الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٨

ول «من» ـ في (مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ) بالنسبة لخصوص المقام ـ موقعها الدلالي فقهيا لهندسة «مصلى» فلم يقل «في» لأنه لا يكفي مكانا لصلاة ، ولا لمصلّ واحد فضلا عن مئات الآلاف ، ولا (اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) حتى يصبح كالبيت يصلّى حوله من كل الأطراف ، مهما جعل البيت دبرا ، ولا «الى مقام ابراهيم» وكيف يجعل خلف المصلي.

وإنما (مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ) فهي ابتدائية تبين مبتدء لركعتي الطواف أنه حد المقام ـ وطبعا حيث هو الآن وكما كان ـ وليست تبعيضية فان كلّ المقام لا يسع لمصلّ واحد فضلا عن بعضه ولجموع المصلين!.

ذلك بيان ظريف لمبتدء الصلاة الخاصة ـ دون كل صلاة ـ فقد يشمل خلف المقام وجانبيه حياله ، ما صدق انه (مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ) مهما كان خلفا وحيالا بعيدا لإطلاق «من مقام» ثم المنتهى ـ طبعا ـ هو منتهى المسجد الحرام ، وإن كان الأقرب منه فالأقرب أقرب في تطبيق الأمر ، إلّا أن مختلف الظروف والحالات لها مختلف الأبعاد ل (مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ).

ومستفيض النقل عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة اهل بيته عليهم السلام عنه ، ليس إلّا «عند المقام» و «خلف المقام» (١) وهما بيانان ل (مِنْ مَقامِ

__________________

(١) فمما روي في «خلف المقام» ما في الدر المنثور ١ : ١١٨ ـ اخرج مسلم وابن أبي داود وابو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن جابر ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عهد الى مقام ابراهيم فصلى خلفه ركعتين ثم قرأ : واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى وفيه ١٢٠ ـ اخرج الحميدي وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين وشرب من ماء زمزم غفرت له ذنوبه كلها بالغة ما بلغت وفيه أخرج الأزرقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المرء يريد الطواف بالبيت أقبل يخوض الرحمة فإذا دخله غمرته ... فإذا فرغ من طوافه فأتى قام ابراهيم فصلى ركعتين دبر المقام خرج من ذنوبه كيوم ـ

١٤١

إِبْراهِيمَ) ، فلا يتجاوز المقام الى البيت فانه ليس «من مقام» علما أن البيت هو القبلة في المسجد الحرام ، إذا ف ـ «من مقام» تعني الصلاة الى البيت ، فكيف تتجاوز قدام المقام الى البيت؟.

ولان خلف المقام أقرب مقاما في «من مقام» الي المقام ، فليقدم على جانبي المقام ، ولكلّ منهما مقامات حسب مختلف المقامات.

ولقد رأوا «أبا الحسن موسى (ع) يصلي ركعتي طواف الفريضة بحيال المقام قريبا من ظلال المسجد لكثرة الناس» (١). وذلك (مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ) بعيدا عنه قضية الضرورة ، مهما بعد عن «عند المقام» فضلا عن «خلف المقام» حيث المدار هو صدق «من مقام».

وهو يشمل كل أضلاع المقام سعة المسجد الحرام إلّا ضلعه القبلي ، ثم و

__________________

ـ ولدته امه ... أقول : لا تجد فيما يروى عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلّا خلف المقام او دبره. وفي التهذيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ليس لأحد ان يصلي ركعتين طواف الفريضة الا خلف المقام لقول الله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) ان صليتهما في غيره فعليك اعادة الصلاة.

وفي الكافي ٤ : ٤٢٣ والتذهيب ١ : ٤٨٥ حسنة معاوية بن عمار او صحيحته «إذا فرغت من طوافك فائت مقام ابراهيم (عليه السلام) وصل ركعتين واجعله أماما ...» وفي التهذيب عن أبي عبد الله الأبزاري سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل نسي ان يصلي ركعتين طواف الفريضة في الحجر؟ قال : يعيدهما خلف المقام لان الله يقول : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) يعني بذلك ركعتي طواف الفريضة.

(١) كما في الكافي ٤ : ٤٢٣ ـ في الصحيح عن الحسين بن عثمان رأيت أبا الحسن موسى (عليه السلام) يصلي ... وفي التهذيب ١ : ٤٨٦ ـ «قريبا من الضلال لكثرة الناس». وقد يشملهما «عند المقام» مع رعاية الترتيب كما في خبر زرارة : «لا ينبغي ان يصلي ركعتي طواف الفريضة إلّا عند مقام ابراهيم» (الكافي ٤ : ٤٢٤ والتهذيب ١ : ٤٨٥).

١٤٢

«خلف المقام» يشمل كل مساحة الضلع الخلفي حتى آخر المسجد الحرام ، مهما لم يشمل «عند المقام» كل السطح اليميني واليساري.

فخلف المقام نص في جعل المقام أماما كإمام ، وعند المقام يعمه وحيال المقام برجاحة الخلف ، إذا فخلفه هو الاوّل ما صدق الخلف ، ثم حياله ما صدق الحيال ، وأجمل تعبير عنهما «من مقام».

