الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٨

التزكية فهي رأس الزاوية في محاولات الرسالة ، فلو أمكنت التزكية دون تعليم لما كان ضرورة ، وهما صنوان متعاملان ، كلما ازداد التعليم المعرفة ازدادت التزكية ، وكلما ازدادت التزكية ازداد العلم والمعرفة ف «العلم نور يقذفه الله في قلب من يريد ان يهديه».

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) ١٣٠.

(مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) هي توحيد الإسلام وإسلام التوحيد لوجه الله ، ولا يرغب عنها إلّا من سفه نفسه : حملا لها على خفة العقل والإدراك ، فالنفس الانسانية فطريا وعقليا راغب الى هذه الملة المسلمة الحنيفة ، فلا يرغب عنها إلى سواها إلّا من حمل نفسه على التنازل عن ذاتيتها ، استخفافا بها وتغرّبا عنها.

(وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) بقمة الاصطفاء فانه من أصفى الأصفياء (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) كما تطلّبه يوم الدنيا (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) وسعى له سعيه ، ومتى اصطفيناه في الدنيا؟ :

(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ١٣١.

وعلّه إسلامه بفعله لما أمر به قبل إسلامه المطلوب من ربه حين دعا (وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ ...).

فهناك إسلام قضية كمال الإيمان ، وهنا إسلام قضية الأمر الخاص ، وعلّه لأمر خاص كما (أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) ثم إسلام بعدهما تطلّباه إذ يرفعان القواعد من البيت ، وقد يجمع مراتب الإسلام حديث قدسي يذكر عيشا أهنى وحياة أبقى (١).

__________________

(١) في البحار عن ارشاد الديلمي قال الله سبحانه يا أحمد هل تدري اي عيش اهنى وأي حيوة أبقى؟

١٦١

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ١٣٢.

«بها» لا مرجع صالحا لها إلّا (مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) دون الإسلام لذكوريته ، ثم وهذه هي ملة الإسلام في توحيد العقيدة والعمل.

__________________

ـ قال : اللهم لا ـ قال : اما العيش الهنيء فهو الذي لا يفتر صاحبه عن ذكرى ولا ينسى نعمتي ولا يجهل حقي ، يطلب رضائي في ليله ونهاره ، وأما الحياة الباقية فهي التي يعمل لنفسه حتى تهون عليه الدنيا وتصغر في عينه وتعظم الآخرة عنده ، ويؤثر هواي على هواه ويبتغي مرضاتي ، ويعظم حق نعمتي ، ويذكر عملي به ، ويراقبني بالليل والنهار عند كل سيئة او معصية ، وينقي قلبه عن كل ما أكره ، ويبغض الشيطان ووساوسه ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطانا وسبيلا ، فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبا حتى أجعل قلبه وفراغه واشتغاله وهمه وحديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبتي من خلقي وافتح عين قلبه وسمعه حتى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي ، وأضيق عليه الدنيا ، وأبغض اليه ما فيها من اللذات وأحذّره من الدنيا وما فيها كما يحذّر الراعي على غنمه مراتع الهلكة ، فإذا كان هكذا يفر من النار فرارا وينقل من دار الفناء الى دار البقاء ، ومن دار الشيطان الى دار الرحمن ، يا أحمد ولأزينّنه بالهيبة والعظمة فهذا هو العيش الهنيء والحياة الباقية ، وهذا مقام الراضين فمن عمل برضاي ألزمه ثلاث خصال : أعرّفه شكرا لا يخالطه الجهل ، وذكرا لا يخالطه النسيان ، ومحبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين ، فإذا أحبني أحببته وافتح عين قلبه إلى جلالي ، ولا أخفي عليه خاصة خلقي ، وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم ، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي ، وأعرّفه السر الذي سترته عن خلقي ، وألبسه الحياء حتى يستحيي منه الخلق كلهم ، ويمشي على الأرض مغفورا له. واجعل قلبه واعيا وبصيرا ، ولا أخفي عليه شيئا من جنة ولا نار ، وأعرّفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول والشدة وما أحاسب به الأغنياء والفقراء والجهال والعلماء ، وأنومّه في قبره ، وأنزل عليه منكرا ونكيرا حتى يسألاه ، ولا يرى غم الموت وظلمة القبر واللّحد وهول المطّلع ، ثم انصب له ميزانه وأنشر ديوانه ، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرأه منشورا ، ثم لا أجعل بيني وبينه ترجمانا ، فهذه صفات المحبين ، يا أحمد اجعل همك هما واحدا ، واجعل لسانك لسانا واحدا ، واجعل بدنك حيا لا يغفل أبدا ، من يغفل عني لم أبال في أي واد هلك.

