الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء» (١) فالخليفة هنا إنسان يخلف إنسانا مضى ام من ذا ، لا أنه يخلف الله وسبحانه الله ان يخلفه انسان ام من ذا.

لا نجد تصريحة ولا إشارة قرآنية على خلافة الله هذه ، اللهم إلّا ان يجعل الله إنسانا خليفة عن سالفه ، فقد يسمّى خليفة الله ولا تعني أنه يخلف الله ومعاذ الله ، وانما الذي نصبه الله نائبا يخلف مثيله في منصبه ، نبوة أو إمامة أم ماذا : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (٣٨ : ٢٦) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) (٦ : ٢٦) (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) (٢٧ : ٦٢) فهنا خلافة خاصة كما لداود وأضرابه ، وهناك عامة كما للناس أجمعين عن ناس قبلهم ، او بعضهم عن بعض.

فمن المستحيل خلافة الله نفسه لايّ من العالمين وحتى الحقيقة المحمدية ف (ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) و (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) فهو هو لا يخلف الله في ايّ من شؤون الالوهية والربوبية حتى ولا في بلاغ الأحكام ، وانما هو رسول ، لا خليفة ولا نائب ولا وكيل ، (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) (١٧ : ٥٤) (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (٤ : ١٧١) (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (٢٥ : ٤٣)

فإذا لا يكون أفضل المرسلين واوّل العابدين وكيلا لرب العالمين فهل هو بعد خليفة عنه ، وهي أسمى المنازل وقمة المراحل؟ أو هل يكون آدم بذريته كلهم خلفاء الله؟ وليس أصفياءهم وكلاءه!

أم إنه خليفة الملائكة حتى يستجيش مشاعرهم وضمائرهم لحد الاستفهام كأنه اعتراض : «أتجعل ..»؟

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ٧٤ ـ العياشي عن هشام بن سالم قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) ...

٢٨١

وهم عارفون أنفسهم انهم معصومون (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١٦ : ٥٠) فلا يستخلف عنهم ربهم إلّا كأمثالهم أو أطوع منهم وأرقى! فلما ذا يسألون «أتجعل ..» او قد كان يكفيهم (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ..) دون تقصير ، فلما ذا الاستخلاف!.

كما وأن الملائكة لم يكونوا ولن ـ من سكنة الأرض حتى يخلفهم خليفة في الأرض : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (١٧ : ٩٥) (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ، وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) (٤٣ : ٦١) فجعل الملائكة في الأرض مستحيل حتى تقوم الساعة ، فكيف يخلفهم إنسان الأرض وفيم يخلفهم؟ أفيما هم يؤمرون في السماء ، عزلا لهم عن مقاماتهم فهم عزّل؟ أم فيما يرسلون به إلى الأرض؟ ام ماذا؟! سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم!

او هم خليفة الجن ، المفسدين في الأرض ومسفكين؟ وهم قد خلقوا قبلهم! : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (١٥ : ٢٧)؟.

ولكنهم بعد لم ينقرضوا ، او لم يبعدوا عن الأرض حتى يخلفهم فيها إنسان الأرض ، ثم ولا نعرف خلافة للإنسان عنهم فيما لهم من حياة الأرض ، فكيف يكون الإنسان إذا خليفة عنهم في الأرض؟!

أو هم بنو الإنسان ، حيث يخلف بعضهم البعض : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) (٦ : ١٦٥) (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) (٧ : ٦٩) (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) (١٧ : ٧٤)

وآية الخلافة : «إني جاعل ..» تعني خلافة آدم الاوّل ومن ثمّ بنيه ، فليكن هو الخليفة الأصل ثم فروعه الفروع ، وان «خليفة» تعني ـ على

٢٨٢

اكثر تقدير ـ هذا النسل أجمع : بأصله وفرعه ، وعلى أقل تقدير : آدم وزوجه ، فلا بد هناك على أية حال من مستخلف عنه قبل هذا النسل.

