الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٨

وهنا (فَلِمَ تَقْتُلُونَ) خطاب الحال للحضور في تلك الحال بصيغة الحال والاستقبال ، مما يحمل عليهم قتل الأنبياء حالا واستقبالا ، و «من قبل» توجها الى الماضي ، هما مما يؤكدان طبيعة القتل فيهم حاضرهم وغابرهم ، سلسلة موصولة طول التاريخ الإسرائيلي ، فلو كان زمن خطابهم نبيّ أو أنبياء لقتلوهم ، كما قتل أسلافهم ، ولقد قتلوا ـ في حسبانهم ـ الرسالة المحمدية بنكران بشاراته وتكذيبه!.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) ٩٢.

وهل إن اتخاذكم العجل من بعده : بعد أن جاءكم بالبينات ، وبعد ما غاب عنكم فترة قصيرة إلى الطور (١) ، هل إن ذلك ايضا مما أنزل إليكم فهو من وحي الايمان والايمان بالوحي!.

لقد كفرتم بما أنزل إليكم في وحي التوراة ، ثم ما أنزل في وحي الإنجيل وهما الركنان الركينان من الوحي الإسرائيلي ، ثم أنتم تكفرون بوحي القرآن وقد كنتم تستفتحون به على المشركين ، فما دائكم وما دوائكم! (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) موسى وشرعته ، فظالمون الحقّ النازل من عند الله ، وظالمون أنفسكم!.

ذلك وإلى مرات ومرات من التمردات والتنمردات عن شرعة الحق النازلة عليكم :

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ١٣٠ قال الامام العسكري (عليه السلام) قال الله عز وجل لليهود الذين تقدم ذكرهم (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) الدالات على نبوته وعلى ما وصف من فضل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وشرفه على الخلائق ... (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) إلها (مِنْ بَعْدِهِ) بعد انطلاقه الى الجبل وخالفتم خليفته الذي نص عليه وتركه عليكم وهو هارون (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) كافرون بما فعلتم من ذلك.

٦١

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)٩٣.

(... بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٦٣) ثم توليتم من بعد ذلك ... (٦٤) (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً ...) (٤ : ٥٤).

قصة واحدة تأتي في مجالات عدة بمختلف الألفاظ الجانبية والأصل واحد ، وهنا الجواب الفصل عن (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) ـ واسمعوا : (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) والعصيان بعد حجة السمع هو أجرء عصيان.

ثم (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) وكيف يشرب العجل في القلوب؟ ولا يشرب العجل بل يوكل! وليس الشارب هو القلوب!.

إنها مبالغة بليغة في حب العجل ، فكأنها تشربت حبّه فمازجها ممازجة المشروب ، وخالطها مخالطة الشيء الملذوذ ، ولأن القلوب هي أعماق الكيان الإنساني ، فإشرابهم حب العجل في قلوبهم كناية عن أن حبه تعرق وتعمق في كل كيانهم.

وما ألطفها رواية ـ إن صحت ـ أن «عمد موسى فبرد العجل ـ قطعا بالمبرد ـ من أنفه إلى طرف ذنبه ثم أحرقه بالنار فزرّه في اليمّ ، وكان أحدهم يقع في الماء وما به إليه من حاجة ، فيتعرض لذلك الرماد فيشربه ...» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٠٢ عن تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليهما السلام) في الآية : ... وهو قول الله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ).

٦٢

فقد أشربوا العجل في قلوب أرواحهم وقلوب أجسادهم لكثرة حبهم له ، فكما أن شرب الماء كسب لاستمرارية الحياة ، كذلك هؤلاء الأباقرة ركزوا حياتهم على حب المادة وعبادتها ، المتمثلة في حب العجل وعبادته ، وما أمرهم أن يذبحوا بقرة ـ ولا سيما تلك الثمينة الغالية ـ إلّا أمرا بذبح ما كانوا يحبون ويعبدون ، وكما أمروا بقتل أنفسهم بعد هذه العبادة القاحلة.

وتراهم من أشربهم في قلوبهم العجل؟ إنه طبيعتهم المنجذبة الى المحسوسات ، ثم هو السامري الذي استغل فيهم هذه الجاذبية ، ثم الله لم يردعهم تكوينا وتسييرا حيث الدار دار الإختيار.

وقد يعني (وَأُشْرِبُوا ...) ـ فيما تعني ـ أنهم أمروا أن يشربوا من ماءه ليتبين العابد له عن سواه (١) ولكنه لا يصلح إلّا ضمن المعني مما تعني ، وقد تعني ثالوث الشرب ، في قلوب أرواحهم ، ثم الأجساد ، من عند أنفسهم أم بما أمروا ، والنص يصلح لها كلها بكفرهم.

(قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) أن تكفروا بما أنزل الله ، وبهذه الرسالة الاخيرة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فهو ايمان بئيس نحيس وليس ايمانا بالله! وترى الايمان يأمر أو ينهى حتى يصح هنا «بئسما»؟ الأمر هو الدافع كما النهي هو

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ١٣٠ قال الامام العسكري (عليه السلام) ... في الآية : عرضوا بشرب العجل الذي عبدوه حتى وصل ، ما شربوه ذلك الى قلوبهم ، وقال : ان بني إسرائيل لما رجع إليهم موسى وقد عبدوا العجل تلقوه بالرجوع عن ذلك فقال لهم موسى من الذي عبده منكم حتى انفذ فيه حكم الله خافوا من حكم الله الذي ينفذه فيهم فجحدوا ان يكونوا عبدوه وجعل كل واحد منهم يقول : انا لم اعبده وانما عبده غيري ووشى بعضهم ببعض فذلك ما حكى الله عن موسى من قوله للسامري (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) فأمره الله فبرده بالمبارد وأخذ سجالته فذرها في البحر العذب ثم قال لهم : «اشربوا منه فشربوا فكل من كان عبده اسود شفتاه وانفه فمن كان لم يعبده ابيض شفتاه وانفه فعند ذلك انفذ فيه حكم الله».

٦٣

المانع ، وهما أصل الأمر والنهي قوليا أم واقعيا ، فلا امر ولا نهي تكوينيا او تشريعيا إلّا بدافع أو مانع ، أم هما بدافع كتعبير أصح وأعمق.

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ

٦٤

لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ٩٤.

٦٥

فلأن اليهود زعموا أنفسهم شعب الله المختار وأبناءه : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (٢ : ١١١) دعوى خاوية خالية عن أي برهان ، لذلك يختصون بأنفسهم الدار الآخرة ، ولكن البراهين تترى على بطلانها ومنها (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم ، نقلة من هذه الحياة الظالمة المظلمة ، الضيقة الكدرة ، إلى دار لقاء الله : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٦٢ : ٦).

أترى أن تمني الموت هو من قضايا الايمان الخالص والدار الخالصة للموت من عند الله؟ والحياة الدنيا هي حياة الاستعداد للأخرى ، وهي مزرعة الآخرة! والتعرض للموت محرّم في شرعة الله! والفرار من بواعث الموت واجب في شرعة الله ، فكيف يصبح ـ إذا ـ تمني الموت من قضايا صدق القول إن لنا الدار الآخرة خالصة عند الله.

تمني الموت ليس هو ولا منه التعرض للموت ، فلا يتمنى ما بالإمكان تحصيله او التعرض له ، وإنما هو الترجي الصالح لأصلح الصالحين الذين هم من خلصاء الله والسابقين الى رضوانه ، وكما يروى عن علي (ع) «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امه» وسعن الصديقة الطاهرة عليها السلام : «اللهم عجل وفاتي سريعا» (١) ولأنهم موقنون بالسعادة الآتية ، راغبون في لقاء الله!.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٠٢ في الخصال عن أبي عبد الله (عليه السلام) سمعت أبي يحدث عن أبيه (عليهما السلام) ان رجلا قام الى امير المؤمنين (عليه السلام) فقال يا امير المؤمنين بما عرفت ربك؟ قال : بفسخ العزائم ـ الى ان قال ـ : فيما ذا أحببت لقاءه؟ قال : لما رأيته قد اختار لي دين ملائكته ورسله وأنبيائه علمت بان الذي اكرمني بهذا ليس ينساني فأجبت لقاءه. ـ

٦٦

ام وللذين يوقنون بتلك السعادة العظمى أطاعوا الله ام عصوا ، فما ذا تفيدهم ـ إذا ـ بقية الحياة الدنيا إلّا بعدا عنها وعن لقاء الله (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)!

ثم من سواهم لا يجوز لهم تمني الموت كما لا يجوز لهم التعرض للموت ، فان الموت لهم انقطاع عن حياة التحصيل ورجاء التلافي لما قصّروا ، او المزيد فيما قصروا عنه «ولأنا لا نأمن من وقوع التقصير فيما أمرنا به ونرجو في البقاء التلافي» (١).

وقد يجوز تمني الموت لمن لا يرجو في البقاء التلافي ، بل ومزيد العصيان ، أم هو موقن بذلك ، واليهود ـ فيما يدعون ـ هم القسم الثاني من الأربعة فليتمنوا الموت إن كانوا صادقين ، فإن النقلة من ضيق الحياة وضنك المعيشة الى سعتها الخاصة الخالصة دون اي شرط إلّا أنك إسرائيلي ، إن تمني تلك النقلة هي طبيعة الحال لأصحابها ، بل وذلك أدناها ، حيث الطمأنة المطلقة تقتضي التعرض للموت ، بل والانتحار.

