الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

تحذر من المعاصي ورجاء للغفران ، بعد العلم أن كسب السيئات دون جبران ينهي بالإنسان إلى النار : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

وإذا كان من الشروط الأصيلة للشفاعة أن يكون المشفّع له مرضيا عند الله قولا في اعتذار وإيمانا وفعلا ، فليحاول المؤمن كلّ جهده أن يعيش حياة الإيمان ، بتحقيق العهد الذي اتخذ عند الرحمن ، لكي تنفعه شفاعة الشافعين ، دون حياة اللّامبالاة اللّاإيمان ، اتكالا على الإقرار باللسان وادعاء الإيمان ، دون أن يقوم بشرائط الإيمان ، راجيا أن يشفع له الشافعون «كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفّاه حسابه» كما نراه من كثيرين ، يغترون بما يزخرفه لهم قراء التعازي أنه تكفيكم البكاء ثم الله يغفر لكم عدد النجوم وقطر السماء! خلافا لما ترسمه لنا آيات من القرآن.

فلا نصدق إفراط المفرطين في الشفاعة هكذا ولا تفريط المفرّطين في نكرانها ، وإنما هي عوان بين ذلك ، تصلح الأمة وتجعلها دوما بين الخوف والرجاء ، ثم الأحاديث لا تصدّق منها إلّا ما يصدقها كتاب الله ، مهما كثرت رواتها وعلت علّاتها ، او ضعفت وكثرت علّاتها ، حيث الأصل هو كتاب الله لا سواه.

ومن الثابت كتابا وسنة أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أفضل الشافعي : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) فانه بعث الشفاعة يوم الدين ، لا بعث الرسالة يوم الدنيا حيث كان مبعوثا يوحى إليه ، واستفاضت الأحاديث أن المقام المحمود هو الشفاعة ، وليست هي غرورا «فهل يشفع إلّا لمن وجبت عليه النار» (١).

__________________

(١) تفسير القمي في قوله تعالى (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) عن أبي ـ

٤٠١

وكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر ومن وجبت عليه النار ولا يشفعون إلّا لمن ارتضى ومن ارتكب الكبيرة لا يكون مرتضى؟؟ ـ الجواب ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلّا ساءه ذلك وندم عليه وكفى بالندم توبة ومن سرته حسنته وسائته سيئة فهو مؤمن فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة وكان ظالما و «ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ..» (١).

فجملة القول انه لا يشفع إلا لمن ارتضى الله دينه ، الذي يتخوف عن المعصية ويندم عندها ، ويرغب في الطاعة ويفرح عندها ، حيث يعيش حياة الإيمان مهما اعتراه من عارض العصيان.

__________________

ـ العباس المكبر قال : دخل مولى لامراة علي بن الحسين يقال له : ابو ايمن فقال : يا أبا جعفر تغرون الناس وتقولون : شفاعة محمد شفاعة محمد! فغضب ابو جعفر (عليه السلام) حتى تربّد وجهه ثم قال : ويحك يا أبا ايمن أغرّك ان عف بطنك وفرجك؟ اما لو قد رأيت أفزاع القيامة لقد احتجت إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ويلك فهل يشفع الا لمن وجبت له النار؟ ...

(١) رواه في التوحيد عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : انما شفاعتي لأهل الكبائر من امتي فاما المحسنون فما عليهم من سبيل ، قيل يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! وكيف. يكون مؤمنا من لا يندم على ذنب يرتكبه؟ فقال : ما من احد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم انه سيعاقب عليه الا ندم على ما ارتكب ومتى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة ومتى لم يندم عليها كان مصرا والمصر لا يغفر له لأنه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب ولو كان مؤمنا بالعقوبة لندم وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار واما قول الله عز وجل : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) فإنهم لا يشفعون الا لمن ارتضى الله دينه والدين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات ، فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبة في القيامة.

٤٠٢

واما المنهمكون في الشهوات ، الذين يهرعون إليها مسرعين ، وإذا ما فاتتهم ذعروا مغضبين ، ثم إذا حمّلوا على واجبات تحمّلوها نادمين ، فهؤلاء ليسوا من المؤمنين (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) بل «وما لهم من شافعين».

