الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٨

دون تحول الى القدس ، أفأنت تهوى ـ بعد ـ ان تتبع أهواءهم في اتباع قبلتهم لفترة أخرى حتى يتبعوا قبلتك؟.

فحتى ولو اتبع بعضهم قبلة بعض ، وأصبحت القبلة الكتابية واحدة ، ف (ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) إذ قضي أمر التحويل تمييزا لأهل الحق عن غير أهله.

ثم اليهود والنصارى على وحدتهم في تكذيبك هم مختلفون في قبلتهم ، فكيف يرجون أن تتبع قبلتهم؟!.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) في أيّ من الطقوس الكتابية (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) بحق الشرعة الإلهية ، بعد ما كنت من العادلين في استقبال القبلتين.

هنا «ولئن ...» تلمح أن الرسول كان يودّ ـ بعنوان ثان ـ التحول الى قبلة القدس فترة أخرى رغبة في تميّل اليهود إلى الإسلام ، إذا ف (قِبْلَةً تَرْضاها) لا تعني انه لا يرضى القدس ، وإنما هو لو خلّي ونفسه كان يرجّح الكعبة المباركة ، وهو ـ كضابطة رسالية ـ يحب ما أحبه الله ثم (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) هنا هم العارفون بما في الكتاب من حق هذه الرسالة الأخيرة ، ثم (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) لا وعوامهم المشتبهون باتباعهم إلّا الصامدون في تقليدهم الأعمى ، ولا كل علماء الكتاب ، فالذي يجحد بالحق وهو على علم به بأدلته ، ليس ليتحول عن نكرانه له بأدلته ، فهو من الذين (زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) امتناعا لاتباع هذه القبلة باختيار.

وهنا (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) تشديد على العلماء في مسئولية الحفاظ على ما يعلمونه حقا ، وتنديد بهم إن تركوها كأنهم لا يعلمون ، فالإقدام على أمر جهلا هو أقل مسئولية من الإقدام عليه بتخلف علما.

٢٠١

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٤٦).

إيتاء الكتاب هنا هو الإيتاء معرفيا ، دون مجرد الانتساب انه كتابي ولا يعلم الكتاب إلّا أماني.

و «يعرفونه» بعد (آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) دليل أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) معروف لديهم في الكتاب كمعرفة الأبناء ـ وهي قمة المعرفة المعروفة ـ حيث الضمير راجع اليه دون القرآن ، فان تعبيره الصحيح ـ إذا ـ كما يعرفون كتابهم ، كما ونجد نفس الآية في الأنعام بنفس المعنى ونفس السند : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٠).

ولماذا «أبناءهم» دون «آباءهم ـ أو ـ أمهاتهم»؟ لأن كلا من الأبوين يعرف ما ولده دونما استثناء ، وقد لا يعرف الولد من ولّده ، إذ ولد بعد موته أم مات في صغره ، إذا فأعرف التعريف بهذا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في معرفة أهل الكتاب هو (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ).

ويا له من معرفة نظرية بمواصفة كتابية ، تشبه معرفة حسية في قمتها ، وهم له منكرون ، مؤوّلين اسمه المذكور في كتبهم تارة بغير اسمه ؛ وصفا أو فعلا ، ومسقطين له عن الترجمات أخرى ، وناظرين محمدا غيره ثالثة دون حجة عليه إلّا أنه غير إسرائيلي ، وقد جاء بما لا تهوى أنفسهم ، وهو مذكور باسمه ورسمه ومولده ونسبه وحسبه ولكن لا حياة لمن تنادي.

وجوابا عن سؤال : مهما بلغت البشارات الكتابية بحق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واضحة ، لم تأت بمعرفة له كما يعرف الأبناء ، فان هذه

٢٠٢

حسية لا ريب فيها ، وتلك بالاسم والمواصفة وقد تعترضها ريبة؟

نقول : «يعرفونه» دون «عرفوه» مما يدل على معرفة لا حقة بعد ظهوره بآيات صدقة فإنها كافية لتصديقه رسولا مهما لم تكن هناك معرفة سابقة ، وحين تجتمعان لأهل الكتاب في مثلث : البشارات الكتابية ـ مماثلة الوحي الكتابي في قرآنه ـ بينات رسالته ، فهم ـ إذا ـ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم دون أية ريبة وشبهة (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ) الناصع اللّامع (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنه الحق وأنهم كاتموه.

وقد جاء في الأصل العبراني من كتاب هوشع الآية (٧) : «بائوا يمي هفقوداه بائوا يمي هشلون يدعو ييسرائل إويل هنابي مشوكاع إيش هاروح على رب عونحا ورباه مسطماه» ـ :

«تأتي أيام التمييز ، تأتي أيام الجزاء سيعلم إسرائيل أن النبي السفيه ورجل الروح مجنون لكثرة إثمك وشدة الحنق» ـ أجل (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)! وقد جاءت في ترجمة أخرى عنها : «بنو إسرائيل يعلمون ويعرفون ان النبي الأمي المصروع صاحب روح الهامي وصاحب الوحي» وقد قال ربي حييم ويطال في كتابه «عصحييم» إن القصد من النبي الأمي هنا هو محمد بن عبد الله الذي بعث في زمن عبد الله السلام.

