الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

وهل المواكب العلمية الغازية للفضاء وصلت حتى الآن الى زاوية من هذا المثلث الغيب البارع الذي تحمله آية واحدة من القرآن؟!.

وسوف تمر عليك المئات المئات من هذه الآيات العلمية ، وقتية او زمنية ام ماذا ، بطيات آياتها ، التي تحمل فيما تحمل : وحيها ـ ونبوة نبيها ـ وصدق أنباءها واقعيا ، كما وسائر الآيات تحمل الأوليين دوما ، كما وتحمل الثالثة لمن أمعن.

وانا كطالب صغير من طلاب علوم القرآن أتحدى جميع العالمين بما يتحداهم القرآن ان يأتوا بحديث مثله ، وإن في سورة او آية كاملة الدلالة ، او ان يأتوا منه ما يعارض العقل والفطرة او قانونا علميا ثابتا او أيا من الثابتات آفاقية او أنفسية .. ارضية او سماوية ..

وأنا على يقين أنهم «لن يفعلوا» كما (لَمْ يَفْعَلُوا وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) تظاهرا في اي حقل من حقوله لفظية ومعنوية ، ولو كان لبان ممن يجدّون السير في معارضته ، ويتواكبون في مخالفته.

لذلك تجد القرآن يعتبر نفسه المعجزة الوحيدة الخالدة الكافية ، محلقا على كافة صنوف المعجزات في كافة النبوات ، فانها كانت كلها وقتية عابرة ، والقرآن زمنية شاملة تبقى ما بقي الدهر ، زاهرة مشرقة في رحاب تقدم العقل والعلم اكثر واكثر ، وعلى حدّ تعبير تلميذ الامام علي امير المؤمنين (عليه السلام) ابن عباس : «إنّ للقرآن آيات متشابهات يفسرها الزمن»!

ويا لها من معجزة تمشي مع الزمن إماما أمام العقل والعلم يقودهما الى اعماق الغيب ليهدي أتباعه للتي هي أقوم!

فطالما طالبوا هذا النبي ان يأتي بما أوتي رسل الله ، رغم ذلك تجده دوما

٢٤١

يوجههم بالقرآن لأنه أدل وأفضل مما أوتوا ، وفيه الكفاية حجة للعقل والعلم دون الحس والبصر فقط ، كما في الآيات المحسوسة من ذي قبل ، التي تعودوا بها طوال الرسالات ، ثم فوجئوا بآية وحيدة منقطعة النظير هي القرآن : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٢٩ : ٥٢) : فشهادة الله في كتابه النازل ويتلى عليهم كافية ، وأكفى من شهادته في الآيات الحسية العابرة التي تحدّ بحدود رسالاتها ، ولكن هذه الرسالة الاخيرة لا حدّ لها حتى يكتفى فيها بآيات محدودة.

ترى لو ان محمدا اوتي ما اوتي رسل الله من آيات وقتية مع رسالته الخالدة ، فكيف كان بالإمكان أن يؤمن به العالمون بعد موته وانقضاء معجزاته ، وكما لا يمكن عقليا الإيمان بالرسالات الماضية ، لا على ضوء كتاباتها إذ معجزة فيها ، ولا معجزاتها التي ماتت بموت أنبياءها ، وغبرت بما قبروا ، اللهم إلّا بما يشهد القرآن المعجز بذاته ، بآياته وبيناته!.

فعلى المرسل إليهم أن يطالبوا رسولهم بآية تدل ، لا كما يهوون ف (لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ولكنما المبطلون كانوا ولا يزالون يطالبون صاحب هذه الرسالة بمثل ما أوتى رسل الله من قبل : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ..) (٦ : ١٢٤) (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ، قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ

٢٤٢

أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٨ : ٤٩).

فالآيات الدالة على النبوات ، منها آيات قد تكذّب بتهمة السحر لأنها بصرية ، ولكنما القرآن آية بصيرة : (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) (١٧ : ٥٩) (١) آيات تخويفية وقتية قد يكذّب بها ، لذلك بدلناها بآية عقلية علمية زمنية لا تقبل التكذيب إلّا ممن سامح عن عقله او علمه.

فهل بالإمكان تكذيب آية القرآن ومعجزته وهي تعيش الطول التأريخي والعرض الجغرافي دون فناء وبلاء ، فانما تزداد على تقدم العلم نورا وبهورا!