وكذلك الذين لا يندمون ، فهم يمارسون الشهوات ما يفسح لهم مجال ، تسويفا للندم ورجاء للغفران ، وإن كانوا يؤمنون بالحساب والعقاب ، فان دينهم هذا خطأ غير مرضي معرفيا ، كما أن أولئك أخطأوا عقيديا ، وإن كانا يختلفان دركا باختلاف اللّامعرفة واللّاإيمان.

فسواء عليك في حرمان الشفاعة أنك من الكافرين ، أو لست من النادمين في مآسيك ومعاصيك رغم سمة من الإيمان ، لمكان وصمة العصيان اللزام ، أو تسوّف الندم وتمارس العصيان ، فدينك ليس مرضيا مهما اختلفت هذه الدركات ، على أن تراكم المعاصي ترين على قلبك وتسلب عنك نور الإيمان : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فتموت على غير إيمان خارجا عن أمة الإسلام.

فالمؤمن لا يخلد في النار شرط أن يلاقي ربه بالدين الحق والإيمان المرضي ، ولكنما الإيمان من حيث بقاءه على خطر عظيم من جهة الإدمان في العصيان ، فليكن الأصل في حياة المؤمن الالتزام بشرائط الإيمان قدر الإمكان ، ثم إذا فلت فالت فهنالك الندم والتوبة ، ورجاحة الحسنات على السيئات ، وترك الكبائر ، ثم أخيرا الشفاعة يوم القيامة بعد ما كلّت أو قلّت مكفراتها من ذي قبل ، ولا شفاعة قبل الآخرة ولا في البرزخ وكما يروى عن الصادق (عليه السلام) وفقا للقرآن : «ولكن والله أتخوف عليكم

٤٠٣

في البرزخ ..» (١) وقد تكون في الدنيا باستغفار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ام ذوية؟: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٤ : ٦٤) وكما الملائكة يستغفرون : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

ثم الشفاعة هي في حقوق الله إلّا الشرك : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) دون حقوق الناس اللهم إلّا ان يرضي الله مظلوما يوم الحساب : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ. ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (٤٠ : ١٨).

حصيلة البحث حول الشفاعة :

هنالك شروط مشتركة بين الشافعين والمشفوع لهم : (مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) و (اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً).

وللشافعين (شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وللمشفعين (لِمَنِ ارْتَضى) الله دينه.

__________________

(١) سفينة البحار ١ : ٧١ عن الكافي عن عمر بن يزيد قال قلت لابي عبد الله (عليه السلام) اني سمعتك وأنت تقول : كل شيعتنا في الجنة على ما كان فيهم؟ قال : صدقتك كلهم والله في الجنة ، قال قلت جعلت فداك ان الذنوب كثيرة كبائر فقال : اما في القيامة فكلكم في الجنة بشفاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) او وصي النبي (عليه السلام) ولكن والله أتخوف عليكم في البرزخ. قلت : وما البرزخ؟ قال : القبر حين موته الى يوم القيامة.

٤٠٤

شروط خمسة بينهما تقتضي قبول الشفاعة قضية آياتها.

ثم لا شفاعة في الدنيا ولا في البرزخ ، إلّا ما تشفع التوبة ورفاقها من مكفرات دون الصالحين ، فلو كانت في الدنيا لم يبق مجال للأخرى ، ولو كانت في البرزخ لم يبق مجال للقيامة ، وآيات الشفاعة كلها تنحو منحى القيامة ، ويا لنسبة للذنوب التي لم تكفر بمكفرات الدنيا والبرزخ ، كما ورواياتها في ظلالها طبقا عن طبق!

إذا فلا شفاعة إلّا في كبائر السيئات وترك كبائر الحسنات حيث الصغائر منها مكفرة بترك الكبائر ، اللهم لمن جمع بينهما سلبا او إيجابا فلا مكفر لصغائره فتصبح صغائره كبائر قد يشفع فيها بشروطها.