ويا لعبد الله السلام من سلام حين يجيب السائل عن هذه الآية : «لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني إذ رأيته مع الصبيان وأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني ...» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٤٧ ـ اخرج الثعلبي من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن ابن عباس قال : لما قدم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) المدينة قال عمر بن الخطاب لعبد الله بن سلام قد انزل الله على نبيه (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) فكيف يا عبد الله هذه ـ

٢٠٣

أجل وهم «يعرفون محمدا والولاية في التوراة والإنجيل كما يعرفون أبناءهم في منازلهم»(١).

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١٤٧).

وليس ذلك الخطاب ـ كأمثاله ـ يعني ان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وعوذا بالله ـ كان من الممترين في الحق من ربه ، فإنما ذلك له تثبيت ، وللممترين من أهل الكتاب تتبيب ، ولكلّ دعاية ضالة تمويت وتفويت.

«الحق» كله «من ربك» الحق الرسالي بالقرآن الحكيم الذي هو كل الحق ، المحلّق على كل حق ، إنه «من ربك» لا سواه (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ

__________________

ـ المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام يا عمر : ... فقال عمر كيف ذلك؟ قال : انه رسول الله حق من الله وقد نعته الله في كتابنا ولا ادري ما تصنع النساء ، فقال له عمر : وفقك الله يا ابن سلام. وفيه اخرج الطبراني عن سلمان الفارسي قال : خرجت أبتغي الدين فوقعت في الرهبان بقايا اهل الكتاب قال الله تعالى : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) فكانوا يقولون : هذا زمان نبي قد أطل يخرج من ارض العرب له علامات من ذلك شامة مدورة بين كتفيه خاتم النبوة.

(١) نور الثقلين ١ : ١٣٨ في اصول الكافي عن الأصبغ بن نباتة عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل وفيه يقول : فاما أصحاب المشأمة فهم اليهود والنصارى يقول الله عز وجل (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ ...) وان فريق منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون. (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أنك الرسول إليهم (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) وفيه في تفسير القمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى يقول الله تبارك وتعالى (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) يعني رسول الله (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) لأن الله عز وجل قد انزل عليهم في التوراة والإنجيل والزبور صفة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وصفة أصحابه ومبعثه ومهاجرته وهو قوله تعالى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) فهذه صفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في التوراة والإنجيل وصفة أصحابه ، فلما بعثه الله عز وجل عرفه أهل الكتاب كما قال جل جلاله (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ).

٢٠٤

الْمُمْتَرِينَ) فيه ، وذلك إيحاء صارم الى من وراءه من المسلمين تثبيتا ، والى الناكرين من أهل الكتاب تتبيبا ، ثم ومتعلّق الامتراء ليس يختص بأصل رسالته ، أم وقبلته ، بل وأنهم يكتمون الحق وهم يعلمون ، إذ كانوا يرتابون فيه كأنهم لا يعلمون ، أم هم شاكون (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أنهم يعرفونك كما يعرفون أبناءهم ، وأنهم يكتمون حقك وهم يعلمون.

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٤٨).

هنا محتملات حسب عديد الاحتمالات أفضلها جمعها ما لم تطارد أدب اللفظ والمعنى : «ولكلّ» من الناس : ملحدين ومشركين وكتابيين ومسلمين ـ أم «لكلّ» من الثلاث الآخرين ، او الآخرين ، أم المسلمين.

«وجهة» قلبية أو قالبية ، فالثانية هي القبلة لدعاء وصلاة ، والأولى هي لكل الحالات والصّلات.

«هو» الله «موليها» أياها ، أم «هو» صاحب الوجهة مولي نفسه أياها ، وهذه ستة عشر وجها في الوجهة المولاة ، تضرب في استباق الخيرات مادة ومدة وعدة وعدة فهي (٦٤) احتمالا ، والأصل في معارك الوجهات والاتجاهات هو (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) في كل المجالات ، فمهما كانت وجهة الملحدين الماديين هي المادة قلبا وقالبا ، ووجهة المشركين ـ كذلك ـ هي الآلهة المختلفة المختلقة ، ووجهة الكتابين قبلة هي القدس والمشرق ، وروحية هي مختلف اتجاهاتهم في شرعة الله ، ووجهة المسلمين كقبلة قدسا لفترة وكعبة على طول الخط ، وفي كلّ جهات حسب مختلف الواجهات في المعمورة وسواها ، والوجهة الروحية حسب مختلف المذاهب والاجتهادات «هو» الله «موليها» تكوينا وتشريعا ، و «هو» صاحبها «موليها» اختيارا دونما اضطرار ...

٢٠٥

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) و (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ...) (٥٧ : ٢١) في ذلك المسرح الواسع الحافل بمختلف الوجهات والواجهات ، و «الخيرات» هي التي يولّيها الله إياكم دون سواه ، فاجعلوا الحياة ميدان سباق في الخيرات كلها ، في كل وجهة واتجاهة قلبية وقالبية ، استباقا في موادها ومددها وعددها وعددها ، فإن استباق الخيرات والمسارعة فيها هي بعدها كأصل أصيل في الحياة ، فرضا أو نديا : (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣ : ١١٤) ـ (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ. أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ. وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ...) (٢٣ : ٦٢).