إنهم يعبرون عن أنفسهم بما عبروا ، وعن المؤمنين بالناس ، تعبيرا ساقطا

__________________

ـ وفيه عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام) قال أتى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) رجل فقال له : ما لي لا أحب الموت؟ فقال له : ألك مال؟ قال : نعم ، قال : فقدمته؟ قال : لا ، قال : فمن ثم لا تحب الموت.

(١) في مجمع البيان قال امير المؤمنين (عليه السلام) ـ وهو يطوف بين الصفّين بصفّين في غلالة ـ شعار يلبس تحت الثوب الدرع ـ لما قال له الحسن ابنه (عليه السلام) ما هذا زيّ الحرب؟ فقال : يا بني إن أباك لا يبالي وقع على الموت ام وقع الموت عليه ، واما ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، ولكن ليقل : اللهم احيني ما دامت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ، فانما نهي تمني الموت لأنه يدل على الجزع ، والمأمور به الصبر وتفويض الأمور اليه ، ولان لا نأمن ...

٦٧

مسقطا لهم عن أية رحمة ربانية تشملهم ، والدار الآخرة خالصة لهم أنفسهم لا يشاركهم فيها هؤلاء الناس!.

فهنالك دعوا إلى تلك المباهلة ، كبرهان واقع على كذبهم بعد كل البراهين التي رفضوها :

ولقد أمر الرسول أن يقولها لهم فقال «إن كنتم في مقالتكم صادقين قولوا : اللهم أمتنا ، فو الذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلّا غص بريقه فمات مكانه فأبوا أن يفعلوا وكرهوا ما قال لهم فنزل (١) :

(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ٩٥.

وكيف يتمنونه وهم يخشون أن يستجيب الله لهم فيأخذهم من فورهم ، فهم قد خسروا الدنيا بالموت الذي طلبوه انقطاعا عن شهواتهم ، وخسروا الآخرة بالعمل السيء الذي قدموه!.

قد يتمنى المشرك او الملحد الموت لأسباب طارئة ، ولأنه لا يخاف بعد الموت ، ولكنهم (لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) لأنه نهاية شهواتهم وبداية بلياتهم بما قدموا (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أنهم لن يتمنوه ، بل هم أحرص الناس على حياة :

(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) ٩٦.

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٨٩ ـ اخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في هذه الآية : قل لهم يا محمد ان كانت لكم الدار الآخرة يعني الجنة كما زعمتم خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ يعني المؤمنين فتمنوا الموت ان كنتم صادقين انها لكم خالصة من دون المؤمنين فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

٦٨

هنا «حياة» منكّرة دون «الحياة» المعرّفة ، لمحة إلى أن حرصهم لا يخص الحياة الراقية المريحة المربحة ، بل هي مطلق الحياة ، ما تتسمى حياة ، مهما كانت أرذلها ، لأنها على أية حال أفضل من الحياة الأخرى بما قدمت لهم أنفسهم.

ف «الناس» في (أَحْرَصَ النَّاسِ) هم كل الناس دونما استثناء ، وحتى الذين أشركوا ، وكما يبيّنه : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي : وأحرص من الذين أشركوا ، لأنهم يخافون عما بعد الموت ما لا يخافه المشركون.

إجل إنها «حياة» أيّة حياة ، ملمّحا لها بذلك التنكير النكير الحقير ، حياة ديدان او حشرات ، وإنما «حياة» ثم لا شيء آخر ، الحياة الرزيلة التي لا يقبلها اي ذي حياة ، لا وحتى الذين أشركوا!.

فهم ـ رغم أنهم عارفون القدر المتعوّد من الحياة ـ يجتازونها إلى أعلى ما بالإمكان في تقديرهم : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) كسبا أكثر وأوسع من ملذات الحياة الدنيا ، ابتعادا أوفر عن عذاب الأخرى ، ولكنه (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) وكل آت قريب ، فحتى لو عمّر أحدهم الدنيا فليعذب اكثر واكثر مما لو انه لم يعمّر ، لأنه يزيد في تعميره الأكثر استحقاقا للعذاب أكثر ، فتعميره الكثير ـ إذا ـ يبوء الى العذاب الكثير! (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ).

واختصاص المشركين هنا من بين الناس لأنهم أحرصهم على حياة ، ولكن اليهود هم أحرص من أحرص الناس على حياة.

(يَوَدُّ أَحَدُهُمْ ...) كما يرجع إلى اليهود ، كذلك إلى الذين أشركوا ، ام هو راجع إليهم ، ثم اليهود يود أحدهم لو يعمر اكثر من ألف لأنهم أحرص منهم على حياة (١).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٨٩ عن ابن عباس في الآية قال هو قول الأعاجم إذا عطس أحدهم : زه هزار سال ـ يعني الف سنة.