لذلك لا ترى لصاحب هذه الرسالة آيات معجزات كمثل التي لرسل الله ، اللهم إلّا هامشية عابرة لم تؤصّل ، ولذلك لم تسجّل في آية القرآن إلّا؟؟؟ شذر كشق القمر والمعراج ، ولهما ما لهما من ميزّات على سائر الآيات

__________________

(١) يذكر من الأسباب في عدم نزول آيات تخويفية عينية في الآيات التالية : السورة ٦ : ٤ ـ ٢٥ ـ ٣٥ ـ ٣٧ ـ ١٠٩ ـ ١٢٤ و ٧ : ١٣٢ ـ ١٤٦ ـ ٢٠٣ و ١٠ : ٢٠ ـ ٩٧ ـ ١٠١ و ١٣ : ٧ ـ ٢٧ ـ ٣٨ و ١٦ : ١٠١ و ٢٠ : ١٣٣ و ٢١ : ٥ و ٢٦ : ١٥٤ و ٢٩ : ٥٠ و ٣٠ : ٥٨ و ٣٦ : ٤٦ و ٣٧ : ١٤ و ٤٠ : ٧٨ و ٤٣ : ٤٨ و ٥٤ : ٢.

ومنها ما تذكر سببا آخر في عدم نزول هذه الآيات وهو فوضى اتباع الناس فيما يهوونه من آيات ثم يكذبونها.

ثم وآيات تثبت نزول آيات النبوة على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هي ٣٠ : ٥٨ و ٦ : ١٢٤ و ٣٦ : ٤٦ و ٣٧ : ١٤ و ٥٤ : ٢.

وحاصل جمع الآيات حول آيات النبوة المحمدية انها تركز على آية القرآن الخالدة كأصل ثم تذكر بصورة عامة او خاصة آيات هامشية لهذه الرسالة ، وتنفي أصالة الآيات الحسية الوقتية لها ولا سيما التي كذب بها الأولون ، والتي يهوونها ولا يصدقون.

٢٤٣

البصرية كما نفصلها في طيات آياتها.

وإذا كانت سائر الآيات تدل على نبوات أصحابها وما يدعون من وحي السماء ، شهادات منفصلة عن تلكم النبوات ، فآية القرآن شهادة ذاتية على وحيها ونبوة نبيّها دون انفصال ، إذا فهي ادلّ وأقوى من سائر الآيات ، دلالة ذاتية وخلودا ضاربا في اعماق الزمن.

فلم يكن المرسل إليهم في سائر النبوات يطالبون أصحابها بتلكم الآيات إلّا تدليلا لاثبات نبواتهم ، دلالة النظير على نظيره ، حيث الوحي آية غير ملموسة ، فلتدل عليه آية نظيرة لها في كونها فعل الله مهما كانت ـ ولا بد ـ ملموسة.

ولكنما القرآن آية هذه النبوة ، وهي نفس الوحي النبوة ، آية تقرء وتسمع وتفهم ، تدل بنفسها على آية الوحي النبوة ، وعلى صدق مدعيها ، كما تتوسط بين النبوة والرسالة حجة تثبتهما : (يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) حيث يستدل بحكمة القرآن في صيغة القسم ـ التي كلها في القرآن برهان ـ يستدل بها لإثبات دعوى سابقة : «يس» : يا سامعا للوحي! وهو النبوة ـ وأخرى لاحقة : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) : الرسالة التي هي بعد النبوة النبوئة (١).

إذا فالقول : إن المعجزات انما هي للعوام الذين عقولهم في عيونهم ، دون الخواص المميزين الحق عن الباطل ، إنه هراء ـ حيث المعجزات انما تثبت النبوات ، لا الأحكام الرسالية التي ياتي بها رسل الله ،

__________________

(١) حيث النبوءة وهي خبر الوحي تتقدم على الرسالة ، ولكنما النبوة وهي رفعة الرسالة هي بعد الرسالة كما نبحث عنها في آياتها ، ونبحث عن الوحي والنبوة والرسالة مفصلة في مناسباتها.

٢٤٤

إذ لا صلة بينها وبين تلكم الأحكام ، وانما هي آيات النبوات : (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٣ : ٤٩).

فتراها تعتبر هذه الآيات المعجزات آية واحدة لوحدة الدلالة والاتجاه ، وأخيرا إن هذه الآية هي آية الرسالة ، وليست أصيلة كالقرآن ، وانما هي وسيلة لاثبات نبوة المسيح ، فما يقول ـ إذا ـ عن الله حق لا مرية فيه ، دون أن تثبت أحكاما مسيحية ، إذ لا صلة بينهما.

ثم آية القرآن القاطعة الخالدة ، الذاتية ، لا تكتفي بنفسها في اثبات ما يحملها من أحكام عقلية ام ماذا ـ اللهم إلّا كونها وحيا ـ فتراها إذ تستعرض مواضيع أحكامية أم سواها ، هي بحاجة الى براهين ، تراها مصحوبة ببراهين تترى كما تناسبها وتثبتها بما لا فواق لها ، وكما تراها في طيات آياتها هنا في «الفرقان»!

(فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ)

انه ليس الكافرون كلهم وقود النار وان كانوا كلّهم بها يضرمون وفيها يتّقدون ، حيث الوقود الصّلاء هو الذي تتقد به النار : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) (٦٦ : ٦) وهؤلاء الناس كفار خصوص كالمكذبين بالله ورسالاته لا كل من يستحقون النار : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا ..) (٣ : ١١) كما وتشهد آيات صلي الجحيم : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى. لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٩٢ : ١٥) إذا

٢٤٥

فصليها مخصوص بالأشقى ، طالما الشقي يدخلها ، ولو كان صليها ـ فقط ـ دخولها لعمّ الشقي والأشقى دون اختصاص بالأشقى!

فالصّلي هو الإيقاد كما الاصطلاء استيقاد : (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٢٧ : ٧) وكما الصّلاء هي الوقود.

وترى ما هي الحجارة القرينة للناس الوقود الصّلاء؟ علّها الأصنام الأحجار التي كانوا يعبدونها : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ولكنما الأصنام لا تختص بالمصنوعة من الأحجار ، فعلّها هي وحجارة أخرى تصلح للصّلاء كأقوى الوقود وأبقاها مثل «حجرة الكبريت» (١)

وترى إذا كان الناس من وقود النار وهم بعد لم يدخلوها ، فكيف إذا (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ)؟ علّ الوقود الحجارة ـ غير أصنامها ـ يكفي الآن لإعداد النار ، ام إن الإعداد حالة ترقّب لا فعلية له ، فانما يضرم النار بمختلف وقودها يوم يدخلونها.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ٦٩ عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عن جده علي بن الحسين (عليه السلام) في حديث طويل حول تفسير هذه الآيات «وقودها وحطبها الناس والحجارة حجارة الكبريت أشد الأشياء حرا ...».

وفي الدر المنثور ١ : ٣٦ ـ اخرج ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أوقدت النار الف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها الف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها الف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة ، وفيه ايضا عن انس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مثله باضافة «لا يطفأ لهبها».

٢٤٦

بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥).

بشارة للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وترى أليس عمل الصالحات من الإيمان او لزامه فكيف يقابله؟ علّه لان الايمان في الأكثر ينحو منحى القلب ولا يستحق دخول الجنات إلا من أضاف عمل الايمان الى عقيدة الايمان.

ثم الجنات هي البساتين الملتفة الأشجار كسقف أخضر (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لا تحت الأرض ، وإنما تحت جنات الأشجار التي تجنّ ما تحتها من أرض (١) ، فالجنات هي مظلّات شجرية ، توحي بجمعيتها أنها مقسّمة بين أهليها ، لكلّ جنة فللكلّ جنات.

وترى ما (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ)؟ هل هي الأرزاق الدنيوية التي رزقوها قبل الجنة ففيها يؤتون أشباهها؟ ولا فضل لما في الدنيا حتى تكون أشباهها في الجنة فضلا لهم فيها! و (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) لم يرزقوا من الدنيا إلّا قليلا ، إذ اغتصبها أكثرها أهل الدنيا ، فهل يرزقون في الجنة ـ فقط ـ أشباه هذه القلة القليلة!

ام هي من التي رزقوها في الجنة قبل هذا الرزق؟ و «كلّما» تشمل مع سائر المرات المرة الاولى وليس قبلها جنة او رزقها!.

علّ «من قبل» هي الأرزاق التي رزقوها في جنة البرزخ ، ام هي

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣٦ ـ اخرج جماعة عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): انهار الجنة تفجر من تحت جبال مسك.

وفيه عن انس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلكم تظنون أن انهار الجنة أخدود في الأرض لا والله انها لسائحة على وجه الأرض حافتاه خيام اللؤلؤ وطينها المسك الأذفر.

٢٤٧

الأعمال التي رزقوها يوم الدنيا فيؤتون في الأخرى ثمراتها (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) تشابه الأعمال وثمراتها ، وفيها مزيد بفضل الله.

أم إنها ما رزقوا من قبل في الدنيا مهما حرموا عنها فيها ، فالحارمون هنا محرومون هناك ، والمؤمنون المحرومون مرزوقون هناك : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٧ : ٣٢) بعد ما كانت خالطة يوم الدنيا ، وهم في الأكثر كانوا محرومين عنها ، فلما وجدوا هناك من كل الثمرات فرحوا قائلين : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) وحرمناه هناك.

وهم من هذا المثلث من الرزق السابق ، يجدون له متشابها : للذي رزقوه من قبل من حيث الشاكلة لرزق الدنيا ، وفي مرتبة أعلى عن جنة البرزخ ، جزاء وفاقا لما عملوها من صالحات وهناك مزيد.