إن استباق الخيرات والمسارعة فيها أصل حيوي تحلق على كافة النشاطات الصالحة للصالحين ، يتسابقون في الخيرات ما استطاعوا ، ويسارعون فيها ما استطاعوا ، ومن أفضل الخيرات الصلاة ، واستباقها يعم ظاهرها وباطنها وقبلتها كما هو مولّيها ، وزمانها ومكانها كما أمر الله ، مجردة عن كافة الصلات إلّا بالله ، وعن كافة النزعات إلّا نزعة الله ، وعن كافة الوجوه إلّا وجه الله.

ذلك! ومن ثم يصرف الله المسلمين عن الانشغال بما يبثّه أهل الكتاب وسواهم من دسائس وفتن في أقاويل وأفاعيل ، يصرفهم إلى استباق الخيرات حيث مصير الكل إلى الله :

(أَيْنَما تَكُونُوا) مكانا ومكانة ومكنة وفعلية وفاعلية ، وفي أية اتجاهه خيرة أو شريرة.

(يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) مع بعضكم البعض ليوم الجمع ، و «جميعا» مع كل أعمالكم واتجاهاتكم ليوم الحساب ، ولا يعزب عنه منكم ومن أعمالكم

٢٠٦

شيء (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن مجالات خاصة ل (يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) حشر أصحاب ألوية القائم المهدي من آل محمد (عليهم السلام) (١) وهو من تأويل الآية ، فإن تنزيلها هو الحشر العام ليوم القيام ، ومن تأويلها هو الحشر الخاص ، ولا ينبئك مثل خبير.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٤٩).

(حَيْثُ خَرَجْتَ) هو ـ لأقل تقدير ـ خروجه عن مكة (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ ...) (٨ : ٥) (مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) (٤٧ : ١٣) ، ولأكثر تقدير هو خروجه عن الحرم ، فقد يصدق الخبر : «البيت قبلة لأهل المسجد

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٣٨ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى سهل بن زياد عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال قلت لمحمد بن علي بن موسى (عليه السلام) إنّي لأرجو ان تكون القائم من اهل أبيت محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) ـ الى قوله في وصفه وانه غيره ـ يجتمع اليه أصحابه عدة اهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من أقاضي الأرض وذلك قول الله عز وجل : (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً ...) وفيه باسناده الى أبي خالد الكابلي عن سيد العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) قال : المفقودون عن فرشهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا عدة اهل بدر فيصبحون بمكة وهو قول الله عز وجل : (أَيْنَما تَكُونُوا ...).

وباسناده الى محمد بن سنان عن المفضل بن عمر قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) لقد نزلت هذه الآية في المفتقدين من اصحاب القائم (عليه السلام) ليفقدون عن فرشهم ليلا فيصبحون بمكة وبعضهم يسير في السحاب يعرف اسمه واسم أبيه وحليته ونسبه ، قال فقلت جعلت فداك أيهم أعظم ايمانا؟ قال : الذي يسير في السحاب نهارا.

وفيه تفسير القمي قال ابو جعفر (عليه السلام) مثله وهو قول امير المؤمنين (عليه السلام) هم المفقودون عن فرشهم وذلك قول الله ...

وفي المجمع قال الرضا (عليه السلام) في الآية : وذلك والله ان لو قام قائمنا يجمع الله اليه جميع شيعتنا من جميع البلدان.

٢٠٧

والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة للناس جميعا» (١) فان الحرم هو شطر المسجد الحرام للخارج عنه ، والضابطة امكانية استقبال القبلة دون عسر ولا حرج.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٠).

(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) تتكرر في مسرح التحويل ثلاث مرات ، ثم (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) مرتين ، فلما ذا هذا التكرار والصيغة نفس الصيغة دونما زائدة؟ علّه (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) وفي كل مرة من الثلاث فائدة زائدة تثبيتا للقبلة الجديدة ، ففي الأولى (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ) إخراجا لذلك التحويل عن الباطل.

وفي الثانية (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) تثبيتا لحقه كأنه هو الحق لا سواه ، فالقبلة المكية أصيلة ، وقبلة القدس ابتلائية فرعية.

وفي الثالثة (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ...) ثم وفي هذا التكرار بمختلف التلحيقات تأكيد أكيد لتداوم هذه القبلة ، وكما في تكرار (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) عدّه مرات ، تلحيقا بها لكل مقطع من مقاطع البيان لذكر نعم الرحمان ، ثم وفيها رابعة التأشيرات أن القبلة المكية هي الكعبة المباركة دون القدس ، حيث الابتلاء يقدّر بقدر الضرورة ، ولا سيما إذا كان فيه حجة على المبتلين ، فالضرورات تقدّر بقدرها ، وما هي الضرورة الابتلائية أن يكون

__________________

(١) وسائل الشيعة أبواب القبلة ب ٣ ح ١ و ٣.