١٦٢

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ١٣٣.

هنا في ذكر إسماعيل في عداد آباء يعقوب دليل السعة في لغة الأب فهي تختلف عن الوالد ، فأبوه آزر في آيات ليس والده ، لا سيما وانه تبرء من آزر (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) ثم نراه في أواخر عمره يدعو لوالديه (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) إذا فوالده غير أبيه.

وإنه لمشهد عميق التدليل ـ في لحظات الموت ـ على عمق عقيدة التوحيد بين آل ابراهيم ، فيعقوب ـ وهو رأس الزاوية في بيت إسرائيل ـ لا يوصي عند احتضاره بمال ، ولا يشغله بال ، إلّا ذلك الأمر الجلل فهو المبتدء وهو المآل ، فهو ـ فقط ـ تركته وتركة آباءه ، قضية كبرى لا تشغله عنها سكرات الموت ، بل هي تشغله عما سواها.

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) اختبار حاسم تظهر فيه مدعى الدعوة التوحيدية لهم طول حياته الرسالية ، يتلوه جواب حاسم (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ...) أن إلهنا جميعا إله واحد ، خلاف المشركين الذين لكلّ منهم إله او آلهة ، ثم (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) لا فقط مقرون وإنما إسلام له قلبا وقالبا.

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٣٤).

(تِلْكَ أُمَّةٌ) موحدة مسلمة (قَدْ خَلَتْ) فخلف من بعدها خلف أضاعوا ملتها الوحيدة الموحدة المسلمة ، وتخلفت عن شرعة الله المرسومة بينها ، ف (لَها ما كَسَبَتْ) من خير «ولكم» الخلف المتخلف (ما كَسَبْتُمْ) ـ (وَلا تُسْئَلُونَ) أنتم (عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) كما وهم لا يسألون عما كنتم تعملون ، كما «ولكم»

١٦٣

المسلمين (ما كَسَبْتُمْ ...) أمم ثلاث لكلّ ما كسبت وعليها ما اكتسبت. وليست الإمة في ميزان الله أمة الجنس والإقليم والعنصر والتراب والدم ، فإنها موازين لحيونة الأمم ، أم وإنسانيتها المنفصلة عن شرعة الله ، وإنما هي جماعة ذات قصد واحد : خيرا أو شرا ، مهما اختلفت أجناسهم وأواصر الأنساب والقرابات فيما بينهم.

أجل ـ إنها أمة دينية وليست أمة طينية ، وعلى هذا القياس فالكتلة الموحدة المسلمة من آل إبراهيم (أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ) ثم الكتلة الكافرة من آل إبراهيم أمة (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) وكذلك المسلمون ، من آمن منهم حق الإيمان ومن لم يؤمن ، فلكلّ حساب حسب الصالحات والصالحات ، دونما فوضى جزاف بحساب القوميات والعنصريات أم سائر الصّلات غير الروحية.

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٣٥).

قالت اليهود : «كونوا هودا تهتدوا» وقالت النصارى : «كونوا نصارى تهتدوا» (١) فكلّ يتمسّك بطائفية خاوية عن (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) فمجرد كونك من أولاء أم هؤلاء يكفيك هدى! «قل» لا هذا ولا ذاك (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) لا نسل إبراهيم كإبراهيم ـ إسرائيل وسواها ـ وإنما (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) هذه هي الهدى دون سواها ، أيا كنت في أصلك ونسلك ، في وصلك وفصلك ، وقد يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٤٠ عن ابن عباس قال قال عبد الله بن صوريا الأعور للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتدي ، وقالت النصارى مثل ذلك فأنزل الله فيهم ...

١٦٤

وآله وسلم) قوله : بعثت بالحنيفية السمحة (١) ، وترى الحنافة لمّا تكفي هدى لأنها الإعراض عما يخالف الحق ، ويقابله الجنف ، فلما ذا ـ إذا ـ (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؟.

علّه لأنهم تمسكوا بظاهر الحنيفية وانتساب النسب إلى إبراهيم الحنيف ، فلكي يسد عليهم كل ثغرات الجنف تحريفا لمعنى الحنف يصرّح (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وقسم من الهود والنصارى مشركون.

ولقد وصف «حنيفا» وصف إيضاح ب «مسلما» في أخرى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٣ : ٦٧) مما يلمح أنهم كانوا يتذرعون بصيغة «حنيفا» لإلصاق أنفسهم إلى إبراهيم ، وكأن «حنيفا» لقب يلقب به نسل إبراهيم أيّا كانوا ، فجاء (مُسْلِماً ـ وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كإيضاح يخيّب آمال المشركين الحنفاء الجنفاء!.

