الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٨

يفيد كامل الفائدة : أن يؤمروا بذبح ما كانوا يحترمونه لحد العبادة ، وأن يشتروها وهم الأنجاس ، وأن يضربوه ببعضها فيحيي تدليلا على إمكانية بروز الحياة بضرب ميت بميت فضلا عن رجوع الروح الحي إلى البدن الميت! ف (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

أترى أي جزء من جسد البقرة كانت له هذه الفاعلية بإذن الله؟ «ببعضها» يلغي كل الاختصاصات عن أي جزء منها ، فكما «بقرة» كانت طليقة لأوّل مرة ، كذلك «ببعضها» على طول الخط ، إذ لم يتزايدوا فيه كما تزايدوا فيها فلم يخرج عن إطلاقه!

فيا لقصة البقرة من آماد بعيدة وآيات غريبة قريبة ، لم تك تحصل إلّا بما حصل ، ما يحق أن تتسمى بها السورة لهذه البقرة وهؤلاء الأباقرة.

وقيلة القائل ـ الغيلة على آيات الله البينات ـ أن (يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) هنا يعني حفظ الدماء التي كانت عرضة للسفك بسبب الخلاف في : من هو القاتل ، إنها مردودة عليه ب «كذلك» المشيرة إلى (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) ف «كذلك» الضرب (يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) ولو لم يكن في ذلك الضرب إحياء القتيل ، فكيف عرف القاتل بذلك الضرب ، وما هي الصلة بينه وبين معرفة القاتل لو لا إحياء القتيل! ثم ولا إشارة في القصة باحتمال سفك الدماء لو لم يعرف القاتل!

صحيح أن إبقاء الحياة قد يسمى إحياء : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) ولكن كيف تبقى حياة بين المتدارئين في : من قتل القتيل ، إلا بمعرفة القاتل الحقيقي ، وكيف يعرف ب (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) لو لا إحياءه بذلك الضرب ، ثم (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) ليس إلا تعريفا عمليا بالقاتل ، كما و (يُرِيكُمْ آياتِهِ) تلميحة بينة أن هناك آية خارقة إلهية بها عرف القاتل.

٢١

فإنما هي انتفاض الميت مبعوثا ناطقا شاهدا فيما ادّارءوا ، على ضربة من بعض جسد لبقرة بكماء مذبوحة ، ليس فيها من حياة ولا مادة حياة (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

لا كما يقوله هذا الهارف الخارف ، المأول آيات الله المعجزات إلى دعايات متعودات.

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ٧٤.

«ثم» بعد هذه الآيات البينات (قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) أكثر مما كانت قاسية بدلا عن أن تلين لذكر الله (قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الإحياء إجابة عن سؤال وإيتاء لسؤل ، كما (بَعْدِ ذلِكَ) التنبيه بكل نبهة في مختلف المجالات.

أترى الخطاب هنا يختص بالسابقين؟ فما هو ذنب اللّاحقين! (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)! أم يخص اللّاحقين (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الذي حصل للسابقين عبرة للّاحقين ، ف (قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) إذ (أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) (٢٨ : ٤٥) : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٥٧ : ١٦).

قد يشملهم الخطاب جميعا ، فإنهم سلسلة موصولة على طول التأريخ الإسرائيلي ، أنهم تقسى قلوبهم أكثر وأقسى مما كانت من قبل ، وآيات الله تترى عليهم لصق بعض ليل نهار ، كما (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً).

٢٢

(ثُمَّ قَسَتْ ... فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) في القسوة الصلبة الصلتة ، لا فحسب (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً).

وترى «أو» هنا تضرب عن قسوة الحجارة إلى أشد قسوة؟ وليست قلوبهم ـ ككل ـ إلّا كالحجارة أو أشد قسوة ، فلا مجال للإضراب إلّا ممن يجهل مدى القسوة فيها!

أم هي للإضراب بالنسبة لبعضهم؟ و «كم» لا تعني البعض ، فقلوب الكل إما هي كالحجارة أو أشد قسوة!.

قد تعني «أو» هنا التقسيم ، فقلوب البعض كالحجارة ، وقلوب الآخرين أشد قسوة.

أم وتعني مختلف الحالات في بعض القلوب ، فقد كانت قاسية ، ثم اشتدت قساوتها فهي كالحجارة ، ثم تشتد فهي أشد قسوة ، فكلا الإضراب والتقسيم ـ إذا ـ معنيّان من «أو» أم وثالث هو الإبهام (١) ، وهو ـ فقط ـ بالنسبة لمن لا يعرف مدى قساوة القلوب ، التي هي كالحجارة أو أشد قسوة ، ويلحقه رابع هو التشكيك ، والأخيران هما في دور واحد!