٢٠٨

القدس هو القبلة منذ بزوغ الإسلام إلى أشهر في المدينة ، خلقا لجوّ الحجة على المؤمنين من قبل المشركين (١) والكتابيين ، وصدا عن دخول العرب ـ الهائمين الى الكعبة المباركة ـ في هذا الدين؟! فابتلائية قبلة القدس ـ بما تخلّف حجة على المسلمين ـ وعلى رسول الإسلام أيضا إذ هم عارفون من كتبهم ان قبلة هذا الرسول هي الكعبة المباركة ، فلما صلى ـ لفترة ـ الى القدس أخذوا يحتجون عليه انه ليس هو الرسول الموعود! ـ هذه الابتلائية غير صالحة إلّا لقضاء الابتلاء ، وظرفه الصالح هو بداية العهد المدني ، بلورة لصالح المؤمنين عن طالحهم ، وما إضافة العهد المكي إلى أشهر الابتلاء المدني ، إلّا زيادة لحجة اليهود ، إضافة الى حجة العرب في رفضهم لهذا الدين.

و «الناس» هنا كما الناس في (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) هم السفهاء من الناس ، مشركين وكتابيين ، فان كلّا كان يحتج على الرسول والمسلمين «ما ولاهم ...».

وهنا (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) استثناء لجماعة خصوص منهم استمرارا لحجتهم على المسلمين (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) فان حجتهم داحضة عند ربهم ، وذابلة بعد تحوّل القبلة إلى الكعبة المباركة. ثم وفي ذلك التحويل إضافة الى سلبية حجتهم إيجابية إتمام النعمة والاهتداء.

(وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) فقبلة الكعبة إتمام للنعمة ،

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٤٨ ـ اخرج ابن جرير من طريق السدي عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا لما صرف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) نحو الكعبة بعد صلاته الى بيت المقدس قال المشركون من اهل مكة تحير على محمد دينه فتوجه بقبلته إليكم وعلم انكم أهدى منه سبيلا ويوشك أن يدخل في دينكم فانزل الله (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ).

٢٠٩

واهتداء كما قال الله (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ).

وقد تحمل «لأتم وتهتدون» بشارة لفتح مكة كما تحملها آية الفتح : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ...).

ومن أهم النعم التامة الاعتصام بحبل الله جميعا : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً).

ثم ومن أهمها في مظاهر العبودية الاتجاه الى قبلة واحدة هي أوّل بيت وضع للناس ، مثابة وأمنا وهدى وقياما (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ ...).

كلام فيه ختام حول القبلة

القبلة هي هيئة خاصة للمقابلة ، فهي تعم المستقبل اليه ، فان لكلّ هيئة خاصة للمقابلة ، فشطر المسجد الحرام نص أم ظاهر كالنص في أن قبلة النائي عن مكة المعظمة هي ناحية المسجد الحرام (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) تحلق على ذلك الاستقبال أولا لسكنة المعمورة كلها ، ثم سكان سائر المعمورات ، إلّا ان شطر المسجد الحرام لهم هو الكرة الأرضية ككل ، ولا يخص شطره ، الناحية القاطعة له إلى الكعبة المباركة ـ فقط ـ سطح الأرضية ، بل شطره في العمود الذي يربط الكون كله بسماواته وأرضيه ، كما الكعبة المباركة ممتدة من ناحيتها فوق وتحت الى أعماق السماوات.

ثم الداخل في مكة المكرمة ، هل يستقبل ـ كما الخارج ـ شطر المسجد الحرام أم عينه؟ طبعا عينه ما أمكن حيث الشطر قبلة النائين كضابطة ، وإلّا

٢١٠

فالأقرب الى العين فالأقرب ، دون شطره كضابطة (١) ... والداخل في المسجد الحرام يستقبل الكعبة المباركة من جوانبها ، وندب الصلاة جماعة أو فرضها يقتضي صحة صلاة الجماعة الدائرية حول البيت بإمام واحد ، ولو كانت محظورة لورد فيها نهي ، وهل الداخل في البيت يصلي كالعادة إلى أيّ من جوانبها؟ قد يقال : لا ، لأنه هو القبلة من خارجه دون جوفه ، وقد ورد في الصحيح : «لا تصل المكتوبة في جوف الكعبة فان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدخلها في حج ولا عمرة ولكنه دخلها في الفتح وصلى فيها ركعتين بين ميري العمودين ومعه اسامة ابن زيد» (٢) وفي آخر «لما دخل

__________________

(١) في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليهما السلام): يجزي التحري ابدا إذا لم يعلم اين وجه القبلة.(الوسائل أبواب القبلة ب ٦ ح ١).

وعن تفسير النعماني باسناده عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) في قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قال : معنى شطره نحوه إن كان مرئيا وبالدلائل والأعلام ان كان محجوبا ، فلو علمت القبلة وجب استقبالها والتولي والتوجه إليها ، ولو لم يكن الدليل عليها موجودا حتى تستوي الجهات كلها فله ان يصلي باجتهاده حيث أحب واختار حتى يكون على يقين من الدلالات المنصوبة والعلامات المبثوثة ، فإن مال عن هذه الوجوه مع ما ذكرناه حتى يجعل الشرق غربا والغرب شرقا زال معنى اجتهاده وفسد حال اعتقاده.(الوسائل أبواب القبلة ب ٦ ح ٤).