فمن الأضلاع الاربعة للمقام يبقى الضلع المواجه للكعبة حيث لا يصح ان يتخذ مصلى إذ يستلزم استدبار الكعبة ، ثم الأضلاع الثلاثة الاخرى هي بين الأحرى فالأحرى كلها (مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ) في كونها مصلّى الأقرب منها فالأقرب الى المقام حيث هو المبتدء فيها ، ما صدق انه من مقام ، والخلف والحيال البعيد عن المقام ، مهما بعدا عن خلف المقام وحياله حسب النصين ولكنهما داخلان في «من مقام» حيث المنتهى هو آخر المسجد الحرام إذ لم يذكر هنا منتهى آخر ، فلو كان لذكر كالمبتدء!.

وترى إن نسي الصلاة خلف المقام حتى قضى مناسكه كلها او بعضها ، عليه ان يرجع فيصلي خلف المقام؟ طبعا نعم إن أمكن «يرجع إلى المقام فيصلي ركعتين» (١) «وان كان ارتحل فإني لا أشق عليه ولا آمره أن يرجع ولكن يصلي حيث يذكر» (٢).

__________________

(١) كما في الكافي ٤ : ٤٢٦ والاستبصار ٢ : ٢٣٤ والتهذيب ١ : ٤٨٦ صحيحة ابن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال : سئل عن رجل طاف طواف الفريضة ولم يصل الركعتين حتى طاف بين الصفا والمروة ثم طاف طواف النساء ولم يصل أيضا لذلك الطواف حتى ذكر وهو بالأبطح؟ قال : يرجع الى المقام فيصلي ركعتين.

(٢) كما في التهذيب ١ : ٤٨٦ والاستبصار ٣ : ٢٣٥ صحيحة أبي بصير سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل نسي ان يصلي ركعتي طواف الفريضة خلف المقام وقد قال الله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) حتى ارتحل؟ فقال : ان كان ارتحل ...

١٤٣

ذلك لإطلاق الأمر (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) للناسي كما الذاكر ، خرج موقف المشقة والحرج ، إذ لا عسر في الدين ولا حرج ، وان كان الأحوط الجمع بين ان يصليهما حيث يذكر ، وأن يستنيب (١) لادائهما عند المقام ، ام وإذا رجع في سفرة أخرى يقضيهما.

فالأصل المرجع ـ ككل ـ هو على أية حال (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) ما أمكن دون عسر ولا حرج ، والجمع بين صلاة الأصيل والوكيل يجمع بين مختلف الدليل.

وهنا ويلات من مختلفات الروايات ان فلانا وفلانا سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لو اتخذنا من مقام ابراهيم مصلى فنزلت (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)! ويكأن الله يتبع في وحيه إلى رسوله أهواء فلان وفلان ، فهما أخرى بالاتباع وأعرف من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) استصلاحا لركعتي الطواف (٢).

وكما يهرف فيما يخرف «كان المقام إلى لزق البيت فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لو نحّيته عن البيت ليصلي إليه الناس ففعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (٣)!

__________________

(١) في التهذيب عن ابن مسكان قال : حدثني من سأله عن الرجل ينسى ركعتي طواف الفريضة حتى يخرج؟ فقال : يوكل ، قال ابن مسكان وفي حديث آخر : ان كان جاوز ميقات أهل ارضه فليرجع وليصلهما فان الله تعالى يقول (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى).

(٢) الدر المنثور ١ : ١١٩ ـ اخرج الطبراني والخطيب في تاريخه عن ابن عمر ان عمر قال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لو اتخذنا من مقام ابراهيم مصلى فنزلت : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وفيه خرج عبد بن حميد والترمذي عن انس قال : يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لو صلينا خلف المقام؟ فنزلت ...

(٣) المصدر ١١٩ أخرج ابن أبي دواد عن مجاهد قال : ...

١٤٤

كلّا! إن المقام هو المقام الآن كما كان دون تحوّل ولا تحويل ولا تخويل في تحويل ، كما البيت هو البيت ، والمشاعر هي المشاعر ، والحرم هو الحرم.

ولأن المطاف يتسع حسب اتساع الطائفين ـ والى خلف المقام بقليل او كثير ـ فحتى لا تكون فوضى الصدام بين الطائفين والمصلين ، قد تلمح (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) ـ دون «صلّوا» او ما أشبه ـ تلمح بأن المصلّى من المقام مرحليّ لجمهرة المصلين كما المطاف ، فليتقدم المطاف على المصلى ، وعلى المصلين أن يتخذوا من مقام ابراهيم مصلّى إلى آخر المسجد الحرام بصورة مقررة محسوبة على الجميع ، حيث لا يضيق المطاف على الطائفين.

فالإسلام بكل مقرراته نظام ، ولا سيما في القرارات الجماعية تحسّبا دقيقا رفيقا لسلامة التطبيق في كل جليل ودقيق ، ومؤتمر الحج هو من أدق التنظيمات الجماعية الإسلامية السلمية (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) ـ (قِياماً لِلنَّاسِ).

فليكن المطاف والمصلى بحيث لا يكون صدام واحتدام بين الطائفين والمصلين ، فليراع المصلون كتلة الطائفين ، كما على الطائفين رعاية كتل المصلين ، مع تقدم الأوّلين حسب الحاجة الضرورية لصالح الطواف من متّسع المطاف.