فلان الملة الإبراهيمية هي الناصعة بين الغابرين في خالص التوحيد ، المعروفة لدى الخواص والعوام ، لذلك فليعلن بملته الوحيدة الكبرى بين أهل الملل الثلاث وسواهم من الموحدين ـ رفضا لكل الفواصل المختلقة ـ من لدن إبراهيم إلى موسى والمسيح وإلى خاتم النبيين (صلّى الله عليه وآله وسلم) :

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (١٣٦).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٤٠ ـ أخرج احمد عن أبي امامة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): ، وفيه عن ابن عباس قال قيل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أي الأديان أحب إلى الله؟ قال : الحنيفية السمحة ، وعن سعد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : أحب الدين إلى الله.

١٦٥

«قولوا» أيا كنتم من الملل ، سلسلة موصولة متواصلة من ملل كتابية (آمَنَّا بِاللهِ) كأصل هو رأس زوايا الإيمان ، ومن ثم فروع : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) ككل الكتابيين ، (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) كمسلمين ، والإيمان بكتابات السماء ذريعة للإيمان بالقرآن وكما يروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): «آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن» (١).

أم و «قولوا» أيها المسلمون (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) : القرآن ـ لا فحسب بل (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ ... وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) قبل إبراهيم وبعده ككلّ.

وترانا كيف نؤمن بعد ما أنزل إلينا ـ وهو ناسخ ـ بما أنزل إلى سائر النبيين وهي منسوخة؟.

إنه إيمان تصديق بكل ما أنزل الله أنه من الله ، ثم وإيمان تطبيق لكلّ في زمنه ، فتطبيق لشرعة القرآن الناسخة للبعض من سائر الشرائع ، وهو تصديق لها إذ تبشر بالقرآن ، ثم ومحور الإيمان هو الإيمان بالله وبرسالاته واليوم الآخر ، الأصول الأساسية لكل إيمان ، (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) في هذه الأصول ، ولا سيما رأس الزاوية وهو توحيد الله «ونحن» ككل «ونحن» المسلمين «له» لا لسواه «مسلمون».

كما و (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) في ضابطة الإيمان ، أن نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، فلا تفريق هنا أو هناك ، وذلك كلمة الإيمان الجاسم الحاسم (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) حيث (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٤٠ ـ أخرج ابن أبي حاتم عن معقل بن يسار قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

١٦٦

وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ...) (٢ : ٢٨٥).

هذه هي قضية الإيمان المجرد عن انحيازات طائفية أم قبلية أما هي من امتيازات جاهلة قاحلة لا دور لها في حقل الإيمان الصالح.

وترى لماذا اختلاف التعبير لمنازل الوحي ب «ما أنزل» أولا و «ما أوتي» ثانيا ، وهذا أعم من الوحي كما (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) (٣ : ١٢) والوحي النازل الى موسى وعيسى أعلى نازلا ومنزلا من النازل الى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط؟!.

علّه لأن أصل الوحي هو النازل على إبراهيم ، ثم تبعا له ولمن تبعه ، ومن ثم أوتي موسى وعيسى والنبيون نفس الوحي مهما اختلف وحي عن وحي في درجات وبعض الطقوس ، وذلك معاكسة لما كان يزعمه الهود والنصارى أنهم الأصل في الوحي.

وكما أن «أنزل» أعم من الإيتاء والإعطاء ، كذلك «أوتى» أعم من الوحي وسواه ، فهذان التعبيران لسلسلة الرسالات الحاملة للوحي ـ علّها ـ للتدليل على أن النازل إلى المرسلين ليس عطية لهم فهم مالكوها ، بل هو إيتاء كأمانة ووديعة مرجوعة بعد تطبيقها ، فتلك الوحدة الكبرى بين الرسل والرسالات في أصول الدعايات والاتجاهات ، هي القاعدة المتينة الرصينة للتصور الإيماني المسلم السليم ، السائرة في كل الدروب على هدى ونور ، التي تجمع كل الشعوب ـ بلا تمييز ـ على درب الإسلام التام والسلام العام ، مفتوحا للناس جميعا وكل العالمين في مودة ووئام ، ذلك هو الإيمان الإسلام السليم أيا كان وأيان ومن أيّ كان :

١٦٧

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٣٧).