أم هم خليفة من سلفهم وانقرض من نسل او أنسال ترابية عاقلة مكلفة أفسدت في الأرض وسفكت الدماء ، فأهلكهم الله بأن قامت قيامتها وانقرضوا ، فأبدلهم الله بهذا الإنسان وجعله خليفة عنهم؟ ..

وهكذا يبدو من آيتها هذه وسائر آياتها ورواياتها ..

ف ما علم الملائكة بقولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) لو لا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء (١).

فهذه السابقة السيئة التي رأوها ممن سلف من الخليقة الأرضية هي التي استجاشتهم حتى سألوا ، معترضين على الخليفة الأرضية : أتجعل .. تكرارا لما سلف من إفساد وسفك ، وما هي الحكمة إلّا مزيد الصلاح والعبادة (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) وهم لا يسبحون ولا يقدسونك!

فلم يكن يقنعهم (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) لو أنهم خليفة الله ، إذ كانوا هم كذلك يعلمون أنه لا يعصى الله فلم يكونوا ليسألوا حائرين.

ولا ـ لو أنهم خليفتهم أنفسهم ، إذ هم يعلمون من أنفسهم ما يعلمون من نزاهة وطهارة ، فكيف كانوا إذا يسألون؟.

فانما يقنعهم (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ما ينبههم من غيب هذه الخليفة ، خلاف ظهوره الذي مضى مثله ، من إفساد وسفك ، فلم يقل «إنهم لا يفسدون ولا يسفكون» حيث هما معروفان متداولان في تاريخ

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ٧٤ ـ العياشي عن هشام بن سالم قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) ..

٢٨٣

الإنسان ، وإنما (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) : من ميّزات هذه الخليفة في البعض من مصاديقها وأفرادها ، من مثل عليا لا تصل أيدي ولا أفهام الملائكة إليها ، وقيها جبر كامل لمن يفسدون فيها ويسفكون الدماء من أفرادها.

وكما (عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ...) ولكي يروا النموذج الاول من هذه الخليفة انه يعلّمهم وهم تلاميذه ، فضلا عن الأسماء التي علّم آدم وهم أشباح من الحقيقة المحمدية وسائر الخمسة!

فلأنهم خفيت عنهم حكمة المشيئة العليا في استخلاف هذه الخليفة ، بما عرفوا ممن سبقها من إفساد وسفك وفتك ، سألوا سؤالهم ، فأجابهم الله بما يعلم من خير أكثري مع هذا الشر الجزئي!

هذه الجيوش من البراهين القرآنية نستجيشها لإثبات هذه الملحمة الغيبية التي تتفرد بها آيتنا اليتيمة هذه : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أنها خلافته لمن سبق من أنسال أمثاله ، مع ما تساندها من روايات متظافرات مهما عارضتها أخرى مختلفات ومختلقات ، فالأصل هو كتاب الله موردا ومآلا ، جملة وتفصيلا : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (٧ : ١٧٠).

فقد عاش قبل هذا الإنسان نسل أو أنسال ترابية عاقلة مكلفة (١) لا

__________________

(١) وقد تكون بعض الأجساد المكتشفة الضاربة الى عشرات الآلاف السنين قبل هذا النسل ، قد تكون من الأنسال السابقة ، دون ان تكذّب تاريخ هذا النسل.

ثم وهؤلاء الذين عاشوا قبل هذا النسل قد يسمون بالنسناس وهم ناس أشرار كما في تفسير نور الثقلين ١ : ٥٨ عن علل الشرايع عن امير المؤمنين علي (عليه السلام) في حديث الخلافة : ثم قال للملائكة انظروا الى اهل الأرض من خلقي من الجن والنسناس فلما رأوا ما يعملون فيها من المعاصي وسفك الدماء والفساد في الأرض بغير الحق عظم ذلك عليهم ـ الى ان قال ـ : («إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فقالت الملائكة»

٢٨٤

نعرفها ، عرفتها الملائكة من ذي قبل فضاقت بها ذرعا ففرحت بانقراضها ، فرحة العبد لمولاه إذ يجده يعبد ولا يعصى ، ثم تضايقت من جعل خليفة لها ، دون ان تحسب حسابا لخلفيات سؤالها فجهّلهم الله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أن قد تكون هذه الخليفة أعلى منكم في عبادة ربها ، مهما كان فيها ببعض أنسالها فساد وسفك للدماء.