٤٠٥

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ

٤٠٦

تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ

٤٠٧

الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))

عرض لنعم عشر بعد ما أجملت في (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ترسم أمام الاختلاف مشاهدها التي كانت للإسلام ، استحياء لمشاعرهم صور الكروب التي عاشها آباءهم وأنجاهم الله منها وهم قابلوا نعمة الله بالكفران وبدلوها كفرا فأحلوا قومهم دار البوار ، عظة للأخلاف لكي يخالفوا الأسلاف في الكفران الطغيان.

٤٠٨

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ (١) يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) ٤٩.

نعمة أولى أن انجاءهم الله عن سوم العذاب ، فالإنجاء من النجاء والنجوة والنجاة هو الفصل إلى عل ، مكان مرتفع بعيد عن الأذى.

وسوم العذاب هو دوامه في دوّامة لمرعاه ، كماشية سائمة ترعى دائمة ، ولكنها ترعى في المرعى الكلاء ، وهم يسأمون في المرعى البلاء ، كأنها لهم غذاء ، كما الكلاء دائمة للماشية السائمة.

فهذه الطغمة الطاغوتية النكراء كانت تسومهم سوء العذاب ، كذبح الأبناء واستحياء النساء دونما انقطاع ، وكأنه نعمة يمنون بها عليهم فعليهم الشكر كما السائمة في الكلاء.

وعدم العطف في «يذبحون ـ ويستحيون» يعطف بنا إلى أنهما فقط سوم العذاب ، بيانا ردفا دون عطف لسوء العذاب ، وكما في أخرى : (.. يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ ..) (٧ : ١٤١) مهما عطفا في ثالثة عليه (.. وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ ..) (١٤ : ٦) آيات ثلاث في صيغة واحدة إلّا في «يقتلون» الوسطى وعطف الأخيرة ، وهذا العطف لا يعني إلّا أنهما من أسوء العذاب الذي كانوا يسامونه : قتل الأبناء تضعيفا لساعدهم ، واستحياء النساء خدمة لآل فرعون ومتعة جنس.

__________________

(١) «فرعون» اسم لملوك العمالقة كما قيل : «قيصر» لملك الروم و «كسرى» لملك الفرس و «خاقان» لملك الترك و «تبع» لملك التبابعة ، إذا ففرعون لقب عام وقد كان في مصر فراعنة تلو بعض وفرعون موسى هو «رامسيس الأوّل» وقد رأيت جسده في. معرض الآثار القديمة في القاهرة ، وهو تصديق لقوله تعالى : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً).

٤٠٩

فتقتيل الأبناء إبادة للنسل والساعد ، وعزاء دائب ، واستحياء النساء : إبقاء لحياتهن خادمات ، وإفناء لحيائهن في دعارات (١) عذاب فوق العذاب ، على ما ينالهن وغير الأبناء من سوء الخدمات الإجبارية ، دون مقابل إلّا الإبقاء على رمق الحياة قدر ما يخدمون ، وفي الحق ان استحياء النساء كان أصعب عليهم وأنكى من تقتيل الأبناء!

وترى هل الأبناء المذبّحون هنا هم ـ فقط ـ الولائد حين الولادة كما تدل عليه روايات؟ أم هم الأبناء ، ولائد أم كبارا ما هم أبناء ، كما تدل عليه الآيات؟

لا ريبة هنا في العموم ، حيث يشمل ـ لأقل تقدير ـ الأبناء الذين ولدوا منذ أخبر فرعون أنه سيولد فيهم من يهلك سلطانه ، فالذين تنالهم أيدي البغي يقتلون حين ولادتهم ، ومن يفلت حينها يغتال أيا كان وأيان ، وإن كان بالغا حد الغلمة أم زاد.

ثم النساء هنا أعم من الولائد واللّدت والكبيرات ، فهن معفو عنهن في هذا النظام ، خدمة للجنس ولآل فرعون.

