.

ثم (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) تأمر الحجاج والمعتمرين ـ الطائفين والعاكفين والركع السجود ـ تأمرهم ان يتخذوا من مقام ابراهيم مصلّى أمرا تشريعيا بعد أمنه تكوينا وتشريعا ، فما هو مقامه المأمور باتخاذ مصلّى منه؟.

يأتي مقام ابراهيم في ثانية : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) (٣ : ٩٧) مما تلمح ـ بين معانيها ـ وتلمع ان (آياتٌ بَيِّناتٌ) كلها مقام ابراهيم ، وقد ذكرنا في مسرحها اثنتي عشرة آية ، من أبرزها ـ المعروف بينها عند الكل ـ هو مقام ابراهيم ـ موضع قدمه من الحجر الموجود في المقام حيث هو الآن ، إذ أثرت

١٣٩

قدمه المباركة حين كان يرفع القواعد من البيت ، وحين أذن في الناس بالحج (١).

ذلك الحجر نزل في مثلث الحجر ـ كما يروى ـ من الجنة (٢) وكما لمقام ابراهيم أبعاد ، كذلك اتخاذ مصلّى منه له أبعاد ، أوسعها مقام البيت ككل ، فانه مصلّى لكافة المصلين في هذه المعمورة وسواها ، مصلّى واسع ابتداء من البيت نفسه وإلى كل أنحاء العالم.

ثم في مقام الحجر فان الصلاة فيه مفضلة على غيره من كل أنحاء البيت ، ثم المسجد الحرام كله ، ثم مكة كلها ، ثم الحرم كله ، ثم المشاعر كلها ، فانها كلها مقام ابراهيم.

__________________

(١) في حسنة ابن سنان او صحيحه ـ على الأصح ـ قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) ما هذه الآيات البينات؟ قال : مقام ابراهيم حيث قام على الحجر فأثرت فيه قدماه ، والحجر الأسود ومنزل إسماعيل.

وفي الدر المنثور ١ : ١١٨ ـ اخرج ابن ماجة وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر قال : لما وقف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة عند مقام ابراهيم قال له عمر يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) هذا مقام ابراهيم الذي قال الله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) قال : نعم.

(٢) المجمع روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) انه قال : نزلت ثلاثة أحجار من الجنة مقام ابراهيم وحجر بني إسرائيل والحجر الأسود ، وفي الدر المنثور ١ : ١١٩ ـ اخرج الترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولو لا ذلك لأضاء ما بين المشرق والمغرب ، واخرج البيهقي في شعب الايمان عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان الركن والمقام من ياقوت الجنة ولو لا ما مسهما من خطايا بني آدم لأضائا ما بين المشرق والمغرب وما مسهما من ذي عاهة ولا سقيم إلّا شفى.

١٤٠