فرزق الجنة والدنيا لا يتشابهان إلّا في الاسم وفي أصل المنظر ، واما في نضرته وطعومته ف «لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وعلّ «في طعام العرس مثقال من ريح الجنة» (١).

والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يصف الجنة ببعض شروطها وأشراطها : «من خالف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ، ألا ان سلعة الله الجنة ، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه» (٢). هذا ، كما ويجدون متشابها مع بعض ، فثمار الجنة متشابهة اللذة

__________________

(١) الدر المنثور : ١ : ٣٨ ـ أخرجه الديلمي عن عمر قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ...

(٢) الدر منثور ١ : ٣٧ أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصحيحه عن أبي هريرة

٢٤٨

والطراوة والنضارة ، مهما اختلفت ألوانا وطعوما ، فهذا الاختلاف وذلك التشابه مرغوبان ، حيث اختلاف الأكل دوما والتشابه أحيانا وعدمه أخرى في الألوان والأشكال ، كلّ ذلك رحمة ونعمّا هي وكما هنا : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ ..) (٦ : ١٤١).

إن في هذا التشابه الظاهري والتنوع الواقعي بين اثمار الجنة والدنيا مفاجأة لطيفة من ناحية ، واستئناس بالمألوف من أخرى ، كدعابة دائبة تكشف في كل مرة عن جديد وجديد ، رزقوا أشباهها في أشباحها يوم الدنيا وهم كانوا ـ على الأكثر ـ محرومين عنها (١).

__________________

قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : .. وفيه واخرج جماعة عن اسامة بن زيد قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألا هل مشمر للجنة فان الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تزهر وقصر مشيد ونهر مطرد وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة ومقام في أبد في فاكهة دار سليمة وفاكهة خضرة وخيرة ونعمه في محلة عالية بهية. قالوا : نعم يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! قال قولوا : إنشاء الله قال القوم : إن شاء الله.

وفيه عن أبي هريرة قال قلنا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! حدثنا عن الجنة ما بناؤها ، قال : لبنة من ذهب ولبنة من فضة وحصاءها اللؤلؤ والياقوت وملاطها المسك وترابها الزعفران من يدخلها ينعم لا ييأس ويخلد لا يموت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه.

وفيه عن أبي سعيد الخدري عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لشبر في الجنة خير من الدنيا وما فيها.

وفيه عن سعد بن أبي وقاص عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو ان رجلا من اهل الجنة اطلع فبدا أساوره لطمس ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم.

(١) تفسير البرهان ١ : ٦٩ ـ الامام الحسن العسكري عن جده علي بن الحسين (عليه السلام) في حديث طويل حول هذه الآيات : «بشرهم ان لهم جنات» : بساتين ـ

٢٤٩

وكما يجدون فيما يرزقون تشابها لما رزقوا من صالحات هي ثمرات الايمان يوم الدنيا ، فاليوم يرزقونها جزاء وفاقا ، مما تزيدهم رضى سابغة أنها مما قدمت أيديهم جزاء ومزيدا من فضل الله تعالى.

وحيث إلّا لأهل الجنة من كل الثمرات : (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) (٤٧ : ١٥) ولأن (فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) ف (أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) لا يعني ما تحدّه الحياة الدنيا من ثمرات ، بل هم في مثلث الثمرات غير المحدودات ولا المحدّدات ، بمختلف الألوان والشهيّات والطعومات.

(وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) لإسباغ غريزة الجنس بكل نزاهة وطهارة ، بجنب ما لهم من ثمرات في جنات ، وترى أن هناك للرجال أزواجا وليس للنساء؟ أقول. «هم» في «لهم» هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات رجالا ونساء ، فلكلّ ازواج دون اختصاص بالرجال ، مهما لا تجد آية تصارح بما للنساء من أزواج كما للرجال هناك ازواج من الحور العين ومن أزواجهم المؤمنات : (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (٨٤ : ٩) فإن ذلك

__________________

ـ تجري من تحتها الأنهار : من تحت أشجارها ومساكنها (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها) من تلك الجنان «من ثمرة» من ثمارها «رزقا» : طعاما يؤتون به (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) في الدنيا فأسماءه كأسماء ما في الدنيا من تفاح وسفرجل ورمان وكذا وكذا وان كان ما هناك مخالفا لما في الدنيا فانه في غاية الطيب ، وانه لا يستحيل الى ما يستحيل اليه ثمار الدنيا من عذرة وساير المكروهات ومن صفراء وسوداء ودم ، بل ما يتولد من مأكولهم إلّا العرق الذي يجري من اعراضهم أطيب من رائحة المسك وأتوا بذلك الرزق من الثمار من تلك البساتين متشابها بعضه بعضا بأنها خيار لا رذل فيها وبان كل صنف منها في غاية الطيب واللذة ، ليس كثمار الدنيا التي بعضها في وبعضها متجاوز لحد النضج والإدراك لحد الفساد من حموضة ومرارة وسائر ضروب المكاره ، ومتشابها ايضا متفقات الألوان مختلفات الطعوم.

