الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ..) (١٧ : ٦٢)! وان كانت سجدة الشكر لنعمة لا تجعلها أفضل من الشاكر ، اللهم الا إذا كان نعمة روحية من تعليم او نبوة!

أم كان السجود لله شكرا على ما أنعم عليهم بمعلم كآدم ، كما تقول : سجدت لولدي ـ لرزقي ـ لصحتي .. والمسجود هو الله لما أعطاك وحباك! فاللّام إذا للغاية «اسجدوا» لله «لآدم» حيث خلقه الله لكم معلما داعيا إليه وسراجا منيرا كما (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) (١٢ : ١٠٠) : خروا سجدا لله ليوسف حيث وجدوه حيّا عزيزا ، فليس يعني السجود هنا وهناك لآدم او يوسف أنه المسجود له ، وانما مسجود لأجله المعبر عنه ب «له» «لآدم»!

فاللام الأولى للمسجود له والثانية للمسجود لأجله (١) تحذف الاولى حين تحذف اعتمادا على الضرورة العقلية والقرآنية وسائر كتابات السماء أن لا سجود إلّا لله ، عبودية أو احتراما أم شكرا.

وقد يجوز أنهم سجدوا إليه كقبلة ، سجودا لله : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) : لله شكرا لما خلق آدم ، متوجهين إليه كقبلة ، حيث كونه وسيطا بينهم وبين الله في سجودهم وسائر عباداتهم لله.

ف «انما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه لله وكان بذلك معظما مبجّلا» (٢) ام انهم سجدوا عليه كتربة يسجد عليها؟ ولكنما الملائكة ليست لتسجد على شيء فانها ماكنة السماء لا ساكنة الأرض! وليس هنا السجدة

__________________

(١) لسان العرب ٣ : ٢٠٤ ـ ولأهل العربية وجه آخر وهو ان يجعل اللام في قوله : وخروا له سجدا ـ وقوله : رايتهم لي ساجدين ـ لام من اجل : فالمعنى : وخروا من اجله سجدا لله شكرا.

(٢) تفسير البرهان ١ : ٨١ عن تفسير الامام الحسن العسكري (عليه السلام).

٣٠١

«على» بل السجدة ل! (١)

ولكن «ل» في السجود ، دون «الى» او «على» ينحّي هذا السجود عن هاتين ، اللهم إلّا معنيّا ضمنيا ما صلح معنويا كالقبلة ، دون كونه كتربة يسجد عليه!

او أن لامه للانتفاع «اسجدوا لينتفع آدم» : اخضعوا لأمر الله في تحقيق مصالح آدم لحاجياته الحيوية نفسية ومادية ، وكما نراهم هكذا يعملون ، من ملائكة الوحي والمدبرات أمرا أم ماذا.

أو أنه يحمل مثلث المعنى : أن آدم كان قبلة والمسجود هو الله سجدة شكر لله ، وخضوع في صالح آدم لأمر الله ، والآية تتحملها كلها ، ما دام المسجود هو الله ، دون آدم ، ولان «سجد» لازم فليتعد بشيء ، فلام «لله» هي للتعدية .. (اسْجُدُوا لِلَّهِ) واللام في غير الله لغيرها كما في سجدة الشكر «لآدم وليوسف» إذ تعنيان : اسجدوا لله لآدم او ليوسف!

ومهما يكن من شيء ففي هذا السجود لآدم مكرمة له وشكر لله أن يسجد له لله لما أنعم ، لمّا أنعم ، فله الشكر بما أنعم وألهم.

وهل يا ترى أن الملائكة كيف سجدوا؟ لا شك انهم تطامنوا في غاية التذلل والخنوع،واما كيف فلا ندري ، فلكل كائن هيئة خاصة لسجوده

__________________

(١) ومن اغرب ما نراه في هذا المسرح اختلاف الشيخين الأعظمين المفيد والطوسي في ماهيته الشيطان؟ اختلاف التناقض ـ قال في البيان : كان إبليس من الملائكة بدلالة استثناءه من جملتهم وهو المروي عن أبي عبد الله والظاهر في تفسيرنا واخبارنا.

وقال الشيخ المفيد إبليس كان من الجن ولم يكن من الملائكة وقد جاءت الأخبار بذلك متواترة عن أئمة الهدى وهو من مذهب الامامية.

أقول : ليتهما استندا فيما ذهبا اليه الى كتاب الله ، دون ان يقعوا في فخ دعوى التناقض بين متواتر الأخبار! ـ هامش الصفحة ٣٠٣.

