الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

والفساد ، وبين ربح الخداع وضرره يكفيه الشعور ، فهم هناك وهنالك (لا يَشْعُرُونَ) وهم هنا (لا يَعْلَمُونَ) مدعين كل علم وشعور! ناسبين إلى هداة العقول أنهم سفهاء : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ ... قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٧ : ٦٧) فلأنه يحمل رسالة الله ، وهم حاملون رسالة الشيطان ، يرونهم عقلاء ، ثم العقلاء هم سفهاء! كلمات فقدت معانيها ، كما هم فقدوا عقولهم الى أحلامهم ، ومشاعرهم الى أهوائهم! (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) فلا سفيه مقصرا إلّا إياهم ، ولا عاقل حقيقا إلا هو مؤمن ، فان الايمان من حصائل العقل ، حيث «هم» هنا دليل الحصر ، أن السفاهة المقصرة محصورة فيهم.

فمتى علم السفيه أنه سفيه ، وهو بحاجة الى عقل راجح وعلم رامح؟ ولكنه مقصّر دون سفهه إذ قصر في عقله فلم يستعمله لما يحقّ حتى خفّ عقله ، والله (يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

(٦) (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٥).

باب سادس من أبواب جحيم المنافقين : (آمَنَّا ... إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ).

فهؤلاء الأوغاد المناكيد ليسوا ليقفوا عند حد الكذب والخداع والسفاهة بالادعاء الجوفاء ، بل ويتترّسون بالتآمر في الظلام خفية ، خيفة من المؤمنين ، ومغبّة جلب الكافرين ، ثعالب مكارين لا أسد يسفرون عن وجوههم في الميادين ، وهكذا يكون دوما دور الساسة الشياطين!.

٢٠١

إنهم في لقاءاتهم ذووا وجوه ، ففي لقاءهم المؤمنين (قالُوا آمَنَّا) ليخدعوهم ، وليس إلّا لقاء عابرا دون خلوة واطمئنان (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا) معتذرين إليهم (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) ليست لقاءنا المؤمنين إلّا استهزاء وتجسسا دون تحسّس لهم ، إلّا عليهم ولكم.

فشياطينهم : رؤوس الضلالة ، هم الأصلاء ضد المؤمنين ، وهؤلاء الجواسيس وسائطهم ، فهم يخلون بهم دوما ـ إلا في لقاءات عابرة مع المؤمنين ـ فيشاورونهم كيف يلاقون المؤمنين ، وكيف يضللونهم وكيف؟.

وهؤلاء الشياطين ـ على الأكثر ـ كانوا ولا يزالون هم اليهود ، الذين يجدون في المنافقين أداة لتمزيق الصف الإسلامي وتفتيته ، وتوهين العقيدة الإسلامية وتبكيتها ، طالما أصول المنافقين كذلك منهم ف «شياطينهم» يعم كبراءهم المنافقين ورؤوس الكفر والضلالة مشركين وكتابيين : شياطين أصول ، وشياطين أذناب عملاء يصدرون عنهم ويردون إليهم.

و «خلوا إلى» دون «خلوا بهم» تلمح أنهم مراجعهم وملاجئهم ، حيث الخلّو به لقاء منفرد ، والخلو إليه اطمئنان والتجاء ، فإنهم يشمئزون وحتى من مجرد لقاء المؤمنين وان كان استهزاء ، فيخلون إلى الشياطين ، حاملين معهم أسرار المؤمنين.

ثم وقولهم في خلوّهم إليهم : «إنا معكم» تثبيت لكفرهم السابق ، ردا للمحة اللقاء إلى الإيمان و (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) نفي صريح لإيمانهم ، أن ليس إلّا استهزاء بالمؤمنين ، تأكيدا لهذه المعية الكافرة ، وتوطيدا لعلاقة العمالة المنافقة.

والاستهزاء البادي هو من الجهل : (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٢ : ٦٧) حيث العالم يرشد ما أثّر ، ويترك ما لم

٢٠٢

يؤثّر ، وأما أن يستهزأ فهذا جهل وسوء خلق.

