الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

فنحن في مثلث الاستعانة المصاحبة الابتداء للسبعة أسماء الله ، إلّا ما لا يناسب ساحته وسماحته ، فابتداء كل أمر ذي بال ببسم الله توحيد لله ، وتركه إلحاد في الله ، وإشراك غيره في الابتداء به ابتداع وإشراك بالله ، وكل ذلك ـ لأقل تقدير ـ في لفظة القول ، وعلى الموحد أن يوحد الله قالا وحالا وافعالا.

ولأن الاسم في «بسم» جنسه لا شخصه ، فقد تعني كلّ هذه الأسماء ، حيث تتبنّاها (اللهِ ـ الرَّحْمنِ ـ الرَّحِيمِ).

فالله هو ذاته بصفاته الذاتية والفعلية كما هو اسمه اللفظي ، والرحمن صفاته الفعلية العامة ، والرحيم هي الخاصة ، وهما تعمان المنفصلة وسواها وهكذا تعني البسملة ما تعنيه السبع المثاني والقرآن العظيم جملة وتفصيلا!

ثم (اللهِ ـ الرَّحْمنِ ـ الرَّحِيمِ) أسماء ثلاثة تكفي عن سائر الأسماء ولا تكفي عنها سائر الأسماء.

ف «الله» هو اسم للذات المقدسة لا يسمى به سواه (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (١٩ : ٦٥) كلّا يا الله! وهو الاسم الأعظم الظاهر ، كما «هو» هو الأعظم الباطن ، وقد اشتقت منه كلمة التوحيد : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) حيث الّفت من حروفه الثلاثة ، وكذلك «هو» في وجه (١).

وفيما يروى عن امير المؤمنين (عليه السلام) «الله» أعظم الأسماء من

__________________

(١) من لطيف الأمر في ميّزات اسم الجلالة «الله» بين أسمائه الحسنى أنك كلما حذفت منها حرفا تبقى الدلالة على الذات المقدسة بحاله ومحفوظة عن شريك ف «الله» تجده محذوف الالف في «الله» ومحذوف اللّام ايضا في «إله» ثم محذوف اللام الثاني في «هو» حيث الواو ليست فيه متنا يبقى كما وتحذف في «هم ـ هما» ف «الله» و «هو» اسمان مختصان بالذات المقدسة.

٨١

أسماء الله وهو الاسم الذي لا ينبغي ان يسمى به غير الله لم يتسم به مخلوق».

فطالما المشركون يسمون أصنامهم وطواغيتهم آلهة ، ولكنهم لم يسموها «الله» إذ كانوا يرونه الأصل في الألوهية فحادوا عن تسميتها باسم «الله».

فكما الله واحد في ذاته وأفعاله وصفاته كذلك في اسمه «الله» وقد ذكر في الذكر الحكيم (٢٦٩٧) مرة وهي اكثر بكثير من سائر أسماءه وأسماء من سواه ، اهتماما زائدا به إلى مسماه ، وأنه اسم للذات المقدسة المستجمعة لجميع صفات الكمال جمالا وجلالا.

ثم «الله» علم للذات المقدسة ، سواء أكان أصله «الإله» ، معرفا فعلم باختصاص ، أم علما في الأصل عربيا كان أم عبريا او سريانيا ، جامدا او مشتقا ، كما اختلف فيه علماء اللغة والأدب واحتاروا فيه كما احتار الفلاسفة والعرفاء في ذاته المقدسة وصفاته ذاتية وفعلية.

وعلى أية حال فالألف واللّام فيه أصليان لا تسقطان ولا الألف ، بخلافهما في التعريف والوصل ، فالهمزة أصل وليست وصلا سواء أكان أصلها غيرها وهي بديلها أم هي هيه ، وحتى إذا كان للتعريف فهو الآن لا يحتاج إلى تعريف فمنسلخ ـ هو ـ إذا عن التعريف.

أو علّه ليس مشتقا من شيء كما لا يشتق منه شيء ، فلا يقال اللهي او الّاها أمّا هي.

ولان «الله» في العبرانية في الأصل «يهواه» وعلى الهامش «الوه» فقد نحتمل أنه معرب «الوه» أم وله أصل في العربية ايضا بين «إله» و «ولاه» هما من «الوه» ـ

٨٢

ولكن «إلوهيم» جمع «الوه» قد يجعل الأصل العبراني سواه ، فإن الله لا يجمع ، وقد لا ينافيه كما يجمع الإله ايضا بالآلهة وإن كان الله ليس ليجمع.

إذا ف «إلوه» هو «إله» يجمع ب «إلوهيم» في العبرية وب «آلهة» في العربية ولكن «الله» لا يجمع بشيء.

