الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٨

من ملائكتي ولا يذكرني في ملاء إلا ذكرته في الرفيق الأعلى» (١) ف «أحب الأعمال الى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله» (٢) ف «ليس يتحسر أهل الجنة إلّا على ساعة مرت بهم لم يذكر الله تعالى فيها» (٣).

(وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) وأوّل معرفة النعمة أنها من الله ، ف «ما أنعم الله على عبده من نعمة فعلم أنها من عند الله إلا كتب له شكرها قبل أن يحمده ...» (٤).

ثم النظر الصالح في مسرح الحياة لمرضات الله تعالى ، ف «من نظر في الدين إلى من فوقه وفي الدنيا الى من تحته كتبه الله صابرا شاكرا ، ومن نظر في الدين إلى من تحته ونظر في الدنيا إلى من فوقه لم يكتبه الله صابرا ولا شاكرا» (٥).

ثم أن يصرف كل ما أنعمه الله في مرضاته ، وبالتالي كأرفع الشكر ان يعترف بعجزه عن شكر ربه كما قال موسى (عليه السلام) يوم الطور : يا رب إن أنا صليت فمن قبلك وإن أنا تصدقت فمن قبلك وإن أنا

__________________

(١) المصدر أخرج الطبراني عن معاذ بن أنس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال الله عز وجل ذكره : ...

(٢) المصدر عن مالك بن يخامر ان معاذ بن جبل قال ان آخر كلام فارقت عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ان قلت اي الأعمال أحب الى الله؟ قال : ان تموت ...

(٣) المصدر أخرج الطبراني والبيهقي عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٤) الدر المنثور ١ : ١٥٣ عن عائشة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : «وما علم الله من عبد ندامة على ذنب إلا غفر له ذلك قبل ان يستغفره ان الرجل ليشتري الثوب بالدينار فيلبسه فيحمد الله فما يبلغ ركبتيه حتى يغفر له».

(٥) المصدر اخرج البيهقي عن انس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ...

٢٢١

بلغت رسالاتك فمن قبلك فكيف أشكرك؟ قال : «يا موسى الآن شكرتني» (١).

ثم وترك كل مرتبة من الشكر كفّر حسبها بمعنى الكفران ، اللهم إلا ذكرا لنعمته وكفرا بالمنعم فمكفر بالله. وكما الذكر درجات كذلك الشكر درجات ، والنسيان والكفران والكفر ـ أيضا ـ دركات : ففي الشكر تبدأ بالاعتراف بفضل الله وان كل النعم هي من الله ، وتنتهي بالتجرد لشكره في كل حقول المعرفة والعمل والاعتراف بالعجز عن شكره ، في كل حركة بدن ، وكل لفظة لسان ، وفي كل خفقة قلب ، وفي كل خطرة جنان ، وبين المبدء والمنتهى متوسطات.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ

٢٢٢

هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧) إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ

٢٢٣

لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (١٥٣).

الصبر كاستقامة سلبية حفاظا على كيان الإيمان هو الناحية السلبية من كلمة التوحيد ، كما الصلاة قوامة إيجابية ـ تداوم التكامل لحاصل الإيمان ـ هو الناحية الإيجابية لكلمة التوحيد ، فالصبر ككلّ يعني الشطر الأوّل لهذه الكلمة ، والصلاة ككل للشطر الثاني ، و (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) تأكيد للمرحلة الأولى فإنها أهم من الثانية ، وهذه المعية الربانية للصابرين كافلة لصالح المرحلتين. هنا ترجّح ميزانية الصبر حيث المسرح يستقبل حكم الجهاد بملاقات الأهوال ومقارعة الأبطال فالاهتمام بالصبر فيه أهم ، وهناك في أخرى (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) (٧ : ٤٥) ترجّح ميزانية الصلاة لأنها كأصل وضابطة خير موضوع وهي عمود الدين ، ونظرا إلى احتمال ثان «إنها» تعني الاستعانة بكلا الصبر والصلاة ، فهما ـ إذا ـ ردف بعض ولصق بعض في حظيرة الإيمان ، مهما

٢٢٤

اختلفت مجالاته في تأثير أهم لأحدهما صبرا او صلاة ، وقد فصلنا القول فيهما على ضوء آية الخاشعين ، وأن من الصبر ممدوح مأمور به ، ومنه مقبوح منهي عنه كالصبر على الظلم والضيم.

