الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٨

الصالحة والعمل غير الصالح ، ام يحسن في وجه واحد ، عقيدة او عملا ولا يحسن في الآخر ، فهو ايضا غير محسن ، إذا (وَهُوَ مُحْسِنٌ) يعم احسان وجهي الباطن والظاهر لله دون اختصاص بوجه ، ام ترك الإحسان في إسلام الوجه.

فلا بد ـ إذا ـ من إحسان وجه العلم والعقيدة والنية وسائر الطوية ، إلى احسان وجه الأعمال ، المنبثقة من الوجه الأول.

«بلى» هذا هو كفيل الجنة ، دون أية جنسية او طائفية او عنصرية أو إقليمية في ذلك الإسلام ، فانما الإسلام المحسن لا سواه ، سواء أكان إسلاما في شرعة نوح وإبراهيم ، أم موسى وعيسى ، ام محمد صلوات الله عليهم أجمعين ، بل وإسلام التوحيد المزيج ، أم وغير الكتابي ما دام صاحبه مسلما وكما يقول الله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢ : ٦٢) وهم كلهم موحدون ، بين مسلم وهود ونصارى ـ وهم كتابيون ـ أم عوان وهم الصابئون ، ام وموحد غير كتابي كالمجوس : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) (٢٢ : ١٧) فما لم يدخل فيهم (الَّذِينَ أَشْرَكُوا) كان «لهم (أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ثم إذ دخلوا فيهم (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ)!.

اجل (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (٣ : ١١٥) «بلى» انما هي حكمة واحدة ثم «لا وكلا»! (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) لا للأمنيات والهوسات الجهنمية ، إنما «لله» ثم (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في إسلام وجهه ، يسلمه لله كما أمر الله ، مهما كان

١٠١

قاصرا دون تعمد ولا بطّال أو متبتل في شرعة الله (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) حيث إن إسلام الوجه لله محسنا هو العروة الوثقى ، مصدرا لكل خيرات الإيمان مهما اختلفت مراتبها بمراتبه حسب مختلف الحالات والاستعدادات : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ...) (٤ : ١٢٥).

فالمسلم الذي يسلم وجهه لله محسنا ، له اجره عند ربه ، والكتابي الذي يسلم وجهه لله محسنا له أجره عند ربه ، ف (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٤ : ١٢٣).

اجل وانها ضابطة ضابطة كلّ التخلفات والطاعات دونما فوضى جزاف ، ضابطة في طرفي السلب والإيجاب : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

هذا الحبيس بخطيئته المحيطة به ، فهو أعزل عن كل وجهة وواجهة ربانية ، إلّا وجهات الهوى الهاوية ، ثم (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) فأخلص ذاته وكل تعلقاته في وجهاته وواجهاته لله (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في إسلامه (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ثم بينهما عوان متوسطات ولا يظلمون نقيرا.

هذا ـ ثم نرى بين اليهود والنصارى أنفسهم تناحرا في الكيان وتهافتا في سند الأمان :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ١١٣.

١٠٢

تلك هي قالة كلّ من أهل الكتابين مناحرا لواقع الحق في البين (لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) من الحق ولا حق من الجنة ، كما (لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) من الحق ولا حق من الجنة (١) (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) توراة وانجيلا ، القائلان قول الحق ، وأنه الايمان والعمل الصالح ، دون طائفية قاحلة وعنصرية جاهلة «كذلك» البعيد عن ميزان الحق (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) وهم الأميون الذين لا يعلمون الكتاب إلّا أماني وإن هم إلّا يظنون ، والمشركون الناكرون لكتاب الوحي قالوا (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) رغم الفرق الفارق بين حكم الكتاب واللّاكتاب ، فهم نزّلوا أنفسهم منزلة الذين لا يعلمون ، تجاهلا بحق الكتاب لأهل الكتاب ، أن ليسوا سواء مع من لا يدين بكتاب (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أيا كان مما حكم به الكتاب وحيا أم حرفوه عن جهات أشراعه.

فحين يتقاذف اهل الكتاب فيما بينهم ـ وهم يتلون الكتاب ـ كيف يرجى من الذين لا يعلمون ألّا يقذفوهم أنهم ـ ككل ـ ليسوا على شيء؟ وقد قذفوا كل أهل الكتاب ـ بمن فيهم المسلمون ـ انهم ليسوا على شيء!.