ولو أن المطاف احتل ـ يوما مّا ـ المسجد الحرام كله ، وطبعا في واجب الطواف ، فليقرّر لكلّ من الطواف والصلاة موعد يكفيه ، باستثناء أمام المقام الى البيت فانه مطاف على أية حال ، وليراع واجب كلّ من الطواف وصلاته ، تقديما على تطوعّه ، ولا يجوز إشغال المصلّى خلف المقام مع الزحام ـ كما المطاف ـ تقديما للفرض على النفل كما قدّمه الله. (١)

__________________

(١) راجع كتابنا ـ اسرار. مناسك وادلة حج ـ باللغة الفارسية ، وفيما أوردناه من الفروع كفاية كأصول لأحكام صلاة الطواف.

١٤٥

ثم وفي رجعة اخرى الى الآية مسائل :

الاولى : لو تحوّل المقام الى غير مقامه الآن ، لم تتحول الصلاة خلفه عما خلفه كما كان حيث المقام لا يختص بذلك الحجر القابل للتحول ، بل هو مقامه من أرض المسجد الحرام الى تخوم السماوات والأرض ، وكما الكعبة المباركة والمسجد الحرام ، والحل والحرام ، حيث الظاهرة الآن على الأرض هي علامات ، وليست هي ـ فقط ـ الأصل في مسرح الأحكام.

الثانية : المأمور بالصلاة خلف المقام أم عنده هو هو المكلف بطوافها ، فلا يستنيب فيها مهما كلف الأمر ، إلا إذا لا يسطع أن يأتي بالأمر ، عذرا يسقط عنه أصالة الأمر ، إذا فإلى الاستنابة ، كالمغشي عليه والميت ومن أشبه ، فإجادة القراءة وسائر الواجبات والأركان وإن كانت مفروضة في تطبيق الأمر ، إلّا أنها لا تسمح للاستنابة ، قصورا عن الإجادة أم تقصيرا فيها.

ثم الاستنابة في الواجبات هي خلاف الأصل حتى عند الضرورة حيث تسقط الفريضة عندها ، اللهم إلّا بدليل ، ولا دليل على الوجوب او السماح في استنابة لصلاة الطواف إلّا لمن يعذر بنفسه عنها ، في نفسه ، ام لأنه خارج لا يسطع على العودة.

الثالثة : لا يجوز له طواف واجب ما لم يعرف واجبات ركعتيه كواجباته ، إلّا إذا ضاق وقت الطواف ، فان طاف في سعة الوقت ولا يعرف واجب الصلاة أخرها حتى يعرفها تعلما ، ام يقتدي في ركعتي الطواف ، فان صلاهما مخلا بصحتها أعادها بعد تعلمها ان أمكن ، فان كان خرج ام في تعلمه حرج ، صلاهما حيثما كان واستناب.

فالأمر الذي لا بد منه هنا كضابطة أن عليه نفسه ركعتي الطواف كما

١٤٦

الطواف ، فلا استنابه هنا او هناك إلّا عند الضرورة ، وليس منها عدم معرفته كيف تؤدى الصلاة؟.

الرابعة : لا تجب في ركعتي الطواف رعاية عدم تقدم النساء على الرجال ، قضية تضيّقها مكانا وزمانا ، ففي رعاية المكان والزمان ، الى رعاية عدم التقدم حرج فلا وجوب.

وأخيرا ذكر مصلى المقام مما يدلّ على ان صلاة الطواف فريضة كسائر ما يذكر من فرائض الحج في القرآن ، ولكنها ليست ركنا كسائر أركانه.

ثم والتفصيل الى سائر المفصلات المخصصة لهذه الفروع ، فانما علينا ان نلقي إليكم الأصول وعليكم التفريع (١).

ثم (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) مفسّرة في نظيرتها : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (٢٢ : ٢٦).

فالركع السجود فيهما هم المصلون ـ ككل ـ طائفا او عاكفا او قائما ، ثم الطائفون هم المسافرون لقرنهم في آية الحج بالقائمين ، ام هم أعم منهم ومن يطوف بالبيت وعلّه أصلح ، حيث التعبير عن خصوص المسافرين بالطائفين هو أوسع من معناها ، كما والعاكفين ـ علّه ـ أعم من المقيمين والمعتكفين في المسجد الحرام والقاعدين فيه ، فقد شملت الآيتان كل عابد في المسجد الحرام ، مسافرا او مقيما ، معتكفا او طائفا او مصليا ام جالسا فإنه أيضا عبادة ، والتطهير المأمور به هو ـ ككل ـ تعبيد الكعبة المباركة بما حولها لهؤلاء العباد ، إزاحة لمعالم الشرك ، وإراحة للموحدين بمعالم وطقوس التوحيد ، فيعم تطهيره عن كل الأرجاس ظاهرة وباطنة.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٢٣ عن تفسير القمي في الآية قال الصادق (عليه السلام) يعني نحّ عنه ـ

١٤٧

وقد تلمح «طهرا ...» بأولى وأحرى إلى طهارة نفوس هؤلاء ، وطهارة ملابسهم وأبدانهم ، وطهارتهم عن الأحداث ، فمثلث الطهارة قد تعنى ضمن المعني من «طهرا»(١).