٣٠٢

كما يناسبه ، ام دون هيئة وانما حقيقة السجود كما (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ) (١٣ : ١٥) (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) (٥٥ : ٦) ولا شك ليس يسجد كل الكائنات كما نسجد بوضع الجباه على الأرض ، ولا سيما في السجود التكويني كرها ان ذواتها خاضعة لارادة الله ، مسيّرة في قبضة الله دونما تمنّع ، لا فحسب ، فحتى الإنسان حيث يؤمر بغاية الخضوع أحيانا دون هيئته الخاصة كما الخضوع للقرآن ـ التامـ: (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) (٨٤ : ٢١) حيث تفرض السجود عند قرائة القرآن ككلّ ، وهو لا شك غير سجدة التلاوة في آياتها الخاصة ، حيث الموضوع هنا القرآن كلّه ، فلتكن غاية الخضوع استماعا وإنصاتا وتفهما وتصديقا وتطبيقا ، وهي هنا السجدة كما قد تكون السجدة حالة المشيء ، فلا يمكن ان تكون الهيئة الخاصة في الصلاة كما امر بنو إسرائيل حين دخول القدس : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) (٢ : ٥٨) فغاية الخضوع حالة المشيء الدخول ، هي التطامن الى الأرض كما يستطاع ، وهو أركع من الركوع ، وأرفع من السجود!.

فالسجود بكافة صنوفه في هيئات خاصة او دونها ، له معنى واحد : «غاية الخضوع»: طوعا او كرها بأرجائه وأجوائه ، مهما اختلفت شاكلته وحالاته وغاياته ، اللهم إلّا هتكا وهزأ!

إذا فلا تهمنا وتعنينا أن الملائكة كيف سجدوا ويسجدون ، وبعد ما سكت الله عنها ، وانما أنهم خضعوا للغاية وتذللوا للنهاية بما لا يحق إلّا لله ، فسبحان الله عما يصفون!.

(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ..).

لا شك أن إبليس لم يكن من الملائكة كونا في أصله وهيئته مهما كان

٣٠٣

منهم في كيانه وظاهر عبادته ، فقد «كان من الجن ففسق عن امر به» ولو كان من الملائكة لم يفسق عن أمر ربه : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ).

كما وأن الملائكة أيضا تعترف أن الجن لا تسانخهم ولا تجانس : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ ـ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) (٣٤ : ٤١)

ومن ثم فإبليس له ذرية : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) (١٨ : ٥٠) ولا ذرية إلّا بين ذكر وأنثى ، والجن منهم نساء ومنهم رجال : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ) والملائكة لا ذكور فيهم ولا إناث : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) وإذ لا إناث فيهم فلا رجال ، أم ـ على أقل تقدير ـ ليست لهم ذرية فإنها بين رجال وإناث!.

فترى إذ لم يكن إبليس من قبيل الملائكة فكيف يشمله أمر السجود الخاص بالملائكة: (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ)؟ وكيف يعتبر عاصيا إذ لم يسجد ، أفعصيانا دون ذنب؟!

إنه أمر ولعله مرتين ، إحداهما : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (٧ : ١٢) كما وهو معترف بالأمر : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (١٧ : ٦١) وإلّا كان يعتذر ويعترض بعدم الأمر!

فلقد شمله أمر الملائكة ـ كما وعلّه اختصه امر ثان ـ شمله حيث كان في العبادة بكيان الملائكة ، وحتى في مكان الملائكة ، فعدّ منهم من حيث الملائكية الروحانية ، مهما اختلف عنهم في غيرها ، عبد الله معهم كما كانوا

٣٠٤

يعبدون ، ردحا بعيدا من الزمن نفاقا عارما كافرا ، حتى أظهر مكنونه إذا أمر (١) ف (أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٣٩ : ٧٤) : كان إذ كان مع الملائكة من الكافرين المنافقين.

وهنا الاستثناء متصل ، وعلى انفصالها فالوجه انه لم يكن منهم لا كونا ولا كيانا ، ولكنه إذ أمر شخصيا بالسجود : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) اعتبر هنا في ردف المأمورين وليس منهم في غيره ، وعلّ الفائدة هنا أتم ، إذ الاستثناء المنقطع تفيد الاستغراق : لم يبق منهم احد إلّا سجد ، فلم يعص منهم احد ، اللهم (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (١٨ : ٥٠) : وأما هم : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (١٥ : ٣٠) مما يؤكد استغراق الأمر بالسجود.

__________________

(١) نور الثقلين (١ : ٥٥) عن تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله (ع) قال : سئل عما ندب الله الخلق اليه أدخل فيه الضلال ، قال : نعم والكافرون دخلوا فيه لأن الله تبارك وتعالى امر الملائكة بالسجود لآدم فدخل في امره الملائكة وإبليس ، كان مع الملائكة في السماء يعبد الله وكانت الملائكة تظن انه منهم ولم يكن منهم ، فلما امر الله الملائكة بالسجود لآدم اخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد فعلمت الملائكة عند ذلك ان إبليس لم يكن منهم فقيل له (ع) فكيف وقع الأمر على إبليس وانما امر الله الملائكة بالسجود لآدم فقال : كان إبليس منهم بالولاء ولم يكن من جنس الملائكة وذلك ان الله خلق خلقا قبل آدم وكان إبليس منهم حاكما في الأرض فعتوا وأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله الملائكة فقتلوهم وأسروا إبليس ورفعوه الى السماء فكان مع الملائكة يعبد الله الى أن خلق الله تبارك وتعالى آدم.