والاستعانة بالصبر والصلاة في كل المجالات لها دور عظيم عميم لإدارة الشؤون الحيوية الإيمانية ، فردية وجماعية في كل الحقول ، ولا سيما في حقل الجهاد ، فانه للمسلمين حياد ومهاد وسداد ، فعلى الأنفس المؤمنة أن تكون مشدودة الأعصاب ، شديدة الاعتصاب ، مجندة القوى ، يقظة للمداخل والمخارج ، وللداخل والدخيل والخارج ، والزاد الأوّل في كل ذلك هو الصبر ، صبرا عن المعاصي وعلى الطاعات ، وعلى جهاد المشاقين الله ، والكائدين بشرعة الله ، وصبرا على بطء النصر ، وعلى بعد الشقة وعلى كل مشقة في هذه السبيل الشاقة الطويلة ، وعلى انتفاش الباطل وقلة الناصر ، وعلى التواء النفوس وضلال القلوب وثقلة العناد ومضاضة الأغراض ، ومن «استقبل البلايا بالرحب وصبر على سكينة ووقار فهو من الخاص ونصيبه» ما قال الله عز وجل : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (١) وحين يقل الصبر أو يكلّ فالصلاة ، وإنها المعنى الذي لا ينصب ، والزاد الذي لا ينفد ، تجدّد الطاقة الكليلة ، وتزوّد القلوب العليلة ، فيمتد ـ إذا ـ حبل الصبر دونما انقطاع ، ف (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) ، ومن الصبر في المقال بعد الصبر في الحال والفعال :

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (١٥٤).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٤١ عن مصباح الشريعة قال الصادق (عليه السلام) : ... وفيه عن تفسير العياشي عن الفضيل عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : يا فضيل! بلغ من لقيت من موالينا عنا السلام وقل لهم إني أقول : إني لا أغني عنكم من الله شيئا إلا بورع فاحفظوا ألسنتكم وكفوا أيديكم عليكم بالصبر والصلاة ان الله مع الصابرين.

٢٢٥

هذه من الآيات الدالات على الحياة البرزخية ، تختص هنا بمن يقتل في سبيل الله لمناسبة المسرح والموقف ، ف «أموات» هنا يعني موت الفوت الذي ليس فيه ولا بعده حياة ، فهو الموت المطلق ، لا مطلق الموت الذي قد تصاحبه حياة تعنيها «بل أحياء» فهم أحياء بعد موتهم (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) حسيّا أنهم أحياء ، فاشعروا معرفيا بما يعرّفكم الله أنهم «أحياء».

وإنها ليست ـ فقط ـ حياة الذكر بعد الموت ، فما هي الفائدة للميت دون حياة أن تكون له حياة الذكر وهو لا يشعرها ، ثم الثانية النظيرة لها ، الشارحة لحياتها أكثر منها (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ ... وَيَسْتَبْشِرُونَ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣ : ١٦٩) تصريحات لا حول عنها لواقع الحياة بعد الموت دون حياة التخيّلات ، وسوف نأتي على تفصيل القول عند تفسيرها.

إنهم يعيشون بعد موتهم «في الجنة على صور أبدانهم» (١) «في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا» (٢) ، وفي صيغة ثالثة «إن الأرواح في صفة الأجساد» (٣).

__________________

(١) المصدر في المجمع عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أرواح المؤمنين؟ فقال : في الجنة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان.

(٢) المصدر عن المجمع عن يونس بن ظبيان قال كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) جالسا فقال : ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟ قلت : يقولون : في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش ، فقال ابو عبد الله (عليه السلام) : سبحان الله! المؤمن أكرم على الله من ان يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر ، يا يونس! المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ...».

(٣) في الكافي عن الصادق (عليه السلام): ... في شجر من الجنة تعارف وتساءل فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول دعوها فانها قد أقفلت من هول عظيم ثم يسألونها ما فعل فلان وما فعل فلان ، ـ

٢٢٦

وما أقبحها فرية على رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلم) انهم «في صورة طير بيض تأوى إلى قناديل معلقة تحت العرش» (١).

فلو أنها ـ فقط ـ حياة الذكر ، فكيف «لا يشعرون؟» وحتى الماديين الناكرين للحشر يمشون وراء حياة الذكر ، رغم انها لهم خيال على خيال ، فان حياة الذكر إنما يشعرها ويعمل على تحصيلها من له حياة بعد الموت حتى يلتذ بحياة الذكر فيها.