وأما جزاء الاستهزاء باستهزاء فهو جزاء وفاق ، يوافق العلم والعدل ، لذلك ف (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) يوم الدنيا ويوم الدين ، فهنا يجري عليهم أحكام الإسلام وهناك هم في الدرك الأسفل من النار ، وما إلى ذلك من تمويه يستحقونه بما كانوا يموّهون (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ف (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٤٢ : ٤٠)

وهكذا يكون دوما دور الناكرين للرسالات الإلهية ، المعاندين ، أن يجابوها باستهزاء واستخفاف دونما حجة يواجهون بها حج الرسالات : (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (٢٥ : ٤١).

و (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) هنا بما يهزء ويسخر منهم عذاب الاولى : (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٦ : ١٠) ، وأخرى في الأخرى : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٩ : ٤٨) وكما سخرت أمواج الطوفان بقوم نوح الذين كانوا منه يسخرون : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ ..) (١١ : ٤٠).

والقول : ان (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) دعاء من الله على المنافقين ، هراء جارف خارف ، فمن ذا الذي يدعوه الله عليهم ، ويرجو منه أن يستهزأ بهم؟ فإنما الله يدعى ولا يدعو ، إذ لا إله يدعى إلّا هو! .. فإنما هو إخبار من الله انه يستهزأ بهم في الأولى والأخرى.

ومن استهزاءه بهم في الأولى : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) : مدا

٢٠٣

في حياتهم وزهواتهم ، زعاماتهم وثرواتهم ، فيحسبونهم أنهم كرماء يستحقون هذه التكريمات ، فيمدون بها في طغيانهم يعمهون ، كما (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) (٧ : ٢٠٢) : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (٢٣ : ٥٦) وهكذا يستدرجهم من حيث لا يعلمون : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٧ : ١٨٣).

فهم أولاء في طغيانهم يعمهون بين مدّين : إلهي حيث يمهلهم ويمدّهم بأموال وبنين ، وشيطاني حيث إخوانهم في كفرهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ، وهذان المدّان من مخلّفات إصرارهم على الكفر بالله وهزءهم برسالات الله! «وما الله يريد ظلما بالعباد»!

ثم وفرق بين المدّ والإمداد ، أنّ المدّ زيادة في الشيء من نفسه والإمداد زيادته من غيره ، والله يمدهم : يزيدهم في طغيانهم بما طغوا وبغوا ، أن يتركهم دون إمداد للخير حيث عاندوا الحق وأصروا على الباطل ف (يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) بمعنى : (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧ : ١٨٦) فمجرد تركهم في طغيانهم ومدّهم بأموال وبنين يزيدهم طغيانا وعمها.

إنه يمد لهم كأنه يخلّيهم والامتداد في عمههم والجماح في غيّهم ، إيجابا للحجة ، وانتظارا للمراجعة بعد وضوح المحجة ، تشبيها بمن أرخى الطول للفرس ، ليتنفس خناقها ، ويتسع مجالها.

وترى وماذا «يعمهون»؟ إنه عذاب فوق العذاب ، وتباب في الحياة أيّ تباب؟ فهو التردد والتحيّر في الضلالة دون أن يعرف الحجة ، ولا أين يتوجه في مهجّة ، والعمه في البصيرة كالعمى في البصر ، فمن عمهت

٢٠٤

بصيرته عميت سيرته ، وشملته حيرته ، يعيش محتارا ، يتخبط في مشيته ويمشي مكبّا على وجهه.

وما أورع استهزاء الله وأروعه بهؤلاء الهزالى التائهين ، حيث يدعهم يتخبطون على غير هدى ، في طريق ضلت غايته ، وفي النهاية تتلقفهم اليد الجبارة ، أخذ عزيز مقتدر ، حيث تواثبوا في فخّهم بذات أيديهم كالفئران الغافلة عن المقبض المكين!

٧ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٦).

باب سابع من أبواب جحيم المنافقين هو الدرك الأسفل حيث تتشعب عنه الأبواب الستة السابقة «اشتراء الضلالة بالهدى»!

وترى متى كانوا على «الهدى» حتى يشتروا «الضلالة» بها ، والتجارة بحاجة الى رأس مال هو هنا الهدى وهم فاقدوها؟!