ودليلا على (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) : تفجر الأنهار من بعض الحجارة ، وتشقق البعض بخروج الماء منها ، وهبوط البعض من خشية الله!

وهذه القلوب الخاوية المقلوبة لا تتفجر منها أنهار المعرفة ، ولا تتشقق

__________________

(١) خيّر أبح قسم باو وأبهم

واشكك وإضراب بها أيضا نمي

وفيما يروى عن الامام الحسين (عليه السلام) من تفسير الآية (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) أبهم على السامعين ولم يبين لهم كما يقول القائل : أكلت خبزا او لحما ، وهو لا يريد به انه لا ادري. ان يبهم على السامع حتى لا يعلم ماذا أكل وان كان يعلم ان قد أكل أيهما ...

٢٣

بخروج مياهها منها ، ولا تهبط من خشية الله ، بل هي جافة صلدة صلتة لا تزداد في خضم الآيات البينات إلّا تصلّدا وجمودا وجفافا وخمودا!.

لقد رأوا الحجر انفجرت منه اثنتا عشرة عينا بما ضرب موسى عصاه ، ولم تنفجر قلوبهم بعصا الرسالة الموسوية! ورأوا الجبل اندك بما تجلى له ربه ، ولم تندك جبال قلوبهم بتجلي هذه الرسالة السامية ، وجلوات آيات الله البينات ، فهي لا تلين بها ولا تندى ، ولا تنبض بخشية ولا تقوى ، بل وتزداد طغوى على طغوى! قلوب قاسية جاسية مجدبة كافرة ليست لتلين بذكر الله أيا كان وأيان (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ف (لا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ).

نرى أن (مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) كما نرى (وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) فما هي الحجارة التي تهبط من خشية الله وهي لا تعقل ولا تكلّف بشيء؟

أهي كما قال الله : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) (٥٩ : ٢١)؟ (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١) تحوّله إلى مثل لا واقع له ، و «لو» تحيل واقعه ، فلن ينزل الله على جبل ذكرا : قرآنا وغير قرآن ، وهناك الله في اقتسام الجبال يضرب مثل الواقع من الجبال لبيان مدى قساوة هذه القلوب ، فليكن هبوطها من خشية الله واقعا كتفجر الأنهار من بعضها ، وخروج الماء من تشقق الأخرى!.

ثم لو كان الهبوط من خشية الله على فرض نزول الوحي عليه لعم الجبال كلها كما (عَلى جَبَلٍ) تعممه لها كلّها ، دون (وَإِنَّ مِنْها)!

أم (إِنَّ مِنْها) هنا راجعة إلى القلوب لتقدم ذكرها ، ومهما كانت الحجارة

٢٤

اقرب مرجعا ، فالقلوب أنسب وأليق معنى؟ وهو بعيد أدبيا لبعد المرجع ، وبعيد معنويا حيث القلوب تقلّب ولا تهبط ، اللهم إلا هبوطا عن علوائها المقلوب ، فتنضبط ذاكرة لله ، متذكرة بآيات الله.

هذا ولكن الجبال كجبال هي مثال لقساوة القلوب ، وليست القلوب الخاشية الهابطة من خشية الله ـ وهي القلوب المؤمنة المطمئنة بالله ـ ليست هي بالتي تناسب ضربها مثلا لإثبات أن قلوبهم أقسى من الحجارة!.

قد يعنى هبوط بعض الجبال من خشية الله ، هبوطها الهابط منها بأمر الله تكوينا وهي شاعرة له ومدركة ، ف (إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١٧ : ٤٤) تعمم الخشية الشعورية إلى كل شيء ، فالهابط من الجبال تهبط بخشية الله ، كما الثابت منها تثبت بخشية الله ، ولا ينافيها الأسباب الطبيعية لهبوطها ، فانها كلها منتهية إلى الله ، ولا يعمل اي سبب عمله إلّا بأمر الله و (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (٢ : ١١٦) فظاهر الخضوع فيها لتدبير الله بآثار الصنعة وإحكام الصنعة لحد الهبوط فيما تهبط ، تقريع على تلك القلوب المقلوبة غير الخاشية لله.