ولان أظهر مصاديق «بيتي» ـ الموسّع إلى المسجد الحرام ـ هو نفس الكعبة المباركة ، فقد يظهر من الآية جواز الصلاة في جوف البيت ، وأما الطواف فلا يشرع إلّا حول البيت لنص آخر (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) وكيفما توجهت في جوف البيت كنت متجها الى القبلة لأنه كله قبلة من داخله كما هي من خارجه ، اللهم إلّا من يقوم على أشراف سطح البيت فليست صلاته إلى القبلة فلا تصح ، إلا مستقبلا لسائر الأشراف.

وليس يعني (حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) إلّا الخارجين عن البيت والمسجد الحرام ، حيث الشطر هو الجانب ، وهي تعني شطر المسجد الحرام.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)).

هنا (هذا بَلَداً آمِناً) لا تعني انه لم يكن حينذاك بلدا ، حيث المفعول

__________________

ـ المشركين ، وقال : لما بنى ابراهيم البيت وحج الناس شكت الكعبة الى الله تبارك وتعالى ما تلقى من أنفاس المشركين فأوحى الله إليها قرّي كعبتي فاني ابعث في آخر الزمان قوما يتنظفون بقضبان الشجر ويتخللون.

(١) المصدر في كتاب العلل بسند متصل عن عبيد الله بن الحلبي قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) أيغتسلن النساء إذا اتين البيت؟ قال : نعم ـ ان الله عز وجل يقول : ان طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ، فينبغي للعبد ألّا يدخل إلّا وهو طاهر قد غسل عنه العرق والأذى وتطهر.

١٤٨

الثاني «آمنا» يكفي لجديد الجعل ، ف «هذا» إشارة الى البلد كما في ابراهيم (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) (٣٥) (١).

فقد تطلّب أمنه في حقلي التكوين والتشريع كما شرحناهما في آية «ابراهيم» ـ ثم (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ينضاف الى اهله المؤمنين (وَمَنْ كَفَرَ) ولكن رزقه بدعائه ليس لينجيه من عذاب الله حيث (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) وكل متاع الدنيا قليل!.

(ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وقد يكون الطائف من ثمرات الحرم كما دعى الخليل فأعطاه الجليل الطائف لتكون من رزق الحرم (٢).

ثم «الثمرات» تعم ثمرات القلوب الى ثمرات القوالب كما يروى عن أئمة الهدى عليهم السلام (٣).

__________________

(١) تفصيل البحث عن موقفي الدعائين نجده في تفسير آية ابراهيم.

(٢) الدر المنثور ١ : ١٢٤ ـ اخرج الأزرقي عن محمد بن المنكدر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «لما وضع الله الحرم نقل له الطائف من فلسطين» أقول : قد يعني من ذلك النقل وضع مماثل لقرية فلسطين فيه حيث الطائف يشبهها في جوّها ومنظرها وثمارها ، وفي نور الثقلين ١ : ١٢٤ عن العلل عن ابن مهزيار عن الرضا (عليه السلام) في الطائف : أتدري لم سمي الطائف؟ قلت لا ، قال : ان ابراهيم (عليه السلام) دعى ربه ان يرزق اهله من كل الثمرات ، فقطع له قطعة من الأردن فأقبلت حتى طافت بالبيت سبعا ثم أقرها الله عز وجل في موضعها ، فانما سميت الطائف للطواف بالبيت.

(٣) الدر المنثور ١ : ١٢١ ـ اخرج احمد عن أبي قتادة ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) توضأ ثم صلى بأرض سعد بأرض الحرة عند بيوت السقيا ثم قال : اللهم ان ابراهيم خليلك عبدك ونبيك دعاك لأهل مكة وانا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة مثل ما دعاك ابراهيم بمكة ، أدعوك ان تبارك لهم في صاعهم ومدهم وثمارهم ، اللهم حبّب إلينا المدينة كما حبّبت إلينا مكة ، واجعل ما بها من وراء الخم ، اني حرمت ما بين لا بيتها كما حرمت على لسان ابراهيم الحرم.

١٤٩

ولقد تصبغ دعاء ابراهيم لأهل البلد الحرام بما صبغة الله من قبل (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) إفادة له من هذه العظة البالغة ، محترسا في دعاءه محددا المرزوقين من اهله بمن آمن وقد تبرء من قبل من المشركين (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) (٩ : ١١٤).

ولكن يبقى هنا مجال السؤال : هل إن طلب الرزق للمشرك ضمن المؤمن ، هو من الاستغفار له؟ طبعا لا! ولكنه استرحام قد يحوم حوم الاستغفار.

فانما حصر الخليل دعاءه في المؤمنين حائطة على مرسوم الدعاء ، ولكيلا يكون مطلقا يقيّد كما قيّدت (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) وقد حسره عن حصره الجليل ، ولأن هذا الرزق ليس ليختص بالمادي منه المؤمنين (قالَ وَمَنْ كَفَرَ ...) ولكن كيف؟

إنما (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) ، ثم الرزق الآخر وهو الروحي الإيماني يختص بالمؤمنين ، وكما اختص عهد الإمامة بغير الظالمين ، وقد يروى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دعى لأهل المدينة كما دعى ابراهيم لأهل مكة (١).