ثم الأصل العبراني ل «الله» علّه كما أنه «إلوه» : «إله» كذلك هو وبأحرى معنويا «يهواه».

و «الله» كاسم ظاهر لله هو أقرب أسمائه إلى الاسم الباطن «هو» وعلّه مشتق من «هو» كما هو مشتق من «إله» وقد تشهد له آياته ال (٨٠).

ثم الأصل المشتق منه فعلا في العربية في نظره لغوية او سمع مما قدمناه بين «وله ـ اله ـ اله» وتناسبه كلها في معناه ، وأصل هذه الثلاث «إله».

فهو من «اله» يعني عبد ، والله هو المعبود الحق وسائر الآلهة باطلة ، أم من ألهت إلى فلان اي سكنت ولجأت حيث يطمئن ويسكن إليه (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (١٣ : ٢٨).

أم من الوله وهو ذهاب العقل والحيرة الكاملة التائهة ، وهو واقع لا مردّ له بالنسبة للسالكين في سبيل المعرفة فقد تاهت العقول عن كنه معرفته.

ام من «لاه» : ارتفع ـ لأنه المرتفع المترفع عن سائر الكون ذاتا وصفاتا وافعالا ، وعن أن تطير إليه طائرات العقول.

٨٣

ام من «أله فيه يأله إلها» إذا تحير ، إذ حارت العقول عن كنه معرفته.

ام من «لاه يلوه» إذا احتجت حيث احتجب بكنه ألوهيته ، فلا يرتفع حجاب ذاته للسالكين اليه وحتى لأوّل العابدين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فضلا عن سواه:

يا من هو اختفى لفرط نوره

الظاهر الباطن في ظهوره

ام من «أله» الفصيل إذا ولع بأمه ، حيث العباد يولعون به ويتضرعون إليه.

أم من أله الرجل يأله إذا فزع حيث الخلائق يفزعون إليه ويستجيرون به.

ثمانية معان عدد أبواب الجنة الثمان كلها واردة بحق الله تبارك وتعالى فانه ـ ١ ـ المعبود ـ ٢ ـ المسكون إليه ـ ٣ ـ المؤله فيه ـ ٤ ـ المرتفع عن خلقه ـ ٥ ـ المتحيّر فيه ـ ٦ ـ المحتجب عن خلقه ـ ٧ ـ المولع به ـ ٨ ـ المفزوع إليه ، وهي كلها منصوصة في روايات عدة متظافرة.

ثم «الرحمن» هي في الدرجة الثانية من صفاته وأسمائه الحسنى ، فإنها الرحمة العامة بجميع خلقه ، ولا تعم صفات ذاته فضلا عن ذاته ، ف «الله» تعني الذات المقدسة بنوعي الصفات ، و «الرحمن» تخص صفات الفعل المتشعبة عن صفات الذات : «العلم والقدرة والحياة» فانها صادرة عن هذه الثلاث ، كما هي والذات واحدة وحدة الذات وصفات الذات ، دون زيادة صفات على ذات ولا تعطيل للصفات.

ثم «الرحيم» هي الثالثة حيث تخص خاصة الرحمات ولا تعم عامتها ، وهي والرحمن مبالغتان في الرحمة ، ولكنما الرحمن أبلغ من الرحيم لزيادة المبني وتوسّع المعنى ، والرحيم أرق وأدق لأقلية المعنى كما والمبنى ،

٨٤

مهما كان كيفها أعمق واشفق :

تذكر «الرحمن» في ساير القرآن (٥٧) مرة وحدها ، أم مع الرحيم التي تقابلها ، أم عامة الرحمات التي تفسرها ، في حين لا نجد «الرحيم» في سائر القرآن ال (٩٥) مرة ، لا نجدها وحدها إلا قرينة بخاصة من الرحمات تدليلا على أنها أخص من الرحمن.

والرحمة الرحمانية المطلقة ليست إلّا الخلق والهداية. (.. الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢٠ : ٥٠) وهي الهداية العامة التي تعم كل شيء.

ومن ثم سائر الرحمات كلها رحيمية قياسا لها ، مهما كانت بالنسبة لبعض البعض ، رحمانية ورحيمية مع بعض.

ف (رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) رحمانية مطلقة ، و (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) رحيمية بالنسبة لمطلق الخلق ، ولكنها رحمانية أمام (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) ثم وهذه الرحيمية رحمانية بالنسبة لرحمة الايمان في الإنسان المعلّم ما لم يعلم.

وفيما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل بيته (عليهم السلام) تجاوب لطيف حفيف مع الآيات كما هي دأبهم دائبين مشيا على ضوء القرآن الكريم!