فحينما الحجر يهبط من خشية الله ، لا تهبط قلوب هؤلاء ـ الأشد قسوة من الحجارة ـ من خشية الله (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

إنهم خونة في أمانة الله لا يوجد لهم مثيل في الكائنات ف (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٣٣ : ٧٢) وآية الأمانة هذه ـ كما فسرناها في سورتها ـ تحمل حملة عنيفة على الإنسان الظلوم الجهول في خيانته أمانة العقل والتكليف ، فحمل الأمانة يقابل أداءها ، فهو خيانتها.

وعلى حد المروي عن سيد الشهداء الحسين بن علي عليهما السلام في

٢٥

تفسير الآية : يبست قلوبكم معاشر اليهود كالحجارة اليابسة ، لا ترشح برطوبة ، اي : انكم لا حقّ الله تؤدون ، ولا لأموالكم تتصدقون ، ولا بالمعروف تتكرمون ، ولا للضيف تقرون ، ولا مكروبا تغيثون ، ولا بشيء من الإنسانية تعاشرون وتواصلون ... (١)

فيا ويلاه من قسوة القلوب ف «ما جفت الدموع إلّا لقسوة القلوب وما قست القلوب إلّا لكثرة الذنوب» (٢) و «لا تطوّل في الدنيا أملك فيقسو قلبك والقاسي القلب مني بعيد» (٣).

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٩٠ في الخرايج والجرايح روى عن الحسين بن علي (عليهما السلام) في قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ ...) ـ نقلنا تفسير (او أشد قسوة) في العدد السابق ـ (وان من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار) ، اي قلوبكم في القساوة بحيث لا يجيء منها خير يا يهودي ، وفي الحجارة ، يتفجر منه الأنهار فيجيء بالخير والنبات لبني آدم (وَإِنَّ مِنْها) اي من الحجارة (لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) دون الأنهار ، وقلوبكم لا يجيء منها الكثير من الخير ولا القليل (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ) أي من الحجارة أن أقسم الله عليها باسم الله يهبط ، وليس في قلوبكم شيء منه ...

(٢) المصدر ٩٢ في كتاب العلل باسناده الى الأصبغ بن نباتة قال قال امير المؤمنين (عليه السلام).

(٣) المصدر في الكافي عن علي بن عيسى رفعة قال : فيما ناجى الله عز وجل به موسى (عليه السلام) يا موسى ...

٢٦

أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢))

لقد كان المسلمون على علم ـ حسب القرآن ـ أن اليهود يعرفون القرآن ويعرفون رسول القرآن كما سطرت لهم في التوراة ، فكانوا ـ قبل الهجرة ـ يأملون أن يؤمنوا لهم ، حتى هاجروا وخاب أملهم ، وهنا يطمئنهم الله أنهم ليسوا ليؤمنوا لهم بسابق غيّهم وقساوة قلوبهم ، وتحريفهم كلام الله :

٢٧

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ٧٥.

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ ...) (٥ : ١٣).

هنا (يُؤْمِنُوا لَكُمْ) كأضرابها ، تعني الإيمان لصالح المسلمين ، وليس الإيمان بالمسلمين ، كما «آمن (لَهُ لُوطٌ) فإن في انسلاك لوط في سلك إبراهيم ـ وقد كان مؤمنا بالله قبل ـ أزر وشدّ ظهر للدعوة الإبراهيمية ، وكذلك اليهود ـ وهم أعظم أهل الكتاب ـ كان في إيمانهم برسالة الإسلام ، اطمئنانا لصالح المسلمين فإيمانا لهم أمام مشركي الجزيرة ، ولكنهم أصبحوا أنكر وأكفر منهم.

(أَفَتَطْمَعُونَ) بعد ما سمعتم من قساوة قلوبهم أمام شرعتهم الإسرائيلية أنفسهم (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) وهم لم يؤمنوا لرسولهم (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) التوراة (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) معنويا ، أم وتعبيريا (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الحقّ الرسالي لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما عقلوه ، كسائر الحق الذي كانوا يحرفونه من بعد مواضعها!.

وذلك الفريق هم بطبيعة الحال مدراء الشرعة التوراتية ، المسموع كلامهم عند أتباعها ، لحد لا يؤمنون لكم اتباعا لهم ، وليس يختص هذا الفريق بالذين عاشروا موسى (ع) ولا الذين عاشروا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بل هم كل من كان يسمع آيات التوراة ثم يحرفه من بعد عقله لها وهو يعلم ماذا سمع وماذا ولماذا حرفّ؟.

فحين يسمعون كلام الله من موسى «نابىء آقيم لا هم مقرب إحيحم كموشه وناتتي دباري بفيو ويدبر الوهيم إت كال أشر أصونوا» (تث ١٨ : ١٩) :

«نبي أقيم لهم من أقرباء أخيهم كموسى وأضع كلامي في فمه لكي يبلغهم جميع ما آمره به».