(آمَنُوا بِمِثْلِ ...) دون «آمنوا بما آمنتم به» تنازل في درجات الإيمان ، فإنهم لم يكونوا مؤمنين بمثل ذلك الإيمان المجرد عن حسابات دخيلة فيه ، فكيف يدعون إلى نفس ذلك الإيمان المجرد ، إلّا قفزه لا تناسب سليم الدعوة والدعاية.

فليؤمنوا أولا (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) إيمانا بكل ما أنزله الله على رسله دون تمييز ، ثم وذلك الإيمان المجرد يجرهم بطبيعة الحال إلى نفس ما آمنتم به من رسالة الإسلام ، حيث الإيمان السليم بالوحي الكتابي ، يجذب الى الإيمان بمحور الوحي : القرآن العظيم ، ولا يعني (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) مثل الله الذي آمنتم به ، حتى تسقط «مثل» عن لفظ القرآن (١) إذ «ليس كمثله شي» بل هو مماثلة في أصل الإيمان ، لا الذي يؤمن به ، إيمانا بالله كما آمنتم ، وإيمانا برسالات الله كما آمنتم.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن مثل هذا الإيمان (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) تقسيم لبلد الإيمان الى شقين : إسرائيلي وإسماعيلي ، وذلك شقّ لوحدة الدين والإيمان ، وخروج عن واقع الإيمان إلى اللّاإيمان ، أم هو أنحس ـ أحيانا ـ من الكفر المطلق!.

إذا (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) بعد ما أديت واجب الدعاء وبالغ الدعوة ، فالله هو

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٤٠ عن ابن عباس قال : لا تقولوا (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) فان الله لا مثل له ، ولكن قولوا : فان آمنوا بالذي آمنتم به ، وفيه عن أبي جمرة كان ابن عباس يقرأ : فإن آمنوا بالذي آمنتم به.

١٦٨

الكافي لا سواه ، فلا ترج في سدّ ثغراتهم إلّا إيّاه (وَهُوَ السَّمِيعُ) لحواركم حول الدين ، و «السميع» لدعائك وسؤالك حفاظا على الدين «العليم» بما يصلحك ويصلح هذا الدين ، ف (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (٥ : ١٠٥) وكل ما في البين حقا ولا حول عنه هو :

(صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) (١٣٨).

آية فريدة في صيغة التعبير ، عرضا جامعا لما يتوجب الالتزام به على كل العالمين ، فما هي (صِبْغَةَ اللهِ) حتى نصطبغ بها او نلتزمها؟ وليست لله صبغة يمكن الاصطباغ بها ، ولا أية صبغة!.

(صِبْغَةَ اللهِ) هي من إضافة الفعل الى فاعله ، كخلق الله وروح الله وأخلاق الله وشرعة الله أم أي فعل لله ، وهي كفطرت الله أدبيا ومعنويا مهما كانت أعم منها ومن سائر الصبغة ، تكوينية وتشريعية ، فهي مفعول مطلق نوعي تعني صبغا خاصا إلهيا لقبيل الإنسان وسائر المكلفين ، مما للإنسان في أصله خيار كمتابعة الفطرة والعقل والشرعة الإلهية ، أم ليس له خيار كأصل الفطرة ، أمّا يقدم سببه كتطبيق ماله خيار ثم الله يهديه كما اهتدى.

وإضافة الفعل إلى فاعله كما هنا تقدّر «من» النشوية ، أي : صبغة ناشئة من الله كسائر خلق الله.

فليست من إضافة الصفة الى موصوفة تقديرا ل «في» ان تكون هذه الصبغة في الله كسائر صفاته الذاتية ، ام «ل» حيث تعم ما تعنيه «من ـ و ـ في».

ففي ذلك المثلث من تقادير الجار المحذوف لا تصلح هنا إلا «من» إذ ليست لذات الله صبغة وحتى المعنوية ، حيث الصبغة حالة خاصة من الصّبغ

١٦٩

وليست له تعالى حالة دون أخرى إذ لا حدّ لذاته وصفاته حتى تصبغ بصيغة! وإنما المعني منها ما صبغ به خلقه.

ولقد صبغ الله الناس كلهم بصبغة الفطرة ، ثم العقلية التي تتبناها ، ثم شرعة من الدين الهادية لهما ، الشارحة لأحكامهما ، الشارعة سبيلهما الى الخير المرام ، ولقد اختصرت في : (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ...) ولها ـ ككل ـ حصيلة مزيد الهدى والتقوى : (الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٤٧ : ١٧).

ثم وهي «الإسلام» (١) و «الولاية في الميثاق» (٢) : إسلاما لله ورسله وكتبه ، وولاية توحيدية ورسالية أما هيه من ولايات إسلامية ، كلّ على درجاته.