وان حب حياة الذكر ـ الفطري ـ هو من الأدلة الفطرية على استمرارية الحياة بعد الموت ، وهو من الحجج الدامغة على ناكري الحياة بعد الموت ، إذا لو لم تكن بعد الموت حياة ، فأي دافع لمن يبطل حياته لبقاء آخرين ، وأن يحرم نفسه لذّاتها ليتمتع آخرون ، حيث العاقل ـ أيا كان ـ لا يعطي إلا استعطاء بديل ما يعطي ، إما هنا أم في الحياة الأخرى ، وليست حياة الذكر لها دور إلّا لمن يحيى بعد موته حتى يشعر تلك الحياة ، وإذ لا حياة فلا شعور للذكر حتى يجهد في تحصيله!.

وقيلة القائل : ان الخطاب في «لا تقولوا» موجه الى المؤمنين الذين يعتقدون في الحياة بعد الموت كأصل ثالث من الدين ، فكيف ينهاهم عن قالتهم هذه وهم مؤمنون؟ فلتكن «بل أحياء» حياة الذكر!.

إنها مردودة عليهم ، بان الحياة البرزخية لم تكن باهرة لهم كحياة القيامة ،

__________________

ـ فان قالت لهم : تركته حيا ارتجوه ، وان قالت لهم : قد هلك قالوا : قد هوى هوى.

(١). الدر المنثور ١ : ١٥٥ قال (صلّى الله عليه وآله وسلم) في صورة ... ، وفيه عن كعب بن مالك ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : ان أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ثمر الجنة او شجر الجنة.

٢٢٧

وهذه هي الثالثة من أصول الدين ، وأما البرزخية التي يشك فيها حتى الآن جماعة من المسلمين ، منهم قائل هذه القيلة ـ فلم تكن بذلك الظهور ، فلتذكر لهم بمثل هذه الذكريات التي تحملها الآيات البرزخية الباهضة ، الناهضة لما فوق العشرين!.

ثم وحياة الذكر أيضا ـ إضافة إلى أنها لائحة حتى للماديين ـ هي كذلك تتطلب حياة بعد الموت تدرك فيها كلذّة من ملاذها! وإذا لا تدرك إذ لا حياة بين الدنيا والآخرة فكيف يرغّب القرآن المؤمنين إلى حياة تخيلية لا واقع لها؟!.

فالقول إن (بَلْ أَحْياءٌ) قد تعني الحياة الأخرى ، يرده ان الإعتقاد فيها هو من اوّليات العقائد الإسلامية التي ابتدأ الإسلام بها ، ثم العبارة الصالحة لخصوصها «بل هم يحيون» دون «أحياء» الدالة على استمرارية الحياة دون فوت ، فلنستعن بالله صبرا ـ فيما نستعين ـ بالصبر على أمثال هذه الأقاويل ، والرد عليها بنصوص من القرآن كهذه وأضرابها.

وهنا احتمالات أخرى لا تحملها هذه الآية وأضرابها الصريحة في الحياة البرزخية (١) ... وترى الآية ـ بعد ـ مختصة بحياة الشهداء ، نافية لحياة غيرهم من السعداء والأشقياء؟ كلّا! فان هذه الحياة الخاصة رزقا عند ربهم ، هي للنبيين أخص ، وليسوا كلهم ولا جلّهم من الشهداء ، كما وفي غيرهم من هو أفضل من بعض الشهداء ، فلما ذا تختص هذه الكرامة ـ فقط ـ بالشهداء! ثم وإثبات الحياة البرزخية للشهداء ، ليس لينفيها عن غير الشهداء ، لا سيما وأن المجال هنا مجال الترغيب للقتال في سبيل الله ، وجبر خواطر أهليهم أن افتقدوهم ، فلكل مجال قال ، كما لكل قال مجال.

__________________

(١) أخرجه مالك والشيخان عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

(١). كالقول انها حياة الهدى ، الظاهرة في الأخرى ، ام استمرارية الحياة الدنيا بنفس هذا البدن ام حياة روحانية محضة دون اي جسم ، ام حياة أرواحهم في أجساد اخرى غير أجسادهم ، امّا ذامت تقولات زور لا سند لها إلا تطفلات! ...

٢٢٨

ومن ثم فعشرات من الآيات الدالة على الحياة البرزخية لكافة المكلفين ، مؤمنين وكافرين ، إنها تدلنا دلالة قاطعة لا محيد عنها على شمولية الحياة البرزخية دونما استثناء! وسوف نوافيكم بقول فصل حول الحياة البرزخية على أضواءها في محالها حسب دلالاتها وأدلتها.

ثم وفي رجعة ثانية الى الآية (وَلا تَقُولُوا) نهي عن قولة الممات للشهداء ، وطبعا في حقل «مات وفات» ثم لا حياة بعد ما مات أبدا ، ولا يقوله مسلم ، أم لا حياة في البرزخ بين حياتي الأولى والأخرى كما كان يظنه المسلمون فيمن سواهم ولمّا يبين لهم برزخ الحياة ، فهذا من البيان : «لا تقولوا ـ هم ـ أموات» «بل» قولوا «أحياء» وان لم تشعروا تلك الحياة ، وقد يشعركم إياها حالة النوم : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ...) (٣٩ : ٤٢) (هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ...) (٦ : ٦٠).