فليوحد اهل الكتاب كلمتهم على حق لهم أم حقايق ، كيلا يرفضهم المشركون بما يتقاذفون فهم سواء : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٣ : ٦٤) ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٤ : ٧ روي ان وفد نجران لما قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت اليهود : ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى (عليه السلام) والإنجيل ، وقالت النصارى لهم نحوه وكفروا بموسى والتوراة.

١٠٣

كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٥ : ٦٩).

ولندرس هنا نحن المسلمين ـ وبأحرى من غيرنا ـ ألّا ننجرف في منجرفات الخلافات العارمة بين الفرق الإسلامية ، فكلّ يرمي أصحابه في الشرعة الواحدة أنهم ليسوا على شيء ، ولقد سمعت مغفلا من إخواننا في المدينة المنورة ، يسمى عميد الجامعة الإسلامية فيها يقول : ان الشيعة الرفضة شر من اليهود ، كما سمعت مغفلا آخر منّا في مكان آخر يقول : إن الفلسطينيين شر من اليهود! (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا يَعْقِلُونَ)؟!

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) ١١٤.

نرى (مَنْ أَظْلَمُ) ـ الدالة على قمة الظلم ـ هنا وفي ثلاث صيغ اخرى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) (٢ : ١٤٠) ـ (... مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) (٦ : ٢١) ـ (... مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) (٦ : ١٥٧) مما يدل على أن هذه الأربع أظلم الظلم على النفس والحق وعلى الآخرين ، وعلّها خاصة بالمظالم العملية لا والعقائدية.

وليس يختص بالذين منعوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المسجد الحرام ان يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ـ لمكان الجمع ـ مهما كان أصدق مصاديقه ممنوعا وهو الرسول وممنوعا عنه وهو المسجد الحرام ، وممنوعا منه وهو ذكر الله فيه (١).

__________________

(١) وبمناسبة الآيات السابقة المنددة باليهود قد تعم اليهود ، فقد كانوا يمنعون المسلمين عن الصلاة الى ـ

١٠٤

(أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ـ وَسَعى فِي خَرابِها) هما يحدّدان أظلم المنع ، الناحيان منحى الصد عن سبيل الله ، وأن يترك ذكر اسم الله ، وهم ـ بطبيعة الحال ـ المشركون والملحدون امّن نحى منحاهم في منعهم وسعيهم.

مساجد الله هي المختصة بذكر اسم الله فكيف يمنع ان يذكر فيها اسم الله؟ وانما تعمر بذكر اسم الله والدعوة فيها الى الله فكيف يسعى في خرابها في حقل الذكر؟ ولا يسعى في خرابها إلّا المكذبون بالله وآياته.

فكم من ساع لعمران مساجد الله في بنيانها وهو ساع في خرابها من حيث أنها مساجد الله ، ويمنع ان يذكر فيها اسم الله ، ولا فارق بينه وبين من يهدم بنيانها ، حيث المعني من خرابها تهديمها من حيث انها مساجد الله ومحال ذكر اسم الله.

«أولئك» البعيدون عن الله (ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) حين كانوا أذلّاء صغارا ، كما (ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) حين كانوا أعزة وكبارا ، فان شرعة الحق لا تسمع لهم أن يدخلوها ، وعلى اهل الحق ألّا يسمحوا لهم أن يدخلوها ، إذا ف «ما كان» نهي عن ان يدخلوها على أية حال ، وقد صرح المنع بالنسبة للمشركين : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ...).

(لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) في شرعة الحق وميزانه ، ومنه عدم السماح لدخولهم فيها (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) لا أعظم منه إذ لا أظلم منهم ، وانما يقدر العذاب بقدر الظلم.

__________________

ـ المسجد الحرام بعد تحويل القبلة ، ام وسعوا في تهديم الكعبة وما استطاعوا.

كما وتعم هدم البيت المقدس بواسطة بخت النصر وسواه من الطغاة ، ام اي منع من اي مسجد او مسجد او سجدة وتهديم اي منها طول زمن التكليف على مدار الرسالات الإلهية.