٦٩

و «لو» هنا للتمني لا الاستحالة ، حيث سمعوا او رأوا من عمّر الف سنة او يزيد ، فلانه شاذ بعيد يتمنونه مزيدا في الشهوات.

أتراهم بعد ليس لهم تقليب الاقتراح في هذه المباهلة : إن كانت لكم المسلمين الدار الآخرة خالصة عند الله من دون الناس فتمنوا الموت ان كنتم صادقين ، ام ولترضوا ان نقتلكم عن بكرتكم تخلصا الى نعيم الجنة الخالصة عن هذه الدار المحفوفة بالبلاء؟.

كلّا! حيث الرسول والمسلمون معه لم يدّعوا لأنفسهم خالص الدار الآخرة دون شرط ، ف (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (٤ : ١٢٤).

فلم يدّعوا لأنفسهم خالص الدار الآخرة ، ولا دون شرط ولا دون الناس ، بل (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ثم منهم من يتمنّى الموت دون مقت للحياة ، بل هيمانا للقاء الله دون تعرض للقتل او الموت فانه محرم في شرعة الله ، بل تجب عليهم مقاتلة الكفار المضللين.

ومنهم من لا يتمناه بغية الحصول على استعداد أكثر للموت ، تحصيلا لمزيد الثواب ، وقضاء على مزيد العقاب ، فكيف ـ إذا ـ يقلب عليهم السؤال وهم ليسوا بمدعين دعواهم الخاوية الفوضى الجزاف؟

ثم (عِنْدَ اللهِ ـ خالِصَةً ـ مِنْ دُونِ النَّاسِ) هي ثالوث منحوس في دعواهم ، ف (عِنْدَ اللهِ) هي منزلة خاصة منقطعة النظير ، و «خالصة» هي الخلاص عن شريطة العمل الصالح ، والخلاص عن أي شوب من العقاب والخلاص عن شركاء ، و (مِنْ دُونِ النَّاسِ) اختصاص لهؤلاء الناس دون سائر

٧٠

الناس ، والقرآن طارد هذه الدعاوي الخاوية ، فكيف يقلب السؤال على أهله؟.

ثم في (لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) تحد سافر على هؤلاء المدعين ، وملحمة غيبية أن (لَنْ يَتَمَنَّوْهُ) وقد كان لهم أم لأحدهم أن يتمنوه تغلّبا في هذه المباهلة على الرسول ، ولكنهم لم يتمنوه ولن! تخوفا من وقوع الواقعة ، وذلك من قضايا المباهلة حين لا تنفع أية حجة ، وكما حصلت مرارا وتكرارا ومنها مباهلته (صلى الله عليه وآله وسلم) مع نصارى نجران.

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) ٩٧.

لقد عاد هؤلاء الحماقى الأنكاد ـ فيمن عادوا ـ جبريل ، لما نزّل القرآن على نبي غير إسرائيلي؟ ثم لماذا نزل عليه نكايات على أهل الكتاب؟ ولماذا نزل عليه بشارات التوراة وكتب الأنبياء بحقه؟ ولماذا يطلع محمدا على أسرارنا؟ وذلك ـ في الحق ـ كفر بالله الذي أرسله لما أرسل بما أرسل.

لقد قالوا للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حوار دار بينهم أنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نتابعك ، او نفارقك ، قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : وليي جبريل ولم يبعث الله نبيا قط إلّا هو وليه ، قالوا : فعندها نفارقك ، لو كان وليك سواه من الملائكة لاتبعناك وصدقناك ، قال : فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا : هو عدونا ، فانزل الله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) ـ إلى قوله ـ (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) «فعند ذلك باءوا بغضب على غضب» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٠٦ في العلل باسناده الى انس بن مالك عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) حديث طويل قال فيه لعبد الله بن سلام وقد سأله عن مسائل أخبرني بهن جبرئيل (عليه السلام) ـ

٧١

ومن عداءهم لجبريل أنهم ما أبقوا له ذكرا في كتابات الوحي إلّا أربعا تفلتت عنهم ، في «دانيال ٨ : ١٦ و ٩ : ٢١» من العهد العتيق ، ثم في «لوقا ١ : ١٩ و ٢٦» من العهد الجديد ، ثم لا نراه يذكر في الأسفار الخمسة التوراتية ولا في سائر كتابات العهدين ولا مرة واحدة ، وهو الملك العظيم ، حامل الوحي الى رسل الله ، لا يمكن ان يترك اسمه في هذه الكتب المذكورة فيها اسماء الكثير ممن هم دونه ام لا يحسبون بشيء!.