أقول : إن رءوس أموالهم هنا في معترك تجارة الضلالة والهدى ، هي العقول والفطر ، حيث الفطرة كما فطرها الله منطلقة الى الهدى ، إلى الدين حنيفا : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٣٠).

كما والعقول من شؤونها الأولية ان تعقل أحكام الفطر ، المنبثقة من أعماقها بما فطر الله ، ولكن «إنارة العقل مكسوف بطوع الهوى»! ثم الهدايات الإلهية التي تترى لهم وتتوارد ، مؤيدة مكملة للفطر والعقول ، هي الزاوية الثالثة من مثلث الهدى التي يملكونها ، ولكن هم رغم الهداية المثلثة باعوها واشتروا الضلالة (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) : كيف يتاجرون إذ استبدلوا الأركس الأدنى بما أمكنهم من الغالية

٢٠٥

الأعلى! ف (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) (٢ : ٨٦) وقد كانوا يملكون الحياة الآخرة بما ملّكوا من أسبابها ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) (٢ : ١٧٥) و (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣ : ١٧٧)!

ف «أولئك» المنافقون هم (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) : الدنيا والعذاب بشهواتها ولهواتها «بالهدى» : هدى العقول والفطر وهدى الأنبياء ، فالمغفرة والأخرى (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) فقد خسرت ، حيث التجارة بين ربح وخسران ، وهم خسروا عقولهم وفطرهم وخسروا أنبياءهم ف : (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦ : ١٢) حيث خفت موازينهم في إنسانيتهم : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) (٢٣ : ١٠٣) (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ)! (٥٨ : ١٩) (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) : ما هي التجارة الرابحة ، فلم يكونوا ليهتدوا منذ كانوا حيث انحرفوا عنها مبصرين ، وانجرفوا في ضلالهم عمهين! ولكنهم استبدلوا الغي بالرشاد ، والكفر بالايمان فخسرت صفقتهم ولم تربح تجارتهم.

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨) :

هذا والمثل الذي يتلوه لا بد وأن يمثّل حالات المنافقين المسرودة من ذي قبل ، جامعة لأصل النفاق.

فكما الذي يستوقد نارا ليستفيد من نورها ويضر بنارها ، ترى لو ذهب

٢٠٦

نورها وبقيت نارها بحرّها ، فلا يبصر وقد يحرق هو بما أوقد :

كذلك المنافقون ، فنفاقهم نار موقدة ليستضيئوا بنور الإسلام ويحرقوا المؤمنين بنار النفاق (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) حيث استفادوا قليلا ، فعمر الدنيا قليل بجنب الآخرة ولو عمّروها كلها ، كيف وهم لا يعمّرون منها إلّا قليلا (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) حيث يفضحهم هنا فلا نور به يستضيئون كما يذهب به يوم يقوم الأشهاد ، إذ لم يبق من نور إسلامهم ولا ظاهر مدعى (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) فلم يبق هنا وهناك إلّا نار مظلمة بلا نور ، فنار الجحيم لا نور فيها ، وكذلك نار الفضيحة هنا!

ويا له من مثل يمثّل حقيقة حالهم هنا ومآلهم هناك ، إن النفاق نار مظلمة تحرقهم في ظلماتها يوم الدنيا ويوم الدين ، وهم ليسوا ليستفيدوا من نورها إلّا ظاهرا ضئيلا مؤقتا يوم الدنيا ، ثم لا يطول إلا قليلا وقد (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) :

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) : «صمّ» وهم يسمعون إذ عطلوا آذانهم الإنسانية عن سماع الحق «بكم» وهم ينطقون إذ عطلوا ألسنتهم عن كلام الحق «عمّى» وهم يبصرون إذ غطوا أعينهم عن مشاهدة الحق (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) إلى الحق : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (٧ : ١٧٩).

ومن لطيف الأمر في تمثيلات القرآن أنها كلها حقائق بعيدة عن التخيلات والأوهام ، لحدّ نراها تقحم في ممثلاتها كما هنا :

يبتدء المثل ب (الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ..) وهو فرد ، ثم ينتهي عند الاستنتاج إلى الممثل نفسه وهو جمع : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي

٢٠٧

ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) وليس المثل بالذي يقرب الممثل عن بعده إلّا إذا كان واقعا ملموسا كما هنا ، دون الأمثال البعيدة عن الواقع التي تبعّد ممثّلاتها اكثر واكثر!.