أقول : لعل الجمع بين معرفتهم لإبليس وعدمها ان الذين قاتلوه هم عرفوه دون سواهم.

ثم أقول : وفي معناه ان إبليس لم يكن منهم ، رواه في اصول الكافي عن علي بن ابراهيم عن أبي عبد الله (ع) ..

٣٠٥

(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) : وهناك تفاصيل وتعاليل من قياس إبليس لمّا ترك السجود لآدم ، أجمل عنها هنا وفصّلت في سائر آياتها الست الأخرى ، ندرسها في طياتها ، وهي في صيغة واحدة : رد على الله وردّة عن شرعة الله بقياس فيه إبلاس : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٧ : ١٢) (قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (١٥ : ٣٣) (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (١٧ : ٦١) (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) (٢١ : ١٦) (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (١٨ : ٥٠)

وهنا نجمل كما أجمل الله وما أجمله شمولا (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) : أبى ان يسجد كما أمر الله ، واستكبر على آدم وعلى الله ، على آدم حيث عدّه أدنى منه لان جنسه ـ كما زعم ـ أعلى من جنسه ، وعلى الله حيث رد حكمه بقياس ، تجهيلا لله وترفّعا عليه كأنه أعلم منه في مناطات الأحكام ، فليس إذا كفره لأنه ما سجد ، حيث التاركون من المسلمين للسجود كثير وما هم بكافرين ، إذ يأبون دون استكبار ، وإنما لاستكباره. لرده حكم الله ومحادّته لله ، وما أكفره من يحاجّ الله ، فانه ليس فقط تكذيبا لله ، بل وترفعا وطغيانا على الله ، فهو أنحس من ايّ شرك او كفر او إلحاد ، ولذلك فهو زعيم الضالين أجمعين

إن «إبليس» كلما يذكر فهو زعيم الشياطين ، طالما الشيطان يعمه وسائر الشياطين ، وإن أخطر مواقفه وأكفرها هو رده على رب العالمين ، فاختص في موارده ب «إبليس» : إحدى عشر موضعا من الذكر الحكيم ، طالما الشيطان يذكر في (٦٨) والشياطين في (١٧) زائدا على جنوده الشياطين باسميه في (٦٢) موضعا : ثنوي الاسم وثالوثي الموقف : إبليس ـ شيطان ـ شياطين : بشخصه وحزبه

٣٠٦

والإبلاس حزن معترض من شدة البأس ، وقطع ، وانقطاع حجة ، وحيرة ، وقنوط ، وقطع رجاء ، وانكسار ، وحزن ، وإيقاع في البلس : الالتباس.

وإبليس يجمع في نفسه جميع هذه المعاني لاسمه : حزنا على ما كرّم عليه آدم وطرد ، وقطعا للجنة والناس من الوصول الى مأمولهم ، مع انقطاع حجته أمام الله وأمام الخلق ، وحيرة فيما تورّط فيه ووقع من هوّات ، وقطع رجاء لنفسه عن رحمة الله ولغيره أيضا عن مغفرة الله ، وانكسار في كافة الحقول الدعائية أمام عباد الله ، وحزن مما يجاهدون في سبيل الله ، وإبلاس لهم فيما يعتنقون من شريعة الله ، وكل ذلك تجمعها (أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)

إن إبليس يبلس كما المجرمون مبلسون يوم الدنيا ويوم الدين : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (٤٤ : ٦) (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) (٣٠ : ١٢) ولكنما إبليس زعيمهم هو الأصل في الإبلاس كما إفعيل مبالغة في مادته ، والإبلاس هنا هو الإياس ، فانه آيس عن رحمة الله ويؤيس عن رحمة الله ليجلب اكثر عدد ممكن إلى حزبه ، ألا فتيقظوا يا أولي الأبصار!

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٣٦)

قصة الجنة هذه تذكر هنا وفي أخرى : (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ ، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما

٣٠٧

رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ. وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ ، فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ ، قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ، قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ، قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) (٧ : ٢٥)

وثالثة في طه : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً. وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى. فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى. فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى ، فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى. قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) (٢٠ : ١٢٣).

مواضع ثلاثة تذكر فيها قصة جنه آدم ، كما وذكرت قصة المعركة المصيرية بين إبليس وآدم في سبعة هذه منها ، معركة تفتح للغاوين السبعة أبواب الجحيم كما ذكرت في سبعة ، ندرس الثلاثة هنا ونترك السبعة الى محالها ، وفي الهامش عرض الاعتراضات السبع الابليسية(١).