وترى ان البلاء العظيم هو فقط سوم العذاب؟ ام وإنجاءهم من سوم العذاب؟ لفظة البلاء تشملهما بلاء سيئا وحسنا (وَفِي ذلِكُمْ) البعيد المدى من سوء البلاء وحسنه (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (٢١ : ٣٥) (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

وترى كيف ينسب سوء البلاء ـ بجنب حسنه ـ الى الله وهو من آل

__________________

(١) الاستحياء هو طلب الحياة إبقاء وطلب الحياء إزالة فهما ـ إذا ـ معنيّان كما هما الواقع في آل فرعون.

٤١٠

فرعون؟ إنه سوء العذاب من آل فرعون ظلما وطغيانا حيث افتعلوه ، وبلاء عظيم من ربكم إذ أمهله ردحا من الزمن دون ردع تسييرا ومنعا ، امتهانا لهم وإملاء ليزدادوا إثما ولهم عذاب اليم ، ثم وامتحانا لكم وبلاء حسنا بعد هذا البلاء لكي تستعظموا نعمة ربكم بإنجاءكم وتشكروه ، فإن فرعون عبّد بني إسرائيل واعتبره نعمة عليهم وعلى موسى الرسول (عليه السلام) : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢٦ : ٢٢) فسامهم بذلك سوء العذاب.

وترى ولماذا قتل الأبناء وهم أنفع له خدمة وأقوى؟ دون الكبار وهم حمل لا يتحملون خدمة لائقة!

ذلك حيث أخبر فرعون أن هلاكه وقومه على يدي موسى (عليه السلام) الذي يولد من بني إسرائيل فوضع القوابل على النساء وقال لا يولد العام ولد إلا ذبح ووضع على أم موسى قابلة .. ولكن الله نجاه .. (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٩ عن كتاب كمال الدين وتمام النعمة بإسناده الى محمد الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان يوسف بن يعقوب (عليه السلام) حين حضرته الوفاة جمع آل يعقوب وهم ثمانون رجلا فقال : ان هؤلاء القبط سيظهرون عليكم ويسومونكم سوء العذاب وانما ينجيكم الله من أيديهم برجل من ولد لاوي بن يعقوب اسمه موسى بن عمران (عليه السلام) غلام طوال جعد أدم ، فجعل الرجل من بني إسرائيل يسمي ابنه عمران ويسمي ابنه موسى ـ

فذكر ابان بن عثمان عن أبي الحصين عن أبي بصير عن أبي جعفر انه قال : ما خرج موسى حتى خرج قبله خمسون كذابا من بني إسرائيل كلهم يدعي انه موسى بن عمران فبلغ فرعون انه يرجعون ويطلبون هذا الغلام وقال له كهنته وسحرته : ان هلاك دينك وقومك على يدي هذا الغلام الذي يولد العام من بني إسرائيل فوضع القوابل على النساء وقال : لا يولد العام ولد إلّا ذبح ووضع على ام موسى قابلة فلما عرف ذلك بنو ـ

٤١١

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ٥٠.

نعمة ثانية هنا لبني إسرائيل هي الأخيرة لهم في الجو الفرعوني الطاغي حيث أغرق آل فرعون وهم ينظرون ، والبحر هو البحر ، ولكن الله فرق بهم البحر فعبروه يبسا ورهوا ، ثم أغرق فرعون وجنده آية عظيمة إلهية تبصر الأعمين وتنبّه النائمين.

وترى كيف فرق بهم؟ فهل فرق البحر بهم : بسببهم ، حيث دخلوه بكثرة واستعجال فرارا عن فرعون وملئه؟ والبحر لا يفرق لأيّة جماعة إلّا وتغرق! وكما آل فرعون وهم كانوا كما هم وأعجل دخولا وأقوى وطأة ، وانما ذلك آية معجزة إلهية بهم : بدخولهم البحر فرارا! وقد امر موسى ان يضرب بعصاه البحر : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٢٦ : ٦٣) (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) (٢٠ : ٧٧) (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) (٤٤ : ٢٤).