هذا المثل الاول يمثل جماع حال المنافقين أنفسهم واما الثاني :

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠).

ف «او» هنا للتقسيم حيث هذا القسم يختلف عن الاوّل تمثيلا ، فانه مثلهم أنفسهم فيما يفعلون ، وهذا مثلهم وجاه صيّب الدعوة السماوية الإسلامية ، مثل يبدأ بهذه الدعوة الصارمة : «او كصيب ..» وينتهي إلى : كيف يعاملونها ويتأثرون بها! ويتطلعون إليها!

و (كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) هو غزير المطر حيث يصبّ من السماء في ثورة الأمطار ، طوفانية المصدر ، بحرية المورد ، حاوية ـ رغم حياتها المائية ـ مثلث الإرهاب : (ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) : ظلمات السحاب والغيوم المتراكبة التي تحول دون ضوء الشمس نهارا ، ودون أنوار نجوم السماء وقمرها ليلا ، ويواكبها (رَعْدٌ وَبَرْقٌ) رعد هو صوت قوي تحدث عن اصطكاك السحاب ، وبرق : هو نور يذهب بالأبصار نتيجة الاصطكاك ، والصواعق هي نوازل الرعد والبرق : قصف رعد ينقض منها شعلة من نار لطيفة لا تمر بشيء إلّا أتت عليه وهي مع قوتها سريعة الخمود!

وهكذا تمثل الرسالة القرآنية أنها «صيب من السماء» مطر غزير تسقي أراضي القلوب لتحييها ، نازلة من سماء الوحي الأخير ، ساترة على

٢٠٨

كافة الأنوار ، فانها نور الأنوار ، وشمس مضيئة لا قبل لها ، وهذه من ظلماتها ، وأخرى أنها تظلم على القلوب الخاوية الظالمة الخاسرة : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) ومنها القلوب المقلوبة المنافقة! وثالثة أنها تصاحبها ظلمات العرقلات ممن يقفون لها بالمرصاد ، ورابعة أنها هطلت ونزلت في أجواء مظلمة من أضغاث أحلام وخرافات أوهام!

ومن ثم رعدها هو صوتها الجلي العالي ، الواصل إلى آذان من لهم آذان ، الصارخ فيها صرخة الحق النافذة في الأنفس : (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (٤ : ٦٣) فهذه آذان الناس ، وأما النسناس : ف (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) : حيث (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) : فيجعلون أصابعهم في آذانهم من صيحة الحق وصرخته حذر الموت ، وهي التي تحييهم ، وهذه الحيطة الإلهية حيطة عذاب بعلم محيط وقدرة محيطة ، فرغم نفاقهم العارم ، ليس الله بغافل عما يعملون : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ. وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) (٨٥ : ٢٠) فهنا الله يحيط بهم حيطة عذاب عن علم وقدرة ، وللمؤمنين حيطة رحمة عن علم وقدرة : (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٤١ : ٥٤) مهما اختلفت الحيطة نقمة ورحمة ، فإنها من مصدر علم وقدرة!

ومن ثمّ برقها : نورها الشامل كالشمس في رايعة النهار ، النافذ إلى الأعماق ، حيث نور البرق تختلف عن سائر النور ، ولأن أبصارهم كليلة وأنفسهم عليلة (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) هذا البرق المنير ، الهادي لكل بصير في الظلمات ، يكاد يخطف أبصارهم : يأخذها بسرعة حسدا منهم وخوفا (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ) : إضاءة في ظل إسلامهم الظاهر ، وإفادة من

٢٠٩

ميّزاته في حال او مال او منال «مشوا فيه» منتفعين كأنهم من المسلمين (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) ببلايا او رزايا للمسلمين ، في حروب دامية فنقص من الأموال والأنفس والثمرات ـ «قاموا» : وقفوا عن كل حراك ، وتنحّوا عن العراك فرارا دون قرار ، زحفا عن معتركات الحروب.