وقد تتعلق «صبغة الله» بكلّ من (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ـ (اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) ـ (نَعْبُدُ إِلهَكَ ...) ـ (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ـ (آمَنَّا بِاللهِ ... آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ) والكل راجع إلى الإسلام والولاية في الميثاق في ذلك المثلث البارع الذي هو كيان الإنسان كإنسان : «فطرت الله ـ العقل ـ شرعة الله»!.

صبغة سابغة سابقة على كل صبغة لأنها (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) كما صبغنا ـ في مثلث الفطرة والعقلية والشرعة ـ بعبادته السليمة عن كل إشراك ودون أي عراك.

__________________

(١)تفسير البرهان ١ : ١٥٧ يروي تفسير (صِبْغَةَ اللهِ) بالإسلام عن عبد الله بن سنان وحمران ومحمد بن مسلم وأبان وعبد الرحمن بن كثير كلهم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «الصبغة هي الإسلام».

(٢) المصدر عن الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق.

١٧٠

ويا له من تعبير منقطع النظير ، يتصبغ أولا ب (صِبْغَةَ اللهِ) أمرا إلزاميا من الله ، بمواصفة غالية تجعلها في أعلى قمم الحسن والجمال ، وثانيا بإقرار المصبوغين بها «ونحن» المسلمون المحمديون «له» لا لسواه «عابدون» لا نعبد إلّا إياه ، كحصيلة بارزة لصبغة الله.

فحذار حذار في دين الله وشرعته عن كل صبغة غير إلهية في قال او حال او فعال على أية حال ، في تكوين او تشريع أم أية صبغة ربانية.

وكما الصبغة المادية تظهر على المصبوغ كأولى المظاهر ، كذلك الصبغة الروحية من طبعها الظهور في كافة المظاهر الحيوية الإنسانية ، وقد سميت بصبغة الله عناية بتلك الظاهرة في مظاهر الأقوال والأفعال ، كما هي في كامنات العقائد والأحوال ، فكل إناء بما فيه يرشح ، فالفطرة ـ وهي أعمق أعماق الإنسان ـ لمّا تصبغ بصبغة الله ، فلتصبّق ـ على آثارها ـ النفس بكل جنودها ومراحلها الخيّرة : عقلا وصدرا ولبا وقلبا وفؤادا ، ومن ثم في كافة الحواس ومظاهرها في كافة الحقول ، والقلب الفؤاد هو المحور الأصيل كإمام الائمة في مملكة النفس الإنساني ، حيث «القلوب أئمة العقول والعقول أئمة الأفكار والأفكار أئمة الحواس والحواس أئمة الأعضاء».

وكل صبغة دون صبغة الله هي صبغة ابليسية مهما اختلفت دركاتها ، كما والصبغة الإلهية ـ في حقل التكوين والتشريع والتكليف ، والواقع الحاصل بينها ـ درجات.

أجل (صِبْغَةَ اللهِ) لا الصبغة اليهودية والنصرانية (١) أمّا هيه من

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٤١ عن قتادة قال : ان اليهود تصبغ أبناءها يهود وان النصارى تصبغ أبناءها نصارى وان صبغة الله الإسلام ولا صبغة احسن من صبغة الله الإسلام ولا أطهر وهو دين الله الذي بعث به نوحا ومن كان بعده من الأنبياء.

١٧١

المختلقات الزور والغرور التي هي من صبغ الغرور (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)!.

وكما أن (فِطْرَتَ اللهِ) آية يتيمة ، كذلك (صِبْغَةَ اللهِ) وهي أعم منها وأتم وأطمّ حيث تعم كل صبغة ربانية تكوينية او تشريعية ، ما بالإمكان الالتزام له أو تحصيله حتى يصبح صاحبها من أهل الله وخاصته وخيرته وحزبه ، اللهم اجعلنا منهم بحقهم.

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) (١٣٩).

فلما ذا المحاجة في الله : في ذاته وصفاته وأفعاله ، في وحيه وآياته ، لماذا المحاجة فيه بين من يربّبه دون نكير حسب الأصل الكتابي وصبغة الله ، ثم (وَلَنا أَعْمالُنا) دونكم (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) دوننا كما (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) دونكم؟.