وترى أن سؤالها هذا يتنافى وعصمتهم ، أن اعترضوا على الله لماذا الخليفة؟ واغتروا بما عرضوا من تسبيحهم وتقديسهم؟ وقد كذبوا كما قال الله : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وهم كما يعرفنا الله : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢١ : ٢٦) فكيف سبقوه بقولة السؤال دون نظرة الإيضاح من الله و (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١٦ : ٥٠) فكيف لم يخافوه إذ سألوه ، وكيف فعلوا ما فعلوه ولم يؤمروا؟.

إن السؤال ليس نصا ولا ظاهرا في الاعتراض ، فإنما سألوا استيضاحا إذ جهلوا كيف (جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)؟ ثم وذكر النعمة والرحمة ليس اغترارا بل والتحديث بها مكرمة (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) وكان ذكرها تتمة السؤال : إن كان جعل الخليفة للعبادة فنحن لها ، وان كان غير ذلك فبين لنا.

ثم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وان كان تلميحا بالكذب ، ولكنه كذب جاهل

__________________

«سبحانك ا تجعل فيها ...».

وفيه (٥٩) عن كتاب التوحيد للصدوق عن أبي جعفر (عليه السلام) حديث طويل يقول في آخره : لعلك ترى أن الله انما خلق هذا العالم الواحد؟ او ترى ان الله لم يخلق بشرا غيركم؟ بلى والله لقد خلق الف الف عالم والف الف آدم أنت في آخر تلك العوالم وأولئك الآدميين.

٢٨٥

لا كذب متعمد ، فإنهم سألوا جاهلين كأن فيهم الكفائة فلما ذا هذه الخليفة؟ فقد كذبوا قاصرين لا مقصرين ، وهكذا كذب يشمل العالمين أجمعين : ان يجهلوا كثيرا مما يعلمه رب العالمين ، فمنهم من يبرزه بسؤال وسواه كهولاء الملائكة ، ومنهم من لا يسأل كالرعيل الأعلى من النبيين.

ثم ومن نقد الملائكة الخليفة الأرضية : (يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) ومقابلتهم لهذا النقد بما لهم : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) نعرف أن الشر كله يختصر في الإفساد والسفك ، والخير كله في التسبيح بالحمد والتقديس لله ، فليكن صحيحا مصدّقا عند الله إلّا في الآخرين ، أن المعرفة هي القمة في الخير ، التي تنتج تسبيحا بالحمد وتقديسا أعلى وأحرى.

فالإفساد في الأرض يشمل كل فساد فردي يفسد فاعله ، وجماعيّ يفسد مجتمعه ، نفسيا أم ماديا ، ومن أظهره جمعا بينها سفك الدماء فانه جماع الإفساد.

ولماذا تسبيح بالحمد وليس التسبيح وليس الحمد والتسبيح والحمد؟ أقول : لأن تسبيحه فقط دون حمد نفي بلا إثبات ، والنفي ذريعة الإثبات ، والحمد دون تسبيح إثبات ناقص لأنه إثبات بحدود المعرفيات ووصف له تعالى محدود (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) وكذلك التسبيح والحمد دون رباط ، حيث التسبيح ينفي والحمد لا يثبت ما يليق بساحته.