__________________

ـ إسرائيل قالوا : إذا ذبح الغلمان واستحيى النساء هلكنا فلم نبق؟ فتعالوا لا نقرب النساء فقال عمران ابو موسى (عليه السلام) بل ائتوهن فان امر الله واقع ولو كره المشركون ، اللهم من حرمه فاني لا احرمه ومن تركه فاني لا اتركه ووقع على ام موسى فحملت فوضع على ام موسى قابلة تحرسها فإذا قامت قامت وإذا قعدت قعدت فلما حملته امه وقعت عليه المحبة فقالت لها القابلة مالك يا بنية تصفرين وتذوبين فقال لا تلوميني فاني إذا ولدت أخذ ولدي فذبح قالت لا تحزني فاني سوف اكتم عليك فلم تصدقها ، فلما ان ولدت التفتت إليها وهي مقبلة فقالت : ما شاء الله ، فقالت لها : الم اقل اني سوف اكتم عليك ثم حملته فأدخلته المخدع وأصلحت امره ثم خرجت الى الحرس فقالت : انصرفوا ـ وكانوا على الباب ـ فانما خرج دم مقطع فانصرفوا ....

٤١٢

فقد انفلق البحر وأصبح لهم طريقا يبسا بأن ضرب موسى عصاه ، وبدخول بني إسرائيل ، فلولا عصى موسى كما أرادها الله لم يفلق البحر ويفرق ، ولو لا دخولهم البحر لم يضرب موسى عصاه ، حيث الفرق الفلق كان لإنجاءهم وإن كانت كذلك آية لهم.

وترى ـ بعد ـ أن انفلاق البحر وانفراقه طريقا يبسا ، كل ذلك لصدفة جزر عظيم ، او كثرة الواردين فيه؟ وكما يهرفه من لا يعرفه ، هراء دائبا مغبة نكران المعجزات ، مهما أقحم نفسه في المفسرين.

فالبحر المفروق لنبي إسرائيل نعمة إلهية حيث أنجاهم وأغرق آل فرعون وهم ينظرون ، إذ انخدعوا بعبور بني إسرائيل فعبروا ، ونعمة لهم إيقانا بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل ، نعمة تجمع بين إنجاء أبد إنهم من غرق البحر وملاحقة آل فرعون ، وإنجاء أرواحهم من الشكوك التي اعترضتهم إذ (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (٧ : ١٢٩).

(فَأَنْجَيْناكُمْ ـ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) : مشهد النجاة والغرق بأم أعينكم.

وترى كيف دخل آل فرعون عن آخرهم البحر ، أفلم يروا أوائلهم غارقين؟ انهم انخدعوا أن جاوزه بنو إسرائيل وهم ضعفاء ، فهم أحرى بالجواز وهم أقوياء ، فتجرءوا على الجواز ، وقد ترك البحر رهوا كما اوحى الله لموسى : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) (٤٤ : ٢٤) : والرهو هو الساكن المستوي بطريق يبس ، فلما دخلوا كلهم غرقوا أجمعين : (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) (٢٦ : ٦٦) حيث تدل أن إغراقهم كان بعد إزلافهم وجمعهم

٤١٣

في البحر أجمعين ، وبعد ما جاوز بنو إسرائيل البحر : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ ..) (١٠ : ٩٠).

أتبعوهم عدوا بسرعة ليدركوهم فأدركهم العرق قبل أن يدركوهم! (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ٥١ ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ٥٢.

«موسى» معرّب عن «موشة» عبرانية ، كلمة مركبة تعني «ماء ـ شجر» حيث اخذه آل فرعون عن التابوت الذي ألقته أمه في اليم فوقف في الماء بين الشجر أمام القصر الفرعوني ، ففيه تلميحة طريفة إلى المعجزة الربانية في إنجاء موسى بيد عدوه الذي قتل ـ بغية الحصول عليه وقتله ـ نيفا وعشرين ألفا من أبناء بني إسرائيل!.

يأتي ذكر «موسى» ١٣٦ مرة في القرآن في ٣٥ سورة ، من البقرة الى الأعلى ، مما يدل على مدى مراسه في الدعوة واكتراسه لها ومجابهاته وجاه عدوّه وبني إسرائيل الذين آذوه ، أكثر من كافة المرسلين اللهم إلّا خاتم المرسلين (١).