١٠٥

وتعني (مَساجِدَ اللهِ) اضافة الى محال السجدة : المساجد ـ نفس السجدة وأزمنتها ، اعتبارا أن «مساجد» جمع لمثلث المسجد والمسجد ، اسم مكان وزمان ومصدرا ميميّا ، إذا فهو المنع عن عبادة الله في أصلها وفي أزمنتها وأمكنتها ، مهما اختصت (أَنْ يَدْخُلُوها) بأمكنتها.

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) ١١٥.

لقد تطمئن هذه الآية المؤمنين أنهم إن منعوا عن مساجد لله ، فكل الأرض مساجد لله ، و (الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) بما هما الجهتان الأصيلتان تشملان كل الجهات (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) وجوهكم الى الله في مساجد وسواها (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) إذ لا يختص وجهه بالمساجد مهما كانت أفضل من سائر بقاع الأرض ، ولا يعني وجه الله هنا إلا المتوجّه اليه في العبادة والدعاء ، والوجه ـ ككل ـ هو ما يواجه الشيء او يواجه به ، وكل الكائنات مواجهة ربّهم بكلّ الوجهات والوجوه التكوينية ، وهو مواجه لهم فيها ، وكذلك التشريعية لمن هو متشرع بشرعة من الله.

فليست الآية لتعني ان القبلة الخاصة ساقطة عن وجوب الاستقبال إليها في الصلوات ، بل هي ـ بمناسبة آية المنع عن المساجد ـ توسعة في أمكنة السجدة لله وقد يشهد له «أينما» دون «إلى اين» وليس فرض القبلة تضييقا لدائرة وجه الله ، إنما هو مصلحة جماعية وحدويّة للجماعة المسلمة ان يوجهوا وجوههم إليها لوجه الله الذي ليس له زمان ولا مكان ، فكما أن الوجهة المعرفية والعقائدية ثم العملية للمسلمين واحدة ، فلتكن قبلتهم في صلاتهم ـ كذلك ـ واحدة ، كشعيرة ظاهرة من مشاعر الوحدة ، أم إن تولي الوجه إلى الله يعم الصلاة وسواها من وجوه الاتجاه الى الله ، وشرط القبلة خاص بالصلوات بدليل

١٠٦

خاص ، وهنا ايضا يسقط شرطها عند الضرورة ، فهي ـ إذا ـ ضابطة عامة لكل الاتجاهات الى الله صلاة واحدة وصلات واحدة (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ، في مساجد الله وسواها ، الى القبلة وسواها ، مهما كانت القبلة شرطا مصلحيا في قسم من الاتجاهات الى الله (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) الاتجاهات «عليم» بالمضايقات والضرورات التي تمنعكم عن مساجده ، ام عن القبلة.

فإذا صلى لغير القبلة إذ لا يعرفها ولا يسطع ، ثم تبين له أنه صلاها الى غير القبلة أعادها ما لم يفت الوقت وكانت القبلة خلفه ولا يعيدها إذا فات او كانت بين المشرق والمغرب (١).

__________________

(١) تدل عليه صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إذا صليت وأنت على غير القبلة واستبان لك انك صليت وأنت على غير القبلة وأنت في وقت فأعد وان فاتك الوقت فلا تعد ، أقول : وقد خصص ذلك بما كانت القبلة على ظهره في صحاح عدة. وفي التهذيب عن محمد بن الحصين قال كتبت الى عبد صالح : الرجل يصلي في غيم في فلات من الأرض ولا يعرف القبلة فيصلي حتى فرغ من صلاته بدت له الشمس فإذا هو صلى لغير القبلة يعتد بصلاته ام يعيدها؟ فكتب يعيد ما لم يفت الوقت او لم يعلم ان الله يقول ـ وقوله الحق ـ فأينما تولوا أنتم وجه الله ، وفي تفسير العياشي عن الباقر (عليه السلام) في الآية قال (عليه السلام) انزل الله هذه الآية في التطوع خاصة فأينما تولوا فثم وجه الله ان الله واسع عليم ، وصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ايمانا على راحلته أينما توجهت به حين خرج الى الخيبر وحين رجع من مكة وجعل الكعبة خلف ظهره.

أقول : هذا الإطلاق يناسب التطوع كأصل كسائر الاتجاهات غير الواجب فيها الاستقبال الى القبلة وكما يناسب الفرض عند الضرورات ، وهو على آية خاص مخصوص بغير فرض الصلاة ، ام مطلق على الوجه الاول في (فَأَيْنَما تُوَلُّوا ...).