٢٥٠

لا يعني حرمانهن لا سيما إذا متن باكرات وانما استحياء عن ذكرى شهوة النساء وإحياء لعفافهن ، وكما لا تجد لهن ذكرا باسمائهن في القرآن ، اللهم إلّا مريم (عليها السلام) ذودا عنها ما مسّوا من كرامتها.

ولأن (فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) نتأكد أنّ هناك للنساء المؤمنات ما للرجال المؤمنين من مشتهيات ، وشهوة الجنس تحتل القمة فلتكن لهن كما لهم سواء.

إنهن سوف يتزوجن هناك برجال كما يشتهين ، برجالهن ان كانوا من اهل الجنة ، او بسواهم إن متن باكرات ، وهن أجمل وأطرى من الحور العين ، فلهن منازل عند أزواجهن فوقهن (١) وان كن اقل عددا (٢).

وحتى إذا يعنى من «لهم» الرجال فقط ف (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) تشمل النساء المؤمنات أبكارا وثيبات كما تشمل الحور العين.

و «مطهرة» تعني الطهارة بكل زواياها النسائية : مطهرات من الزنا ومن النظر الى غير رجالهن : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ

__________________

(١) في من يحضره الفقيه قال الصادق (عليه السلام): الخيرات الحسان من نساء اهل الدنيا وهن أجمل من الحور العين ، وفي روضة الكافي عنه (عليه السلام) قال : هن صوالح المؤمنات العارفات ، أقول راجع آيات قاصرات الطرف والخيرات الحسان ومقصورات في الخيام من سورة «الرحمن» ج ٢٧ ص ٥١ ...

(٢) الدر المنثور ١ : ٣٩ ـ اخرج ابن السكن وابن عساكر عن حاطب بن أبي بلتعة سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : يزوج المؤمن في الجنة ثنتين وسبعين زوجة من نساء الآخرة وثنتين من نساء الدنيا.

وفيه عن أبي هريرة قيل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : هل نصل الى نسائنا في الجنة فقال : ان الرجل ليصل في اليوم الى مائة عذراء.

أقول هذا الاختلاف حسب اختلاف الدرجات والشهيات.

٢٥١

وَلا جَانٌّ) (٥٥ : ٥٦) ومن أيّة مكروهة مرغوبة عنه فيهن مثل مختلف الدماء ، حيضا ام سواه (١) كذلك ونكاحهن «دحاما دحاما لا مني ولا منية» (٢) فلا يصحب أية قذارة او صعوبة او خلافات او حسادات : «مطهرات من انواع الأقذار والمكاره ، مطهرات من الحيض والنفاس ، لا ولّاجات ولا خراجات ولا دخّالات ولا ختّالات ولا متغايرات ولا لأزواجهن فركات ولا صخابات ولا غيّابات ولا فحّاشات ومن كل العيوب والمكاره بريات»(٣).

(وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) : في هذه الجنات والثمرات والأزواج المطهرة وفي كل ما يشتهون : (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) (٢١ : ١٠٢) (٤).

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٢٦).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣٨ ـ اخرج الحاكم وابن مردويه وصححه عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية قال : من الحيض والغائط والنخامة والبزاق ـ أقول هذا هو من باب الجري والتطبيق تفسيرا ببعض المصاديق.

(٢) الدر المنثور ١ : ٤٠ عن أبي امامة الباهلي ان رجلا سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : هل تتناكح اهل الجنة؟ فقال : دحاما ...

وفيه ايضا انه سأله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفس السئوال فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : نعم بفرج لا يمل وذكر لا ينثني وشهوة لا تنقطع دحما دحما.

(٣) تفسير البرهان ١ : ٦٩ عن الامام علي بن الحسين (عليه السلام).

(٤) بحثنا عن موقع الخلود في الجنة والنار وحدوده في الجزء الثلاثين عند البعض من آياته ك «لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً» ص ٤٠ ـ ٥٠ فراجع وكذلك في الأسرى وغيرها.

٢٥٢

قد توحي الآية نفسها أن الله تعالى ضرب مثلا قبلها ببعوضة او ما فوقها فقال الذين كفروا ما قالوه ، كما علم الذين آمنوا ما علموه ، فكيف لم يذكر المثل قبلها وإنما جاء الجواب؟.