وهل كانت هذه المواعدة مرة هي أربعين كما هو اللائح هنا ، او مرتين أولاها ثلاثين ثم العشر المتمم للأربعين ، مواعدتين تلو بعض ، فهما مع بعض مواعدة واحدة كاملة كما يعرف من الأعراف : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ..؟) (٧ : ١٣٩) وللأربعين مواقف مجيدة في مختلف الحقول ، في الحق ان آيتي المواعدة

__________________

(١) حيث يذكر اكثر منه بكثير بأشرف خطاب : الرسول ـ النبي ـ حين لم يذكر غيره فيما يذكر الا باسمه دون لقب الرسالة او النبوة إلّا قليلا.

٤١٤

تتجاوبان في تمام المواعدة ، وأن ثلاثين الأولى لا تستقل عن الأربعين ، حيث العشر مكملة لها ، وإن كانت كأنها هي البداية (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ ..) فإنها ثلاثون في صيغة التعبير امتحانا لبني إسرائيل ـ لابداء لله في التكميل ـ (١) حتى إذا تأخر موسى لحد الأربعين أهم باقون على إيمان أم هم مكذبون موسى ومكذبون الله كما فعلوا والتفصيل إلى الأعراف وطه.

وهذه المواعدة ـ هنا ـ نعمة ثالثة بإنزال التوراة على موسى وبمشهد من منتخبيهم جانب الطور الأيمن : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ ..) (٢٠ : ٨٠) مواعدة لهم ضمن ما لموسى (عليه السلام).

ولكنهم وهم بين نعمتين : الإنجاء من آل فرعون ، وإنزال التوراة (اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) الذي صنعه السامري فعبدوه : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) : بعد موسى حيث غاب عنهم الى ميقات ربه ولما يتم او يرجع (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) : أنفسكم (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ).

(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) شرط التوبة بعد ان تقتلوا أنفسكم : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ـ (عَفَوْنا ... لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

ثم ونتيجة المواعدة الأربعين :

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (٥٣).

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ٩٧ ـ نقلا عن تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في آية الأربعين قال : كان في العلم والتقدير ثلاثين ليلة ثم بدا الله فزاد عشرا فتم ميقات ربه الاول والآخر أربعين ليلة أقول هل كان في العلم والتقدير ميقات ناقص لنقصان العلم والتقدير ثم كملا بالبداء؟ ان هذا إلّا اختلاق!

٤١٥

وهدي إيتاء الكتاب والفرقان هو أهم النعم التي أنعم عليكم ، هنا الكتاب : التوراة ـ يقابل الفرقان ، مما يدل على انه غيره ، وحقا ان الفرقان وهو البرهان المفرق بين الحق والباطل ، ليس هو التوراة ولا غيرها من كتابات الوحي إلّا القرآن ، فانه كتاب وفرقان لا سواه.

فلا نجد آية تصف كتاب وحي بالفرقان إلّا القرآن : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) (٢ : ١٨٥) وقد يختص باسم الفرقان: (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ... وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) (٣ : ٤) (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ). فالقرآن هو كتاب تشريع وهو فرقان ، يفرق بين الحق والباطل جملة وتفصيلا ، وما هكذا سائر كتب الوحي ، ولا سيما بعد تحرّفها ، ولقد أوتي المرسلون مع كتبهم فرقانا يدل على رسالتهم ووحيهم كموسى وهارون واضرابهما : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) (٢١ : ٤٨) وقد يكون التوراة هنا ضياء وذكرا على ضوء الفرقان : الآيات التسع التي أوتى موسى ، حيث يهتدى بالكتاب والفرقان : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

ثم الفرقان درجات من فرقان الرسالات على درجاتها وفي درجاتها ، وهي المعجزات ، ومن فرقان التقوى الإيمان : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (٨ : ٢٩) او فرقان الحرب المنتصرة بنصر الله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) (٨ : ٤١) ففي كل ميدان من معتركات الحق والباطل فرقان كما يناسب حقولها.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٥٤).

٤١٦

نعمة خامسة يمن بها عليهم ، وترى كيف يكون حمل القتل لأنفسهم نعمة؟ إنها نعمة حيث هي في سبيل التوبة ، فإنها خير من حياة اللعنة الدائبة في وصمة اتخاذ العجل.