__________________

(١) في تفسير الفخر الرازي : ٢ / ٢٣٦ : حكى محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أول كتابه المسمى بالملل والنحل عن ماري شارح الأنا جيل الأربعة ، وهي مذكورة في التوراة على شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود ، قال إبليس للملائكة :

٣٠٨

وفي هذه القصة مسارح للبحث والتساءل ندرسها على ضوء المثلث من آياتها ، تاركين الأقاويل والروايات المتناقضة التي لا تلائمها ، كما هو دأبنا في تفسيرنا (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ

__________________

ـ إني اسلم ان لي إلها هو خالقي وموجدي وهو خالق الخلق لكن لي على حكمة الله تعالى اسئلة سبعة :

الأولى : ما الحكمة في الخلق لا سيما إن كان عالما بان الكافر يستوجب عند خلقه الآلام؟.

الثاني : ثم ما الفائدة في التكليف مع انه لا يعود منه ضرر ولا نفع وكل ما يعود الى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟.

الثالث : هب انه كلفني بمعرفته وطاعته فلما ذا كلفني بالسجود لآدم.

الرابع : ثم لما عصيته في ترك السجود لآدم فلم لعنني وأوجب عقابي مع انه لا فائدة له ولا لغيره فيه ولي فيه أعظم الضرر؟.

الخامس : ثم لما فعل ذلك فلم مكنّني من الدخول الى الجنة ووسوست لآدم؟.

السادس : ثم لما فعلت ذلك فلم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم وإضلالهم؟.

السابع : ثم لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني؟ ومعلوم ان العالم لو كان خاليا من الشر لكان ذلك خيرا! ..

هكذا زين لإبليس سوء تفكيره والجواب كلمة واحدة :

«لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» حيث المسئول تنديدا ليس إلا لجاهل او العامد الخاطئ والظالم المفتاق ، وأما الغني الحميد والعالم الذي علمه لا يبد فلا يسأل إلا تفهما!

ثم الحكمة في الخلق هو اظهار لطفه ورحمته وإبراز عطفه ونعمته ، فما لمن بدّل نعمه الله نقمة ان يعترض على ما أتاه الله من نعمة.

ثم التكليف ليس لفائدة الى الله من دفع ضر أو جلب نفع ، وانما العائدة الى المكلفين واستكمالا للهدف من خلقهم ف (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) وتحصيل الكمال لنا دون سعي بطالة وعطالة وهي خلاف ـ

٣٠٩

الْمُصْلِحِينَ) (٧ : ١٧) فعلّنا نكون ممن يصلح ولا يفسد في آي الذكر الحكيم.

فما هي جنة آدم؟ ولماذا أدخل فيها إذا كانت سماوية وهو خليفة أرضية؟ وما هي الشجرة المنهية؟ وكيف النهي؟ وكيف يجوز العصيان من الخليفة المفضّلة على الملائكة وهو نبي؟ وكيف استطاع إبليس أن يزلّهما وهو خارج الجنة إذ أمر بالهبوط قبله؟ ومن هم المأمورون بالهبوط : «اهبطوا»؟ وما هي الكلمات التي تلقاها من ربه فتاب عليه؟ أم ماذا من أسئلة حول هاه القصة المهمة التي تستعرض بداية ظهور الإنسان وحياته.

__________________

ـ الحكمة.

ثم التكليف بالمعرفة والطاعة لزامه الابتلاء بالأمر والنهي ، ومنه السجود لآدم إظهارا لفضله ، رغم أنه أضله ، فليرغم بذلك جزاء عما أضل.

وليس العذاب واللعنة إلا من خلفيات العصيان أيا كان دونما ابتغاء فائدة لله ام لغيره وإنما جزاء وفاقا هو العصيان بنفسه في ظهور حقيقته ، ولكيلا يسوّي بين المحسن والمسي ، وليتحذر كل سيّئ.

وفي تمكينه لدخول الجنة تمكين بلا تسيير لاقتراف المعصية ، فلو لم يمكّن العاصي في عصيانه لم يفرّق بين المطيع والعاصي وهذا ظلم

وتسليطه على ولد آدم ليس تسليط التسيير ، وانما تخيير دون الزام ، لا في إغواء ولا إهداء ، وحجج الله البالغة كافية لولد آدم تركا لطاعة إبليس ، وفي ذلك التسليط ابتلاء يجعل من المدعين الايمان مخلصين وغير مخلصين ، ولتمييز الصالح عن غيره ، فعند الامتحان يكرم المرء او يهان.

وفي إمهاله إملال وإدلال ، وليظهر مكنون كفره كما هو ، ويظهر مدخول النيات والطويات لمن يدعون الايمان.

فلقد أغلقت أبواب جحيم إبليس السبعة بكلمة واحدة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ).