فأما التسبيح بحمده ، فأن نحمده مسبحين منزهين لساحة قدسه عن إثباتياتنا المحدودة ، وإنما : عالم ـ ليس يجهل. قادر ـ ليس يعجز. موجود ـ ليس بمعدوم .. وهكذا في كافة صفاته الثبوتية ، ألّا نصفه في حدود أفكارنا بما نعرفه ونأنسه من صفات وإثباتات ، وإنما نسبحه بحمده : ننزهه في حمدنا إياه عما هو لزام حمدنا من حدود وتخيلات ، فانما إثباتاتنا

٢٨٦

تنحو منحى نفي كل ما عندنا وفي عالمنا وحدود تصوراتنا وإدراكاتنا عن ساحة قدسه ، فالصفات الثبوتية تؤوّل الى السلبية من نوع آخر ، فهو إذا «خارج عن الحدين حد الإبطال وحد التشبيه» لا منفيّ إطلاقا ، ولا مثبت له شبيه ، فما أجمله وأحلاه : «التسبيح بالحمد»!

ثم (وَنُقَدِّسُ لَكَ) تعني ما تعنيه و (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) وزيادة : أننا نعيش تقديسا لذاتك وصفاتك وتصرفاتك ، وفي أنفسنا تعبدا لك وخشوعا ، وفي أفعالنا اتباعا لك وبخوعا.

ولكن ترى هل تكفي حياة التسبيح بحمد الله والتقديس لله لحدّ ثابت ومقام معلوم : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) لسان قال لهم يكشف عن حالهم الثابت إذ تدوم دونما تقدّم.

ثم وهل تكفي هذه دون معرفة لائقة بجناب قدسه؟ وفي هذه الخليفة الأرضية من هم فوقهم في هذه وتلك رغم أنهم سماويون؟

إذا فالجواب : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) هو على إجماله كلّ الجواب ، عن سؤال الإفساد والسفك ، ورعونة التسبيح بالحمد والتقديس ، بما علم آدم الأسماء كلها ، وبما أنبأهم آدم الأسماء كلها :

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)).

وها نحن مع الملائكة ننظر بعين البصيرة ، ونسمع بأذن صاغية ، ونعي بقلوب واعية في ومضات الاستشراف ، ما هذا السرّ الإلهي الذي اختصه الله بهذه الخليفة الأرضية ، التي تخضع لديها رسل السماء الملائكية ، وهو

٢٨٧

بذلك يسلّمها مقاليد الخلافة الأخيرة السامية ، وكرسي التعليم للملائكة؟!

إنه كله في (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ ...) فانظر ماذا ترى!

فهل الأسماء هنا هي ـ فقط. ـ أسماء الأشخاص والأشياء؟ و «هم» و «هؤلاء» لا تعنيان إلّا ذوات عقلاء! (ثُمَّ عَرَضَهُمْ ... بِأَسْماءِ هؤُلاءِ)! ومن ثمّ وما قيمة علم هذه الأسماء وكثيرون يعلمون كثيرا من الأسماء وليسوا بأفضل ممن لا يعلمونها ، ولو أن الملائكة علّمتها كما علّم آدم لكانت مثل آدم كما آدم أنبأهم بها بما أمر الله.

فليس علم هذه الأسماء مما يتفاضل فيه ، ولا أنه جناح من جناحي العلم بالله وتقوى الله ، وهذه الأسماء إنما يحتاج إليها في تفاهم مسمياتها ، والملائكة يتلقونها دون وسائط ، ولا يحتاجونها كما يحتاجها الإنسان في الحاجيات الجماعية الأرضية!

أو انها المسميات ، حيث الاسم من الوسم (١) : العلامة ـ الدلالة ، ودلالات الأسماء اللفظية على المدلولات هي من أضعف الدلالات ، فأعلى منها دلالات الذوات والأفعال والصفات على مدلولاتها فيما بينها ، ثم

__________________

(١) هذا احد وجهى الاسم أصلا وقيل أصله سمو من السموّ : العلوّ ، لان تصغيره سمي ، فلو كان من وسم : العلامة ، لكان تصغيره وسيم ، والعلامة انسب له معنى ، والعلوّ لفظا ، وعلّهما معنيّان أحيانا وأحدهما أحرى ، او يقال ان الاسم السمو يناسبه معنويا كما اللفظي فانه يعرف به ذات الشيء ، فبه يرفع المسمى عن حضيض المجهول ، ولكل وجه ، والأوجه ان السماء من السمو : العلو والرفعة ، والاسم من وسم : العلامة ، او ومن السمو ايضا.