«فالرحمن اسم خاص بصفة عامة والرحيم اسم عام بصفة خاصة» (١) ومن خاص الرحمن اختصاصها تسمية ومعنى بالله إذ لا يسمى بها سواه ، وكما لا رحمة عامة لسواه ، والرحيم يسمى بها سواه كما الرحمة

__________________

(١) نور الثقلين عن الامام الصادق (عليه السلام).

٨٥

الخاصة ، كما هي له تكون لسواه ، مهما بان البون بين الرحمتين على أية حال.

كما والرحمن خاصة بالأولى لعموم الخلق والهداية فيها ، دون الأخرى حيث المعاد في المعاد هم المكلفون فقط لا سواهم ، والمرحومون بينهم هم المؤمنون لا سواهم ، والرحيم تعم النشأتين «فالرحيم أرق من الرحمن وكلاهما رفيقان» (١).

وقد تعم الرحمن الآخرة كما الاولى نسبيا ف (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) (٢٥ : ٢٦) فهو «رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما» (٢) حيث المكلفون كلهم يحشرون برحمة رحمانية كما خلقوا اوّل مرة ثم المؤمنون منهم يرحمون برحمة رحيمية.

ولأن الرحمة العامة أوفق بالأولى من الأخرى ، كما الخاصة أوفق بالأخرى من الأولى ، إذا ف «الرحمن رحمن الدنيا والرحيم رحيم الآخرة» (٣). (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ)

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٩ ـ اخرج البيهقي عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث تقسيم الحمد ، بين الله وعبده فإذا قال العبد بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال الله : عبدي دعاني باسمين رفيقين أحدهما ارق من الآخر فالرحيم ارق من الرحمن وكلاهما رفيقان.

(٢) المصدر ـ اخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن سابط قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو بهؤلاء الكلمات ويعلمه : اللهم فارج الهم وكاشف الكرب ومجيب المضطر ورحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك.

(٣) مجمع البيان للطبرسي عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

٨٦

(٧ : ١٥٦) فالرحمة الواسعة هي الرحمانية حيث تسع كل شيء ، والمكتوبة هي الرحيمية التي تخص المؤمنين المتقين.

وما «الرحمن بجميع خلق والرحيم بالمؤمنين خاصة» (١) إلّا بيانا لمصداق خاص للرحيم بين مختلف مصاديقها ، فانها تعم الكافر الذي هو في سبيل الهدى كما تصرح لها آيات وتلمح لها أخرى ، كما تعم السابقين والمقربين المخلصين ، وبينهما متوسطون ، وهم المؤمنون فعلا بدرجاتهم (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٩ : ١٢٨).

ثم الرحمة وهي في الخلق رقة ، ليست في الخالق كما هيه ، فانه «رحيم لا يوصف بالرقة» (٢) ف ان الرحمة ما يحدث لنا منها شفقة ، ومنها وجود ، وان رحمة الله ثوابه لخلقه ، والرحمة من العباد شيئان أحدهما يحدث في القلب الرأفة والرقة لما يرى بالمرحوم من الضر والحاجة وضروب البلاء ، والآخر ما يحدث منا بعد الرأفة واللطف على المرحوم ، والمعرفة بما نزل به ، وقد يقول القائل : أنظر إلى رحمة فلان ، وإنما يريد الفعل الذي حدث عن الرقة التي في قلب فلان ، وإنما يضاف إلى الله عز وجل من فعل ما حدث عنا من هذه الأشياء ، وأما المعنى الذي في القلب فهو منفي عن الله كما وصف عن نفسه ، فهو «رحيم لا رحمة رقة»(٣).

فالرحمن والرحيم هما من الصفات المتشابهة : كالسميع والبصير وأضرابهما ، يجب ان تجرد لله عن صفات الحدوث ، مشاركة في الألفاظ

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ٤٤ محمد بن يعقوب باسناده عن عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن تفسير بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فقال ...

(٢) نهج البلاغة عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام).

(٣) في كتاب الإهليلجية عن الامام الصادق (عليه السلام).

٨٧

ومباينة في المعاني ، فانه تعالى وتقدس «باين عن خلقه وخلقه باين عنه» و «لا يتغير بانغيار المخلوقين كما لا يتّحد بتحديد المحدودين» فإنما رحمته تعالى رحمانية ورحيمية هي معاملة الرحمة دون رقة في قلب أو سواه ، إذ ليس له انفعال وانغيار أو رقة في قلب أو سواه ، فصفات الله تعالى تفسّر كما يناسب ساحة الذات (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).

وإذا كان البدء باسم الله يمثّل ما يعيشه المسلم من الكلية الأولى من توحيد الله ، فان استغراق الرحمة لحالاتها ومجالاتها رحمانية ورحيمية يمثّل كلية ثانية تقريرا لعلاقة المسلم في حياته كلها بالله ، عائشا في ظلال رحمته أينما حلّ وارتحل.