إن المحاجة في الدين هي حصيلة أحد أمرين : الاختلاف فيمن يعبد (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) او الاختلاف في : أيّ الأعمال أصلح وأقرب الى الرب

__________________

ـ وفيه أخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : ان بني إسرائيل قالوا يا موسى هل يصبغ ربك؟ فقال : اتقوا الله فناداه يا موسى سألوك هل يصبغ ربك فقل نعم ان اصبغ الألوان الأحمر والأبيض والأسود والألوان كلها في صبغتي وانزل الله على نبيه (صِبْغَةَ اللهِ ...) أقول : ولكنها لا تعنى صبغة الألوان اللهم إلّا هامشا كخلق الله ومنه الاصباغ كلها ، حيث الصبغة هيئة خاصة من الصبغ فلا تعني ـ مبدئيا ـ كل صبغ.

والنصارى يشتغلون بصبغ أولادهم في سابع الولادة مكان ختان المسلمين ، بغمسهم في الماء الأصفر المسمى عندهم بالمعمودية ، وهو اسم ماء غسل به المسيح (عليه السلام) ، فمزجوه بماء آخر وكلما استعملوا منه جعلوا مكانه ماء آخر.

١٧٢

(وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) لا فحسب حتى نستوي فيها بل (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) معرفيا وعبوديا دون إشراك ، فلما ذا ـ إذا ـ تحاجوننا؟! ولقد كانت اليهود والنصارى ـ كلّ ـ يختص الرب بنفسه بآصرة النبوة الإلهية المزعومة او النبوة الممتازة المدّعاة ، فرد عليهم هذه التهوسة العمياء بأن ربوبيته ـ كأصل ـ هي بيننا وبينكم على سواء ، ثم ونحن نختلف في مدارج الزلفى إليه حسب الأعمال والإخلاص فيها ، فمن هو أخلص منا لله معرفيا وعمليا؟.

ثم إذا اختصت الهدى والزلفى بمن كان هودا او نصارى ، فما بال إبراهيم الخليل أهو كما نحن ـ في زعمكم ـ بعيد عن الهدى وأنتم به تنتسبون وتفتخرون؟ :

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤١).

لقد كان هؤلاء قبل اختلاق اليهودية والنصرانية ، فهل كانوا ـ بعد ـ هودا أو نصارى؟.

وعجبا من حمقهم في عمقهم أنهم كانوا يتفوهون بهذه الفرية الوقحة على هؤلاء الرسل الكرام! وتراهم ماذا يظنون بهؤلاء؟ أهم ضلّال لأنهم ليسوا هودا أو نصارى ، أم هم هود أو نصارى؟ ثم الله مشتبه في أمرهم ، وإنما يعرف الهدى هود او نصارى! (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ)؟

ولقد كتموا شهادة إلهية تحمل بشارة محمدية : كتمانا عن أسرها ، أم تحريفا في لفظها ومعناها لحسرها عن معناها وأسرها عن محتواها فهم أظلم وأطغى.

١٧٣

«تلك» الكتلة الرسالية والرسولية الصالحة ، إسرائيلية وسواها (أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) ومضت بإسلامها وأعمالها (لَها ما كَسَبَتْ) دونكم (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) دونهم (وَلا تُسْئَلُونَ) أنتم ـ أيّا كنتم ـ (عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) وأن ليس للإنسان إلّا ما سعى ـ ولا تزر وازرة أخرى.

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ

١٧٤

وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي

١٧٥

وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (١٥٢)

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٤٢).

جزء ثان من القرآن يبدأ فيه بهامة تحويل القبلة ، مما أحدث عراكا حادا بين أهل القبلة وناس سفهاء من اليهود والمشركين ومنافقين من المسلمين ، فريصة كفريسة حريصة عليها هؤلاء السفهاء من الناس بملابسات أحاطت به ، سفسطة عارمة تواجهها حجة صارمة من رب العالمين :

«سيقول» المستقبل تستقبل تحويل قبلة الى أخرى وقوله سفيهة بعد التحويل ، و «ما ولاهم» تساءل استنكار على ذلك التحويل بصورة التهويل والتسويل و «هم» يحتمل أنفسهم الى جانب سفهاء غيرهم ف «هم» تعم سفهاء من المشركين وأهل الكتابين وجهالا من المسلمين ، ولكنما الخطر الحادق الذي سفّه جهالا من المسلمين هو سفاهة أهل الكتاب ولا سيما اليهود الذين كانت قبلتهم قبلة الإسلام لردح ابتلائي من الزمن.

لو كانت القبلة المتولى عنها في (ما وَلَّاهُمْ) هي القدس الى الكعبة ، زعم ان القدس هي القبلة المكية ، لكان صحيح التعبير هو «وقال السفهاء» فان

١٧٦

سفاسف القول وسفاهته من المشركين وضعفاء المسلمين كانت أشد خطرا على الدعوة الجديدة الإسلامية في مكة.