ذلك وإلى رسم راسم لمشهد تنفيذ الخليل بإسماعيل لأمر الجليل بإعداد البيت وتطهير (لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) :

__________________

ـ وفيه اخرج مسلم عن أبي هريرة ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : اللهم ان ابراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك وانه دعاك لمكة واني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه ، وفيه اخرج الطبراني في الأوسط عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ... واجعل مع البركة بركتين.

(١) الدر المنثور ١ : ١٢٨ ـ اخرج الأزرقي عن ليث بن معاذ قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) هذا البيت ...

١٥٠

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ١٢٧.

قد تعني (الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) أن ليس البيت هو القواعد والبنيان ، مهما كانت منه ، إذا فالبيت هو المربع الخاص من سطح الأرض ، ثم من فوقها إلى السماء السابعة ، وكذلك من تحتها ، عمود مستقيم يربط أعلى النقط من الكون إلى أدناها ، وقد يصدقه ما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) :

«هذا البيت خامس خمسة عشر بيتا سبعة منها في السماء وسبعة منها إلى تخوم الأرض السفلى ، وأعلاها يلي العرش البيت المعمور ، لكل بيت منها حرم كحرم هذا البيت لو سقط منها بيت لسقط بعضها على بعض إلى تخوم الأرض السفلى ، ولكل بيت من أهل السماء ومن اهل الأرض من يعمره كما يعمر هذا البيت» (١).

وقد يعني البيت المعمور ـ حيث يلي العرش ـ السدرة المنتهى ، التي انتهى إليها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في معراجه ، مجتازا (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ـ إلى سائر بيوت الله في السماوات والأرضين ـ (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) وهو البيت الأقصى في أقصى الكون في السدرة المنتهى.

وهكذا يحق لخاتم النبيين واشرف الخلق أجمعين أن يطوف البيوت الخمسة عشر بأهليها ، وكما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سفرته هذه : «رأيت في كل سماء ميادين فيها خلق كثير ...».

__________________

(١) عن الصادق (عليه السلام) يعني من ثمرات القلوب اي جهنم الى الناس ليثوبوا إليهم (تفسير البرهان ١ : ١٥٤). وعن الباقر (عليه السلام) ان الثمرات تحمل إليهم من الآفاق وقد استجاب الله له حتى لا توجد في بلاد المشرق والمغرب ثمرة لا توجد فيها حتى حكي انه يوجد فيها في يوم واحد فواكه ربيعية وصيفية وخريفية وشتائية (تفسير بيان السعادة ١ : ١٤٥).

١٥١

لقد رفع ابراهيم القواعد من البيت وإسماعيل بما بوّء له ربّه مكان البيت : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (٢٢ : ٢٦).

بوّأه له بما أوحى إليه هندسة المكان ليرفع القواعد عليه كما هندسه ربّه.

إذ لم تكن له ـ حينذاك ـ قواعد ولا أعلام ، إلّا بذلك الإعلام من الله الملك العلّام(١).

وان هذا البيت المبارك ـ قبل ان يضع ابراهيم القواعد منه ـ كان بيتا بأعلام أحيانا ودون أعلام أخرى ، كيف لا و (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) (٣ : ٩٦).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٢٦ ـ اخرج الديلمي عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية قال : «جاءت سحابة على تربيع البيت لها رأس تتكلم ارتفاع البيت على تربيعي فرفعاه على تربيعها.

وفي نور الثقلين وعن الصادق (عليه السلام) ان إسماعيل (عليه السلام) لما بلغ مبلغ الرجال امر الله ابراهيم (عليه السلام) ان يبني البيت فقال : يا رب في اي بقعة؟ قال : في البقعة التي أنزلت بها على آدم القبة ، فأضاء لها الحرم فلم يدر ابراهيم في أي موضع يبنيه فان القبة التي أنزلها الله على آدم كانت قائمة الى أيام الطوفان فلما غرقت الدنيا رفع الله تلك القبة وبقي موضعها لم يغرق ولهذا سمي البيت العتيق لأنه أعتق من الغرق فبعث الله جبرئيل (عليه السلام) فخط له موضع البيت فانزل الله عليه القواعد من الجنة وكان الحجر لما أنزله الله على آدم أشد بياضا من الثلج فلما مسته ايدي الكفار اسودّ ، فبنى ابراهيم (عليه السلام) البيت ونقل إسماعيل الحجر من ذي طوى فرفعه في السماء تسعة أذرع ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه ابراهيم (عليه السلام) ووضعه في الموضع الذي هو فيه الآن فلما بنى جعل له بابين ، بابا الى المشرق وبابا الى المغرب يسمّى المستجار ثم ألقى عليه الشجر والأذخر وعلّقت هاجر على بابه كساء وكان معها وكانوا يكتسون تحته.

١٥٢

فإبراهيم (ع) ليس إلّا أوّل بان لقواعده ، بما بوأه ربه من مكان البيت ، وقد كان بيتا منذ آدم ، مطافا له ولذريته ، بل ومنذ كانت خليقة على وجه الأرض ووجوه السماوات السبع والأرضين السبع.

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) ما نرفع من قواعد البيت (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) دعاءنا سرا او جهرا «العليم» بنياتنا وطوياتنا ، و «العليم» سؤلنا ، وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أفطر قال : «اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا انك أنت السميع العليم» (١).

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ١٢٨.