٢٨

هكذا يسمعونه ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ، يحرفونه تحريفا مشوّها كما في الترجمة العربية عن اصل يوناني ١٦٨٧ :

«أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به» (١٩) فقد بدلت «من أقرباء أخيهم» إلى «من وسط إخوتهم» حتى تنحرف هذه البشارة عن النبوة غير الإسرائيلية ، فأخيهم هنا هو عيص أخو يعقوب وكما في «تث ٢٨ : ٨» ولأن عيص تزوج بنت إسماعيل وأولد منها ولدا ومن غيرها آخرين ، لذلك أصبح بنوا إسماعيل من عيص أقرباء بني عيص ، إذا فأقرباء إخوة بني إسرائيل هم بنوا إسماعيل من عيص وقد بعث من بينهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (١)!

وحين يسمعون كلام الله من موسى «وليشمعيل شمعتيخا هينه برختي أوتو وهيفرتي أوتوا وهيربتي أوتوا بمئد مئد شنيم عاسار نسيئيم يولد ونتتيو لغوى غادل» (التكوين ١٧ : ٢٠) :

«ولإسماعيل سمعته (ابراهيم) ها أنا أباركه كثيرا وأنميه كثيرا وأرفع مقامه بمحمد واثني عشر إماما يلدهم إسماعيل واجعله امة كبيرة».

هكذا يسمعونه ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ، كما في نفس الترجمة : «وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها انا أباركه وأثمره وأكثره جدا اثني عشر رئيسا يلد وأجعله أمة كبيرة».

فقد ترجموا «بمئد مئد» وهو محمّد ـ وحتى بحساب الأعداد الذي يعتمدون عليه ، فانه (٩٢) كما محمد (٩٢) ـ ترجموه ب «أكثره جدا» رغم أن معناه كثير الحمد المعبر عنه بأحمد ومحمد! (٢).

__________________

(١) راجع كتابنا (رسول الإسلام في الكتب السماوية) ٣٣ ـ ٣٩.

(٢) راجع «رسول الإسلام» ٤٠ ـ ٤٣.

٢٩

وحين يسمعون كلام الله من هوشع : «كي هنيه هالخو ميشود ميصرييم تقبصم موف تقبرم محمد لكسفام قيموش ييراشم حوح باهاليهم» (هوشع ٩ : ٦) :

«ها إنهم يرتحلون لأجل الخراب ، فمصر تجمعهم ، وموف تدفنهم ، ومحمد لفضتهم والقراص يرثهم ، والعوسج يستولي على أخبيتهم».

هكذا يسمعونه ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون من هو محمّد ، وكما نرى في مختلف التراجم :

«والقراص يرث فضتهم الشهية ـ يرث القريص نفائس فضتهم ـ الأمكنة المرغوبة لفضتهم ـ بيت الأمل لفضتهم» محرفين محمدا بهذه الأربع مخافة عن أن تعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) (١)!

وحين يسمعون كلام الله من سليمان (ع) في مواصفة عريضة لمحبوب وحيد له وفي النهاية :

«حكو ممتقيم وكولو محمديم زه دودي وزه رعي بنت يرشالام» (نشيد الأنشاد ٥ : ١٦) :

«فمه حلو وكله محمد هذا محبوبي وهذا ناصري يا بنات أورشليم».

هكذا يسمعونه ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون انه محمد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

ففي الترجّمة التقليدية للتورات نجدها هكذا : «حلقه حلاوة وكله

__________________

(١) بخصوص لفظة محمد في بشارة هوشع بينا هناك ان تحريفهم يحمل اغلاطا من الناحية الادبية كما المعنوية (٧٣ ـ ٧٩).

٣٠

مشتهيات هذا حبيبي وهذا خليلي يا بنات أورشليم! (١).

وهكذا نجد وفيرا من البشارات التوراتية بحق محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) أوردنا قسما منها في كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية» بين محرفة لفظيا او معنويا من هذا الفريق الغريق في أنانيات العنصريات.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) ٧٦.

قد تلمح الآية أن هؤلاء هم فرقة غير متطرفة من هذه الفرقة العالمة المحرفة ، فهم يراعون الجانبين (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) بما سمعنا من خبر محمد والقرآن في التوراة (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا) : البعض الثاني المحرّف اللجوج ، للبعض الاوّل (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) : المسلمين (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) : من هذه البشارات (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) لماذا لم تؤمنوا (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أن تحديثكم هذا خلاف المصلحة الطائفية ، وقد يبوء بالخسار يوم الآخرة!.