ثم الاسم قد يكون مأخوذا من «شما» آرامية وعبرية ، وهي تستقل عن مادة السماء : الرفعة ، وذكرها في مادة السمو غفلة عن تحقيق اصل الكلمة.

٢٨٨

دلالات الكائنات كل الكائنات على مكوّنها بدرجاتها ، ثم دلالات الرعيل الأعلى من رجالات الله : بذواتهم وصفاتهم وتصرفاتهم وإرشاداتهم على الله ثم الذروة العليا منهم وهي الحقيقة المحمدية العظمى فإنها الآية الكبرى وأعظم أسمائه الحسنى بين الممكنات ، بجنب ما لله من سائر الأسماء الحسنى ، (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (١٧ : ١١٠) (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (٧ : ١٧).

فأحرى بهم هؤلاء أن تعنيهم الأسماء التي علّمها آدم كلها : أنهم أنبياء الله ورسله.

ولكنما التعلّم لا يناسب الذوات ، وإنما هو التعريف ، ثم ويبقى السؤال كيف يفضّل آدم على الملائكة لأن الله علّمه دونهم ، ثم كلّفه أن ينبئهم بها؟

في الحق إن الأسماء هنا مجمع الاسمين ألفاظا وذوات ، ولأن بداية المعرفة كانت بالنسبة للألفاظ صح التعليم ، مهما انتهت الى معرفة الذوات ، وقد تبين هنا لهذه الخليفة فضيلتان اثنتان :

الأولى لآدم حيث علّم الأسماء ألفاظا وذوات ثم لم ينبئ الملائكة بالذوات وإنما (بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) وإن كانت تكشف أشباحا من هؤلاء الذوات ، ولكنه قليل بجنب ما عرّفه آدم من الذوات ، تدليلا على أن الملائكة ليست بالتي تتمكن أن تعرف او تعرّف حقائق هذه الذوات ، بيانا لكيانهم بما خلق الله : أنه محدود بما حدّد الله ، دون هذه الخليفة التي منها آدم ، فليس علمه محدودا لحدّ ، فهم : (ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) والخليفة : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)

والثانية أن هؤلاء الذوات هي الأصيلة في هذه الخلافة ، مهما كانت لأشباههم في الصورة الإنسانية تخلّفات وترذّلات من إفساد وسفك دماء ، فان هؤلاء الأشباح لا تشبه أشباهها في المعنى مهما شابهتها في الصور.

٢٨٩

لذلك (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) : أسماء هؤلاء الخلفاء كلها ، وذواتهم بأشباحهم كلهم ، تجنيدا وعرضا لآدم أوّلا لكي يعرف موقعه أنه يحمل في صلبه هذه الأمانات الغالية ، وللملائكة لكي يعلموا : (إِنِّي أَعْلَمُ) من هذه الخليفة (ما لا تَعْلَمُونَ) فهناك البون الشاسع بينكم وبينه لحدّ لا تعرّفون حقائقهم إذ لا تتمكنون ، حيث هم في الذروة العليا ، وما أنتم بها حتى تحيطوها معرفة وعلما ، فانما أنبئتم بأسمائهم لكي تتعرفوا حسب المستطاع إلى ذواتهم. قدر ما تعلمون : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)!