(٢) الوسائل أبواب القبلة ب ١٧ ح ٣ و ١ صحيحتان فالصحيحة الاولى عن معاوية عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) والثانية عن محمد بن مسلم عن أحدهما قال : لا تصل المكتوبة في الكعبة ، وأورده مثله في صحيح البخاري حدثنا مسدّد قال حدثنا يحيى عن سيف قال سمعت مجاهدا قال : أتي ابن عمر فقيل له : هذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) دخل الكعبة ، فقال ابن عمر : فأقبلت والنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قد خرج وأجد بلالا قائما بين البابين فسألت بلالا فقلت : أصلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الكعبة؟ قال : نعم ركعتين بين الساريتين اللتين على يساره إذا دخلت ثم خرج فصلّى.

٢١١

النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال : هذه القبلة» (١).

ولكن النهي عن الصلاة فيها هو أعم من التحريم والتنزيه ، وتحريمه أيضا أعم من أن جوفها ليست قبلة ، مع العلم أنها أصل القبلة ، وقد يعني النهي رعاية حرمة البيت ، ورعاية الجماعة القائمة حول البيت ، وكما تدل عليه الموثقة : «إذا حضرت المكتوبة وأنا في الكعبة أفأصلي فيها؟ قال : صل» (٢) إلّا أن «هذه القبلة» تعارض نصا «قال صل» فالأحوط إن لم يكن الأقوى ترك الفريضة في جوفها ، وان كان الأشبه صحة الصلاة فيها فان «هذه القبلة» لا تنفي كون جوفها ايضا قبلة كما ظاهرها ، كذلك والصلاة على سطح الكعبة ، حيث العمود الأسطواني من مكان البيت قبلة في طرفيه إلى أعنان السماء ، والاستلقاء على السطح استلغاء لكون الأسطوانة قبلة ، وتشكيك أو الغاء لصحة صلوات الساكنين أو الكائنين في محلات أرفع من البيت!.

وترى إذا فقد العلم او والظن بشطر المسجد الحرام ، فهل يصلي الى أربع جهات لمرسلة يتيمة (٣) لا توافق الكتاب ولا السنة؟ مع العلم انه ليست عليه

__________________

(١) موثقة يونس بن يعقوب قال قلت لابي عبد الله (عليه السلام) إذا حضرت الصلاة المكتوبة ...

(٢) صحيح البخاري حدثنا إسحاق بن نصر قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريح عن عطاء قال سمعت ابن عباس قال لما دخل ...

(٣) هي مرسلة قريش عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت : جعلت فداك إن هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت السماء علينا او اظلمت فلم نعرف السماء كنا وأنتم سواء في الاجتهاد؟ فقال : ليس كما يقولون ، إذا كان ذلك فليصل لأربع وجوه.

وعن الفقيه «وقد روي فيمن لا يهتدي الى القبلة في مفازة انه يصلي الى اربع جوانب» أقول : وأظنها هي نفس مرسلة خراش.

٢١٢

إلّا صلاة واحدة حتى مع تقصيره في اجتهاد القبلة فضلا عن قصوره! وحتى إذا أريد بذلك درك القبلة فصلوات ثلاث هي الكافية ، فان بين المشرق والمغرب قبلة!.

أم يصلي لجهة واحدة ، لذلك ، ولصحيحة الفاضلين عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «يجزي المتحير أبدا اين ما توجه إذا لم يعلم وجه القبلة» (١) و «المتحير» أعم من القاصر والمقصر.

ثم ولا ريب في إجزاء صلاة واحدة أم أقل من الأربع في تضيّق الوقت مع الاحتمال الأوّل ، وترى حين ينحرف عن القبلة قاصرا يمينا أو شمالا أم بينهما ثم تتبين هل يعيد أم تجزيه؟ الظاهر «قد مضت صلاته وما بين المشرق والمغرب قبلة» (٢).

وإذا زاد الانحراف كأن يستدبرها أمّا شابه أعادها في الوقت دون خارجه (٣) حيث الميسور في الوقت لم يتجاوز ما أداه فلا إعاده خارجه ،

__________________

(١) هي صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم المروية في الفقيه عن أبي جعفر (عليهما السلام) انه قال : ...

(٢) تدل عليه صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له : الرجل يقوم في الصلاة ثم ينظر بعد ما فرغ فيرى انه قد انحرف عن القبلة يمينا او شمالا؟ فقال : «قد مضت صلاته وما بين المشرق والمغرب قبلة» وموثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) رجل صلى لغير القبلة فيعلم وهو في الصلاة قبل ان يفرغ من صلاته؟ قال : ان كان متوجها فيما بين المشرق والمغرب فليحول وجهه الى القبلة ساعة يعلم ، وان كان متوجها الى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثم يحول وجهه الى القبلة ثم يفتح الصلاة (الوسائل أبواب القبلة ب ١٠ ح ١.

(٣) تدل عليه صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «إذا صليت وأنت على غير القبلة واستبان لك انك صليت وأنت على غير القبلة وأنت في وقت فأعد وان فاتك الوقت فلا تعد» وصحيحة سليمان بن خالد قال قلت لابي عبد الله (عليه السلام) الرجل يكون ـ

٢١٣

والمستدبر فيها والوقت باق لم يأت بما عليه مهما أخطأ.