وترى إذا كانت هذه البشارات فتحا لأهل التوراة ، فلما ذا ـ إذا ـ إخفاءها؟.

إنها كانت لهم فتحا على الذين كفروا قبل مبعث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فتحا جانبيا وقتيا ، ثم بعد ما جاء دور الرسول المبشر به كفروا به : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢ : ٨٩).

هؤلاء الحماقى يعتبرون التحديث بهذا الفتح للذين آمنوا خلاف العقل

__________________

(١) رسول السلام في الكتب السماوية ٨٠ ـ ٨٣.

٣١

أَفَلا تَعْقِلُونَ) تنديدا بفريق منهم غير متطرف يحدث به لهم إذ ليسوا من المعاندين المتواطئين (١).

وقد يلمح (وَإِذا لَقُوا) رجوعا لضمير الجمع الى الفريق السابق ذكرهم ، السامعين كلام الله المحرفين له ، أنهم كانوا ينافقون الفريقين : المسلمين واليهود ، مهما كانوا أقل تطرفا من أقطاب التحريف والتجديف ، إذ هم يجهّلونهم بما يحدثون للمسلمين.

(أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) ٧٧.

أفلا يعقلون هم أولاء الأنكاد المجاهيل (أَوَلا يَعْلَمُونَ) متجاهلين عن علم كتابي وعلم عقلاني (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) من بشارة وسواها (وَما يُعْلِنُونَ) إذا لقوا الذين آمنوا؟ فسواء عليه في حجاجه عليهم أسرّوا ما فتح عليهم أم أعلنوا ، فحين لا يؤمنون بما فتح لهم فانه يحتج عليهم يوم القيامة من فتح عليهم ، سواء أحاجّهم المؤمنون به عند ربهم أم لم يحاجوا ، فلا صلة بأصل هذه المحاجة الربانية لهذا الإعلان ، ولا لمحاجة المؤمنين إن علموا.

ويكأن الله لا يعلم إلا بما علم المؤمنون ، ولا يحاجهم إلّا إذا حاجوهم به عند ربهم ، فالله ـ إذا ـ هو الفرع وهؤلاء وأولاء هم الأصلاء!.

فالله هو الذي فتح عليهم هذه البشارة ، وهو الذي فرض عليهم إتّباع هذا النبي ، فهل ينسى او يتناسى يوم القيامة ما فتح عليهم؟ فهو يحتج إذا حدثوه به المسلمين! ولا يحتج إذا لم يحدثوا!.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٩٢ ـ في مجمع البيان حول الآية روي عن أبي جعفر الباقر (عليهما السلام) «انه كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدثوهم بما في التوراة من صفة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيحاجوكم به عند بكم» فنزلت هذه الآية.

٣٢

فيا لحمقهم من عمق ، ولعمقهم من حمق ، كيف يجهّلون الله مصلحية الحفاظ على الرسالة الإسرائيلية في زعمهم.

ومن أعجب العجاب أنهم يجهّلون غير المعاندين منهم ، المجاهرين بذلك الفتح للذين آمنوا : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) وهم أنفسهم يحملون من اللّاعقل ما ينفر منه الحمر المستنفرة ، حاسبين ألّا حجة لله عليهم إلّا أن يصارحوا المسلمين بذلك الفتح! فحقا إنهم أباقرة عباقرة!.

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ٧٨.

هذه فرقة ثالثة إسرائيلية ، جاهلة قاحلة مستضعفة ، بعد الأولى العالمة المعاندة المستكبرة المحرفة ، والثانية المتعلمة المنافقة غير المتطرفة ، والويل كل الويل على الأوّلين ، ثم الآخرين حسب دركات في تقصيراتهم ، ثم المستضعفون القحّ غير المعاندين قد تدركهم رحمة من الله.