وتراهما لمّا يسلما بعد لربهما حتى يسألانه (وَاجْعَلْنا ...)؟ إن الإسلام المسؤول هنا هو غاية التسليم ، وهي لا تحصل إلّا بعد العروج الى معارج الإيمان ، ومما استجاب لهما ربهما عن سؤل الإسلام : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٣٧ : ١٠٣).

ولذلك الإسلام درجات تدرّج ابراهيم الى ما دون العليا منها ، فان محمدا اوّل من اسلم :

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) (٦ : ١٤) حيث الأوّلية هنا ليست لتكون زمنية وقد كان قبله مسلمون كإبراهيم وإسماعيل ومن أشبه ، فهي أولية في الدرجة ، و «الايمان من الإسلام بمنزلة الكعبة الحرام من الحرم قد

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٣٧ ـ أخرج الدار قطني عن ابن عباس قال كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ...

١٥٣

يكون في الحرم ولا يكون في الكعبة ، ولا يكون في الكعبة حتى يكون في الحرم» (١) ولذلك الإسلام ميّزات عن مطلق الايمان وسمات ، فلا يلبس الإسلام بظلم أو مشرك مهما لبسهما الإيمان : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) (٦ : ٨٢) (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).

ولقد قورن مطلق الايمان بمقارنات الظلم والشرك والفساد والعصيان ، ولم يقارن بشيء منها ذلك الإسلام ، فلذلك يعدّ من ميّزات المرسلين دون الإيمان فانه لكل المؤمنين بدرجاتهم.

لذلك يطلب الخليل الى ربه الجليل ان يجعله وإسماعيل مسلمين له ، بعد كل درجات الإيمان ودرجات من الإسلام.

ثم يتطلّب من ربه (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا) ذريتي من إسماعيل (أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) وهم أهل بيت الرسالة المحمدية ، فالرسول فيهم هو محور الدائرة ، وذووه المعصومين هم الأشعة ، فلأن ابراهيم تطلّب لهم أصل الإسلام لا درجته ، لم يمنع سؤاله أن يكون محمد أوّل المسلمين.

ولقد أسلم إبراهيم لدرجة قبل هذا الوقت : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١٣١) ثم يتطلب بعده إسلاما أرقى (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ...) فهو كما الإيمان درجات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ...)

ولو أنه إسلام قبل الايمان أم إسلام الإيمان ، لم يكن يسأله من ربه ، بل كان يفعله لأنه من فعله ، فإنما الإسلام المسؤول هنا هو قمة التسليم بما آمن وأسلم ، توفيقا من الله.

__________________

(١) في الكافي عن سماعة عن الصادق (عليه السلام) : ...

١٥٤

وهكذا نرى ذلك الإسلام أنه من حصائل الإيمان ، كل درجة منه حصيلة درجة منه فإنهما كلّا درجات :

ف (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٣٠ : ٥٣) (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) (٥ : ١١١).

كما ويوصي المصطفين من عباده أن يكونوا من المسلمين : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٢ : ١٣٢).

ثم ولا تسمع أحدا من النبيين يؤمر بالإيمان ، اللهم إلّا بالإسلام ، اللهم إلّا شذرا في عرض ايمان المؤمنين بعرض الرسول تلفيقا رفيقا بينهما : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) على أن إيمانه هنا ليس بالله ، بل بما أنزل إليه ، طمأنة للمؤمنين.

ولا تجد الله يذكر أحدا منهم بخير أفضل من الإسلام (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) (٣ : ٦٧) وتراهم ـ دوما ـ يؤمرون بالإسلام ومرتبطون بالإسلام!.

فذلك بدرجاته إسلام ، وقبله الإيمان بدرجاته ، ثم قبلهما إسلام لمّا يصل إلى القلب فلم يصل لحد الإيمان : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٤٩ : ١٤) واين إسلام من إسلام؟!.

وهنا (مِنْ ذُرِّيَّتِنا) تختص دعاء الخليل بأمة مسلمة لله من ذرية ابراهيم من إسماعيل ، فلا تشمل الأمة الإسرائيلية حتى المسلمة منهم لأنهم من إسحاق ، دون إسماعيل ، ولا كلّ المسلمين إذ ليسوا كلهم ولا جلّهم من

١٥٥

إسماعيل ، أتراهم بعد هم كل بني هاشم فإنهم من ذرية إسماعيل ، وكيف تعمهم ذلك الدعاء لإسلام ردف إسلام ابراهيم؟ وفيهم عصاة بغاة طغاة! ولئن خصّت بعدولهم فليس كل العدول مسلمين بذلك المعنى الرفيع ، ثم لماذا تختص بهم وممن سواهم مسلمون أرقى واجل من جلّهم؟.

إذا فهم مسلمون خصوص من ذرية إسماعيل ، والمعصومين الاربعة عشر عليهم السلام (١) أم هم أصدق مصاديقها ، وسائر الامة المسلمة من ولد إسماعيل هم على هامشها؟ إلّا إسلاما أدنى مما لإبراهيم وإسماعيل والمحمديين المعصومين ، هو إسلام يحصل على ضوء الصمود والرقي فلما ذا يسأله لها ولهم من الله.

فلا بد ـ إذا ـ أنه إسلام العصمة القمة المرموقة ولمّا يصلا اليه إذ يرفعان القواعد من البيت.