وعلى أية حال فواجب القبلة ـ عينا أو شطرا أما بين المشرق والمغرب ـ هو المستطاع ، لا يجوز البعيد عنها ما أمكن القريب لها ، وإذا كنت على راحلة متحولة عن القبلة إلى جهات ، فلتتحول ما أمكنك ، إلّا في عسر أو حرج فجهة واحدة ، لا سيما بين المشرق والمغرب فانه قبلة المقدور على أية حال.

ومن اللائح اللامع من الكتاب والسنة عدم وجوب الاجتهاد للقبلة إلّا حسب الميسور المتعود بين عامة الناس ، دون الدراسات الهندسية والنجومية أمّا هي ، التي لا تتيسر إلّا لجماعة خصوص ، إلّا إذا شاعت نتائج هذه الدراسات بمتناول سائر الجموع ، فهي ـ إذا ـ تصبح من الميسور ، فهي ـ إذا ـ واجب كل الجموع ، اللهم إلّا من يهتدي على شياعها.

ولقد بذلت مساعي عدة لتعيين القبلة لساكني المعمورة ، بعد ما كان المسلمون يعتمدون على الظن والحسبان باي نحو كان ، فاستنهض الحاجية العامة في ذلك الحقل جمعا من العلماء الرياضيين تقريبا للقبلة إلى التحقيق (١)

__________________

ـ في قفر من الأرض في يوم غيم فيصلي لغير القبلة ثم يضحي فيعلم انه صلى لغير القبلة كيف يصنع؟ قال : «ان كان في وقت فليعد صلاته وان كن الوقت قد مضى فحسب اجتهاده» (الوسائل أبواب القبلة ب ١١ ح ٥ و ٦) أقول : وإطلاقهما مقيد بالاخبار رقم (١٢٦). او يقال : بين المشرق والمغرب قبلة فلا انحراف ـ إذا ـ عن القبلة في غير الاستدبار كما تدل عليه صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : لا صلاة إلا الى القبلة ، قال قلت : اين حد القبلة؟ قال : بين المشرق والمغرب قبلة كله ، قال قلت : فمن صلى لغير القبلة او في يوم غيم في غير الوقت ، قال : يعيد.

(١) فقد استفادوا من الجداول الموضوعة في الزيجات لبيان عرض البلاد وطولها ، واستخرجوا انحراف مكة عن نقطة الجنوب في البلد ، اي انحراف الخط الموصول بين البلد ومكة عن الخط الموصول بين البلد ونقطة الجنوب (خط نصف النهار) بحساب الجيوب والمثلثات ، ثم عينّوا ذلك ـ

٢١٤

ثم وتسريعا وتسهيلا لذلك عملوا الآلة المغناطيسية المعروفة بالحك (١) ولأنها لم تخل من الشبهة والنقصان ، قام المغفور له السردار الكابلي باستخراج الانحراف القبلي بأصول حديثة ، وحصل ـ من ضمنها ـ على استقامة كاملة للمحراب الخاص في مسجد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة المنورة (٢) ثم

__________________

ـ في كل بلدة من بلاد الإسلام بالدائرة الهندية المعروفة المعينة لخط نصف النهار ، ثم درجات الانحراف وخط القبلة.

(١) هذه الآلة بعقربتها تعين جهة الشمال والجنوب فتنوب عن الدائرة الهندية في تعيين نقطة الجنوب ، وبالعلم بدرجة الخراف البلد يمكن للمستعمل ان يشخص جهة القبلة

(٢) ولأن هذه الآلة تبين فيها الاشتباه من الجهتين جميعا ـ طولا وعرضا ـ : فان المتأخرين من الرياضيين عثروا على ان المتقدمين اشتبه عليهم الأمر في تشخيص الطول ، واختل بذلك حساب الانحراف فتشخيص جهة الكعبة ، وذلك ان طريقهم الى تشخيص عرض البلاد ـ وهو ضبط ارتفاع القطب الشمالي ـ كان اقرب الى التحقيق ، بخلاف الطريق الى تشخيص الطول ، وهو ضبط المسافة بين النقطتين المشتركتين في حادثة سماوية مشتركة كالخسوف بمقدار سير الشمس حسا عندهم ، وهو التقدير بالساعة ، فقد كان هذا بالوسائل القديمة عسيرا وعلى غير دقة ، لكن توفر الوسائل وقرب الروابط اليوم سهّل الأمر كل التسهيل فلم تزل الحاجة قائمة على ساق ، حتى قام الشيخ الفاضل البارع الشهير بالسردار الكابلي ـ رحمه الله ـ في هذه الأواخر بهذا الشأن فاستخرج الانحراف القبلي بالأصول الحديثة وعمل فيه رسالته المعروفة بتحفة الأجلة في معرفة القبلة وهي رسالة ظريفة بيّن فيها طريق عمل استخراج القبلة بالبيان الرياضي ، ووضع فيها جداول لتعيين قبلة البلاد.