ثم المذكور فيما ذكر يعبر عنه ب «الرجل جبرائيل» (٩ : ٢١) مهما جاء في

__________________

ـ آنفا ، قال : هل أخبرك جبرئيل؟ قال : نعم قال : ذلك عدو اليهود من الملائكة ، قال : ثم قرأ هذه الآية ...

وفي الدر المنثور ١ : ٨٩ ـ أخرج الطيالسي والفرياني واحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن عباس قال : حضرت عصابة اليهود نبي الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقالوا يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلّا نبي ، قال : سلوني عما شئتم ولكن اجعلوا الى ذمة الله وما أخذ يعقوب على نبيه لئن انا حدثتكم شيئا فعرفتموه لتتابعني ، قالوا : فذلك لك ، قالوا اربع خلال نسألك عنها ، أخبرنا اي طعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل ان تنزل التوراة ، وأخبرنا كيف ماء الرجل من ماء المرأة وكيف الأنثى منه والذكر ، وأخبرنا كيف هذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة ، فأخذ عليهم عهد الله لئن أخبرتكم لتتابعني فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق ، قال : فانشدكم بالذي انزل التوراة هل تعلمون ان إسرائيل مرض مرضا طال سقمه فنذر نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب اليه وأحب الطعام اليه كان أحب الطعام اليه لحمان الإبل وأحب الشراب اليه ألبانها؟ فقالوا اللهم نعم ، فقال : اشهدوا ، قال : أنشدكم بالذي لا إله الّا هو هل تعلمون ان ماء الرجل ابيض غليظ وان ماء المرأة اصفر رقيق فأيهما على كان له الولد والشبه بإذن الله ، ان علا ماء الرجل كان ذكرا بإذن الله وان علا ماء المرأة كان أنثى بإذن الله؟ قالوا : اللهم نعم ، قال : اللهم اشهد قال فانشدكم بالذي انزل التوراة على موسى هل تعلمون ان النبي الأمي هذا تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا نعم ، قال : اللهم اشهد عليهم ، قالوا أنت الآن فحدثنا من وليك ...

٧٢

في «لوقا» : وقال إن جبرائيل الواقف قدام الله (١٩) و «أرسل جبرائيل الملاك من الله ...» (٢٦).

ولقد ذكر في القرآن بهذا الاسم مرات ثلاث ، هنا وفي الآية التالية لها وفي التحريم (٤) : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ).

وهو مذكور مرات عدة في الذكر الحكيم باسم «الروح القدس ـ الروح الأمين ـ الروح من أمره» ولاسمه عليه السلام صيغ سبع : جبريل ـ جبريل ـ جبرئيل ـ جبرائل ـ جبرائيل ـ جبرايل ـ جبرين (١) ، والأصح هو صيغة القرآن المتواترة «جبريل» المعربة عن الأصل العبراني «جبرائيل» وكأنها مركبة من «جابر ـ ايل».

وجابر : العبرانية : ـ بمعنى : «قدر ـ اقتدر ـ اشتد ـ تجبر ـ زاد ـ ساد ـ تقوى ـ تغلب ـ تفوق ـ أخضع» كما و «ايل» هو الله ، إذا ف «جبريل» هو قدرة الله وقدره واشتداده وتجبره وزيادته وسيادته وتغلبه وتفوقه وإخضاعه ، وكل هذه المعاني تناسب ساحة جبريل فانه مظهر لهذه الأسماء الحسنى الربانية تكوينا وتشريعا ، فإنه وسيط الوحي إلى رجالات الوحي ، ومن وسطاء التكوين ، وقد يصح تفسيره ب «عبد الله» (٢) ولأن العبودية الخاصة الخالصة لله تجعل العبد وسيطا بين الله وخلقه.

__________________

(١) الاولى هي القراءة المتواترة في كتب القرآن وهي قراءة سائر القراء والثانية : ابن كثير والثالثة : حمزة والكسائي وابو بكر عن عاصم ، ثم الصيغ الأربع الأخرى هي لغات فيها.

(٢) الدر المنثور ١ : ٩١ ـ اخرج الديلمي عن أبي أمامة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اسم جبريل عبد الله واسم ميكائيل عبيد الله واسم إسرافيل عبد الرحمن ، وكل شيء راجع الى «إيل» فهو معبد لله.

٧٣

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) لأنه نزل على قلبك ما نزّل (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) دون هواه ام هوى سواه (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) في أصل الوحي كسلسلة موصولة بين رسل الله ، وفي البشارات المحمدية ، ثم (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) بهذه الرسالة السامية ، إذا فلما ذا يعادى؟ لكنّه إسرائيل!.