وهكذا تكون (وَتُبْ عَلَيْنا) فإنها ليست توبة عليهم من عصيان ، بل هي توبة رجوعا عليهم برحمة خاصة تضمن لهم كامل الإسلام.

فقد يتوب الله على عبد يتوب إليه عن ذنب كما في آدم (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٢٠ : ١٢١).

او يتوب على عبد رجوعا برحمة خاصة تعصمه وتسدده عما لا يحمد ، لولاها لكاد أن يقترفها او يقتربها حيث تكل الطاقات البشرية كما في يوسف (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (١٢ : ٢٤) وفي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) :

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٣٠ في الكافي باسناده الى أبي عمر والزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه ... ثم اخبر عن هذه الامة وممن هي وانها من ذرية ابراهيم وذرية إسماعيل من سكان الحرم ممن لم يعبدوا غير الله قط الذين وجبت لهم الدعوة دعوة ابراهيم وإسماعيل من اهل المسجد الذين اخبر عنهم في كتابه انه «اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا».

١٥٦

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (١٧ : ٧٤) وهكذا يكون ـ دوما ـ توبة الله على أصفى المصطفين.

ثم (وَأَرِنا مَناسِكَنا) قد تعم الإراءة المعرفية الى إراءة فقهية ، فحين يرينا الله مناسكنا كما هي ، كان بامكاننا تطبيقها كما هي ، فتصبح حجة مقبولة مشكورة محبورة ، وقد تعم «مناسكنا» مصدرا ميميا واسم زمان ومكان ، والاراءة المعرفية تناسب الأولى.

وكأن (تُبْ عَلَيْنا) هي من الظروف الصالحة ل (أَرِنا مَناسِكَنا) إراءة لملكوتها ، بعد هذه التوبة التي توصّل إلى الملكوت.

(رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ١٢٩.

هناك (أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) كانت ظرفا ظريفا لبلورة هذه الرسالة السامية هنا بدعاء ثان ، ولقد سمع الله دعاءه في إسماعيل كما في الأصل العبراني من تكوين التوراة :

(١٧ : ٢٠) : «وليشمعيل شمعتيخا هينه برختي أوتوا وهيفرتي أوتوا وهيربتي أوتوا بمئد مئد شنيم عاسار نسيئيم يولد ونتتيو لغوي غادل» ـ :

«ولإسماعيل سمعته : ـ ابراهيم ـ ها أنا أباركه كثيرا وأنميه وأثمره كثيرا وارفع مقامه كثيرا بمحمد واثني عشر إماما يلدهم إسماعيل واجعله أمة كبيرة».

وفي التكوين ٢١ : ١٢ «... وابن الجارية ايضا سأجعله أمة لأنه نسلك».

وقد سمي إسماعيل به لأنه مسموع الرب في ولادته وفي نسل امة مسلمة من ذريته.

١٥٧

وفي الأصل الانقلوسي من «نبوئت هيلد» : وحي الطفل : شبوياه شاباه بههيا شعطاطابا لأرعابتيا وو رهاباه دعبدا تشوباه ويرحم إباطابا عل بوخرا حبيبا :

يأسر أعداءه ـ محمد المذكور قبل ـ في ساعة جيدة في ارض مرغوبة ويرحمه الله هناك اجابة لدعوة ابراهيم لإسماعيل.

ذلك ـ ثم نجد التوراة تبشر في آيات أخرى ان ذلك الموعود من ولد قيدار بن إسماعيل في عدة تصريحات (١).

__________________

(١) منها ما في اشعياء (١٤٢ : ١ ـ ٢٠) ... لتشد البرية ومدنها والحظائر التي يسكنها قيدار وليرنّم سكان الصخرة وليهتفوا من رؤوس الجبال (١١) ليؤدوا المجد لله ويخبروا بحمده في الجزائر (١٢).

هذه بشارة لنبي من قيدار و «هو الولد الثاني لإسماعيل» (تك ١٣ : ٢٥) و «أبوه من أشهر قبائل العرب وبلادهم الجزيرة العربية» (اشعياء ٢١ : ١٦).

فالصرخات التي تسمع من اهل قيدار وترنماتهم من الصخرة وهتافاتهم من رؤوس الجبال كل ذلك تصريحات لطيفة بشأن الرسول المبعوث من نسل قيدار ابن إسماعيل ، ترنمات من اعالي جبال مكة وعرفات ومنى والمشعر الحرام في حج البيت.

وفي الآية (١٠) منها : انشدوا للرب نشيدا جديدا تسبيحة له من اقاصي الأرض يا هابطي البحر ويا ملأه ويا أيتها الجزائر وسكانها.

والنشيد الجديد هو الشرعة الجديدة المحلقة على كل الجزائر من ذلك النبي الإسماعيلي ، وفي بعض التراجم (هذه ترجمة القسيس اوسكان الارمني في ترجمته لكتاب اشعياء المطبوعة ١٧٣٣ في مطبعة انتوني بورتولي وقد الفها في ١٦٦٦ ـ اي قبل ٦٧ سنة من طبعها) تأتي هذه الآية هكذا : يسبحون الرب تسبيحا جديدا ويبقى اثر سلطانه بعده واسمه «احمد» (٨٩).