وقد أجملت البسملة عن الأصول الثلاثة ، ما توضّحه الفاتحة ، وتفصّله القرآن العظيم.

ف (بِسْمِ اللهِ) تعني الفقر الى الله ، ولزوم مصاحبة عبادة الله ، تدليلا من رسول الله ، وسواها مما تعنيه في مثلّث معاني الباء ومسبّع الاسم.

كما «الله» تدل على وحدانيته ، حيث الكائن اللّامحدود وهو صرف الوجود بكافة اللّانهايات من كمالات الوجود ، يستحيل تعدده ، فان لزام التعدد وجدان كل ما يفقده الآخر وهو نقص وحدّ.

ثم الرحمن تدلنا على باسط رحمته وواسع رأفته ، وقضيته (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢٠ : ٥٠) وكما الأشياء درجات ، فهدايتها درجات حسب الدرجات ، وللإنسان وهو في أحسن تقويم أعلى الهدايات.

ثم الرحيم تقتضي هذه الرحمة الخاصة بالإنسان ، وقضيتها هداية الوحي المعصوم بواسطة نبي معصوم حيث يحمل رسالة الله بهداه ، وقضيته

٨٨

ثانية ضرورة المعاد (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) ولو لا المعاد لكانت رحمة الهداية زحمة ، وكيف العالم القادر العدل الرحيم يترك القضاء العدل بين عباده؟ فإذ لا نرى جزاء وفاقا في الأولى فليكن في الأخرى «ولله الآخرة والأولى».

فهذه جملة مما في البسملة من المبدء والمعاد وما بين المبدء والمعاد.

وعلّ من حكم تثليث الأسماء (اللهِ ـ الرَّحْمنِ ـ الرَّحِيمِ) لتشمل عباد الله أجمع (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) (٣٥ : ٣٢) فهو «الله» للسابقين إذ يعبدونه لأنه الله وتلك عبادة الأحرار ، وهو الرحيم للمقتصدين إذ يعبدونه بين طامع في ثوابه وخائف من عقابه ، وهو الرحمن بسائر خلقه من الظالمين من يعفى عنهم ومن لا يعفى ، فإنهم تشملهم رحمته الرحمانية في الدنيا مهما كانوا كافرين!.

والبسملة حتى الضالين من كلامنا كما علّمنا ربنا كيف نكلّمه في معراجنا ، فانه تعالى لا يستعين أو يبتدء ويصاحب أمرا في أموره (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) كما وأنه لا يعبد ويستعين وإنما يعبد ويستعان ، ولا يطلب الهداية لنفسه إلى صراطه المستقيم ، مهما يحمد نفسه ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ولكنه ايضا إعلام وتعليم.

ف (بِسْمِ اللهِ) في كل ما عناه لأنه «الله» و (بِسْمِ اللهِ) لأنه «الرحمن» و (بِسْمِ اللهِ) لأنه «الرحيم» فإذا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢).

ان «الحمد له» تتلوا البسملة في الفضيلة فانها بداية كل امر ذي بال

٨٩

كما هيه ف «كلّ أمر ذي بال لم يبدأ ، فيه بحمد الله فهو أقطع» (١) فانها بلام الجنس تستغرق كل حمد من كل حامد لله دون إبقاء ، إذ تستجيش له كل حمد دون سواه ، أولا لأنه (اللهِ ـ الرَّحْمنِ ـ الرَّحِيمِ) وأخيرا لأنه (رَبِّ الْعالَمِينَ). (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) دون سواه ف (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨ : ٧٠).

إنها فاتحة الكتاب كأول دعوى في الاولى ، ثم في الاخرى لأهل الجنة هي آخر دعوى: (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠ : ١٠) :

وهي خير تحميد لله تبارك وتعالى بخير أوصاف كما علّمها عباده المخلصين : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) (٢) وأكمله (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) كما هنا وفي سواها (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٠ : ٦٥) وقد ذكرت الحمد لله رب العالمين قرينة بربوبيات خاصة (٣٢) مرة في سائر القرآن ، بيانا لربوبيته تعالى في مختلف الخلق والتدبير ويجمعه (رَبِّ الْعالَمِينَ).

وقد تشهد آيات من الحمد بخماسية السبب في اختصاص الحمد به دون سواه.

فلأنه الله : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) (١٧ : ١١١)

__________________

(١) حديث مستفيض في الحمد والبسملة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة من آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٢) فانها بنفس الصيغة تذكر في (٦ : ٤٥) (١٠ : ١٠) (٣٧ : ١٨٢) (٣٩ : ٧٥) (٤٠ : ٦٥).

٩٠

ولأنه الرحمن : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ..) (٦ : ١).