فالإسلام مطر غزير دائم ، إلّا ان فيه ظلمات العقبات في حروب ومعاركات سجال: غالبين أحيانا فبرق ، ومغلوبين أخرى ، فظلمات كما فيه نور الخيرات وكلها خيرات!

هؤلاء المنافقون هكذا يعاملون مطر الإسلام الغزير بظلماته ورعده وبرقه ، فبرقه لهم خاطف الأبصار. ورعد الصاعقة منه صامة الأسماع ، أترى هذه أبصار وأسماع الإنسان!

وإذ لا ينتفعون بها (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) ولكنه يبقيها لدوامة الحجة عليهم.

وإنه مشهد عجيب رهيب ، حافل بالحركة الثورة ، مشيج باضطراب ، فيه أضواء وأصداء ، وفيه ظلمات وعماء.

فهناك ظلمات طامة عامة كانت شاملة للعالم أجمع قبل بزوغ الإسلام ، وفي هذه الظلمات المتراكمة هطلت غزيرة أمطار وحي القرآن (كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) لتسقي أراضي القلوب الواعية ، فمن خلال هذه الظلمات أرعد القرآن وأبرق ، فتجاوبا في صاعقة نورانية روحانية ، وتتفتح الآذان الصاغية ، وتتصدع بها القلوب الواعية وتتصدى لها ، وهي القلوب المؤمنة.

__________________

(١) راجع الجزء : ٢٩ ص ٥ ـ ١٠ كلام في القدرة.

٢١٠

ولكنما المنافقين (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ... يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) إذ لا يريدون إبصاره ولا يحبون قراره ف (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ) إضاءة خاصة للمتاجرين بالدين ، المتظاهرين بالإسلام مغبّة الانتفاع (مَشَوْا فِيهِ) مستفيدين ، كما في حالات الصلح او الحرب الإسلامية الغالبة ، وفي سائر الميّزات الإسلامية ـ «و» أما (إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) في حرب مغلوبة ، او فضيحة لهم بما يعرّفهم الله «قاموا» وقفة عن كل حراك اللهم إلّا ضد الدعوة!

فهذا الصيّب البرق الصاعقة للمؤمنين به ضوء دائب ، ونور واصب ، في الصلح والحرب ، غالبين ومغلوبين ، في الأفراح والأتراح ، ولكنه بالنسبة للمنافقين ضوء أحياني وظلمة أخرى ، حسب مختلف الحالات (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ ... وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ)!

حيث الإضاءة ، والإظلام هي فقط بالنسبة لهم ، فانه للمؤمنين إضاءة على طول الخط وفي كافة الأحوال.

مشهد حسي واقعي يمثّل حالة نفسيه عن المنافقين كأنها محسوسة ، تجسيما لأحوال هذه النفوس البئيسة في كافة حالاتها وتصرفاتها ومواجهاتها للصيّب الهاطل القرآني ، الراعد البارق الصاعق! : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) : من قوة إيماضه وشدة التماعه : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ).

هنا يتم استعراض الصور الثلاث : المتقين ـ الكافرين ـ المنافقين ـ ومن ثمّ خطاب عام للناس أجمعين لكي يصبحوا من المتقين.

٢١١

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥) إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا

٢١٢

فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٩)

تبتدء هذه الآيات بدعوة الناس لعبودية الله ، مبرهنة لها بمثلث الأصول الدينية : التوحيد ـ النبوة ـ المعاد ، فلولا الاعتناق بها فلا مجال لعبادة الله ، إلّا تقليديا دون برهان كما في بداية الإسلام والاستسلام ، ولكنما الله يريد منا هنا الإيمان المكين مزودا ببراهين :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢١) :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) ولماذا «الناس» وهي أعم شمولا من (مَنْ يَقُولُ

٢١٣

آمَنَّا ... وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) و (كَما آمَنَ النَّاسُ) والى (النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ) حيث تشمل مثلث المؤمنين والمنافقين والكافرين؟ :

أقول : لان دعوة القرآن شاملة للناس أجمعين إلّا القصّر والمجانين مهما اختص واقع التأثير بالمتقين كما مضى في آية المتقين ، فان رسل الله يبلغون رسالات الله (عُذْراً أَوْ نُذْراً).