(.. إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) إلها تعبدونه ، وليس الله هو المظلوم : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٢ : ٥٧) حيث الظلم هو الانتقاص والله لا ينتقص منه شيء ذاتا أو صفات أو أفعالا ـ ف «لا يتغير بانغيار المخلوقين» وإنما الظلم الانتقاص راجع إلى الظالم نفسه ، حيث يخرج عن مستوى العدل ، مهما انتقص غيره من الخلق في الظلم المتعدي إليهم ، ولا تجد آية تلمح بأن الله يظلم ، وإنما هو لغير الله نفسه أم سواه.

وحيث (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فالتوبة عنه ـ ولا سيما من المرتد عن فطرة ـ إنها قد ترد ولا تقبل في الظاهر مهما قبلت في الباطن ، وقد تقبل كما هنا ولكنه بعبء عظيم.

(فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) ولماذا (إِلى بارِئِكُمْ) دون «الله» او «خالقكم» او «ربكم» او ... لان البرء هو التخلص عن مرض او عيب او اي نقص ، فالمريض المعيب المنتقص بالخروج عن حكم الفطرة يجب عليه التوبة : الرجوع ـ الى من برءه إذ خلقه حتى يبرئه بعد نقصه بظلمه ، ف (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ ..) (٥٩ : ٢٤) حيث خلق ثم برء ما خلق ثم صور ما برء ، ومن برءه براءة الفطرة في يراعه التوحيد ، فحيث تخلف عبدة العجل عن هذه البراءة ، فتوبتهم هي الرجوع الى البارئ ليرجعهم الى هذه البراءة التي افتقدوها بكل غباوة ، إذ عبدوا العجل الذي يضرب به المثل في الغباوة ، فأصبحوا أحمق وأغبى من العجل في هذه العبادة.

٤١٧

ولأنهم قتلوا روح التوحيد وفطرته بما استهوته أنفسهم الأمارة الغبية ، فليقتلوا أنفسهم قتلا بقتل حتى يحيوا حياة طيبة جديدة.

(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : أنتم الذين اتخذتم العجل إلها تعبدون ، فإنما هم المأمورون أن يقتلوا أنفسهم حيث ظلموا أنفسهم باتخاذهم العجل ، دون من لم يظلم حيث لم يتخذ العجل ، خلافا لبعض ما يروى (١).

وترى انهم أمروا ان يقتل كل واحد نفسه انتحارا بنفسه؟ وإنه إبادة لهم أجمع فمن يبقى إذا حتى يتاب عليه لو أنهم ائتمروا كلهم؟ أم كيف يتاب على المتخلفين عن أمر الانتحار لو لم يأتمروا كلهم.

أو أنهم أمروا أن يقتلوا فيما بينهم ، كل يقتل من تناله يده أيا كان؟ فكيف يعبر عن ذلك ب (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)!.

في الحق إن ذلك قتل لأنفسهم في زوايا ثلاث : أن يقتل كلّ نفسه الطائشة بعبادة العجل ، فيعرض نفسه للقتل في معترك القتال فيما بينهم ، ويقتل من هو كنفسه أبا أو ابنا أو أخا أو أيا كان (٢) قتلا لنفسه في هذه

__________________

(١) كمرسلة المجمع : روي : ان موسى (عليه السلام) أمرهم ان يقوموا صفين فاغتسلوا ولبسوا أكفانهم فجاء هارون باثنى عشر ألفا ممن لم يعبدوا العجل ومعهم الشفار المرهفة وكانوا يقتلونهم فلما قتلوا سبعين ألفا تاب الله على الباقين وجعل قتل الماضي شهادة لهم.

وفي تفسير البرهان ١ : ٩٨ عن الامام العسكري في الآية : ويقتل من لم يعبد العجل من عبده أقول وهما مردودان لمخالفة الآية والمقبول هو المروي عن علي (عليه السلام) وعن غيره الآتي.