وفي الدر المنثور ١ : ١٠٩ ـ اخرج البخاري والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنمار يصلي على راحلته متوجها قبل المشرق تطوعا ، وعنه ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي على راحلته قبل المشرق فإذا أراد ان يصلي المكتوبة نزل واستقبل القبلة وصلى.

١٠٧

وعلى أية حال فالآية ضابطة تعم الكون كله لأمكنة الصلاة ، واتجاه المصلي فيها ، مهما خصت في خاصة الموارد بنص الكتاب او السنة ، وهي ما أمكن الاتجاه فيه الى القبلة حيث الأمر بتولي الوجوه شطر المسجد الحرام في آيته يخص المتمكن ، ثم تعم غيره (فَأَيْنَما تُوَلُّوا ...).

وقد تكون صلتها بالآية السابقة ان اليهود كانوا يعترضون على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين هامّة تحويل القبلة من القدس الى المسجد الحرام ، وان صلاتهم ـ إذا ـ باطلة إذ لا يتجه إليهم ربهم إلّا الى القبلة التي كانوا عليها ، فرد الله عليهم بما رد ، ان له تحويل القبلة (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (١) وطبعا كما يأمر الله.

__________________

ـ وفيه عن عامر بن ربيعة قال كنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا فيصلي فيه فلما أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة فقلنا يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة فأنزل الله (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ...) فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم) مضت صلاتكم ، وفيه اخرج الدارقطني وابن مردويه والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة لم نعرف القبلة فقالت طائفة منا القبلة هاهنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطا وقال بعضنا القبلة هاهنا قبل الجنوب فصلوا وخطوا خطا فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسكت فأنزل الله ، ولله المشرق والمغرب.

أقول : وقد استفاض الحديث عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأئمة اهل بيته (عليهم السلام) ان «بين المشرق والمغرب قبلة» وطبعا هذه التوسعة لمن لا يعرف القبلة ولا يستطيع ان يصلي مرات الى جهات ، او تأكد من القبلة وهو خاطئ وقد خرج الوقت.

(١) نور الثقلين ١ : ١١٨ في الاحتجاج للطبرسي قال ابو محمد (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقوم من اليهود : او ليس قد ألزمكم في الشتاء ان تحترزوا من البرد بالثياب الغليظة وألزمكم به في الصيف ان تحترزوا من الحر فبدا له في الصيف حين أمركم بخلاف ما أمركم ـ

١٠٨

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)

١٠٩

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) ١١٦.

«وقالوا» كل من قالوا من مختلف صنوف المشركين واليهود والنصارى (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) وظاهر الاتخاذ هنا هو التبنّي و «سبحانه» أن يتبنىّ ولماذا؟ ألكي يكون أزرا له ومعينا؟ ولا يحتاج الى أزر ولا معين! (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكية حقيقية ، فما ذا يفيده اتخاذ ولد؟ ثم و (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) : مطيعون لسلطته التكوينية وخاضعون ، فما هو دور اتخاذ الولد ـ لو أمكن ـ لربنا؟ وهو مستحيل في نفس الذات!.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ١١٧.

الخلق البديع هو ما ليس له مثال يحتذى ، فكما المادة الأولية لا مثال لها قبلها ، كذلك ولائدها المتطورة من سموات والأرض ، فإنها خلقت من غير مثال ، والولد ـ متّخذا او حقيقيا ـ له مثال على أية حال ، فالوالد بأجزائه الروحية والبدنية مثال للولد المنفصل عنه ، فليس بديعا منه و «ان الله عز وجل ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله فابتدع السموات والأرض ولم يكن قبلهن سماوات ولا أرضون ...» (١).

__________________

ـ به في الشتاء؟ فقالوا : لا فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : فكذالكم الله تعبدكم في وقت بصلاح يعلمه بشيء ثم تعبدكم في وقت آخر لصلاح آخر يعلمه في شيء آخر فإذا أطعتم الله في الحالتين استحققتم ثوابه فانزل الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ...) يعني : إذا توجهتم بامره فثم الوجه الذي تقصدون منه الله وتأملون ثوابه.