ومن ألطف ما وفق له في وسعيه ـ شكر الله سعيه ـ ما اظهر به كرامة باهرة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في محرابه المحفوظ في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة ٢٥ ٢٧٥ ـ وذلك ان المدينة على ما حاسبه القدماء كانت ذات عرض ٢٥ درجة وطول ٧٥ درجة و ٢٠ دقيقة ، وكانت لا توافقه قبلة محراب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في مسجده ، ولذلك كان العلماء لا يزالون باحثين في امر قبلة المحراب ، وربما ذكروا في الخرافة وجوها لا تصدقها حقيقة الأمر ، لكنه ـ رحمه الله ـ أوضح ان المدينة على عرض ٢٤ درجة ٥٧ دقيقة وطول ٣٩ درجة ٥٩ دقيقة ، وانحراف درجة ٤٥ دقيقة تقريبا ، وانطبق ذلك قبلة المحراب أحسن الانطباق وبدت بذلك كرامة ـ

٢١٥

استخرجت بعده قبلة أكثر بقاع الأرض (١) وأخيرا فيما يقرب من ألف بقعة من بقاع الأرض أدق منها (٢) شكر الله مساعيهم.

وترى ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ولّى وجهه ـ عند تحول القبلة ـ شطر المسجد الحرام ، دون عينه أو عين الكعبة ، وجبريل (عليه السلام) هو الذي ولاه بأمر الله!.

إنه ـ بطبيعة الحال ـ ولّى وجهه الشطر الخاص الذي يوافي المسجد الحرام والكعبة ، لكن المسلمون لهم أمر عام «وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره» وأين شطر من شطر؟ شطر يحوله الله إياه ، وشطر يتحول اليه من سواه ، كما

__________________

ـ باهرة للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في قبلته التي وجه وجهه إليها وهو في الصلاة ، وذكر ان جبرئيل أخذ بيده وحول وجهه إلى الكعبة ، صدق الله ورسوله.

(١) استخرجه المهندس الفاضل الزعيم عبد الرزاق البغائري رحمه الله ونشر فيها رسالة في معرفة القبلة ، وهي جداول يذكر فيها الف وخمسمائة بقعة من بقاع الأرض وبذلك تمت النعمة في تشخيص القبلة.

ولان الجهة الثانية وهي الجهة المغناطيسية غير دقيقة ، فإنهم وجدوا ان القطبين المغناطيسيين في الكرة الأرضية غير منطبقين على القطبين الجغرافيين منها ، فان القطب المغناطيسي الشمالي مثلا ، على انه متغير بمرور الزمان ، بينه وبين القطب الجغرافيائي الشمالي ما يقرب من ألف ميل ، وعلى هذا فالحدّ لا يشخص القطب الجنوبي الجغرافي بعينه ، بل ربما بلغ التفاوت إلى ما لا يتسامح فيه ، لذلك :

(٢) قد انهض هذا ، المهندس الرياضي الفاضل الزعيم حسين علي رزم آرا في سنة ١٣٣٢ هجرته شمسية على حل هذه المعضلة واستخراج مقدار التفاوت بين القطبين الجغرافي والمغناطيسي بحسب النقاط المختلفة ، وتشخيص انحراف القبلة من القطب المغناطيسي فيما يقرب من الف بقعة من بقاع الأرض ، واختراع حدّ يتضمن التقريب القريب من التحقيق في تشخيص القبلة ، وهو اليوم دائر معمول ـ شكر الله سعيد (الميزان لاستاذنا العلامة الطباطبائي قدس الله روحه (ج ١ : ٣٣٥ ـ ٣٣٧).

٢١٦

ثبت بحساب العرض والطول الجغرافي أن محرابه (صلّى الله عليه وآله وسلم) في المدينة مواجه للقبلة بصورة دقيقة!.

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (١٥١).

«وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة .. ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون» ـ (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً) من ولد باني القبلة ، فإن هذه الرسالة السامية أصل لتمام النعمة وكما الهداية ، كذلك فلتكن قبلتها أهدى قبلة ، وأنعم نعمة على الأمة الأخيرة ـ إذا : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (١٥٢).

وذكر الله ثلاثة ، رأس الزاوية فيها هو الذكر الخفي بالقلب وبكلّ مراحل الروح ، ثم الجلي بالأعمال ، ثم الجلى بالأقوال ، إذا فالذكر أحوالي وأعمالي وأقوالي : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) (٦ : ٢٠٤). ولكلّ درجات حتى تصل الى القمة العاصمة عن كل عصيان ونسيان وخطأ وهي تختص بالمخلصين المعصومين ، وأفضل الذكر هو الجمع بين المراحل الثلاث ، ثم أفضله الأوليان ، ومن ثم الأولى ، وأعدله ما تساوى فيه الخفي والجلي ، اللهم إلا ذودا عن رئاء الناس ، ثم و «أفضل الذكر لا إله إلا الله» (١).

والذكر ـ أيا كان ـ قد يقابل الغفلة : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) (١٨ : ٢٨) وأخرى يقابل النسيان : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) (١٨ : ٢٤) وقد

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٥٤ ـ اخرج الخرائطي عن جابر بن عبد الله سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول : أفضل الذكر لا اله الا الله وأفضل الشكر الحمد لله.

٢١٧

يشتركان في غائب العلم فالغفلة عنه والنسيان ، إذا فأصل الذكر هو للقلب وأصحابه عقلا وصدرا ولبا وفؤادا ، ثم يتجلى في القالب أعمالا وأقوالا. «... أما إني لا أقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، وإن كان هذا من ذاك ، ولكن ذكر الله في كل موطن ، إذا هجمت على طاعته أو معصيته» (١).