(٢) أنفسكم هنا مثلها في أمثالها ك : لا تلمزوا أنفسكم ـ حيث المؤمنون كنفس واحدة ـ كذلك هؤلاء إذ كانوا أقارب اضافة الى قربة الايمان أيا كان ، وكقوله : لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ـ فسلموا على أنفسكم ـ وأمثالها.

٤١٨

الزوايا الثلاث توبة الى البارئ فتوبة منه عليهم ، وإنه لتكليف شاق مرهق مرير ، أن يقتل الأخ أخاه ، فكأنما يقتل نفسه برضاه ، كما ويقدم نفسه ويعرضه ليقتله أخوه ، وهما يتطلبان قتل النفس الأمارة بالسوء في رأس الزاوية ، ولكنه من وراء هذا الإرهاق تربية لتلك الحالة البئيسة الخوارة ، التعيسة المنهارة التي تنهار إلى جحيم عبادة العجل ، وبعد ما ترى من آيات الله البينات من فرق البحر أم ماذا؟ فليؤدوا هذه الضريبة الفادحة الكادحة : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).

و (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) من أن تظلوا مرتكسين في حمأة الارتداد والضلال ، أو نادمين تائبين دون تقديم لشريطة التوبة ، عائشين عجالة الحياة في وصمة عبادة العجل الدائبة لو لم تقدموا هذه الضريبة : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) بعد ما تبتم إليه هكذا (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) : لمن يتوب ويسترحم كما يؤمر.

وقد تاب على القاتلين والمقتولين سواء (١) ، إذ حققوا امر الله فيما

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٦٩ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن علي (عليه السلام) قال : قالوا لموسى ما توبتنا؟ قال : يقتل بعضكم بعضا فأخذوا سكاكينهم فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه والله لا يبالي من قتل حتى قتل منهم سبعون ألفا فأوحى الله الى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم وقد غفر لمن قتل ويتب على من بقي ، وفي تفسير القمي قال (عليه السلام) ان موسى لما خرج إلى الميقات ورجع إلى قومه وقد عبدوا العجل قال لهم موسى : يا قوم انكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا الى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم ـ فقالوا له : كيف نقتل أنفسنا؟ فقال لهم موسى (عليه السلام) اغدوا كل واحد منكم الى بيت المقدس ومعه سكين او حديدة او سيف فإذا صعدت انا منبر بني إسرائيل فكونوا أنتم ملثمين لا يعرف احد صاحبه فاقتلوا بعضكم بعضا فاجتمعوا سبعين الف رجل ممن كان عبدوا العجل الى بيت المقدس فلما صلى بهم موسى وصعد المنبر اقبل بعضهم يقتل بعضا حتى نزل جبرائيل فقال : قل لهم. يا

٤١٩

بينهم سواء ، حيث قتل من قتل بأمر الله ، وقتل من قتل بأمر الله ، مقدمين على هذا القتال في زواياه الثلاث.

وإن هذه منقبة لهؤلاء حيث اقتتلوا هكذا بأمر الله تفدية في التوبة إلى الله ، كما ويندد بالمنافقين من المسلمين حيث لا يفعلونه إلّا قليلا : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (٤ : ٦٦).

وتوبة المرتد عن فطرة تقبل عندنا بقتله ، كما قبلت من هؤلاء ، مهما اختلفت شاكلته ، حيث إنها في بني إسرائيل كانت بأمر خاص وأصعب مما عندنا وأنكى!.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥٦).

نعمة سادسة لهم ان بعثوا بعد موتهم بصاعقة العذاب الهون وهم ينظرون.

ولقد كان سؤال الرؤية قبل اتخاذ العجل : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) (٤ : ١٥٣)

أترى أن الذين سألوا الرؤية هم الذين عبدوا العجل؟ كأنهم هم كما

__________________

ـ موسى ارفعوا القتل فقد تاب الله لكم فقتل منهم عشرة آلاف وانزل الله (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

أقول : واختلاف عدد القتلى والذين عبدوا العجل في الحديثين لا مرجع له من كتاب او سنة يرجع اليه ولا يهمنا العدد وكما سكت الله عنه فلنسكت عنه.

٤٢٠