(١) نور الثقلين ١ : ١١٩ في اصول الكافي بسند عن سدير الصيرفي قال : سمعت حمران بن أعين ـ

١١٠

والمتبنيّ غير ولده يتبنّاه بمثال له من أولاد آخرين ، وهو في الحالتين بحاجة اليه ف (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) برهان اوّل على أنه تعالى «سبحانه» من اتخاذ الولد فضلا عن أن يلد ، ثم (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) برهان ثان على أنه لم يلد ولن يلد ، وعلى هامشه استحالة اتخاذه ولدا.

(وَإِذا قَضى أَمْراً) فليس ليلده او يتخذه (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقوله فعله!.

والقضاء هنا يعني ارادة التكوين «فإرادته للفعل إحداثه لا غير ذلك لأنه لا يروي ولا يهمّ ولا يفكر وهذه الصفات منفية عنه وهي من صفات الخلق ، فإرادة الله هي الفعل لا غير ذلك ، يقول له كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف لذلك كما أنه لا كيف له» (١).

فقضاء أمره في الخلق الأوّل خلقه لا من شيء ، ثم في سائر الخلق خلقه مما خلقه ، وفي كلا الخلقين ليس منه إلّا الإرادة ، دون حاجة الى ما يحتاجه خلقه من محاولات ومساعدات.

ومن شؤون اتخاذ الولد لله سبحانه خرافة وحدة حقيقة الوجود ـ الإغريقية ، التي نشبت في الفلسفة الإسلامية وترسبت فيها ، فإن الفلسفة الإسلامية ـ ومع الأسى ـ تأثرت بأصداء الفلسفة الإغريقية في أصول لها وهذه منها ، والبراهين العقلية ونصوص الكتاب والسنة معسكرة على أن الخلق غير الخالق فإنه ليس

__________________

ـ يسأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أما تسمع لقوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ).

(١) تفسير البرهان ١ : ١٤٦ عن الكافي عن صفوان بن يحيى قال قلت لابي عبد الله (عليه السلام) أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق ، فقال : الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو بعد ذلك من الفعل ، وأما من الله فإرادته.

١١١

كمثله شيء ، باين عن خلقه وخلقه باين منه ، لا هو في خلقه ولا خلقه فيه ، فليس الكون إشعاء ذاتيا من خالق الكون فانه ولادة وليس خلقا بديعا ، ولا هو صورة مرئية لكونه أو تجل منه ، فان هذه ولادة مهما اختلفت صورها ، تبدلا للخالق ـ بكله او جزء منه او مرتبة من كيانه ـ الى المخلوق ، حيث الولادة ـ ككل ـ هي التبدل ـ ككل ـ سبحانه وتعالى عما يشركون.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ١١٨.

فلقد كذب الله وشتمه من اتخذ له ولدا وكما يروي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الله : «كذبني ابن آدم ولم ينبغ له أن يكذبني وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني ، أما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس اوّل الخلق بأهون علي من إعادته ، واما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا وأنا الله الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» (١).

(الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) علّهم هنا هم المشركون المنقطعون عن وحي السماء ، أم وكل المجاهيل في معرفة الله ووحيه ، فقالتهم الأولى : (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) لو أنه يكلم بشرا كما يدعيه محمد والمرسلون قبله ، فلما ذا هذه

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٠٩ ـ اخرج البخاري وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول الله : ... وفيه عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا يشرك به وهو يرزقهم ويعافيهم.

وفي نور الثقلين ١ : ١١٩ في العلل باسناده الى سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لم يخلق الله شجرة إلّا ولها ثمر تؤكل فلما قال الناس : اتخذ الله ولدا ـ ذهب نصف ثمرها ، فلما اتخذوا مع الله ولدا شاك الشجر.

١١٢

التكلّفات بوساطات الوحي ، المعرقلة مسير الكثير ومصيرهم ، فلو أنه كلمنا دون وسيط لكنا مؤمنين (١) ، والثانية كتنزل التنازل عن الأولى : (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) كما أرسل الأولون ، وما نقترحه عليه من آية؟.

«كذلك» البعيد البعيد (قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هؤلاء (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) على مدار الزمن الرسالي (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) المقلوبة كلمة واحدة في القالة الأولى ، وطلبا لما يشتهون من آيات الرسالة في الثانية ، والجواب كلمة واحدة (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ) الرسالية في كل أدوارها (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) بها فمن لا يوقن بآيات الله إذا جاءت ، لا تتبين له آية ، وحتى لو كلمه الله ، وكما كلم الله قائدهم الشيطان الرجيم بما كلم ، فرد عليه وإبليس عن أمره إلى هواه!.