ولأنه الرحيم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) (١٨ : ٢)

ولأنه رب العالمين في آيات خمس سوى الفاتحة و (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١٥ : ٩٨)

ولأنه مالك يوم الدين : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (٣٩ : ٢٤) وهذه الخمس هي أسس الربوبية المطلقة تبتدء بالله وتنتهي إلى (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وبينهما متوسطات (رَبِّ الْعالَمِينَ ـ الرَّحْمنِ ـ الرَّحِيمِ).

ويا له من تجاوب لطيف بين القرآن المحكم «الحمد» والقرآن المفصل في آيات الحمد ما يطمئن أن السبع المثاني صورة مصغّرة عن القرآن العظيم.

إن (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هي «رأس الشكر» (١) و «فاتحة الشكر وخاتمته» (٢) فائقا على النعم المشكور لها فلا قيمة لها أمامها (٣)

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١١ ـ أخرجه جماعة من ارباب السنن عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ..

(٢) تفسير الفخر الرازي ١ : ٢٨٤ روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ان ابراهيم الخليل (عليه السلام) سأل ربه وقال : يا رب! ما جزاء من حمدك؟ فقال : الحمد لله ، فالحمد لله فاتحة الشكر وخاتمته.

(٣) الدر المنثور ١ : ١١ ـ ١٢ ـ اخرج جماعة عن انس قال قال رسول الله (صلّى الله

٩١

وهي كمال العقل في مدحته لربه (١).

وكما لام الحمد تستغرقه لله ، كذلك اللام في لله تختصه بالله دون أن يعدوه إلى سواه.

وعلى الحامد لله أن يحمده بفطرته وعقله وصدره وقلبه ولبه وفؤاده وكل جوانحه وجواره ، فيصبح بكله حمدا لله وفاقا بين جنباته دون نفاق ، دون قولة فارغة منافقة يكذبها الجنان وسائر الأركان.

فعلينا أن نعيش (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ونعيّش ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) في كل حل وترحال ، على أية حال ومجال ، في كل فكر او فعل او قال حتى نصبح (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) تجاوبا مع الكون كله في محراب الحمد ، من رعده وبرقه والملائكة من خيفته : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ

__________________

ـ عليه وآله وسلم): ما أنعم الله على عبده نعمة فقال : الحمد لله الا كان الذي اعطى أفضل مما اخذه وروى مثله عن جابر والحسن عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي تفسير الفخر الرازي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : إذا أنعم الله على عبده نعمة فيقول العبد الْحَمْدُ لِلَّهِ فيقول الله تعالى : انظروا الى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة له ، أقول : وهذه نهاية الرحمة الإلهية ومما لا قدر له أنه علمنا الحمد له ثم وفقنا بالحمد له ثم قدر انه لا قيمة له!.

(١) تفسير الفخر الرازي روى عن علي (عليه السلام) انه قال : خلق الله العقل من نور مكنون مخزون من سابق علمه فجعل العلم نفسه والفهم روحه ، والزهد رأسه والحياء يمينه والحكمة لسانه والخير سمعه والرأفة قلبه والرحمة همه والصبر بطنه ثم قيل له تكلم فقال : الحمد لله الذي ليس له ند ولا ضد ولا مثل ولا عدل الذي ذل كل شيء لعزته فقال الرب : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز عليّ منك :

٩٢

بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) (١٣ : ١٣) ومن كل شيء : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١٧ : ٤٤).

ومن لزام الحمد معنويا أن يشفّع بالتسبيح ، تسبيحا بحمده ، حيث الحمد ثناء على ثبوتية الصفات ، فلأنها فيما نعرفه من صفات تصاحب خالجة الإمكانيات الخارجة عن ساحة الذات ، نسبّحه بحمده عن صفات الممكنات ، فنعني من حمده بعلمه وحياته وقدرته نفي الجهل والموت والعجز عن ذاته حيث الثابتات منها في معروفنا ممكنات ولا نستطيع تصورها كما يناسب ساحة قدسه ف (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٣٧ : ١٦) :

لذلك لم يرد في ساير القرآن حمد بألسنة غير المخلصين من المكلفين ، إلّا الله حيث يحمد نفسه ، فهذا نوح يؤمر : (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢٣ : ٢٨) : وإبراهيم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) (١٤ : ٣٩) ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) (٢٧ : ٩٣) وداود وسليمان (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) (٢٧ : ١٥) إلّا ما حكاه عن أهل الجنة وهم المطهرون من خطأ القول وخطله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠ : ١٠).

فنحن إذ نؤمر بالحمد في الحمد وفي ساير الأحوال فلنشفعه بتسبيحه حتى يكون كما وصفه عباده المخلصون : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٧ : ١٨٠).