ف «أميون» هنا يعني عن معرفة الكتاب ، سواء هؤلاء الذين لم يدرسوا قط اي كتاب ، ولم يسمعوا سمع المعرفة لعلم الكتاب (١) ، أم الذين هم دارسون علوما غير علم الكتاب ، أو الذين درسوا ألفاظه وهم عن معانيه غافلون ، وعن مغازيه جاهلون ، ومهما اختلفت دركات ثالوث الأمية ، ولكنهم كلهم قد يعتبرون هنا من الأميين ، وكما اعتبر غير أهل الكتاب ـ ككل ـ من

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٩٢ عن الاحتجاج للطبرسي باسناده الى أبي محمد العسكري (عليه السلام) في الآية : إنّ الأمي منسوب الى الأم ، اي هو كما خرج من بطن امه لا يقرء ولا يكتب ، لا يعلمون الكتاب المنزل من السماء ولا المتكلم به ولا يميزون بينهما إلا أماني ، اي إلّا ان يقرء عليهم ويقال لهم ان هذا كتاب الله وكلامه ، لا يعرفون إن قرئ من الكتاب خلاف ما هم فيه (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) اي ما يقرأ عليهم رؤساءهم من تكذيب محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) في نبوته ...

٣٣

الأميين ، إذ لم تسبق لهم معرفة كتابية : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ) (٣ : ٢٠).

فالأمية قد تكون مطلقة وأخرى نسبة ، نسبة إلى علم الكتاب الرسالي بدرجاته ، و (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ) هنا ، تعني هذه النسبية ، فقد يكون بارعا في العلوم التجريبية ، ولكنه فارغ من العلوم الكتابية ، فهو ـ إذا ـ من الأميين ، كما الأمي الطليق منهم ، مهما اختلفت مسئولياتهم حسب مختلف أمياتهم.

(لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ) هي جمع أمنية ، وهي البغية الخيالية المتهوسة التي لا واقع لها حقا ، فقد يقرءون الكتاب وهم عن معانيه غافلون ، وهنا مسرح الأمنيات الفارغة من عند أنفسهم أو المستكبرين المحرفين الكلم عن مواضعه ، فهم حضور عند الألفاظ والقراآت ، غيّب عن المعاني والمرادات (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) فيما يتمنون من معان ، لا يسندون إلى علم او أثارة من علم إلّا (أَمانِيَّ) لأنفسهم ، أم تقاليد جاهلة عمياء.

إذا ف (إِلَّا أَمانِيَّ) استثناء منقطع ، حيث الأماني أمام الكتاب ليس علما بالكتاب في وجه من الوجوه ، فإن الأماني هي من الشيطان : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) فهي ـ ككل ـ تخيلات بعيدة عن الواقع الحق وعن حق الواقع ، بعيدة عن كتاب الله وعن كل شرعة الله!.

فالعلم الحجة من شرعة الله ، هو بين علم عن اجتهاد سليم ، ام علم عن تقليد سليم ، ثم لا ثالث (إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ).

ولا يعني التقليد في شرعة الحق التنازل عن كل عقل وعلم ، إنما هو تفتيش عاقل عالم عمن يعقل تماما ويعلم شرعة الحق ، عالما عيلما أمينا على دينه ، صادرا عن شرعة الوحي الحق ، وواردا مورد الحق.

٣٤

فالأمي الطليق الذي يجهل ، ويجهل أنه يجهل دونما تقصير ، هو من «المستضعفين الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم».

والأمي العارف بأميته وجهله ، عليه ان يتعلم ، او يتبع خطى من يعلم ، دون ترسّل في تقاليد جاهلة عمياء ، فهو مستضعف مقصر في تقليده ، مسئول عند ربه.

والأمي الذي هو على درب التعلّم ، ولا يقلّد إلا فيما ليس ليعلم ، وانما يقلّد من يعلم وهو أمين ، انه على سبيل نجاة (١).

__________________

(١) في تفسير بيان السعادة ١ : ١٠٦ نقل انه قال رجل للصادق (عليه السلام) : فإذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب الا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم الى غيره فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلّا كعوامنا يقلدون علماءهم فان لم يجز لأولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم؟

فقال : بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة ، اما من حيث استووا فان الله قد ذم عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذم عوامهم ، واما من حيث افترقوا فلا ، قال : بينّ لي ذلك يا ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال (عليه السلام) : ان عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وبأكل الحرام والرشا وبتغيير الأحكام عن وجهها بالشفاعات والعنايات والمصانعات ، وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم ، وانهم إذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا عليه واعطوا ما لا يستحق من تعصبوا له من اموال غيرهم وظلموهم من أجلهم وعرفوهم يقارفون المحرمات واضطروا بمعارف قلوبهم الى أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز ان يصدّق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله فلذلك ذمهم لما قلّدوا من قد عرفوا ومن قد علموا انه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه في حكايته ولا العمل بما يؤديه إليهم عمن لم يشاهدوه ، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في امر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ كانت دلائله أوضح من ان تخفى وأشهر من ان لا تظهر لهم وكذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهاءهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتطالب على حطام الدنيا وحرامها ـ

٣٥

ثم الويل كل الويل هو للذين يستجهلون الأميين استحمارا واستثمارا استكبارا في الأرض.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) ٧٩.