«ويحك أجهلت أمر الله ، وما ذنب جبريل أن أطاع الله فيما يريده منكم ، أرأيتم ملك الموت أهو عدوكم وقد وكله بقبض أرواح الخلق ...» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٠٣ في الاحتجاج قال ابو محمد الحسن العسكري (عليهما السلام) : قال جابر بن عبد الله سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عبد الله بن صوريا غلام أعور يهودي ، تزعم اليهود انه أعلم بكتاب الله وعلوم أنبياءه ، عن مسائل كثيرة تعنّته فيها فأجابه عنها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بما لم يجد الى إنكار شيء منه سبيلا فقال له يا محمد! من يأتيك بهذه الأخبار عن الله تعالى؟ قال (صلّى الله عليه وآله وسلم) : جبريل ، فقال : لو كان غيره يأتيك بها لآمنت بك ، ولكن جبرئيل عدونا من بين الملائكة ، فلو كان ميكائيل او غيره سوى جبرئيل يأتيك بها لآمنت بك ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ولم اتخذتم جبرئيل عدوا؟ قال : لأنه ينزل بالبلاء او الشدة على بني إسرائيل ، ودفع دانيال عن قتل بخت نصر حتى قوي أمره وأهلك بني إسرائيل ، وكذلك كل بأس وشدة لا ينزلها إلا جبرئيل ، وميكائيل يأتينا بالرحمة ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ويحك أجهلت امر الله ... أرأيتم الآباء والأمهات إذا وجروا الأولاد الكريه لمصالحهم يجب أن يتخذهم أولادهم اعداء من اجل ذلك؟ لا! ولكنكم بالله جاهلون ، وعن حكمته غافلون ، أشهد ان جبرئيل وميكائيل بأمر الله عاملان ، وله مطيعان ، وانه لا يعادي أحدهما إلّا من عادى الآخر ، وانه من زعم انه يحب أحدهما ويبغض الآخر فقد كذب ، وكذلك محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام) أخوان كما ان جبرئيل وميكائيل اخوان ، فمن أحبهما فهو من اولياء الله ، ومن أبغضهما فهو من اعداء الله ، ومن أبغض أحدهما وزعم انه يحب الآخر فقد كذب وهما منه بريئان والله تعالى وملائكته وخيار خلقه منه برآء.

٧٤

(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) ٩٨.

فان عداء ملائكة الله ورسله وجبريل وميكال وأضرابهم عداء لله وذلك كفر بالله (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ).

إن الرسالة الملائكية والبشرية هي سلسلة موصولة بين الله وخلقه تكوينا وتشريعا ، فالكافر بعقد واحد من هذه السلسلة كافر بها كلّها ، والكافر بها كافر بالله ، وإذا كان كفر العداء لله (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ).

و «ميكال» معرب «ميكائيل» : من هو كمثل الله؟ استفهام إنكار على من يشبّه بالله ، وما أحلاه اسما لملك من ملائكة الله يحمل جانبا عظيما من توحيد الله!.

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) ٩٩.

آيات بينات الدلالة على أنها ربانية ، وبينات المدلول كما يناسب الفطرة والعقل والحاجية السلمية الإنسانية (وَما يَكْفُرُ بِها) كفرا وكفرانا (١) في أي حقل من بيّناتها (إِلَّا الْفاسِقُونَ) الخارجون عن قشر الإنسانية ولبّها ، والمتخلفون عن عقليتها وفطرتها ومصلحياتها.

و «الفاسقون» بتعريفها كأنها تعني المعروفين بالفسق بين الأمم الكتابية وسواها ، المتعرق فيهم الفسوق فإنهم «إسرائيل»!.

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ١٠٠.

__________________

(١) طالما الباء في الكفر تعدية وفي الكفران سببية او مصاحبة ، ان يكفر كفران بسبب الآيات او مصاحبتها.

٧٥

«عهدا» مع الله كما عاهد عليهم الله ام عاهدوه ، ام «عهدا» مع عباد الله (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) من قلة او ثلة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بالعهد والمعهود له ، ومن العهد الرباني الايمان بالرسول الأمي :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ١٠١.

هنا (كِتابَ اللهِ) المنبوذ ليس هو القرآن فحسب ، بل والتوراة وسائر كتابات الوحي ايضا ، حيث البشارات المحمدية فيها تترى بشأن القرآن ورسوله ، فنبذ القرآن نبذ لما بين يديه من كتاب ، (نَبَذَ فَرِيقٌ) وهم الفرقة المتعصبة المحرّفة (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنه رسول من عند الله وكتابه كتاب الله ، وهما معروفان لديهم وضح النهار في جل كتابات الرسالات أم كلّها.

ثم فريق ثان هم الأميون الذين لا يعلمون الكتاب إلّا أماني «نبذه» وهم لا يعلمون جهل التقليد المقصر ، ثم فريق ثالث هم القلة القليلة منهم صدقوه وآمنوا به وهم يعلمون فيعلمون.