فالناس في القرآن (٢٤١) مرة وهي اكثر بكثير من المسلمين والمؤمنين والمتقين وحتى من بني آدم ، حيث الأخير أعم من الناس إذ يشمل القصّر والمجانين ، والأول تختص بمن يتقبّل الدعوة وإن كان إقرارا باللسان.

و «يا ايها» نداء تنبيه ، استجاشة للضمير الإنساني إلفاتا إلى ما يصلح الناس حيطة على كونهم ناسا خارجين عن نسناس.

ثم ونداء البعيد هنا «يا» لبعدهم عن حضرة الربوبية قبل أن يعبدوه!

«الناس» هنا وفي سواها لا يخص الموجودين زمن الخطاب ، فان دعوة القرآن لا تختصهم ، حيث القرآن دعوة خالدة فلتشمل كل من يصح دعوته ، فما استجدّ من قرون مستقبلة والى يوم الدين مشمولة لهذه الدعوة ، مهما لم تشملهم زمن النزول حيث لم يكونوا ، كما لم تشمل القصّر والمجانين إذ لم يؤهلوا لها.

فخطابات القرآن هي حقيقية ، فما وجدت لها مخاطبين شملتهم ، وليست فعلية زمنية ، بل على نحو القضايا الحقيقية الشاملة مواردها في أوقاتها.

وهل الكفار مأمورون بالعبادة وهم ملحدون في الله او مشركون ، وعبادة الله فرع الاعتراف بالله وتوحيده؟

٢١٤

أقول : نعم ـ إذ لهم أن يصدقوا به فيعبدوه ، إذا فهم يؤخذون بالفروع كما الأصول : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (٤١ : ٧) حيث الويل لهم يشمل فرع الزكاة بين أصلي التوحيد والمعاد ، لا سيما وهنا الأمر بالعبادة قرين التوجيه الى مثلث الأصول. (١) (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ... (٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا .. (٣) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ ..) «اللهم إلا القصر المستضعفين الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ...» خارجين عن الويل المحتوم الى رجاء العفو.

(اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) : اعبدوه لأنه ربكم ـ لا فحسب بل ولأنه (الَّذِي خَلَقَكُمْ) : الرب الخالق لكم ـ لا فحسب أنتم بل (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فهو خالق كل شيء ورب كل شيء ـ فاعبدوه (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) كما (خَلَقَكُمْ ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١).

(اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) حيث العبادة والتقوى غاية الخلق: (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فلانه رب خالق فاعبدوه : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) واتقوه : (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) ، ولكنما التقوى لا تحصل إلّا بعبادته كما امر : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) كما (خَلَقَكُمْ ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢) : فقد خلقكم ورباكم أنتم

__________________

(١) ف «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» لا تخص الترجي بحصول التقوى من العبادة ، بل ومن الخلق ، اعبدوا ... لعلكم تتقون ـ خلقكم لعلكم تتقون ، واللفظ يحتملها فهما معا مقصودان وكمال تدل عليه الآيات المسرودة في المتن.

(٢) تفسير البرهان ١ : ٦٦ ـ القمي قال علي بن الحسين (عليه السلام) في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ...) يعني سائر المكلفين من ولد آدم ـ اعبدوا ربكم ـ أطيعوا ربكم من ـ

٢١٥

والذين من قبلكم لتعبدوه فتتقوه! حيث تختلفان سببا ومسببا! كما (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١).

ولان مطلق العبادة لا تنتج التقوى وإنما العبادة المطلقة الخالصة هي التي تنتجها ، فلا تترتب التقوى على مطلق العبادة ، لذلك : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فرجاء اتقاء المحاظير في حظيرة العبودية واقعة على أية حال ، وواقع الاتقاء في حق العبودية لحضرة الربوبية لا محالة كائن.