انهم قتلوا في ظاهر الجسد الدنيوي ، وما يشعركم أنهم ـ كذلك ـ قتلوا في الروح وفي جسد آخر هما غير محسوسان ، فحين يخبرنا ربنا (بَلْ أَحْياءٌ) نصدقه كما نصدق الحياة المحسوسة وأحرى ، حيث الوحي أحرى بالتصديق من الحسن وأقوى.

أجل! «أحياء» أحيا من قسم كثير من الأحياء في البرزخ ، ولذلك لا يغسلون كما يغسل الموتى ، ويكفّنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها ، فالغسل تطهير للجسد الميت وهم لا يحكم عليهم ـ بقتلهم ـ حكم الميت ، فثيابهم بعد قتلهم هي ثيابهم قبله! رمزا الى حياة لهم قوية فائقة.

وقد وردت في شأن الشهداء آيات وروايات ، فزاهم يقرنون بالنبيين والصديقين قبل الصالحين : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٤ : ٦٩) ومن الشهداء هم القتلى في سبيل الله ، لا سواه.

٢٢٩

وفي حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم): «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة» (١).

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (١٥٥).

في «لنبلونكم» تأكيدات ثلاث في تحقيق ذلك البلاء ، ثالثتها جمعية الصفات الربانية المستفادة من صيغة المتكلم مع الغير ، فلا بد في مسرح الإيمان من مصرع البلاء بشتى الألوان ، نفسيا : «من الخوف» وبدنيا : «والجوع» وماليا : (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) ونفسيا لكم ومن هو مثلكم : «والأنفس» وكضابطة تشمل كل نفس ونفيس من غال ورخيص : «والثمرات».

ف «الثمرات» تعم ثمرات العقول والعلوم والقلوب ، ومن الثالثة الأولاد الصالحون الذين هم من أغلى ثمرات الحياة ، مهما شملت ثمرات الزرع والضرع ، حيث الثمرات النفسية أنفس وأغلى من ثمرات الجسم.

(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) على هذه البلايا المحلقة على المؤمنين فيما لهم من حيويات روحية ومادية : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٢٩ : ١ ـ ٣).

أجل و «ان الله يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات ليتوب تائب ويتذكر متذكر» (٢) ، ثم و (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٧ : ١٦٣) كما يبتليهم وهم صالحون ، مخلصون ومخلصون : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) (٢ : ١٢٤).

__________________

(١). عن نهج البلاغة عن الامام امير المؤمنين علي (عليه السلام.

٢٣٠

وكضابطة عامة : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٢١ : ٣٥) (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٧ : ١٦٨).

لا فحسب ـ بل والشرعة الإلهية بتتابعها في مختلف طقوسها بأدوارها بلاء : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) (٥ : ٤٨) (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) (٦ : ١٦٥).

بل والموت والحياة كلّ بلاء : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٦٧ : ٢).

ثم «إن أشد الناس بلاء النبيون ثم الوصيون ثم الأمثل فالأمثل ، وإنما يبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة ، فمن صحّ دينه وصحّ عمله اشتد بلاءه وذلك أن الله عز وجل لم يجعل الدنيا ثوابا لمؤمن ولا عقوبة لكافر ، ومن سخف دينه وضعف عمله فقد قل بلاءه ، والبلاء أسرع إلى المؤمن المتقي من المطر إلى قرار الأرض» (١).

وحينما نرى أصحاب الغايات الدنيوية الدانية يتحملون مختلف ألوان البلاء من أجل الحصول عليها ، فبأحرى لأصحاب الغايات الأخروية أن يتحملوا خلفياتها وأعباءها.

كما ولا يدرك الآخرون قيمة الإيمان إلّا حين يرون ابتلاء أهله وصبرهم على شديد بلاءه ، وعندئذ قد ينقلب المعارضون لعقيدة الإيمان باحثين عنها ، مقدرين لها ، مندفعين إليها.

فالشدائد تشجيش مكنونات القوى ، ومذخورات الطاقات ، فاتحة في القلوب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد ، ف «عند تقلب الأحوال تعرف جواهر الرجال».

(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) على البلايا والرزايا «فمن سترها ولم يشك إلى الخلق

__________________

(١). نور الثقلين ١ : ١٤٣ في العلل باسناده الى سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان في كتاب علي (عليه السلام) : ...