فالأسماء الذوات هي المعروضة هنا على ملائكة السماوات ، : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) دون «عرضها» حيث العرض للذوات ، ودون «عرفهم الملائكة» حيث العرض لمنظر من الأشباح ، لا حقائقها كلها ـ لان هؤلاء من غيب السماوات والأرض : (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهم ـ او معظمهم ـ رجالات الله : النبيين والمرسلين : حقائق عاقلة محجوبة تحت حجاب الغيب : غيب السماوات والأرض ، كشف الله لآدم منها أسماء وذوات ، وأنبأ الملائكة بأسمائها بآدم ، ولكن ترى : إنباء الأسماء فقط دون اي كشف عن حقائقها؟ إذا فكيف عرفت الملائكة فضلهم ، وعرفت فضل آدم بما علّمهم دونهم!.

فليكن في عرض هؤلاء الذوات على الملائكة ، وإنبائهم بأسمائهم ـ ليكن في هذا الإنباء وذلك العرض تعريف مّا بالذوات ، يكفي لهم إقناعا : أنهم هم الأفضلون في الفضائل كلها ، لحد لا يحيطون ـ وحتى ـ معرفة بجنابهم وعلما بذواتهم كما يحق.

فهنا تعليم وعرض وإنباء خص آدم بتعليم الأسماء والذوات ، وهو

٢٩٠

فوق العرض والإنباء ، حيث خصّ بهما الملائكة ، فقد أنبأت بأسمائها بعد ما عرضت عليهم ذواتها ، إلّا أن هذا الأنبياء والعرض ما علّمها الملائكة قدر ما علّم آدم بالتعليم!

فعرضها أن عرّفهم شبحا من أشباحهم يستشرفونها من بعد ولمّا ، وقد كان العرض بحيث تستعرض منه أسماء المعروضين لمن يؤهل ، وإلّا لم يكن معنى ل : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لو لا أن العرض ينبئهم!.

ثم وإنباء أسماءها زادتهم معرفة ، ولحد الإقناع (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) : إنهم أعلى منكم محتدا وفي التسبيح والتقديس ، دون إحاطة على هذه الحقائق النورانية التي تخطف الأبصار ، فلا تبصر منها إلّا بحدود الإبصار ، فلكلّ من العرض فالإنباء بالأسماء دوره في تعريف ذواتهم قدر إمكانية الملائكة ، وكما أن تعليم الأسماء عرّف آدم الذوات والأسماء قدر إمكانيته فوقهم ، لحدّ أصبح ينبئهم بأسمائهم!.

ذلك! ولم يكن آدم وقتذاك نبيا حيث (عَصى آدَمُ رَبَّهُ) ـ بعد ذلك ـ (فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٢٠ : ١٢٢) وهذا الاجتباء ثم الهدى هما النبوة بعد إذ تاب عما عصى.

ف (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) في بداية الجواب ، كان له دور الإقناع دون شهود ، ولكنما العرض والإنباء لهما دور الإقناع بشهود ، حتى أتى موقع التنديد التذكير : (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)!

فقد عجزت الملائكة من استنباء أسماء هؤلاء بعد عرضهم عليهم ، وكان العرض بحيث ينبئ ، وعجزت أن تعرف حقائق هؤلاء الذوات المقدسة : الخلفاء ، وكان الإنباء بعد العرض مما يعرّف ، وقد خص آدم

٢٩١

(عليه السلام) بتعليم الأسماء بالذوات دفعة واحدة ، مما يدل على رجاحة ميزانيته عليهم (١) ، وعلى أفضلية هؤلاء الخلفاء كذلك.

وبطبيعة الحال حصلت لهم أشباح من المعرفة بهذه الذوات حسب الدرجات ، ولكنما الحقيقة المحمدية لم تكن تظهر لهم ولا لآدم كما يحق ، فقد بهروا وتحيروا منها ، واستدلوا بما عرفوا مما دونها على تلكم القمة العليا (٢) وتعبدت لهم الطريق لكي يسجدوا لآدم كما أمروا!