٣١٠

١ ـ جنة آدم؟

ترى إنها جنة الخلد؟ وكما يفهم من إطلاقها دون قرينة تصرفها عن وجهها؟

١ ـ وجنة الخلد هي خلد دونما شرط الأكل من شجرة خاصة منها ، فكيف عصى آدم ربه فغوى طمعا فيها : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى. فَأَكَلا مِنْها ،) (٢٠ : ١٢١) وآدم أعرف بها منا إذ دخلها ، فلو كانت هي الخلد لم يزلّ للحصول عليه بالأكل من شجرة الخلد وملك لا يبلى!

٢ ـ وأن (فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) دونما استثناء ، وقد نهي آدم فيها عما اشتهت نفسه!

٣ ـ وأن الداخل فيها ليس بخارج عنها : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) (١٥ : ٤٨) وقد مسّه نصب وأهبط عنها ، وهم (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (٥ : ١١٩) (لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) (٩ : ٢١) :

٤ ـ وان الكافر محروم عنها ونادى اصحاب النار اصحاب الجنة ان أفيضوا علينا من الماء او مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين (٧ : ٥٠) وإبليس كان من الكافرين!

٥ ـ وان الخلد هي جنة الآخرة ، لا يدخلها احد قبل الآخرة ، فكيف دخلها آدم وزوجه في الأولى وقبل أن تقوم القيامة!.

٦ ـ وأنها ليست دار شريعة وتكليف وقد كلّف آدم فيها!

٧ ـ وأنه لا يدخلها إلّا من آمن وعمل الصالحات وجاهد وصابر : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (٣ : ١٤٢) ولا يعرف لآدم عمل يستحق به الجنة قبل دخولها ولا موقف

٣١١

للمصابرة قبل معركة الشيطان!.

٨ ـ وانها لا تزلف لأهله إلّا عند القيامة : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) فكيف يدخلها آدم قبل إزلافها وقبل ابتلاء التقوى! :

فلدخول جنة الخلد التي لها ثمانية أبواب ، ثمانية أبواب شرحناها ، ولم يدق آدم حينذاك ولا بابا واحدة فكيف دخلها؟!

ام كانت هي الجنة البرزخية؟ ١ ـ ولا دخول فيها قبل الموت عن الحياة الدنيا وكما تشهد لها آياتها : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) :

٢ ـ ولا يخرج الداخل فيها ما دامت السماوات والأرض : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١١ : ١٠٨).

٣ ـ ولا يدخلها الداخلون إلّا بأبدان تناسبها هي البرزخ بين الآخرة والأولى ، دون الأبدان الأولى!

إذا فلتكن هي من جنان الدنيا ، وترى أنها من جنان الدنيا الأرضية؟ أم السماوية؟ والأرضية منها ترفضها آياتها : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ولا هبوط إلّا من أعلى الى ادني ، ثم ولا تدل (اهْبِطُوا مِصْراً) على أنها المعني منها ، حيث القرينة الأرضية هنا حاكمة دونها ، وتفسير آية بأخرى ليس أن تفسرها بما فسرت الثانية مع فارق قرينة فيها دونها ، فانه من ضرب الآيات بعضها ببعض ، وهنا قرينة قاطعة أن الهبوط كان من جنة في السماء : (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ. قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) حيث الأرض المستقر فيها هي كلّ الأرض بجنانها وجاه السماء ، وفيها حياة وموت وخروج منها ، دون الجنة التي كان آدم فيها ، وأن في الأرض الشقاء أيا كانت دون هذه الجنة :

٣١٢

(فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى ، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) وفي الأرض بجناتها جوع وعرى وظمأ وضحى!

إذا فلتكن هي من جنان السماء ، المتوفرة فيها مواصفاتها التي ليست في جنان الأرض أبدا.

وهل خلق آدم وزوجه فيها ومن ترابها ثم أسكنا فيها استمرارا لكونهما؟ كما قد توحي له : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)؟ والسكون لا يخص الاستمرار فيما كان ، وقد يلمح للدخول ، فلا يقال للمكوّن في مكان : اسكن فيه ، فانه لا محالة ساكن فيه ما لم ينقل عنه ، وإنما يقال : ابق فيها ، فالسكون فيها هو الدخول ، وكما توحي له خلافته الأرضية منذ خلق : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها).

إذا فهو مخلوق في الأرض ثم منقول منها الى جنة في السماء ، علّها جنة المسيح (عليه السلام) التي رفعه الله إليها ، مما يدل أن الحياة الارضية تختلف عن حياة الجنة الدنيوية في السماء ، ف (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى ، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) وبصيغة واحدة انك فيها لا تشقى : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى).

فلتكن فيها حياة بلا شقاء ، بلا جوع ولا عرى ولا ظمأ ولا ضحى ، فلتكن فيها أحياء وسعداء لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

وترى كيف صعد إليها آدم وحواء ثم كيف هبطا؟ القرآن ساكت عنها ، فلنسكت عما سكت الله عنه.