أقول : هذه الآية مع ما تحمل من مثل البعوضة ، فيها الإجابة عما ربما قيل عن الأمثال السالفة (١) او يقال ، بان ضرب المثل بصغير او كبير انما هو لإثبات حق (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) (٣٣ : ٥٣) والكون بصغيره وكبيره لله ومن خلق الله ، وله أن يمثل بما يشاء ، حيث العبرة في المثل ليست في الحجم والكمّ ، وإنما في الكيف والتدليل كأدوات للتنوير.

والبعوضة حشرة مضرة من فصيلة البعوضيات ورتبة ذوات الجناحين ، تعيش صغارها في المستنقعات ، وتنقل بلدغتها شتى الجرثومات ، فإذا الله يضرب بها مثلا لمعجزة الحياة فلا استحياء في مثلها ، حيث الحياة في الفيلة بأعضائها كالحياة في البعوضة فما فوقها في الصغر ، بل وللبعوضة ما للفيلة وزيادة عضوين آخرين (٢).

__________________

(١) حيث سبق المثل هنا بالذي استوقد نارا او كصيب من السماء ، كما سبق في العهد المكي ادنى منه كالعنكبوت والذباب ، فاتخذ جماعة من المشركين واهل الكتاب والمنافقين من هذه الأمثال منفذا للتشكيك في صدق الوحي بحجة ان فيها سخرية منهم لا تصدر عن الله ، فهنا الاجابة عن كل ذلك بصيغة مختصرة : «إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي ..».

(٢) البرهان ١ : ٧٢ نقلا عن أبي علي الطبرسي قال وروى عن الصادق (عليه السلام) انه قال : انما ضرب الله المثل بالبعوضة لأن البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين فأراد الله ان ينبه بذلك المؤمنين على لطف خلقه وعجيب صنعته .. أقول : ومن عجائب البعوضة انه يضرب بخرطومه على الفيل والجاموس كما يضرب الرجل إصبعه في الخبيص من فورة السم الذي عبئ على رأس خرطومه!

٢٥٣

ثم ضرب المثل بالصغار ينبه كبار المتعنّتين أنهم صغار صغار بجنب الله حتى في خلق بعوضة ، حتى وآلهتهم التي ألهتهم : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (٢٢ : ٧٣).

وهكذا تكون دوما حال الأمثال التي يضر بها الله ، مواتية لما يهدفه من أهداف : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (١٤ : ٢٥) ...

ثم الحالة المؤمنة وجاه هذه الأمثال ، فيما إذا كانت مريبة كبعوضة فما فوقها في الصغر ـ هي : العلم أنه الحق من ربهم فإيمانهم بالله يدفعهم في مزال الأقدام ان يتلقوا كل ما يصدر من الله بكل قبول وتصديق ، فمهما جهلوا حكمته ومغزاه ، فالله حكيم عليم. طالما المقالة الكافرة سؤال استكبار واستنكار ، سؤال المقطوع الصلة عن الله المحجوب عن نور الله ومن لا يرجو لله وقارا : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) كأنه باطل من ربهم (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) : مثلا يضلّل فكيف يضربها الله : اعتراضا على كلام الله ، غافلين او متجاهلين أنه (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ)! (١)

وقد تكون (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) من أوسط الفاسقين ، بعد (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) ولا تكون من كبرائهم الافسقين إذ لا يرون في هذا المثل وجهة حقّ وهدى.

فجواب الآخرين ـ فقط ـ : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) وللأولين

__________________

(١). هنا الوجهان مقبولان حيث تتحملها الآية لفظا ومعنى ان يهدي به كثيرا اما من كلامهم تتمة الاعتراض او من كلام الله نقضا للاعتراض ، وكما «ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» حلّ نهائي لسؤالهم.

٢٥٤

زيادة (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) .. والفسق هو الخروج عما يحق من كنّ ووقاية ـ كما يقال : فسقت التمرة : إذا خرجت عن قشرها ، فالفاسقون هم ـ الخارجون عن قشر العبودية.

وترى الفاسقون كل الفاسقين هم المضلّلون بأمثال هذه الأمثال وكثير هم مؤمنون فاسقون .. وقليل هم الذين لا يفسقون؟

أقول : انهم فاسقون خصوص كما عرفهم الله بفسق مطلق لا مطلق الفسق ، (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ). (٢٧)

وفي أخرى بالكفر ومرض القلب الشامل للمشركين واهل الكتاب والمنافقين : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ..) (٧٤ : ٣١) وهو مثال الزبانية التسعة عشر.

إن ثالوث الفساد هذا هو المجال لذلك الضلال : نقضا لعهد الله ـ قطعا لوصل الله ، وإفسادا في أرض الله ، ويا له من ثالوث منحوس! يجعل من كل هدى ضلالة ، ومن كل نور ظلمة.