والعصيان أيا كان إنما هو من حصائل الغفلة والنسيان وكما يروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): «من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن ، ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن» (٢).

وفي حديث قدسي : «إذا علمت أن الغالب على عبدي الإشتغال بي نقلت شهوته في مسألتي ومناجاتي ، فإذا كان عبدي كذلك وأراد أن يسهو حلت بينه وبين أن يسهو ، أولئك أوليائي حقا ، أولئك الأبطال حقا ، أولئك الذين إذا أردت أن أهلك أهل الأرض عقوبة ذويتها عنهم من أجل أولئك الأبطال» (٣).

وقد خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) على أصحابه فقال : ارتعوا في رياض الجنة ، قالوا : يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وما

__________________

(١) في المعاني عن الحسين البزاز قال قال لي ابو عبد الله (عليه السلام): ألا أحدثك بأشدّ ما فرض الله على خلقه؟ قلت : بلى ـ قال : «انصاف الناس من نفسك ومواساتك لأخيك وذكر الله في كل موطن أما إني ...».

(٢) الدر المنثور ١ : ١٤٩ ـ اخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في شعب الايمان عن خالد بن أبي عمر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٣) في عدة الداعي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال قال سبحانه : إذا علمت ...

٢١٨

رياض الجنة؟ قال : مجالس الذكر ، أغدوا وروحوا واذكروا ، ومن كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده ، فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبد الله من نفسه ، واعلموا أن خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى فانه تعالى أخبر عن نفسه فقال : أنا جليس من ذكرني .. وقال تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) بنعمتي ، اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والإحسان والراحة والرضوان (١).

ثم الذكر في «فاذكروني» غيره في «أذكركم» فان الله لا يغفل ولا ينسى ، فإنما هو أثر الذكر ، ان يرحم عبده في مواقفه ومنها مغفرته ، دفعا عن العصيان حين اقترابه ، ام رفعا للعصيان بعد اقترافه ، وكما يروى عن رسول الذكر (صلّى الله عليه وآله وسلم) تفسيرا لآية الذكر : «اذكروني يا معاشر العباد بطاعتي أذكركم بمغفرتي» (٢) ف «طاعتي» تعم فعل الواجب وترك الحرام ، و «مغفرتي» تعم الدفع والرفع ، والأوّل للأولين في ذكر الله وطاعته ، والثاني لمن بعدهم الآخرين ، ثم العصيان حالة الغفلة والنسيان ، هو أدنى من العصيان حالة الذكر فإنه طغيان «فحق على الله ان يذكر صاحبه بمقت» (٣).

__________________

(١) عدة الداعي قال : وروي ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قد خرج على أصحابه فقال : ...

(٢) الدر المنثور ١ : ١٤٨ ـ أخرج ابو الشيخ والديلمي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) يقول : ...

(٣) وفيه أخرج ابن لال والديلمي وابن عساكر عن أبي هند الداري عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) مثله بزيادة : فمن ذكرني وهو مطيع فحق عليّ ان اذكره بمغفرتي ومن ذكرني وهو لي عاص فحق علي ان اذكره بمقت.

٢١٩

ثم ونسيان ذكر الله كفر به وكفران ، وذكره شكر وشكران ، فقد قال موسى يا رب أخبرني كيف أشكرك؟ قال : «تذكرني ولا تنساني فإذا ذكرتني فقد شكرتني وإذا نسيتني فقد كفرتني» (١) «كفرتني» تعني سترتني عن نفسك سترا لنفسك عني بعدا معرفيا ، وهي مختلف عن «كفرت بي» فهذا كفر وذاك كفران.

«فاذكروني» الظاهر في ذكر الله الدافع الى طاعته تقوى قد تشمل ذكره ـ أيضا ـ حال معصيته طغوى ، فهي هنا أمر تعجيز وتهديد ، كما الأوّل أمر تحجيز وتمديد ، وكما يروى «أوحي الله إلى داود قل للظلمة لا يذكروني فإن حقا عليّ أذكر من ذكرني وإن ذكري إياهم أن ألعنهم» (٢).

إذا (وَلا تَكْفُرُونِ) كما تعني الكفران بالنسيان ، كذلك تعني الكفر بالذكر حالة الطغيان في العصيان ، ولأن «أذكركم» هي كجزاء ل «فاذكروني» فلتكن أوسع من شرطها كما قال الله (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) فكذلك الله في مسرح الذكر حيث يقول : «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملاء ذكرته في ملاء خير منهم وإن تقرّب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليّ ذراعا تقربت إليه باعا وان أتاني يمشي أتيته هرولة» (٣) ويقول : «لا يذكرني أحد في نفسه إلّا ذكرته في ملاء

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٤٨ ـ اخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الايمان عن زيد بن اسلم ان موسى (عليه السلام) قال : ...

(٢) المصدر أخرج ابن أبي شيبة في المصنف واحمد في الزهد والبيهقي في شعب الايمان عن ابن عباس ...

(٣) المصدر أخرج احمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال الله : ...

٢٢٠