والحمد ـ ككل ـ هو الثناء الجميل على الجميل ذاتا وأفعالا وصفات ، ف «الله» حمد للذات بصفات الذات ، و (رَبِّ الْعالَمِينَ) حمد لصفات الفعل والأفعال ، فهو (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢٠ :

٩٣

٥٠) كما وأسماءه جميلة : (لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (٧ : ١٨٠) كما وذاته أجمل الذوات.

ثم وكل جمال وكمال في الخلق فائض منه وراجع إليه ، فليختص به الحمد كلّه ، كشعور يفيض به قلب المؤمن حين يذكر الله ، في كل خطوة وفي كل لحظة أو لمحة ، وفي كل خالجة او خارجة ، كقاعدة رصينة للتصور الايماني المباشر المعاشر.

فليكن الْحَمْدُ لِلَّهِ كما البسملة في موقعها اللائق وهو كل أمر ذي بال ، ولا أقل من أقل الحلال ، فإنها في غير الحلال تستبع اسْتَغْفِرِ اللهَ.

ثم الرب هو المالك المدبر المتصرف للإصلاح والتربية اللائقة السابغة ، فمن مالك لا يدبّر جهلا أو عيّا او بخلا أمّاذا ، ومن مدبّر لا يملك المدبّر حتى يسطع على إصلاحه كما يحبّ ويجب ، وهذا وذاك هما مطلق التدبير والملك ، ولله الربوبية المطلقة لا يعرقلها اي مانع ولا يردعها اي رادع ، لا كربوبية الخلق دون الأمر ، ولا الأمر دون الخلق (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٧ : ٥٤).

وكما ربوبية الخلق تعم الخلق لا من شيء كالخلق الاوّل ، والخلق من شي كسائر الخلق ، كذلك ربوبية تدبير الأمر وهي هداية كل شيء لشيئه : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢٠ : ٥٠) من جماد ونبات وحيوان والملائكة والإنس والجان أم أيا كان ، فلكلّ سبيل يسلكه بما هدى الله ، تكوينية وغريزية وتشريعية أماهيه؟.

فإطلاق الربوبية للعالمين دون إبقاء هو نظام التوحيد الحق وجاء فوضاها التي تفسح لغير الله مجال ربوبيات أو تسمح ، وقد تطاردها براهين

٩٤

العقل والآيات حيث توحّد الربوبية في الله وتوحده في كافة الربوبيات.

وهذا هو مفرق الطريق بين نظام الربوبية وفوضاها ، تزيل كل شائبة وكل غبش وهاجسة عن توحيد الله ، هذه التي تعزل الرب عن الحياة وتصرفاتها ، انقساما في الألوهية بين الذات والصفات والأفعال.

ف رَبِّ الْعالَمِينَ هو مالكهم وخالقهم وسائق أرزاقهم إليهم من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون ، فالرزق معلوم مقسوم وهو يأتي ابن آدم على أي سيرة سارها من الدنيا ليس تقوى متق بزائده ولا فجور فاجر بناقصه ، وبينه وبينه ستر وهو طالبه ..) (١).

والعالمين هم الخلق أجمعين ، وهو جمع العالم من العلم العلامة ، او من العلم المعرفة ، وكل العالم علامة للخالق وآية ، وكل العالم يعلم ربه ويسبح بحمده ، وجمعه السالم سليم عن الشذوذ ، ففيما يعني الخلائق أجمعين هو ترجيح لجانب العقلاء بينهم برزخا وسطا من الحقيقة والمجاز ، ام هو حقيقة تحتاج الى قرينة كما هنا وفي سائر ال (٧٣) موضعا من الذكر الحكيم ، اللهم إلّا فيما يخص ذوي العقول ، كذكرى القرآن : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) (٦ : ٩٠) والرسول : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (١٢ : ١٠٤) ورحمة الرسالة : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (٤١ : ١٠٧) ونذارتها (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (٢٥ : ١).

حيث القرآن ، والرسول برسالته ونذارته يخصّان العقلاء المكلفين دون سائر العالمين ، ولان الملائكة غير مكلفين برسالة القرآن ومنهم الرسل الى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وليست لهم شهوة النفس حتى يسمى

__________________

(١) تفسير الامام الحسن العسكري (عليه السلام) عن الإمام علي (عليه السلام).

٩٥

تكليفهم تكليفا ، ولم يرد في القرآن ، ولا لمحة أنهم مكلفون بالقرآن ، وأن اقل الجمع ثلاثة ، فليكن بعد عالم الإنس والجن ثالث لأقل تقدير ام يزيد لكي يعنيهم «العالمين» وقد تلمح لهم آية الشورى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) حيث الدابة العاقلة في السماوات الراجع إليها «هم» فيمن هو راجع إليه ، ليست هم الملائكة ، فهم إذا ثالث من العالمين أم ويزيد.