فلتكن الآية نازلة قبل أي تحول عن القبلة المرضية ـ وهي الكعبة المباركة ـ و «سيقول ...» توطئة لتحولها الى القدس حيث يتبع قالة سفيهة من مشركين ويهود وضعفاء من المسلمين ، ثم تحول القدس الى الكعبة المباركة حيث يتبع قالة الآخرين وتقطع ألسنة المشركين.

فالتحويل الأول هو المحور لهذه السفاهة الثالوثية ، وعلى ضوءه الثاني قضاء على سفاهة وبقاء الأخرى.

ثم (وَما جَعَلْنَا ...) نازلة بعد التحويل الثاني فان (الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) التي يعتذر منها هي القدس ، إذ لم يكن اتباع الرسول ـ كابتلاء للمسلمين ـ إلا في التحول عن الكعبة الى القدس ، فان التحول عن القدس الى الكعبة كان مرجوا لهم ينتظرونه ليل نهار كما والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقلب وجهه الى السماء.

ولم تكن الكبيرة الثقيلة عليهم إلا قبلة القدس المتحوّل إليها من الكعبة المباركة ، ثم (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) طمانة لهم بالنسبة لفترة القبلة الثانية ، زعما من بعضهم أن صلاتهم إليها كانت ضائعة.

ف (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ) من المسلمين ، تعني ـ بطبيعة الحال ـ القبلة المكية ، وكذلك من غيرهم حيث القبلة المتولى عنها هي قبلة المسلمين ، فهي ـ على أي الحالين ـ ليست القدس ، بل الكعبة المباركة ، مهما شملت «ما ولاهم» التحويل الثاني ضمنيا ، وهو من القدس الى الكعبة. ثم (قُلْ لِلَّهِ

١٧٧

الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) اجابة صارمة عن كافة المشاكل المزعومة حول النسخ والتحويل ، سواء من أهل الكتاب أم سفهاء المسلمين ... أترى بعد (قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) هي القدس؟ وصيغتها الصحيحة ـ ولا سيما من اليهود المتبجحين بقبلتهم وبكلّ ما لديهم ـ : «قبلتنا» توهينا للمسلمين أنهم ما كانت لهم قبلة في بزوغ إسلامهم إلا قبلتنا ، و «قبلتهم» هي الكعبة المباركة التي كانت قبلة لهم في العهد المكي ، ثم حولت عنها بعد الهجرة لمصلحة وقتية مذكورة في آيات تالية ، ثم رجعت الى ما كانت للمصلحة الدائبة الخالدة في استقبال البيت العتيق ، وقد دلت على ذلك أحاديث (١).

أم إنها القدس إذ كانت قبلتهم منذ بزوغ الإسلام وحتى أشهر بعد الهجرة ثم حولت إلى شطر المسجد الحرام كما تدل عليه طائفة أخرى من أحاديث (٢) ، وعلّ التعبير عن القدس هنا ب «قبلتهم» يعني تعميق الشبهة

__________________

(١) كما في الدر المنثور ١ : ١٤٢ عن ابن عباس قال : اوّل ما نسخ في القرآن القبلة وذلك ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لما هاجر الى المدينة وكان اكثر أهلها اليهود امره الله ان يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بضعة عشر شهرا وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يحب قبلة إبراهيم ... وفيه عن البراء بن عازب كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد صلى نحو بيت المقدس سنة عشر او سبعة عشر شهرا ... وعن ابن عباس ان محمدا كان يستقبل صخرة بيت المقدس وهي قبلة اليهود فاستقبلها سبعة عشر شهرا ليؤمنوا به وليتبعوه وليدعوا بذلك الأميين من العرب فقال الله : ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله وقال : قد نرى تقلب وجهك في السماء ، وعن سعيد بن عبد العزيز ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) صلى نحو بيت المقدس من شهر ربيع الاول الى جمادي الآخرة ، وفيه عن انس ان القبلة قد حولت الى الكعبة مرتين. فمالوا كما هم ركوع الى الكعبة.

(٢) كما في الدر المنثور ١ : ١٤٣ ـ أخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب ان الأنصار صلت للقبلة الأولى قبل قدوم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) المدينة بثلاث حجج وان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى للقبلة الاولى بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا.