وفي اشعياء ٦ : ١ ـ ٢٢) توصيفات لمكة المكرمة بالكعبة المباركة وهذا الرسول المكي قائلا :

قومي استنيري فان نورك قد وافى ومجد الرب أشرق عليك ١ ها ان الظلمة تغشى الأرض والد يجور يشمل الشعوب ولكن عليك يشرق الرب ويترائى عليك مجده ٢ فتسير الأمم في نورك والملوك في ضياء اشراقك ٣ ارفعي طرفك الى ما حولك وانظري كلهم قد اجتمعوا وأتوا إليك. بنوك من بعيد ـ

١٥٨

وقد يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «انا دعوة ابراهيم» (١) و «اني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينة وسأنبئكم باوّل ذلك

__________________

ـ يأتون وتحملين بناتك في حضنك ٤ حينئذ تنظرين وتتهللين ويخفق قلبك ويرحب إذ تنقلب إليك ثروة البحر ويأتيك غنى الأمم ٥ كثرة الإبل تغشاك بكران مدين وعيفة. كلهم من «شبا» يأتون حاملين ذهبا ولبانا يبشرون بتسابيح الرب ٦.

كل غنم قيدار تجتمع إليك ـ وكباش نبايوت تخدمك. تصعد على مذبحي المرضي لدي وامجّد بيت جلالي ٧ من هؤلاء الطائرين كالسحاب وكالحمام الى كواها ٨ إن الجزائر تنتظرني وسفن ترشيش مستعدة منذ الاوّل ان تأتي ببنيك من بعيد ومعهم فضتهم وذهبهم لاسم الرب إلهك ولقدوس إسرائيل لأنه قد مجدك ٩ وبنو الغرباء يبنون أسوارك وملوكهم يخدمونك لأني في غضبي ضربتك وفي رضاي رحمتك ١٠ وتنفتح أبوابك دائما لا تغلق نهارا ولا ليلا ليؤتى إليك بغنى الأمم وتحفر إليك ملوكهم ١١ لان الامة والمملكة التي تتعبد لك والأمم تخرب خرابا ١٢ مجد لبنان يأتي إليك السرو والسنديان والشربين لزينة مقدسي وأمجد موطئ قدميّ ١٣ وبنو الذين عنّوك يفدون إليك خاضعين ويسجد لأخامص قدميك كل من ازدراك ويدعونك مدينة الرب ١٤ وبما أنك كنت مهجورة متروكة فلم يكن أحد يجتاز فيك سأجعلك فخر الدهور وسرور كل جيل فجيل ١٥ وترضعين لبن الأمم وترضعين ثدي المملوك وتعلمين أني أنا الرب مخلصك وفاديك عزيز يعقوب ١٦ آتي بالذهب بدل النحاس وآتي بالفضة بدل الحديد وبالنحاس بدل الخشب وبالحديد بدل الحجارة واجعل ولاتك سلاما ومسخريك عدلا ١٧ لا يسمع من بعد بالجور في أرضك ولا بالدمار والحطم في تخومك بل تدعين اسوارك خلاصا وأبوابك تسبيحا ١٨ لا تكون الشمس من بعد نورا لك نهارا ولا ينيرك القمر بضيائه ليلا بل الرب يكون لك نورا أبديا وإلهك يكون فخرك ١٩ لا تغرب شمسك من بعد وقمرك لا ينقص لأن الرب يكون لك نورا ابديا وتكون ايام مناحتك قد انقضت ٢٠ ويكون شعبك كلهم صديقين والى الأبد يرثون الأرض. هم فرع غرسي وعمل يدي الذي أتمجد به ٢١ القليل منهم يصير ألفا والصغير يصير امة عظيمة. انا الرب أعجل ذلك في ميقاته ٢٢.

(١) الدر المنثور ١ : ١٣٩ ـ اخرج ابن سعد في طبقاته وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : انا دعوة ابراهيم ، قال : وهو يرفع القواعد من البيت : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ... حتى أتم الآية.

١٥٩

دعوة أبي ابراهيم وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين» (١).

(وَابْعَثْ فِيهِمْ) هذه الأمة المسلمة من ذريتنا (رَسُولاً مِنْهُمْ) وكلهم نور واحد فإن : أولنا محمد آخرنا محمد أوسطنا محمد وكلنا محمد صلوات عليهم أجمعين.

(رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) تكوينية : آفاقية وأنفسية ، وتدوينية : قرآنية وكتابيات أخرى.

ولماذا (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) هنا (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) في ثلاث أخرى (٢) أترى تعليم الكتاب والحكمة هو المقدم على التزكية كما هنا ، ام هي المقدمة عليها كما في الثلاث الأخرى ، ام هما صنوان لا يتفاضلان ، فهما متعاضدان مع بعضهما البعض متقارنان؟ فلما ذا تتقدم التزكية ثلاثة أضعاف تقدم التعليم عليها؟.

علّ الأضعاف في التزكية للتأشير إلى أهميتها ، حيث التعليم ذريعة الى

__________________

(١) المصدر اخرج احمد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن العرباض بن سارة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): إني عند الله ...

وفيه اخرج احمد وابن سعد والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن أبي امامة قال قلت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ما كان بدء أمرك؟ قال : دعوة ابراهيم وبشرى عيسى ورأت امي انه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام.

(٢) وهي : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (٢ : ١٥١) (ولَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣ : ٦٤) (وهُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٦٢ : ٢).

١٦٠