٢٣١

ولم يجزع بهتك ستر فهو من العام ونصيبه» مما قال الله (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (١).

وإن أبلى البلاء للمؤمنين هو في الغيبة الكبرى لصاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، وهو أصدق مصاديق آية البلاء (٢).

ومن هم الصابرون ـ ككل ـ حتى نعرفهم بأجمعهم في صيغة مختصرة؟ :

(الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ١٥٦.

«مصيبة» هي صفة ل «رمية» وأصلها «رمية مصيبة» فتشمل كل رمية من أيّ رام تصيب الإنسان ، في نفسه او ماله ، أمّا له على أية حال ، وهي تأتي لخير قليلا ولشر كثيرا ، ومن مصيبة الخير إقبال الدنيا على المؤمن بماله ومناله ورئاسته ، فإنها بلاء يصيب على المبتلى بها ان يتخلص عن أوزارها وأوضارها ، ولكن (إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) قد تختصها بمصيبة الشر ، أو يقال إن الحياة العادية بين اقبال الدنيا وادبارها هي قليلة البلاء أو خفيفتها ، فإنما المهم (نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ...) فالعوان بينهما خارج عن تلك البلية.

__________________

(١). مصباح الشريعة قال الصادق (عليه السلام) في كلام طويل : ...

(٢) نور الثقلين ١ : ١٤٢ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى محمد بن مسلم قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ان لقيام القائم (عليه السلام) علامات يكون من الله عز وجل للمؤمنين ، قلت : وما هي جعلني الله فداك؟ قال : ذلك قول الله عز وجل (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) يعني المؤمنين قبل خروج القائم (عليه السلام) (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) قال : (لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) من ملوك بني فلان في آخر سلطانهم (وَالْجُوعِ) بغلاء أسعارهم ، (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) قال : كساد التجارات وقلة الفضل ونقص من (الْأَنْفُسِ) قال : موت ذريع ونقص من (الثَّمَراتِ) لقلة ريع ، يزرع (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) عند ذلك بتعجيل الفرج ، ثم قال يا محمد! هذا تأويله ، ان الله عز وجل يقول (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).

٢٣٢

والمصيبة ـ وهي ـ في الأكثر ـ التي توجع الإنسان قل أو كثر ـ قد تكون بما قدمت أيدي المصاب : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) (٤ : ٦٢) ـ (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) (١٦ : ٣٤) ـ وأخرى بما كسبت أيدي الناس ظلما : (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا) (٣ : ١٤٦) ، حيث تجب فيها الدفاع حسب المستطاع : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (٤٢ : ٣٩) ، ويجمعهما (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أنفسكم أو سواكم : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٤٢ : ٣٠).

والمصيبة ان كانت حسنة فمن الله وان كانت سيئة فمن نفسك وكل من عند الله ، حيث يأذن له تكوينيا مهما كانت غير مأذونة تشريعيا : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا) (٥ : ٤٩) ، وهي تعم كتابة الجزاء هنا ، وكتابة تمشية الإختيار ممن يظلم بما يصيب سواه ، وكتابة الامتحان لمن يرتقي بما يصاب صابرا عليه ف (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (٥٧ : ٢٣) ، وعلى أية حال (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) صدورا باذنه أيا كان : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ...) (٤ : ٧٩).

فإذا كانت المصيبة السيئة من عند الله بما كسبت أيديكم أم بما كسبت أيدي الناس أم وابتلاء من الله ، فقضية الإيمان بالله أن تقول عندها (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) مهما وجبت عليك الدفاع والإنتصار ، فإنها لا تطارد كلمة الاسترجاع.

٢٣٣

وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضاه» و «ما من نعمة وان تقادم عهدها فيجدّد لها العبد الحمد إلا جدّد الله له ثوابها ، وما من مصيبته وإن تقادم عهدها فيجدد لها العبد الاسترجاع إلا جدد الله له ثوابها» ـ و «إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم ـ فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون : نعم ، فيقول : ماذا قال عبدي؟ فيقولون : حمد واسترجع ، فيقول الله : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد» ـ

و «ان للموت فزعا فإذا أتى أحدكم وفاة أخيه فليقل : إنا لله وإنا إليه راجعون وإنا إلى ربنا لمنقلبون ...» وليس فحسب مصيبة الموت التي يحق لها الاسترجاع ، بل و «إذا انقطع شسع أحدكم فليسترجع فإنها من المصائب» ـ وقد طفى سراج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فقيل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أمصيبة هي؟ قال : نعم وكل ما يؤذي المؤمن فهو مصيبته له وأجر وعلى الجملة «قسم الله العقل على ثلاثة أجزاء فمن كنّ فيه فهو العاقل ومن لم يكنّ فيه فلا عقل له ، حسن المعرفة بالله وحسن الطاعة لله وحسن الصبر لله» (١).