فلأن العبادة المعنيّة هنا من الناس ليست هي المطلقة الخاصة بالمتقين ، لذلك لا مجال لها إلّا رجاء التقوى ، وحتى بالنسبة لحق العبادة المنتجة لحق التقوى ، هنا كذلك مجال لتقوى أعلى ، فقد تكون الرجاء لأصل التقوى كما للبدائيين في عبادة الله ، وأخرى هي لدرجاتها صاعدة الى أعلى فأعلى كما للمتوسطين والرعيل الأعلى.

فكما العبادة درجات كذلك التقوى الناتجة عنها درجات : طبقا عن

__________________

ـ حيث أمركم ان تعتقدوا أن لا اله الا الله وحده لا شريك له ولا شبيه له ولا مثل له ، عدل لا يجور ، جواد لا يبخل ، حليم لا يعجل ، حكيم لا يعجل ، وان محمدا عبده ورسوله ... ثم قال : اعبدوا الذي خلقكم من نطفة من ماء مهين ، فجعله في قرار مكين الى قدر معلوم ... والذين من قبلكم من سائر اصناف الناس «لعلكم تتقون ـ قال (عليه السلام) : لها وجهان :

أحدهما : وخلق الذين من قبلكم لعلكم كلكم تتقون ـ اي لتتقوا كما قال الله : وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون ـ

والوجه الآخر : اعبدوا الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ـ اي : اعبدوا لعلكم تتقون النار ، ولعل من الله واجب لأنه أكرم من ان يعني عبده الى منفعة ويطمعه في فضله ثم يخيبه» أقول : يعني رجاءه في موقعه بلا خيبة لا ان التقوى حاصلة بالعبادة على اية حال.

(١) نجد التقوى في كثير من الآيات جعلت نتيجة التقوى رجاء ام واقعا.

٢١٦

طبق في مختلف الإطارات ، كلما ازدادت العبادة زادت التقوى ، وكلما زادت التقوى ازدادت العبادة.

وأساس التقوى هو الوقاية عن نسيان ذكر الله ، الذي هو اسّ البلايا كلّها : «فإن قال قائل فلم يعبدونه»؟ ـ وهو ليس بحاجة أن يعبدوه ـ «قيل : لئلا يكونوا ناسين لذكره ولا تاركين لأدبه ، ولا لاهين عن أمره ونهيه ، إذا كان فيه صلاحهم وقوامهم ، فلو تركوا بغير تعبد لطال عليهم الأمد فقست قلوبهم» (١) و «ليست العبادة كثرة الصلاة والصوم ، إنما العبادة التفكر في أمر الله عز وجل» (٢) و «إدمان التفكر في الله وقدرته» (٣) ف «لا عبادة إلا بتفقّه» (٤).

لذلك نرى الآية تبرهن لزوم العبادة بسناد الخلق مبدئيا والتقوى نهائيا ، ومن ثم الآيات الآفاقية بعد الأنفسية :

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٢).

واجهة الخطاب هنا المشركون ، المقرّون بالله ، المشركون في عبادة الله ، يذكّرهم بما يفرض عليهم توحيد العبادة لله إذ (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ ..) فهل من شركاءكم من يفعل من ذلكم من شيء (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٩ عن عيون اخبار الرضا (عليه السلام) فيما ذكره الفضل بن شاذان من العلل عن الرضا (عليه السلام).

(٢) نور الثقلين ١ : ٤٠ عن اصول الكافي عن الإمام الرضا (عليه السلام).

(٣) المصدر عن الإمام الصادق (عليه السلام).

(٤) المصدر عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام).

٢١٧

أَنْداداً) في العبادة (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أن لا أنداد له في الألوهية ، كما وتناظرها آياتها الأخرى : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ. أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ. أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٧ : ٦٤).

فالأرض الفراش في امتهادها ، والسماء البناء بارتفاعها ، النازل منها الماء ، المخرج من الأرض ثمرات ، هذه وتلك التي هي من نعم الله وحده تفرض أن تكون العبادة ايضا لله وحده دون أنداد : أمثال ونظراء في العبادة ، فإنه ضلال مبين : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ).