٢ ـ خليفة الأرض كيف يسكن جنة السماء ولماذا؟

إن آدم ـ دون شك ـ خلق لهذه الأرض بحياتها الشقية البلاء منذ اللحظة الاولى ، ولكنه لا بد له من تجربة واستعداد ، إيقاظا لقواه المكنونة ،

٣١٣

وإبرازا لسوئاته المواراة ، ومعرفة لشيطانه الغاوي ، تدريبا له على تلقي الغواية ، وتذوّق النهاية ، وتجرّع الندامة ، واللجوء المكين إلى ملاذ أمين.

فنسيان العهد ، ووسوسة الشيطان في الشجرة المنهية ، والصحوة بعد السكرة ، والندامة بعد المعصية ، التي بدأت لآدم وزوجه في الجنة ، إنها مثال التجربة البشرية المتكررة في الحياة الأرضية ، فليستعد آدم وزوجه لمعركة الشيطان المصيرية الدائبة على هذه الأرض وليعرف أن الشيطان لا يكاد يتخلى عنه في الجنة فكيف له في الأرض ، فليعدّ عدته وعدّته لمعترك هذه الساحة بسلاح اليقظة حتى لا يقع في فخّه ، ثم التوبة لو اعترضته اللمم ، تلقيا من الله عهده فلا ينساه ، ومعرفة عدوه فلا يهواه! وتعرّفا إلى كلماته ليتوب عليه (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

إن تجربة الجنة توحي بأن حياة الخليفة الأرضية هي حياة الجنة لو لا الخطيئة ، وسوف تنتهي إلى الجنة إذا تداركها بالتوبة ، كما وتتدارك حياته الأرضية ايضا بالتوبة ، وأن الطريق إلى التوبة مفتوحة في يسر وبساطة ، وحتى إذا كانت توبة وقتية فضلا عن التوبة النصوح.

وتوحي ايضا أن ما حلت في حياته من الطيبات اكثر بكثير مما حرمت من الخبيثات(١) فان له أن يستعيض الطيبات بخبيثات يهواها على ضوء الشريعة السهلة السمحاء ، فلا عليه إذ يهدف تبنّي حياة الجنة في الأولى والآخرة إلّا أنها تنغّص الحياة المريحة ، وتهدم صرح الإنسانية.

ففي معترك الحياة الأرضية تكفيك معرفة عدوك بما عرفه الله ، والالتزام بعهد الله ، ثم التوبة إلى الله إذا اعترضتك لمم ، مثلث الحياة للخليفة الأرضية ، التي تجعلها راجعة الى ربها راضية مرضية! ..

__________________

(١) نستوحيه من (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ).

٣١٤

٣ ـ ما هي الشجرة المنهية؟

لا نجد لها اسما في آياتها الثلاث ، اللهم إلّا سمات وآثارا ، وهي هي المقصودة في كتاب الهداية دون الأسماء ، إذ لا جدوى فيها إلّا تعريف المسميات ، وعلّ القصد من الشجرة المنهية ليس شجرة واحدة مما نعرفها ، وإنما جنس ما يتشجر تحريضا للشهوات والتشاجرات ، فليس لها ـ اذن ـ اسم خاص ولا مسمى خاص ، وانما كلما يؤثر ذوقه وتناوله هذه الآثار : الخروج من حياة الجنة الى حياة الشقاء والعناء ، حياة الجوع والعرى والظمأ ، والضحى وظهور السوءات ، وهي في صيغة اخرى : نسيان عهد الله والإعراض عن ذكر الله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ... وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) كما في الآيات من طه ، فضنك المعيشة وشقائها ، والهبوط من حياة الجنة الى ارض التجربة والبلاء ، كل ذلك من مخلفات ذوق هذه الشجرة ، التي تشجّر الحياة فتعملها فوضى ، وتتشجر عنها الحياة الظالمة المظلمة فتخلّف عيشة ضنكا!.

هذه هي الشجرة المنهية بسماتها دون أن نعرف اسمها او أسمائها حيث لا جدوى فيها إلّا سماتها ، مهما تشجرت الآراء في اسمها ، بين هابطة خابطة كالتي تسربت في توراة موسى : شجرة المعرفة! وبين ما لا طائل تحتها او لا صلة بها وآثارها ، او لا دليل لها من علم او أثارة من علم (١).