هذا! ثم و «قالوا» هنا تلك المهمة الكبرى التي يبشر الله فيها ، ليست

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٥٦ ـ ١٥٩ ـ أخرج كلّا جماعة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، ومنها ما أخرجه الديلمي عن عائشة قالت أقبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقد لدغته شوكة في إبهامه فجعل يسترجع منها ويمسحها فلما سمعت استرجاعه دنوت منه فنظرت فإذا أثر حقير فضحكت فقلت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بأبي أنت وأمي أكل هذا الاسترجاع من اجل هذه الشوكة؟ فتبسم ثم ضرب على منكبي فقال : يا عائشة إن الله عز وجل إذا أراد أن يجعل الصغير كبيرا جعله وإذا أراد ان يجعل الكبير صغيرا جعله.

٢٣٤

هي ـ فقط ـ لفظة القول ، كما الصبر ـ أيضا ـ ليس من هذه المقولة ، فإنما «قالوا» باللسان إخبارا عن حالة واقعة في الجنان ، فألسنتهم قائلة وأعمالهم ـ عند المصيبة ـ عما في القلب : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

أم «قالوا» بلسان قالهم وحالهم وأعمالهم ، فهم ـ إذا ـ بكل كيانهم استرجاع لربهم عند مصائبهم. «إنا لله» ككلّ ـ في ذواتنا وصفاتنا وأفعالنا وإدراكاتنا ، فكلّ مالنا ومنا وإلينا ، مماليك لله دون أية حرية طليقة عن مشيئة الله ، فحين تصيبنا مصيبته لسنا نتضايق أبدا ولا نتساءل ، لأنها ليست إلّا بإذن الله ، ثم (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) كيفما كنا وأين وأنّى.

ترى ما ذلك الرجوع؟ أرجوع إليه عما كنا عنده؟ (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) دون انفصال علمه وقدرته وإرادته!.

أم رجوع إلى عالمه الأخير في الدار الآخرة؟ ولم نكن فيها حتى نرجع إليها! ثم الرجوع إليها ليس ـ بالتمام ـ رجوعا إليه حتى وإن كنا من قبل فيها!.

قد يعني (إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) رجوعنا الى ما كنا في «إنا لله» ولكن أين؟ فهل رجوعا الى ما نحن الآن من «إنا لله» وهو تحصيل للحاصل؟!.

علّه رجوع الى «إنا لله» قبل الإختيار والتكليف إذ كنا أجنّة في بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا حتى نعلم شيئا فكنا «لله» لا لأنفسنا ، إذ لم نكن نسطع على شيء من أمرنا ، فكذلك نرجع إليه بنفس الحالة ، حيث الحياة البرزخية ثم الأخرى ، لا خيرة للأحياء فيها : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣٠ : ١١). (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٤١ : ٢١). ف «إنا لله» اعتراف باختيار ما اختار الله لنا يوم الدنيا ، وكما كنا مسيّرين فسوف نرجع إليه كما بدأنا.

أم (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) عن كلا المرحلتين من «إنا لله» حيث الرجوع

٢٣٥

وان اقتضى البدء ، فالأولى بدءه ، ثم الثانية تنتهي اليه مصيرا للمسير ، فقولنا : إنا لله ، اقرار على أنفسنا بالملك وإنا اليه راجعون ، إقرار بأهلك (١) ... فإذا نحن في البدء «لله» اختيارا ودون اختيار ، ثم في المصير ليس لنا اختيار ، فأحرى لنا ان نختار في عالم التكليف والإختيار ما هو يختار ، تصبّرا على المصاب ، وقولا بالصواب : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ـ (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢ : ٢٤٥).

فعلى م تأسف وتجزع أيها الإنسان عند المصاب ولا يملك إلّا رب الأرباب ، ثم وإليه المصير! فلا حول لك ولا طول في المصاب الذي ليس لك فيه ذهاب ولا إياب ، اللهم إلا الذي يأتيك جزاء ليس لك عنه محيد.

ذلك! ولكن الصبر على المصاب حيث أصاب ، لا يعني الصبر على كل ظلم وضيم ، فان واجب الدفاع عنده يحرّض على كلّ محاولة مستطاعة لدفع الظلم ، فإنما الصبر على ما وقع منه دون جزع او تساءل على الله ، ثم العمل الجادّ على دفع الإصابة المشرفة ، وإزالة البقية من الواقعة.

(أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) ١٥٧.

وعلّ هذه الثلاث ـ وأنعم بها وأبشر ـ هي المبشرّ بها في (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) :

ف (صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) هي رحمات عدة ، يرفعهم الله بها إلى المشاركة في نصيب نبيّه حيث يصلي عليه هو وملائكته ، فهي صلوات زيادة على عامة الصلوات في (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (٣٣ : ٤٣) ، ثم «ورحمة» خاصة مع هذه

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٤٤ عن اصول الكافي ونهج البلاغة عن الامام علي (عليه السلام).

٢٣٦

الصلوات الرحمات (وَأُولئِكَ هُمُ) وكأنه لا سواهم «المهتدون» ، فهنالك صلوات تعم المؤمنين ، ثم خاصة تخص الشهداء منهم والصابرين ، ومن ثم أخص تخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهله المعصومين (عليهم السلام) ، وكما أمرنا ان نصلي عليهم لمّا نصلي عليه.

وقد تعني «صلوات» هنا لقرنها ب «رحمة» انعطافات ربانية عليهم تخلّف رحمة عظيمة تلمح لها التنكير في «رحمة» وقد يدل عليه «يصلي عليكم ليخرجكم» حيث الإخراج من الظلمات إلى النور هو الرحمة ، إذ ف (يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) انعطاف لذلك الإخراج عن ورطة الإحراج ، وكما أن «صلوات» تخلّف «رحمة» كذلك الرحمة تخلف الهداية ، ثلاثة ردف بعض ، كلّ تنتج الأخرى ، مهما كانت كل صلاة من الله ورحمة وهداية ، إلّا أن الاختلاف هو في الدرجة.

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) ١٥٨.

آية وحيدة في شعيرة الصفا والمروة و : «التطوف بهما» ، وهو فريضة في الحج والعمرة ، وركن فيهما ، فترى كيف يعبّر عنه ب «لا جناح» سلبا لحرمته ، ثم (تَطَوَّعَ خَيْراً) إيجابا لندبه ، والفريضة هي فوق الوجوب المتعوّد؟!.

«لا جناح» ـ بالنسبة لهذه الشعيرة الفريضة ـ تلمح أنه كان يخلد بخلد المسلمين يومذاك جناح في التطوّف بهما ، وكما تدل عليه أسباب نزول عدة : «أن المسلمين كانوا يظنون أن السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون» فانزل الله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ...) (١) ، ولأن أصناما كانت

__________________

(١) في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في حديث ... وان المسلمين ... وفي الدر المنثور عن ـ

٢٣٧

على الصفا والمروة أو بينهما فكيف نسعى بينهما؟ (١) فنزلت آية اللّاجناح سلبا

__________________

ـ انس انه سئل عن الصفا والمروة ـ قال : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله الآية ، وفيه عن عمرو بن حبيش قال سألت ابن عمر عن قوله : ان الصفا ... فقال : انطلق الى ابن عباس فاسأله فانه أعلم من بقي بما أنزل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتيته فسألته فقال : انه كان عندهما أصنام فلما أسلموا أمسكوا عن الطواف بينها حتى نزلت الآية.

وفيه عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام لقد سمعت رجالا من اهل العلم يقولون لما انزل الله الطواف بالبيت ولم ينزل الطواف بين الصفا والمروة قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ان كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة وان الله قد ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الطواف بين الصفا والمروة فهل علينا من حرج ان لا نطوف بهما فانزل الله : (إِنَّ الصَّفا ...) قال ابو بكر فأسمع هذه الآية في الفريقين كلاهما فيمن طاف وفيمن لم يطف.

(١) في الدر المنثور ١ : ١٦٠ عن عامر الشعبي قال : وثن بالصفا يدعى إساف ووثن بالمروة يدعى نائلة فكان اهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما ويمسحون الوثنين فلما قدم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قالوا يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ان الصفا والمروة انما كان يطاف بهما من اجل الوثنين وليس الطواف بهما من شعائر الله فانزل الله الآية ... وفيه عن عائشة ان عروة قال لها : أرايت قول الله تعالى : ان الصفا والمروة ... فما أرى على أحد جناحا ان لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة : بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أوّلتها كانت فلا جناح عليه الّا يطوف بهما ولكنها انما نزلت ان الأنصار قبل ان يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها وكان من أهل لها يتحرج ان يطوف بالصفا والمروة فسألوا عن ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا يا رسول الله إن كنا نتحرج ان نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله : ان الصفا والمروة ... قالت عائشة ثم قد سن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الطواف بهما فليس لأحد ان يدع الطواف بهما.