... (فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) وأنكم الأفضلون من هذه الخليفة ـ و «صادقين» في سؤالكم (أَتَجْعَلُ فِيها)؟

فها أنتم لم تعرفوا أسماءهم بعد ما عرضوا لكم بأشباحهم فكيف تدّعون؟ .. ثم وبعد أن تعرفوا أسماءهم فتزدادون بهم معرفة بعد ما أنبأكم آدم ، فتعرفون من هم ، فأين هم وأين أنتم؟!

(فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ ... وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) مما تقولون (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ): وقد كتمه الله عنا إلّا ما بينه عن إبليس.

فقد «عجزت الملائكة على قربهم من كرسي كرامته وطول ولههم إليه

__________________

(١) في معاني الأخبار وكمال الدين وتمام النعمة وعن الصادق (عليه السلام): ان الله عز وجل علم آدم اسماء حججه كلها ثم عرضهم وهم أرواح على الملائكة فقال : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ») بأنكم أحق بالخلافة في الأرض

(٢) تفسير البرهان ١ : ٧٣ عن تفسير الامام الحسن العسكري (عليه السلام) في آية الأسماء قال : اسماء أنبياء الله واسماء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهما ـ ثم عرضهم ـ : عرض محمدا وعليا والائمة على الملائكة ، اي عرض أشباحهم وهم أنوار في الأظلّة.

٢٩٢

وتعظيم جلال عزه وقربهم من غيب ملكوته أن يعلموا من أمره إلّا ما أعلمهم وهم من ملكوت القدس بحيث هم ، ومن معرفته على ما فطرهم عليه أن قالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) (١).

فيا لهذا النسل الأخير الإنساني من مكرمات جعلته خير الأنسال الترابية ـ لا فحسب! فقد فضّلته على ملائكة السماء ، فلا أفضل منه في تاريخ التكوين : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٩٥ : ٤) فليس في الخلق أقوم منه ، اللهم إلّا أن يماثله من لا نعرفه : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (١٧ : ٧٠) فمن هذا القليل الذي يزامله في هذه القوامه الحسنى؟ لا ندري!.

ثم اللهم إلّا أن لا يعرفوا كيانهم فيردون إلى أسفل سافلين ، بعد ما خلقهم الله في أحسن تقويم ،

في ذلك التعليم والإنباء والعرض عرض لكيان هذه الخليفة في معرض القياس على الملائكة ، ولكي يعلموا أن هذه الخليفة الترابية البشر ، المخلوقة من تراب من حمإ مسنون ، هي أعلى من ملائكة السماوات! ولكي يعلم الإنسان من هو ، فليجدّ بالسير الى مثله العليا.

نكات مستدركات حول هذه الآيات :

١ ـ «إني جاعل» دون «خالق» توحي أنه جعل خليفة بعد خلقه لا بخلقه ، وعلّ بداية خلافته حين نبّئ بعد ما (عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) وإن كان تعليمه الأسماء وإسجاد الملائكة له قبل ذلك ، فقد كفى إثباتا لخلافته بذريته الأنبياء تعليمه الأسماء ـ ذاتيا ـ وإنبائهم وعرضهم الأسماء حملا لهؤلاء الخلفاء ...

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٥ عن التوحيد للصدوق خطبة لعلي عليه السلام يقول فيها : ..

٢٩٣

٢ ـ (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : في (مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) فانه مهما حصل فهو أقل ممن مضى ، وليس معذلك ممن يعنى من «خليفة» فانها هم الأسماء التي سوف تعرض عليكم وتنّبئون بأسمائها.

او «صادقين» في (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) كأنكم أنتم الأعلون في هذا المسرح.