و (فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) هنا تعريض عليهم ، أنهم على معرفتهم بوحي الكتاب وبشاراته بهذه الرسالة الأخيرة (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ)!

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ١٠٢

٧٦

إنها من أطول الآيات البينات بعد آية التداين ، يتيمة في مضمونها ككلّ ، لا نظيرة لها في القرآن كله ، حاملة حملة عنيفة على إتّباعهم ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان من الكفر وتعليم السحر وما انزل على الملكين ، فما هي مادة هذه التلاوة الكافرة الساحرة؟ وكيف أنزل السحر على الملكين؟ وكيف يفرّق به بين المرء وزوجه بإذن الله؟! وهل السحر هو فسق عملي ، وانه كفر بالله؟ فالساحر ـ أيّا كان ـ كافر؟!.

هؤلاء الحماقى الأنكاد ، النابذون كتاب الله وراء ظهورهم وهم يعلمون ، هم أولاء اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وقد تلت على ملكه كفرا وسحرا ، فما هي هنا «تتلوا على»؟ أهي القراءة؟ وصيغتها الصريحة «تقرء»! ام هي الإتّباع؟ وصيغتها الصالحة : «تتلوا ملك سليمان» كما (وَالشَّمْسِ وَضُحاها. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها)! ام هي الكذب على؟ ولفظها الصحيح : «تكذيب على»! قد تعني «تتلوا على» مثلث التلاوة ، قراءة على ملكه من شيطنات ، تجعل ملكه أمام السامعين ملك الشياطين ، واتباعا على (مُلْكِ سُلَيْمانَ) بعضهم البعض ضد ملكه ، وكذبا على ملك سليمان (١).

وقد تلوا على ملك سليمان ذلك الثالوث المنحوس ، نسبة له الى الكفر السلطوي الشركي كما نجده حرفا بحرف في العهد العتيق ، كما تلوا على ملكه السحر لعله ينقضه ، وكأن ملكه كان بسحر ، وكذبوا على ملكه أكاذيب يتبرأ عنها شلائطة الناس فضلا عن نبي كسليمان عليه السلام.

وإليكم طرفا مما تلوه على ملكه ودسّ في كتابات منسوبة الى أنبياء بني إسرائيل ، فشيطنة الوحي هذه خليطة بربانية الوحي التوراتية :

__________________

(١) فان «تلى على» تعني قرء ، ام كذب اعتبارا ان «على» للضرر ، وكذلك اتبع على ، حين تعني «على» الضرر لا التعدية حتى تختص بالقراءة.

٧٧

نموذج عارم عن الدس والتجديف في التوراة ضد سليمان :

«... أصبح سليمان في سلطانه مثريا للغاية فأخذ في السرف والترف والتعيش الممنوع أكيدا في (تث ١٧ : ١٦ ـ ١٧) ولقد هدده الله ووبخه في رؤياه الثانية ، فرغم أن يتعظ استكبر وتساهل في أمر ربه ونسي ربه» (١ ملوك ١ ـ ٩ و ٢ ـ أيام ٧ : ١١ ـ ٢٢) «أخذ يعاشر ويعاشق النساء الغريبات اللاتي منع الله من عشرتهن فنكح منهن سبعمائة بالعقد الدائم وثلاثمائة منقطعا ، فاجتذبن وأملن قلبه عن ربه إلى أنفسهم وهو على كهولته وشيخوخته نحى نحوهن وحذى حذوهن لحد بنى لكل واحدة منهن مذبحا للأوثان على الأتلال» (١ ملوك ١١ : ٨ وسخميا : ١٣ : ٢٦) «ولذلك غضب الله عليه وفرق ملكه من بعد جزاء كفره وفسوقه!.»

و «كثرة النساء محرمة على الملوك كما في التوراة (تث ١٧ : ١٧) وكذلك نكاح الوثنيات (خروج ٣٤ : ١٦ وتث ٧ : ٣ و ٤) فضلا عن الانحراف في ميولهن الشركية أن يبني على الأتلال معابد الأوثان!.»

«وهكذا انحرف في سلطانه وقدرته عن العدل وبالنسبة لرعيته حيث أجبرهم على خدمته وظلمهم في الخراجات الثقيلة المحرجة ، لحد اضطر المظلمون المحطمون أن يتظلموا إليه جهارا في جلوس يربعام» (١ ملوك ١٢ : ٣ ـ ٢٠) مقابل مع (اصموئيل ٨ : ١٠ ـ ١٨) هذه ولها نظائر يستحي القلم عن سطرها ك «إن داود الملك ولد سليمان من التي لأوريا» (متى ١ : ٦) وهي امرأة ذات بعل ، فقد جمع سليمان العهدين بين كل كفر عقائدي وعملي ، وهو معذلك نبي ملك! و «هو الذي بنى البيت المقدس فاتخذه الله ابنا له» (ايام ٢٨ : ٦ ـ ٧) وأمر ناتان النبي أن يدعوه : يديديا ـ اي : محبوب الرب (صموئيل ١٢ : ٢٥) وانتصبه الله خليفة أبيه داود قبل ولادته (١ ـ أيام