لقد جلسوا مجلس التشريع بإنزال الكتاب ، وتبديل بعضه ببعض (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) وكل ثمن الدنيا في ذلك الاشتراء قليل ، فهم يكتبون الكتاب بأيديهم كما يهوون ثم يقولون للبسطاء الأميين هذا من عند الله ، بغية مكاسب دنيوية مالا ومنالا فوبالا على أية حال.

إن ذلك هو أنحس دركات التحريف ، حيث التحريفات المعنوية والألفاظ باقية كماهيه ، ليست إلا تخريفات للأميين الجامدين ، فأما الذين يتحرون عن حق الوحي والوحي الحق ، فهم ـ بفضل الله ورحمته ـ سوف يهتدون الى الحق ، متحللين عن تلكم التحريفات المعنوية ، بترك هذه التقاليد العمياء.

(فَوَيْلٌ لَهُمْ) أولئك الكاتبين الكتاب بأيديهم (مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) و (وَيْلٌ لَهُمْ) أولاء أصلاء ، وللمنافقين التابعين لهم وسطاء ، وللأميين أتباعا (مِمَّا يَكْسِبُونَ) من هذه المختلقات الزور!.

__________________

ـ وإهلاك من يتعصبون عليه وان كان لإصلاح امره مستحقا ، والرفق والبر والإحسان على من تعصبوا له وان كان للإذلال والإهانة مستحقا ، فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله بالتقليد لفسقة فقائهم.

فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه وذلك لا يكون إلا في بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ، فإن من يركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئا ولا كرامة لهم.

٣٦

فقد «عمدوا إلى التوراة فحرفوا صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ فيما حرّفوا ـ ليرفعوا الشك بذلك للمستضعفين من اليهود» (١).

وترى ما هو موقف «بأيديهم» ولم يك يكتب الكتاب إلّا بأيديهم ، ثم إذا كتب بإملاء أم آلات كاتبة أخرى ، فهلّا يندد به إن كان تحريفا وتجديفا.

قد تعني «بأيديهم» كافة القوات والآلات الكاتبة ، لا ـ فقط ـ الأيدي الجارحة ، فلكي يحلّق النهي على كافة المحاولات في تحريف الكتاب ، فالأصلح الأصرح الأكفى هو (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) حتى تجتث كافة المحاولات بأية قدرة من القدرات لتحريف الكتاب ، تلزيقا له بوحي الكتاب ، وتعليقا على كتاب الوحي كأنه هو من الوحي.

ثم لمحة أخرى في «بأيديهم» أن كتب الكتاب لم يكن بأيد ربانية ككتاب الوحي ، أم نقلا واستنساخا لكتاب الوحي ، بل بأيدي أنفسهم ، بنفسياتهم وهوساتهم ، أيا كانت تلك الأيدي بقواتها ، سواء في ذلك الكتابات الخطية إملائية وسواها ، أم الكتابات الصوتية أو الصورية ، أم كتابات عملية أنهم يعملون أعمالهم الشهوانية ، متظاهرين أنها ربانية ، ف «الكتاب» قد يشمل كتب التقرير والعمل والبيان أيا كان ، كما الأيدي تشمل كافة القوات الكاتبة بآلاتها متصلة ومنفصلة.

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ٨٠.

أمنية فارغة خارقة لا تستقيم مع عدل الله ، ولا مع ايّ من الأعراف

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٩٣ في المجمع وقيل كتابتهم بأيديهم انهم عمدوا ... وهو المروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام).

٣٧

المستقيمة ، ولا تتمشى مع التصور الصحيح في حقلي العمل والجزاء ، ان يحسبوا أنفسهم ناجين من العذاب العدل والجزاء الوفاق مهما فعلوا وافتعلوا ، لا لشيء إلّا أنهم من بني إسرائيل!.

كما وإخوانهم المسيحيون قد يحسبون أنفسهم ناجين عن العذاب لا لشيء إلّا أنهم يعتقدون في ثالوث الالوهية ، وأن ربهم المسيح افتداهم ـ بصلبه ودخوله الجحيم ـ عن لعنة الناموس!.

أمنيات جاهلة متجاهلة ميزان العدل الرباني في عباده ، يتمسك بها الذين يهوون الحرية الكاملة في الشهوات والحيوانات في كل النزوات الطائشة ، وهم رغم كل هذه لا تمسهم النار إلّا أياما معدودة أم ولا تمسهم أصلا ، ولن ...