وتراهم كيف يصدقون كلام الله لو أنه كلمهم الله ، وليس ليريهم ذاته ، ثم لا يتم الإختيار لو أن الله أوحى الى كلّ ما يوحى! : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها).

فالذي يجد رياحة اليقين وراحته في قلبه ، مفتوحا الى آياته بمنافذه ، يجد في آيات الله مصداق إيقانه وإيمانه ، فليست الآيات لتنشئ اليقين بأنفسها ، وإنما ينشئ في قلوب صافية ضافية ، مهما كانت الآيات بعيدة الدلالة في مقياس الآخرين.

ولقد أصبحت كفار اليهود والنصارى ، الناكرون لهذه الرسالة السامية ،

__________________

(١) المصدر ١١٠ عن ابن عباس قال قال رافع بن حريملة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يا محمد! ان كنت رسولا من الله كما تقول فقل لله فليكلمنا حتى نسمع كلامه فانزل الله في ذلك (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ...) قال : هم كفار العرب (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) قال : هلا يكلمنا الله (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني اليهود والنصارى وغيرهم (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم.

١١٣

متشابهي القلوب مع الذين لا يعلمون ، بل وأنكر وأنكى وهم يتلون الكتاب ، عارفين طبيعة الوحي وشاكلته ، فإذا جاءهم الوحي القمة أنكروه قضية العصبية القومية والعنصرية.

لقد تشابهت قلوب المشركين الذين لا يعلمون ، وأهل الكتاب الذين يعلمون ، إذ أصبحت مقلوبة عن الهدى ، مليئة بالهوى ، فابتليت بأمثال هذه الأسؤلة الجاهلة.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) ١١٩.

«إنّا» بجمعية الصفات الربانية (أَرْسَلْناكَ) بجمعية العطيات جمعية الميّزات الرسالية (بَشِيراً وَنَذِيراً) مزودا ببينات الآيات ، فإذا حققت البشارة والنذارة كما حقّت (لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) الرافضين لآياتك ودعواتك الرسالية ، فلا تحزن عليهم لو لا يؤمنون ، ولا على نفسك لأنهم لا يؤمنون ، فلست أنت ـ كرسول بشير نذير ـ مسئولا عن أصحاب الجحيم ، لماذا لم يؤمنوا؟ وإنما تسأل لو كنت مقصرا في دعوتك ، على تقصيرهم في قبولها والإقبال إليها ، وقد بلغت القمة في دعوتك ، ثم لا عليك أن يصبحوا من أصحاب الجحيم.

(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ١٢٠.

قد تلمح (لَنْ تَرْضى) أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدأب محاولا ترضية اليهود والنصارى حتى يؤمنوا ، فآيسه الله أولا بإحالة رضاهم إلّا أن يتحول إلى

١١٤

ملتهم ، وثانيا (لَئِنِ اتَّبَعْتَ ...) بتهديد شديد ، فليس الحق ليقبل أنصاف حلول ولا جعل البلد بلدين ، او الشطر شطرين ، ف «قل» لهؤلاء الحماقى الأنكاد ، المحاولين لتحويلك إلى ملتهم (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) وليست هي الهوى ، فامض في صراط الحق ، وامش في دعوتك صارحة ناصحة ناصعة ، ولا تتحول عن هدى الله قيد شعرة ، وان وعدوك ـ إذا ـ اتباعك في ملة الحق ، فليس الباطل ـ أيّا كان ـ ليتذرّع به إلى الحق ، فإما حقا وإما باطلا ولا عوان في ملة الحق!.

وكيف تتبع أهواءهم ليتبعوك وهم عارفوك بما عرّفهم إياك في كتب السماء :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) ١٢١.

هناك باطل تلاوة الكتاب ، كالتي للأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلّا أماني وإن هم إلّا يظنون ، والتي للمحرفين الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم ، فهم لا يؤمنون بالقرآن ونبيه وهم يعلمون.