٧٨

٢٢ : ٩ ـ ١٠) فأصبح ملكا نبيا في العشرين من عمره (١ ملوك ٢ : ١٢ و ٣ : ٧ و ٢ ـ أيام : ١) ـ وتجلى له ربّه في رؤياه قائلا : سل ما شئت فسأله الحكمة فوهبها وزيادة هي الملك والسلطان (١ ملوك ٣ : ٤ ـ ٥ و ٢ ـ أيام ١ : ١٣ ـ مقابل مع : أمثال. : ١١ ـ ١٦ ومتى ٦ : ٣٣)!! ...

هذه الشطحات الزور والشيطنات الغرور هي مما (تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ...).

ثم القرآن يصفه بأجمل الأوصاف في سلطته الزمنية ، والروحية الرسالية كما في الأنعام والأنبياء والنمل وص وسواها ، مما يقل مثيله في المرسلين الملوك والملوك من المرسلين! (١).

وهنا (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) حالا من الشياطين ، تعني أنهم حال كفرهم ـ بما تلوا على ملك سليمان ـ يعلمون الناس السحر ، فهو من قضايا الكفر ، ولقد كان مما تلوه على ملكه أنه إنما ملك ما ملك بالسحر ، فلنملك نحن او نملّك بالسحر ، نكرانا لاصطفاء الله له في هذه السلطة الزمنية الى الروحية الرسالية! إذا فتعليم السحر وتعلمه كفر او على هامشه ، وأما (ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ...)؟.

لا شك أنه أنزل على هذين الملكين السحر ، ولكنه أنزل عليهما ما أنزل إبطالا لسحر الشياطين وليس تعليما للإفساد ، فكما أن تعليم الآية المعجزة لموسى إبطالا لسحر السحرة واجب رسالي ، فلتكن معرفة المعجزة واستعمالها إبطالا للسحر واجبا أم راجحا ايمانيا ، وكما القرآن ـ بأحرى ـ يبطل اي سحر!

ف «ما» في «ما أنزل» و (ما يُعَلِّمانِ) قد تكون نافية تعني : ما انزل

__________________

(١) راجع كتابنا «عقائدنا» في مقارنة سليمان القرآن والعهدين ٤٢٧ ـ ٤٤١.

٧٩

سحر الشياطين على الملكين وانما انزل عليهما مبطل السحر مهما كان سحرا ولكنه من نوع آخر يبطل الأوّل ، فهو ـ إذا ـ أقوى من الأوّل ، ثم و (وَما يُعَلِّمانِ) إبطاله (مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) امتحانا لكم وابتلاء (فَلا تَكْفُرْ) باستعماله في الباطل ، وانما في حق الإبطال لباطل سحر الشياطين (فَيَتَعَلَّمُونَ ...).

وكون «ما» الأولى موصولة لا يرجع إلى معنى صالح ، اللهم إلّا بحذف الواو عن (وَما يُعَلِّمانِ) فالمعنى : والسحر الذي أنزل على الملكين ما يعلمان به من أحد ... فإنه ليس إلّا إبطالا للسحر.

ذلك ، وأبعد منه عن المسرح كون «ما» فيها موصولة ، أو الاولى نافية والثانية موصولة ، مهما دخلت هذه الثلاث في حساب المليون ومأتين وستين ألف احتمالا بضرب كل المحتملات في كلّ من مقاطع الآية بعضها في البعض ، حيث الاكثرية الساحقة لا تناسب أدب اللفظ أم المعنى أم كليهما.

ثم هاروت وماروت وهما ملكان ، كانا يظهران ـ بأمر الله ـ بهيئة الإنسان ببابل فيعلّمون الناس المبتلين بسحر الشياطين سحرا أقوى منه يبطله (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) سحرهما النازل عليهما إلا بحجة رادعة قارعة : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) ولكنهم كانوا يبدّلون الحسن سوء والخير شرا ككل من يستعملون نعمة الله في نقمة حيث يبدلونها نعمة (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) ف «يفرقون به ـ دون ـ يفرق به» تلمح أن ذلك السحر كان لإبطال التفرق ، وكما يأتي منه التفريق ايضا حسب مختلف استعمالاته ، كما اللسان القادر على الإفصاح قد يوفق بين المتخاصمين وأخرى يفرق بين المتحابين (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١١٤ في الاحتجاج للطبرسي عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل وفيه قال السائل له : فمن أين علم الشياطين السحر؟ قال : من حيث عرف الأطباء الطب ، بعضه ـ

٨٠