__________________

(١) انها بين ستة عشر قولا : شجرة الكرم ، النخلة ، التين ، الحنطة ، السنبلة ، الكافور ، الأترج ، الحنظل ، المحبة ، الطبيعة ، الهوى. العلم بالخير والشر ، الخلد ،

٣١٥

وترى كيف ينهى عن تناول شجرة المعرفة بين الحسن والقبح ، وهي الشجرة الطيبة التي خلق الإنسان لها ، وامره الله ان يعيشها متزودا بها حياته وحياتها ، مندّدا بمن لا يستظل في ظلها ، ولا يتناول من ثمراتها؟ فكيف ينهى عنها؟

أم كيف يعصى بتناولها قبل أن يعرف الحسن والقبح؟ ومن القبيح عصيان الله! فليعرف فيتعرف إليها بذوقها حتى لا يعصى ربه بعدها! فلما ذا عدّ من العصاة؟ : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) فلو كانت هي شجرة المعرفة كان تناولها من أفضل الطاعة! ثم ولا عصيان قبل المعرفة! حيث هي مهبط التكاليف الإلهية ، واما المجانين او البله المستضعفين الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، فليسوا هؤلاء عصاة!.

ثم آدم الذي علّم الأسماء كلها وأنبأ الملائكة بأسمائها ، هلّا كان هو من العرفاء ، ولحد يعرف الحسن عن القبيح حتى يعصى ربه في ذوق شجرة المعرفة! إنها لقولة فارغة هراء ، خاوية عراء ، والله منها براء!

وأما شجرة الكرم والنخلة والتين والحنطة والكافور والأترج والسنبلة فليست هي بالتي تؤثر هذا الأثر الرذيل ، رغم أن التين مبارك في القرآن والسنبلة مباركة في حديث الرسول ، والنخلة ام للآكلة ، والحنطة إدام لدوام الحياة ، والكافور ممدوح في القرآن ، والأترج في السنة ، فما هي الصلة الطبيعية بينها وبين هذه العرقلات للحياة مادية وروحية ، اللهم إلّا كونه نهي امتحان دون أن تحمل شجرته هذه وتلك من العرقلات ، ولكنما التوبة ـ إذا ـ لا بد وان ترجع بصاحبها الى ما كان من حياة الجنة لو لا أن طبيعة الشجرة المنهية تحمل عناء الحياة وشقائها ، وكما أن ذوقها عصيانا لله

__________________

ـ الحسد ، شجرة علم محمد وآله ، والمؤيدة ببعض الروايات منها هي : ١ ـ ٤ ـ ٥ ـ ٦ ـ ١٥ ـ ١٦.

٣١٦

نسيان لعهد الله وإعراض عن ذكر الله.

فنفسية الشقاء هي من مخلفات العصيان ، ومادّيتها من آثار هذه الشجرة ، خلاف ما وصفها الشيطان : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى)!

ومهما يكن من شيء فلنسكت عما سكت الله ، ونفصح مستصفحا عما ذكر الله ، وما هو في مثلث الآيات إلّا التي عرفناها : شجرة الإعراض عن ذكر الله ، تتبع نسيان عهد الله ، فتخلّف معيشة ضنكا : انحرافا وانهرافا عن معنوية الحياة ، وشقاء وجوعا وعرى وظمأ وضحى ، التي تجمعها : «الهبوط عن الحياة العليا» : أسفل سافلين : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

ثم الآيات تنهى آدم وزوجه ان يقربا هذه الشجرة ، مما يوحي بشدة النهي كما في سائر مواردها : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) ...

ولكنما المنهي عنه هو الأكل منها أو ذوقها : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) و (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) وترى انه ذوقها هي ام ثمرتها؟ إن الشجرة لا تؤكل او تذاق بسوقها وأوراقها! وإنما أثمارها ، فهي هي التي نهي عنها ، والنهي عن قربها تأكيد للنهي عن ثمرتها ، «فالمعاصي حمى الله فمن حام حول الحمى او شك ان يدخلها».

وهنا الأكل منها يعني ذوق ثمرتها ، دون شبع للبطن منها ، ولا أكل دون ذلك ، وإنما ذوق الأكل وأكل الذوق : أقل ما يسمّى أكلا ، (فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) ما أن بدئا يأكلان ، ولذلك عبر عنه بالذوق.

٣١٧

وهذا الأكل الذوق خلّف دون فصل او اختيار ظهور السوءات ، ومن ثم حياة العناء الهابطة الخابطة.

٤ ـ وكيف النهي؟

لقد نهى الله تعالى آدم وزوجه عن أكل الشجرة وذوقها نهيا مؤكدا منذرا : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) ـ (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) ـ (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى).

فهنا يهدد في اقتراف المحظور بالخروج عن الجنة والشقاء وأنه ظلم ، ثم ينادي في آيات أخرى انه زل عن طاعة الله بوسوسة الشيطان : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ) (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)!

فهناك فيما فعله آدم وزوجه : زلة وغواية وظلم وعصيان وشقاء ، وكلّ منها كاف في التدليل على أنهما ارتكبا الحرام ، كما و (لا تَقْرَبا) تؤكده وتشدده!

فالزلة هنا هي الزوال عن الحق او زوال الطاعة : (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) (٣ : ١٥٥) والغواية جهل عن اعتقاد فاسد : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (٢ : ٢٥٦) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) (٧ : ٢٠٢).