ومثلث الفساد هذا يقطع بزواياها كل صلة بالله وبعباد الله : نقضا لعهد الله بعد ميثاقه ، من عهد توحيد العبودية فطريا وعقليّا ، ومن ثم رساليّا ورسوليّا ، وثم عمليّا ، التي تجمعها صيغة واحدة : «عبادة الشيطان» : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) : عهد ثنائي سلبا وإيجابا هو اصل العهود!

انهم ينقضون عهد الله ـ ايّ عهد ـ من بعد ميثاقه بوثاق العقل والفطرة ووثاق النبوات ، فالفاسقون : الخارجون عن حدود العبودية هم

٢٥٥

حياتهم نقض لمواثيق الله ـ بكل زواياها الثلاث وحواياها ، ونقض عهد الله من أعظم الفسق: (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) (٧ : ١٠٢). فإنهم لا لبّ لهم إنسانيا و (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ..) (١٣ : ٢١).

(وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) فقد امر الله بصلات كثيرة : عقيدية وعملية ، فردية وجماعية اماهيه ، فإذا قطعت هذه الصلات ونقض عهد الله عمّت فوضى الفساد في الأرض ، فإن إصلاحها على ضوء الحفاظ على عهد الله ، وإيصال ما امر الله في جناحي الرباطين : بينك وبين الله وبين عباد الله ، .. ونرى آية النقض والقطع تربط بينهما هنا وفي أخرى (١٣ : ٢١) مما يدل ان كل نقض لعهد من عهود الله يسبب قطعا لما وصل الله وأمر به ان يوصل ، فشريعة الله شريعة وصل المفاصلات التي تفصل الانسانية عن صالح الحياة ، ابتداء بوصل الحياة البيتية ، الى وصل الأرحام ، الى المجتمع الإسلامي الكبير والى كافة المجتمعات ، وصلا عقيديا ـ أخلاقيا ـ ماديا ـ سياسيا ـ اقتصاديا وعسكريا أم ماذا ، وكما تامر به آية المرابطة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ ..) (٣ : ٢٠٠).

ثم وقطع عهد الله ، وفصل وصل الله يسبب كل فساد في ارض الله :

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)

إذ خسروا رأس مال الاهتداء في متاجر الضلالة والهدى ، فالمثل الإلهي الذي من شأنه شفاء ورحمة لا يزيدهم إلّا خسارا.

٢٥٦

ولان الفسوق دركات فالضلالة الناتجة عنه ايضا دركات طبقا عن طبق ، فالفسوق المروق عن مطلق الطاعة ضلال مطلق مطبق ، والفسوق عن الطاعة المطلقة وهو مطلق الضلال غير مطبق ، فالحياد عن منهج الله ومحادّة حكم الله والحداد عن حدود الله هو الفساد الشامل للنفوس والأحوال ، التي تردي في الأوحال ، ومن ثم فحق لهم أن يضلهم الله بما يطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ).

ثم و «مثلا ما» (١) يشمل كافة الأمثال القرآنية ، ومثلا منها : «البعوضة» وهي أضعف ما يعرف عاميا من خلق الله (فَما فَوْقَها) في الضعف والخساسة ، الذي يعرفه البعض بعيون مجردة او مسلحة (٢) ولكن الله إذ يواجه الناس أجمعين يضرب أمثالا يعرف الناس أجمعون : نملا بعوضة ـ ذبابا ـ عنكبوتا ـ نحلا : وهي على صغرها وخستها حجما ، عظيمة في خصّتها خلقة وخاصّتها مثالا : فلما ذا الله يستحيي أن يضرب مثلا مّا : بعوضة فما فوقها؟ وما الأمثال في القرآن إلّا مظاهر نعيشها ، تدليلا على حقائق نجهلها.

ويا لمثل البعوضة فما فوقها من ملابسات هامة فيزيولوجيا وحيويا

__________________

(١). «ما» هنا ليست زائدة. وانما تعني الإجمال الشامل لكل مثل ، كما يقال : شيئا مّا ـ امرا مّا ـ رجلا مّا ـ شخصا مّا ، ف «ما» تؤكد التنكير الإجمال فيما قبله وتعمّه .. ف «بعوضة» منصوب على البدلية من مَثَلاً ما دون حاجة الى تكلفات اخرى تأبى عنها كلام الله!.

(٢). لان المقام هنا الاجابة عما يسئل عن صغر المثال «فَما فَوْقَها» هنا تعني : ما فوقها في الصغر والخسّة ، حيث الفوقية تختلف مواردها وكما يقال : فلان فوق فلان في الفقر ـ في اللؤم ـ في الفسق او في الصغر ، حيث الفوقية فيها هو الشدة في كل منها ... ومع ذلك كله فَما فَوْقَها في الآية تتحمل الفوقين : ان يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها في الصغر كالنملة وما فوقها ، او في الكبر كالنحلة وما فوقها.