ثم الذين (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) كما أنزله الله وقصده ، ايمانا به خالصا دونما شائبة (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) لا سواهم منهم (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ) شركية وكتابية فإن تلاوة كتاب الوحي تحمل على الإيمان بالقرآن من زاويتين اثنتين ، زاوية الأنس بالوحي فوحي القرآن آنس ، وأخرى هي البشارات القرآنية المحمدية في كتابات الوحي ، وفي كلّ منهما كفاية للإيمان بهذه الرسالة السامية.

ولأن التلاوة ـ لا سيما المجردة عن حروف جارّة كما هنا ـ هي المتابعة ،

١١٥

فهي هنا «يتبعونه حق اتباعه» (١) وما حقّ اتباعه إلّا بعد حق معرفته وتدبره إيمانا به ف «إنما هو تدبر آياته والعمل بأحكامه» (٢) والقصر هنا في (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) نسبي في الحقل الكتابي ، إذ يؤمن به من غير اهل الكتاب من يتحرون عن الحق.

ثم (آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) كما تعني أهل الكتابين حيث يؤمنون بالقرآن على ضوء تلاوة كتبهم حق التلاوة ، كذلك تعني أهل القرآن حيث يزيدهم حقّ تلاوته إيمانا به.

كما (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) تعم كفار اهل الكتاب والمشركين ، وكذلك كفار المسلمين وهم الذين لا يتلونه حق تلاوته «فأولئك» ككل (هُمُ الْخاسِرُونَ) إذ خسروا الحق وهم على نبعته.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ١٢٢ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١١١ ـ اخرج الخطيب في كتاب الرواة عن مالك عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية قال : يتبعونه حق اتباعه.

(٢) تفسير بيان السعادة ١ : ١٤١ نسب الى الباقر (عليه السلام) انه قال : يتلون آياته ويتفقهون فيه ويعملون بأحكامه ويرجون وعده ويخافون وعيده ويعتبرون بقصصه ويأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه ، ما هو والله حفظ آياته ودرس حروفه وتلاوة سوره ، ودرس أعشاره وأخماسه ، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده ، انما هو ... قال الله تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ، فالذين آتاهم الكتاب وشرفهم بذلك يحزنهم ترك الرعاية ، والقصور والتقصير في مراعاته ، والذين آتاهم الشيطان الكتاب أو أخذوه من الآباء بحسب ما اعتادوه او تلفقوه من الرجال بحسب ما تدارسوه فإنهم يعجبهم حفظ الرواية ولا يبالون بترك الرعاية.

وفي ارشاد الديلمي عن الصادق (عليه السلام) مثله باختلاف يسير ، مثل «يرتلون» بدلا عن «يتلون» وليس فيه ذيله من قال الله

١١٦

تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ١٢٣.

ذلك هو الهتاف الأخير ببني إسرائيل بعد طويل المجابهة في الحجاج على طول اللجاج ، وهم على أبواب الإهمال والإغفال والتدجيل والإدغال ، متورطين في التجرد النهائي عن شرف الأمانة العظمى بالنسبة للرسالة الأخيرة الكبرى.

يذكّرهم هنا مرة أخرى ب (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) بشرف الرسالات والكتابات الإسرائيلية.

ثم ويحذّرهم (يَوْماً لا تَجْزِي) وتكفي (نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) على الإطلاق في نفس او شيء سواها.

(وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ) بديل (وَلا شَفاعَةٌ) ككفيل (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) بعد هذا المثلث السليب بايّ من الأساليب ، فلا كافى ولا عدل ولا شفاعة ولا نصرة ، إلا كفاية الإيمان ، وعدل عمل الإيمان ، وشفاعة الصالحات إيمانا وعملا ، ونصرة الله ـ إذا ـ فيما يتبقّى من لمم وعصيانات.

(وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (١٢٣) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)

١١٧

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ

١١٨

فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ

١١٩

فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤١)

قطاعات من هذه السورة مضت بشأن الجدال مع أهل الكتاب ، أكثرها مع بني إسرائيل ، منذ موسى إلى محمد عليهما السلام ، بإشارات إلى المشركين بما يلتقون فيها مع أهل الكتابين.

وفي هذه الآيات رجعة الى مرحلة تاريخية أسبق من عهد موسى (ع) إلى ابراهيم (ع) فإنه الأصل الذي يتبنّاه أهل الكتابين فيما يدعون ، كما وأن قريشا كانوا إليه يرجعون ، فهو المحور المرجع لذلك المثلث الكتابي والشركي ،

١٢٠