لا تجد في ساير القرآن «عالما» إلّا «العالمين» جمعا للخلائق أجمعين ، ام خاصا بالمكلفين ، فليعن ضروب المكلفين في أبعاد الزمان والمكان دون إبقاء.

وأفضل الربوبيات ـ هي طبعا ـ لأفضل البريات ، وهو الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم ، فشريعة الإنسان شرعة لسائر المكلفين ، كما رسول الإنس رسول لهم أجمعين ، مهما كانوا أدنى من الإنسان كالجان ، ام بمستواه في حسن التقويم كمن لا نعرفهم لحد الآن.

ثم الأفضل الأحسن بينهم! والأكثر حظوة من هذه الربوبية القمة هو الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فانه أول العابدين (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ).

تلك هي الربوبية الوحيدة الموحدة اللائقة بالذات المقدسة دون الضئيلة المحددة التي اختلقتها ركام الظنون والأساطير والتصورات الخاوية والجارفة المجازفة ، خليطة من حق وأضغاث الباطل ، فإذا الحق يعرض بصورة الباطل ، والباطل يفرض بصورة الحق ، وهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه ونجى الذين سبقت لهم من الله الحسنى.

لقد كانت البشرية تعيش تيها لا قرارة فيه ، لضخامة الركام الذي

٩٦

كان يبتليه ، فجاء الإسلام فأخرجها من الظلمات إلى النور ، إلى صراط العزيز الحميد ، من ظلمات الفلسفات والهرطقات التي تخبطت فيها ، إلى نور الحق المبين بالقرآن المتين والرسول الأمين.

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣).

أتراهما مكرورتان وبفاصل آية واحدة؟ حسب الظاهر نعم ، وفي الحق لا! حيث البسملة على كونها آية وأفضلها ، هي بنفسها مكرورة للفصل كما للفضل ، فليست ـ إذا ـ لتحلّ محل الآي في كل سورة ، فالرحمتان هما كآية مستقلة في صلب السورة بعد ان كانتا بعض آية من البسملة ، تأكيدا للسمة البارزة في تلك الربوبية الشاملة ، وتأبيدا لها في كل مقالة ومجالة ، وتثبيتا لقوائم الصلة الدائبة بين الرب والمربوبين ، التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة.

وقد تعنيان في البسملة رحمن الدنيا ورحيمها وفي الحمد له رحمن الآخرة ورحيمها ، أم هناك تعم الآخرة والأولى ، وهنا تخص الآخرة كما تلمح لها مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.

فحتى ولو كانتا مكرورتين بنفس المعنى ، ففي التكرار عناية ليس في الوحدة ، فرب العالمين ليس ليطارد المربوبين مطاردة الخصوم كآلهة الأولب في أساطير الإغريق ، فحتى فيما له غضب ، لم يكن إلّا وقبله منه نضب ، فقد سبقت رحمته غضبه ، لا يعذب عباده المستحقين إلّا اقل ما يستحقون ، ما لولاه لكان إجحافا بالصالحين ، وحيفا للطالحين ، حيث الإنذار له موقعه في ترك المحظور ، والإنذار؟؟؟ عن واقع العذاب إدغال وتدجيل وإغفال.

٩٧

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)).

إنه دون ريب «مالك» في كتب القرآن تواترا دون خلاف ، وهل يصح «ملك» كما صح «مالك»؟ فيه روايتان عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) متهافتتان ، فإنهما متفقتان في «كان يقرأ» مختلفتان في «مالك» و «ملك» فالاستمرارية المستفادة من «كان يقرأ مالك» تنفي «ملك» كما المستفادة من «كان يقرأ ملك» تمنع «مالك» والثلاثة المشتركون في روايتهما تزيد تهافتا فيهما على ما كان ، وبعرضها على القرآن يصدق «مالك» لا سواه ، ومثلهما المرويتان عن الصادق (عليه السلام) (١).

__________________

(١) فقد اخرج جماعة من ارباب السنن عن ام سلمة وانس وسعيد بن المسيب والبراء بن عازب والزهري وأبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه كان يقرأ «ملك» من دون الف ، كما اخرجوا عن انس وسالم عن أبيه والزهري وابن شهاب وأبي هريرة وابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه كان يقرأ «مالك» بالألف (الدر المنثور ١ : ١٣ ـ ١٤).

فالثلاثة : انس ـ ابو هريرة ، والزهري مشتركون في نقل الروايتين فالتعارض فيهما منهم من ناحيتين ، مهما كان سائدا من جهة واحدة في رواية غيرهم فأم سلمة وسعيد بن المسيب والبراء بن عازب يرون كلمة واحدة «ملك» ثم سالم عن أبيه وابن شهاب وابن مسعود يروون «مالك».