وفي تفسير البرهان ١ : ١٧٠ عن تفسير العياشي في خبر حماد بن عثمان قال ابو عبد الله (عليه السلام): انه كان على الصفا والمروة أصنام فلما ان حج الناس لم يدروا كيف يصنعون فأنزل الله هذه الآية فكان الناس يسعون والأصنام على حالها فلما حج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رمى بها.

٢٣٨

لذلك الجناح المزعون ، ثم (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) تثبت فرض السعي فإنها ـ ككلّ ـ مفروضة على المسلمين في مجالاتها : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (٢٢ : ٣٢) ومن تعظيمها تطبيقها بعد تعظيمها معرفيا وعقيديا وقوليا ، ومن أعظمها إذاعتها بين الجماهير ، إذا فترك تعظيمها هو من طغوى القلوب أم خلاف تقواها ، والتقوى بصورة عامة ولا سيما (تَقْوَى الْقُلُوبِ) المستطاعة واجبة على أصحاب القلوب : ف (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (٣ : ١٠٢) ـ (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٦٤ : ١٦) (١).

وقد تقتضي طبيعة الحال نزول آية اللّاجناح عند أوّل فرض لعمرة أو حج ، وهو عمرة القضاء ـ سابع الهجرة ـ ، ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شرط عليهم ـ فيها ـ أن يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة فسئل عن رجل ترك السعي حتى انقضت الأيام وأعيدت الأصنام فجاءوا إليه فقالوا يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : إن فلانا لم يسع بين الصفا والمروة وقد أعيدت الأصنام فأنزل الله (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أي : «وعليهما الأصنام» (٢).

__________________

(١) في فرض السعى أحاديث عدة منها ما في الدر المنثور ١ : ١٦٠ ـ اخرج الشافعي وابن سعد واحمد وابن المنذر وابن قانع والبيهقي عن خبيثة بنت أبي بحران قالت : رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول : واسعوا فان الله عز وجل كتب عليكم السعي ، وفيه اخرج الطبراني عن ابن عباس قال سئل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال : ان الله كتب عليكم السعي فاسعوا.

(٢) نور الثقلين ١ : ١٤٨ عن الكافي سئل ابو عبد الله (عليه السلام) عن السعي بين الصفا والمروة فريضة ام سنة؟ فقال : فريضة ، قلت : او ليس قال الله عز وجل (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)؟ قال : كان ذلك في عمرة القضاء ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ...

٢٣٩

ومن ثم حجة الوداع حين حج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون أجمع من استطاع إليه سبيلا كما يروى عن الإمام الصادق (عليه السلام).

ام انها نزلت قبلهما حيث كان يتفلّت بعض المسلمين لأداء حج أو عمرة فرادى وفي خفية قبل عمرة القضاء وحجة الوداع ، ممن كانوا ـ بعد ـ في مكة المكرمة ، أم يقصدونها دونها ، وعلّها نزلت مرات ، أم تليت على المسلمين مرة بعد أخرى ولا سيما في حجة الوداع وكانت أحرى بها ، ولأن الطواف بهما ـ بعد ـ بسوء السابقة لهما لوجود الأصنام ، كان تكلّفا للموحدين الجدد ، الباغضين الأصنام ، لذلك يلحق اللاجناح هنا ب (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) حيث التطوع هو تكلف في الطوع لكراهية قلبية أماهيه سواء أكان في ندب لعدم فرضه ، فالآتي به يتكلف زيادة على واجب التكليف ، كما في تطوع الصوم على الذين يطيقونه : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢ : ١٨٤) فالصوم لمن يطيقه هو من تطوع الخير لصعوبته في نفسه ، كما ان قسما من المندوب من تطوع الخير صعوبة نفسية لأنه زيادة على الفرض.

ام هو تطوع في فرض كما هنا إذ كانوا يتحرجون من الطواف بهما ظنا أنه سنة جاهلية ، وعلما أنهما كانا محل الأصنام ومطافها ، فهنا الله يشكر الطائفين بهما ، علما بهذه الكراهية ، وعلما بأنه من الشعائر التي لا تترك بحال ، وعلما بان في ذلك صلاح الجماعة المسلمة.

وهذه ضابطة سارية المفعول في كل الحقول أن تطوّع الخير خير عند الله ، وعلى ضوءها الحديث «أفضل الأعمال أحمزها».

فقد يكون تكلف الطوع ـ فقط ـ بدنيّا كصوم المطيق له ، لإزالته الطاقة

٢٤٠