٢٥٧

ودلالة على ما يرام منها هدى ورحمة للمؤمنين وتذكرة للكافرين (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ)!

فلا ضلال في المثال ، ولا من الله الذي يضربه لتقريب الحق ، وإنما في «الفاسقين» حيث يبدلون نعمة الله كفرا ، فليس من الله دفع إلى ضلال ، اللهم إلّا تركا لمن يهرع الى ضلال ، ثم ختما على قلبه فيزيد ضلالا على ضلال : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) إن في تركه فلا موفّق إلّا الله ، او في ختمه فلا رادّ لأمر الله.

كلام حول الضلال والهدى :

نرى عشرات من آيات الله البينات تنسب الإضلال الى الله كما تنسب إليه الهدى : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٣٥ : ٨) ولكنما المشية الإلهية ، الحكيمة العادلة ، لا تتعلق بإضلال المهتدين ، ولا الحائرين المتحرّين عن الهدى ، فلا نجد آية تحمل من إضلال الله من شيء إلّا بالنسبة للزائغين : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) الظالمين : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) (١٤ : ٢٧) والفاسقين : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) والكافرين : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) (٤٠ : ٧٤) او كل مسرف مرتاب: (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) (٤٠ : ٣٤) : إضلال بما زلّوا وضلوا من قبل ، لا بمعنى الدفع الى الضلال قبل بيان الهدى ، وانما تركا لهم يفعلون ما يريدون بعد الإياس من هداهم : (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٠ : ١١١) تعبيرا عن تركه لهم بإضلالهم إذ لم يحملهم على الهدى تسييرا : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧ : ١٨٦) (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (٩ : ٤٥).

ثم وبما يمدّهم في أعمار وأموال وبنين : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي

٢٥٨

طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٢ : ١٥) (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٧ : ١٨٣).

ثم وأخيرا أن يطبع على قلوبهم جزاء في الاولى بما كانوا يعملون : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (٤ : ١٥٥) (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) (١٠ : ٧٤) (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) (٧ : ١٠١) (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (٤٠ : ٣٥).

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (٦٣ : ٣) (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) (٤٥ : ٢٣).

وهكذا نرى أنّ الإضلال من الله لا يعني الدفع الى الضلال ، ولا سيما للمهتدين والحائرين ، وانما ترك وإهمال وامهال للضالين فيزدادوا ضلالا على ضلال (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

ثم الإفعال كما تاتي لنقل الفعل من لازم الى متعد ، كذلك تاتي لمجرد الوجدان (١) ف (أَضَلَّ اللهُ) قد تعني : وجده الله ضالا ، ثم ولم يهده فاستمر على ضلاله!

كما ونسب الإضلال الى نفسه بما هدى فلم يهتدوا وزادوا ضلالا : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) فدعاء الحق تزيد المبطل ضلالا بما يدفعه لتكذيبه وحرابه : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً).

__________________

(١). كما يقال : سألناكم فما ابخلناكم : فما وجدناكم بخلاء ـ أتيت ارض فلان فأعمرتها : وجدتها عامرة.

٢٥٩

فلا نجد في القرآن بأسره إضلالا ظالما إلهيّا مسيّرا للضلال! فالناس في مجال الهداية الإلهية على ضروب :

١ ـ منهم من يقبل الهدى إذ يعرفها فيصدقها ، فيزيده الله هدى على هدى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) (١٩ : ٧٦).

٢ ـ ومنهم المستضعف الحائر الذي لا يجد حيلة ولا يهتدي سبيلا ، فأولئك قد يهديهم الله او قد يعاملهم في الآخرة بالحسنى إذ كانوا قاصرين : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) (٤ : ٩٩).

٣ ـ ومنهم من يعرف الحق ويعانده فهل على الله أن يجبره على الهدى؟ : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٦ : ٩) (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (٣٢ : ١٣) كلّا! إنه الإختيار في كلّ من الضلالة والهدى ، ثم لكلّ زيادة جزاء وفاقا.

فآيات الإختيار في قبول الضلالة والهدى هي رأس الزاوية في مثلث الهدى ، تثبت التخيير وتنفي التسيير ، وتكملة البحث تترى في طيّات آيات الضلالة والهدى.

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨).

سؤال استنكار وتقبيح بمن يكفرون بالله ، وهذه التنقلات المقصودة من موت الى حياة ثم موت وثم حياة تدل على فاعل عليم حكيم ، فكل تطوّر بحاجة الى مطوّر ، فإذا كان مقصودا حكيما فليكن المطوّر قاصدا حكيما ، وهكذا تطورات الموت والحياة منذ البدء حتى الختام.

٢٦٠