وقد يجمع بينهما أنّ الناقل «ملك» ظن «مالك» في امالة القراءة «ملك».

ومن طريق أصحابنا روى العياشي في تفسيره عن محمد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه كان يقرأ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وروى عن داود بن فرقد عنه (عليه السلام) قال سمعته (عليه السلام) يقرأ ما لا احصى «ملك يوم الدين».

وقد قرأ عاصم والكسائي وخلف ويعقوب «مالك» والباقون «ملك» وهذا تعارض القرائتين ، والمتعارضان رواية وقراءة معروضان على القرآن ، وهو يصدق في متواتر كتبه «مالك».

٩٨

والقول بالتخيير بين «مالك وملك» لا يلائم الروايتين ولا القراءتين ، وهو مخالف للقرآن ، وإضافة إلى أن السنة ليست لتخالف القرآن ، كيف تثبت سنة في مثل هذه المسألة العامة الدائمة الابتلاء ، بمثل هذه الرواية المبتلاة بمعارضة؟

ولو أن الآية كانت نازلة بهما لكانت مثبتة فيه بهما ، أم ثابتة كما القرآن ب «مالك» وبمتواتر السنة «ملك» فالأقوى بل القوي انحصار القراءة في «مالك» وانحسارها عن «ملك» وكيف يترك القرآن المتواتر برواية غير متواترة ، ولا يترك حتى بمتواترة ، اللهم إلا تواترا يوازي القرآن في التخيير بين القراءتين ، وهنا واحدة تحمل «ملك» قائلة أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ام حفيده الصادق (عليه السلام) كانا يقرءان «ملك» وهو على ضعفه في أصله يرفض «مالك».

«مالك» في ساير القرآن يذكر هنا وفي (مالِكَ الْمُلْكِ) (٣ : ٢٦) ثم «ملك» في خمس : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) (٢٠ : ١٤) و ٢٣ : ١١٦) (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) (٥٩ : ٢٣) و ٦٢ : ١) و (مَلِكِ النَّاسِ) (١١٤ : ٢).

ومن ثم «الملك» تأييدا للملك في (٢٤) موضعا ، ومن مجموع ال (٢٩) نرى الملك قرينا بيوم الدين في اربع : (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) (٦ : ٧٣) (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٠ : ١٦) (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) (٢٢ : ٥٦) (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) (٢٥ : ٢٦).

أترى أن اكثرية الملك بقرينة ترّجحه في الفاتحة على «مالك» ام ـ لأقل تقدير ـ تسمح له بديلا عن مالك؟

كلّا! فانها إنما ترجّح في غير القرآن ترجيحا لصدور الراجح على المرجوح ، وأما القرآن الثابت دون ريب فلا تراجح فيه صدورا ، وقرن

٩٩

الملك بيوم الدين لا ينفى الملك فإنهما متلازمان في الله ، مهما كان بينهما عموم من وجه فيمن سوى الله.

ثم الملك ليوم الدين والأمر فيه ومن فيه نجده في آيات أخر ، مما يجعله مثلثا فيه دون إبقاء لأي ملك فيه إلّا ويحويه : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٥٤ : ٥٥) شاملة لها كلها (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٨٢ : ١٩) شمولا للأمر كله (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٤٣ : ٨٦) (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (٣٤ : ٤٢). (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) (٧٨ : ٣٧).

ثم هنا ليس من الملك والملك إلّا المجازي المستودع لبعض ما في الزمان والمكان ، دون الزمان أيا كان وأيّان ، ودون المكان إلّا خصوص ما يملكه ملكا او ملكا ، فقد يملك الملك وقد لا يملك ، كما قد يكون المالك ملكا وقد لا يكون ، وفيما يجتمعان يختصان ببعض المكان ، وبعض ما ـ او ـ من في الزمان والمكان.

ولكن الله مالك وملك لمثلث الزمان والمكان وما في الزمان والمكان ملكا وملكا حقيقيا لا حول عنه ، فالكون أيا كان لزامه ذاتيا في العمق أنه مملوك لله وهو مالكه وملكه ، إذ (بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (٣٦ : ٨٣) وهي حقيقة الملك والملك ، والملك أعمق تدليلا على السلطة المطلقة من الملك وإن كانت الحقيقة منهما متلازمتان دون فكاك ولا احتكاك ، حيث المالك يملك العبيد وليست لهم أية خيرة أمام المالك ، وللملك سلطة على الرعية ولهم حق المطالبة بما يرونه حقهم ، فلكي تجتثّ خالجة أيّة خيرة للعبيد يوم الدين ياتي هنا (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) دون «ملك» وهما لله سيّان! حيث العبيد أدون حالا

١٠٠