١٧٨

في ذلك التحويل ، أنها كانت قبلتهم منذ البداية ، فهي ـ إذا ـ قبلتهم ، مهما كانت كذلك قبلتنا ، فهم لا يعارضوننا ـ فقط ـ في شرعتنا ، بل وفي شرعتهم ، معارضة ذات بعدين بعيدين عن شرعة الحق التي لا تتحول ـ في قياسهم ـ نكرانا للنسخ ـ أيّا كان ـ وهم في الوقت نفسه معترفون بالشرعة الإبراهيمية المنسوخة في البعض من أحكامها بالشرعة التوراتية ، وعارفون التناسخ في التوراة نفسها ، وهم الآن ينددون بكل نسخ وناسخ بعد التوراة!

وعلّ (قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) تشمل القبلتين ، حيث كانت هي الكعبة ثم تحولت الى القدس ، ثم من القدس الى الكعبة ، وكلاهما «قبلتهم» إذ كانتا أمرا من شرعتهم ، ولا صراحة في الآيات لإحداهما بل «سيقول» تعمهما مهما اختلفت قولة عن قولة كما اختلفت قبلة عن قبلة ، ثم الأحاديث القائلة أنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) أمر في العهد المكي أن يستقبل القدس من واجهة الكعبة (١) قد تجمع بين القبلتين في العهد المكي ، ولكلّ من القبلتين ملامح

__________________

ـ وفي تفسير البرهان ١ : ١٥٨ ـ ابو علي الطبرسي عن علي بن إبراهيم باسناده عن الصادق (عليه السلام) قال : تحولت القبلة الى الكعبة بعد ما صلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بمكة ثلث عشرة سنة الى بيت المقدس وبعد مهاجرته الى المدينة صلى الى بيت المقدس سبعة أشهر ، قال : ثم وجهه الله الى الكعبة ...

(١) المصدر عن ابن عباس ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي وهو بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه وبعد ما تحول الى المدينة ستة عشر شهرا ثم صرفه الله الى الكعبة.

وفي تفسير البرهان ١ : ١٥٨ ـ الامام ابو محمد العسكري (عليه السلام) قال : ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إذ كان بمكة أمره ان يتوجه نحو بيت المقدس في صلواتهم ويجعل الكعبة بينه وبينها إذا أمكن لم وإذا لم يمكن استقبل بيت المقدس فكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يفعل ذلك طول مقامه بها ثلث عشر سنة فلما كان بالمدينة وكان متعبدا باستقبال بيت المقدس استقبله وانحرف عن الكعبة سبعة عشر شهرا او ستة عشر شهرا ...

وفي الدر المنثور ١ : ١٧٥ ـ أخرج احمد وابو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم ـ

١٧٩

في ذلك العهد من الآيات التالية ، لا سيما بالنسبة للكعبة المباركة.

ف «سيقول» كقولة معترضة آتية من السفهاء ، هي أحرى ان تكون «قال» لو أن القدس هي القبلة المكية ، فإنها هي الأصيلة عند الموحدين والمشركين ، فكون القدس ـ إذا ـ هي القبلة المكية هو مثار لسفاهة وسفاسفة القول أكثر من تحويل القبلة عن القدس إليها ، ومن ثم فكل من إلّا لنعلم ... قد نرى تقلب وجهك ... لئلا يكون للناس عليكم حجة ... كل ذلك إضافة إلى أن مكية القدس في القبلة هي من الموانع العظيمة لقبول الإسلام لذلك القول اللدّ ـ لدّا إلى لدّهم! ـ هذه الخمس هي من عساكر البراهين لكون القبلة المكية هي الكعبة المباركة ، مهما اتجه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) الى القدس من قبلها ضمنها أم لم يتجه ، وتفصيل الأربعة الأخيرة تجده عند آياتها.

وعلى أية حال فلقد جاء قوم من اليهود الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا : يا محمد! هذه القبلة بيت المقدس قد صليت إليها ثم تركتها الآن ، أفحقا كان ما كنت عليه؟ فقد تركته الى باطل! فإن ما يخالف الحق فهو باطل ، أو باطلا؟ فقد كنت عليه طول هذه المدة! فما يؤمننا أن تكون الآن على باطل؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : بل ذلك كان حقا وهذا حق يقول الله تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إذا عرف صلاحكم يا أيها العباد في استقبال المشرق أمركم به وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به ، وإن عرف صلاحكم في

__________________

ـ وصححه والبيهقي في سننه عن معاذ بن جبل قال : أحيلت الصلاة ثلاثة احوال واحيل الصيام ثلاثة احوال فامّا احوال الصلاة فان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قدم المدينة فصلى سبعة عشر شهرا الى بيت المقدس ثم ان الله أنزل عليه : قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها الآية فوجهه الله الى مكة هذا حول ...

١٨٠