والظلم انتقاص إما بحق النفس والغير وهو أفحشه ، او بحق الغير وهو أوسطه ، او بحق النفس وهو أدناه ، وليس بحق الله إذ لا ينتقص في شيء : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٢ : ٥٧) ، وقد ظلم آدم نفسه فانتقص حاله ومستقبله! : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ). ثم قد يكون الظلم بالنفس دون اقتراف منهي عنه كما في يونس : (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)

٣١٨

(٢١ : ٨٧) وفي موسى : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) حيث لم يسبق ليونس نهي عن ذهابه عن قومه مغاضبا مستاء أن عصوا الله ، وانما انتقص في دعوته الرسالي إذ ذهب عن قومه ولم يصابر! ..

واظهر منه ظلم موسى نفسه فانه قتل القبطي المشرك المقاتل للاسرائيلي الموحّد ، وليس هذا محرما حتى ولو لم يقاتل المشرك فان دمه هدر ، فكيف إذا قاتل الموحد فان مطاردته تصبح واجبة ، فهذا ذنب العصيان عند المشركين : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (٢٦ : ١٤) وطاعة خاطئة عند الموحدين : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) فلم يقل غيري وهو قد قتل ، وانما «نفسي» حيث أخر دعوته الرسالية نتيجة قتله القبطي ، إذ كان الأحرى أن يدفعه ولا يقتله حتى لا تتأخر دعوته ، ولكنه (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (٢٨ : ١٥) فوكزه عمل الرحمان وقد كان مقصودا للدفاع عن الموحد ، وقتله من عمل الشيطان ولم يكن مقصودا حيث يؤخر الدعوة ، وطلب الغفر عن هذا الذنب الظلم لا يعني إلّا ان يستر الله على البغضاء الفرعونية حتى يواصل موسى في دعوته.

ومهما يكن هنا وهناك من شيء فليس الظلم من يونس وموسى مسبوقا بنهي ، وان كان مرجوحا وجاه الدعوة الرسالية ، لكن ظلم آدم كان مسبوقا بأشد النهي ، موصوفا بالزلة والغواية والعصيان ، إذا فهو الظلم الحرام مهما كان من أدناه ، وقد هدّد الظالمون العصاة بعدم الفلاح (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٦ : ٢١) والهلاك : (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُالظَّالِمُونَ) (٦ : ٤٧) واللعنة : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (١١ : ١٨) وبضلال مبين : (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣١ : ١١) مهما اختلفت مراتب الهلاك والضلال واللعنة حسب اختلاف الظلامات.

فهل لك بعد ذلك كله ان توجّه ظلم آدم وعصيانه وزلته وغوايته

٣١٩

بظلم غير محرم كما في يونس وموسى ، وبينهما مثلث البون :

١ ـ انهما لم يسبق لهما نهي ، وقد سبق لآدم أشده بتهديدات!

٢ ـ انهما اعترفا بظلم توجّهه قرينته أنه ـ فقط ـ انتقاص في الدعوة دون قصد ، ولكن آدم وزوجه (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) : سائر الظالمين العصاة لا «فتكونا ظالمين» حتى يتحمل ما تحمّله في يونس وموسى!.

٣ ـ إنّ ظلم آدم مقرون بقرائن قاطعة أنه ظلم الزلة والغواية والعصيان ، دونهما حيث القرائن تنفي عنهما ظلم العصيان.

وترى هل يتحمل هكذا نهي أنه تنزيهي إرشادي ، فان ذوق الشجرة أتبع الهبوط عن الجنة فعناء الحياة الأرضية وشقاءها ، فقد نهيا عنها إرشادا إلى التحرز عن هذه الشقاء ، ولو لا انه ـ فقط ـ ارشادي : لا مولوي ـ لأنتجت توبتهما رجوعهما إلى ما كانا فيها ولم يرجعا بعدها؟!

إلّا أن المتصور من النهي والأمر : المولوية ـ الإرشاد ـ مجموع الأمرين.

فإذ ينهى المولى مولويا وللإرشاد الى ما يحمله من فساد ، كان العصيان ثنائيا فالظلم اثنان ، كما في أكثرية النواهي التشريعية.

وإذ ينهى مولويا دون إرشاد الى محظور الفساد ، فهذا نهي ابتلائي فعصيان واحد لا اثنان ، كما في القليل من موارده.

وإذ ينهى إرشاديا لا مولويّا ، فقد يتحمل توجيه خلاف الأولى! وقد لا يتحمله.

والأغلبية الساحقة من أوامر الله ونواهيه هي من القبيل الأول فان الله يأمر وينهي كرب العالمين ومولى الخلق أجمعين ، بما يحمل توجيهات ـ عرفناها ام لا ـ إلى مصالح فيما يأمر ومفاسد فيما ينهى ، فليس ذكرى

٣٢٠