ف «لن» تحيل ـ في حسبانهم ـ أن تمسهم النار ـ وهم يستحقونها خالدين بما كتبوا وكسبوا ـ (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) في اي عدد وعدد ، عدد الأيام التي عبدوا العجل ، أم عدد الأيام التي اجترموا ما اجترموه ، أم أي عدد في حسبانهم (١).

(قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) في هذه الأمنية الفارغة البعيدة؟ وطبعا كلّا! فان اتخذتم عند الله عهدا (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) فلن تمسكم النار إلّا

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٨٤ ـ اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : اجتمعت يهود يوما فخاصموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا : لن تمسنا النار الا أياما معدودات وسموا أربعين يوما ، ثم يخلفنا فيها ناس وأشاروا إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ورد يده على رؤوسهم : كذبتم بل أنتم خالدون مخلدون فيها لا نخلفكم فيها ان شاء الله تعالى أبدا ، ففيهم أنزلت هذه الآية ، واخرج مثله في العدد ابن جرير عن زيد بن اسلم عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم).

وعن تفسير القمي في الآية قال قال بنو إسرائيل : لن تمسنا النار ولن نعذب إلا الأيام المعدودات التي عبدنا فيها العجل فرد الله عليهم قل يا محمد لهم : (أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً ...).

٣٨

أياما معدودة (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وإنما تتهوسون وتأملون دون أي سناد إلّا اماني وإن أنتم إلّا تظنون.

هؤلاء الأنكاد الأغباش الأبقار اتخذوا عنصريتهم حذرا عن خلود النار ، فهم ـ إذا ـ أحرار فيما يعملون بما يأملون : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٣ : ٢٤).

وفي (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا ...) تلميحة أن النار لا تحرقهم وهم داخلوها أياما معدودة ، وإنما تمسهم مسا دون دخول فيها ولا إحراق ، وكأن ذلك تنازل منهم في استحقاق العذاب ، وإلا فهم شعب الله المختار فلا يعذبهم الله مهما كفروا وعصوا وكذبوا بآيات الله! والجواب كلمة واحدة :

(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)٨١.

(مَنْ كَسَبَ) أيا كانوا من الأمم ، ملحدة أم مشركة أم كتابية ، هودا أو نصارى أم مسلمين ، ف (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (٤ : ١٢٤) :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ٨٢.

٣٩

فالخالدون هنا في طاعة الله ، هم الخالدون هناك في رحمة الله ، والخالدون هنا في معصية الله ، هم الخالدون هناك في نقمة الله (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً).

ولا يعني الخلود في النار ـ رغم ما يزعم ـ لا نهائية المقام في النار ، مهما عناها الخلود في الجنة لأنها حسب القرآن (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ولكن النار هي جزاء وفاق ، فعلى قدر الكفر والعصيان يكون الخلود في النار ، وحتى الآبدين في النار يفنون يوما ما بفناء النار بعد ما ذاقوا وبال أمرهم قدره ، وقد فصلنا البحث حول مدى الخلود في النار كرارا وتكرارا.

(كَسَبَ سَيِّئَةً) هو الكسب القاصد العامد المعاند ، دون الجاهل القاصر ، أو المضطر غير العامد ، ثم (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) شرط ثان يكمّل أهلية الخلود في النار ، وإحاطة الخطيئة التي هي من خلفيات السيئة التي استمرت ولم يتب عنها ـ حيث الخطيئة وهي الحالة الرديئة المخلّفة عن السيئة البائتة ـ إنها تعم الخطايا العقائدية والعملية حيث يصبح المسيء خطيئة كله ، فلا منفذ ـ إذا ـ إلى قلبه أو قالبه من نور ، بل أصبح كله نارا ، والشيء لا يحيط بالشيء من جميع جهاته إلّا بعد أن يكون سابغا غير قالص ، وزائدا غير ناقص! (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

ثم يقابلهم (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فلا يرون نارا ولا تمسهم النار.

ومن ثم بينهما عوان ، لا أنه أحاطت به خطيئة ، ولا أحاطت به طاعته ، فهم ـ إذا ـ عوان بين الجنة والنار ، وحين يبقى لهم ـ عند موتهم ـ إيمان وعمل الإيمان ، فآخر مصيرهم الجنة.

أترى «سيئة» هنا تعني أية سيئة وإن كانت صغيرة؟ والصغيرة تكفّر بترك الكبيرة : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً

٤٠