و (.. جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) : (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) (٥١ : ٤٨) تلمحان إلى أنها ما كانت فراشا حين خلقت ، وإنما فرشت مهدا ومهادا لساكنيها ، راحة الحياة دون تصعّب وشماس ، فكما الأنعام فراش : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) (٦ : ١٤٢) كذلك الأرض على حركاتها جعلها الله ذلّا بعد شماس ، وحمولة فرش بعد ارتكاس ، «ملائمة لطباعكم ، موافقة لأجسامكم» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤١ عن عيون الاخبار ، ابن بابويه بسنده عن الحسن بن علي

٢١٨

كما وان «لكم» تصريحة : أن فراش الأرض هو لصالح حياتكم عليها ، وترى أن «كم» هم نحن الأنسال من آدم الأخير ، المخلوق أخيرا بعد ملايين السنين من فراش الأرض ، أم والأنسال السابقة من أناسيّ سابقين ، الذين خلقوا منذ فراش الأرض ، كما تدل عليه آيات الخلافة وأقوات الأرض؟ (١).

علّه الاوّل ، لا اختصاصا بنا ، وإنما تكريما لنا على من سبقنا ، أم هو الثاني جمعا بين المكلفين ، وان كانوا حال الخطاب منقرضين ، ولكنما الماضين متى يشملهم مستقبل الخطاب؟ اللهم إلّا إذا خوطبوا من قبل كما هنا وأنّى لنا بإثباته!

ويا لفراش الأرض من نعمة عظيمة لا ندركها لأننا ساكنوها منذ كنّا ، حيث يتطلّب موافقات عدّة بين عناصر عدة تعدّ الأرض بها فراشا لها ، فلو فقد او قلّ او زاد عنصر واحد من هذه العناصر في ترابها او ماءها او هوائها لاستحالت او صعبت الحياة عليها ، سبحان الخلاق العظيم! ..

كذلك السماء حيث جعلها الله بناء ولم تكن بناء ، فنور الأرض وأمطارها وكثيرة اخرى من بركاتها هي من بناء السماء : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً. وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً. وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً).

__________________

ـ العسكري (عليه السلام) مسلسلا عن آباءه الكرام عن علي بن الحسين (عليه السلام) في الآية : ... ولم يجعلها شديدة الحمّا والحرارة فتحرقكم ولا شديدة البرد فتجمدكم ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم ولا شديدة النتن فتعطبكم ، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم ولكنه عز وجل جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به لدوركم وقبوركم وكثير من منافعكم فلذلك جعل الأرض فراشا لكم ....

(١) يأتي البحث عن آيات الخلافة هنا وآيات الأموات في فصلت.

٢١٩

(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً. وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) (٧٨ : ١٦) (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها. وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها .. وَالْجِبالَ أَرْساها. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٧٩ : ٣١) (١) .. ثم ومن آثار بناء السماء :

(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) ف «أنزل» هنا دون «ينزل» توحي بالنزول الدفعي الاوّل ، حيث الأرض كانت كرة عطشانة محترقة ، لا ماء فيها ولا كلاء ، فأنزل الله عليها من ماء السماء (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً. لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) (٧٨ : ١٦).

فأرضنا الشموس العطشى كانت تتطلّب لمهادها لنا ماء : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) (٢٣ : ١٨) ولو أن مياه الأرض أو بعضها كانت من نفسها لم يكن هنا موقع للتهديد بذهاب مياه السماء ، فإنما حياة الأرض منوطة بمياه السماء : (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (٢ : ١٦٤) (٢) فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها ، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها ، فجعلها لخلقه مهادا ، وبسطها لهم فراشا فوق بحر لجّي راكد لا يجري ، وقائم لا يسري ، تكر كره الرياح العواصف ، وتمخضه الغمام الذوارف ، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى (٣).

__________________

(١) راجع الجزء الثلاثين الى تفسير هذه الآيات في بناء السماء ص ٢٥ ـ ٢٨ وص ٨٦ ـ ٨٨ وكما نبحث عنها مفصلا في الآيات من «فصلت» عن خلق الدخان السماوي وجعلها سبعا.

(٢) راجع العنوان ص ٢٩ ـ ٣٢ حول مياه المعصرات.

(٣) نهج البلاغة عن الإمام امير المؤمنين علي (عليه السلام).

٢٢٠