او «صادقين» في معرفة هذه الخليفة ، أن تدفعكم للحكم عليها ولأنفسكم ، أم ماذا

٣ ـ (قالُوا سُبْحانَكَ) : ننزهك عن أن نقول بغير علم ، أو أن تجعل فيها من يفسد فيها .. أو أن نعلم قبل أن نعلّم ـ :

٤ ـ (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) توحي أن علوم الملائكة أنما هي بالتعليم الإلهي وحيا دونما محاولة منهم او تحصيل ، كدحا في تعلّم او تفكير ، إلّا وحيا ، ومن ميّزات الإنسان عدم انحصار علومه بهكذا وحي ، فله استخدام مختلف الوسائل للحصول على علوم مهما قلت او كثرت ، ومهما اخطأ فيها لو سلك غير سبلها.

فعلم الوحي في الملائكة والناس على سواء في عدم تكلف التحصيل ، ثم للإنسان علم زائد يحصل له بتحصيل ، وهو ليس للملائكة دون وحي إلّا جهلا ، ولكنه للإنسان علم بعد علم الوحي ، مهما تورّط في مجاهيل.

ف (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) اعتراف ثان بقصورهم وجاه هذه الخليفة : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) دون سواك ، تعلم ما تفعل وتفعل ما تعلم : «الحكيم» في أفعالك كلّها كما هنا وإنّما نحن الخاطئون!

هنا يحسن بنا عرض نظير القصة من الأصل السرياني لكتاب إدريس

٢٩٤

النبي (عليه السلام) في تعيين أفضل المخلوقين نقلا عن آدم (عليه السلام) أنني رأيت خمسة أشباح نورانية مكتوبة أسمائهم على العرش في غاية العظمة والجلال والجمال والكمال والحسن والضياء والبهاء ، حيث أغرقتني أنوارهم في الحيرة ..

قلت : يا رب! من هؤلاء ، فإذ أنا ناظر الى العرش أرى هذه الأسماء : يا پارقليطا ـ محمّد. إيليا ـ علي. طيطه ـ فاطمة. شبّر ـ حسن. شبّير ـ حسين.

إني لهويوه أنا لبرين وارخ لا الشماى ولا أل ارعا ولا البردس ولا الكهين ولا الشمس ولا السعر :.

«لولاهم لما خلقتك يا آدم ولا السماء ولا الأرض ولا الجنة ولا النار ولا الشمس ولا القمر».

هليلوه لت شوق منّي محمّد انوّي دأله :

«هللوني فانه لا إله إلا أنا ومحمد رسولي» (١).

__________________

(١) هذه البشارة ينقلها جديد الإسلام في كتاب أنيس الاعلام ج ٢ عن النسخة السريانية من كتاب إدريس (عليه السلام) في مكتبة الآثار في لندن المطبوعة ١٨٩٥ ص ٥١٤ ـ ٥١٥ بالتفصيل الآتي.

فيما كان إدريس النبي ببابل في معبده ، ينقل هذه القصة بين جمهور من أصحابه : اختلف ولد أبيكم آدم (عليه السلام) يوما في : من هو أفضل الخليقة؟ ـ فقال بعضهم : انه أبونا آدم إذ خلقه الله بيد قدرته ونفخ فيه من روحه وأمر ملائكته بتعظيمه وتكريمه وجعله معلمهم وخليفة في الأرض.

وقال آخرون : الملائكة أفضل من أبينا فإنهم لم يعصوا الله ولن يعصوه ، وأبونا آدم عصاه فأخرجه الله وزوجه من الجنة ، مهما تاب عليه وهداه ووعد المؤمنين من ذريته الجنة.

وقال ثالثة إن اشرف الخلق هو الملك العظيم جبرئيل أمين رب العالمين.

٢٩٥

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

.. معركة مصيرية دائبة تنبثق بين خليفة الخير : آدم ، وبين خليقة

__________________

زادت خلافاتهم فقال آدم : اسمعوا حتى أخبركم بمن هو أفضل خلق الله : لما خلقني الله ونفخ فيّ من روحه جلست فرأيت : ...

وهكذا نرى في إنجيل برنابا ٣٩ : ١٤ ـ ٢٨ ولكنه لم يأت إلّا بذكر الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (راجع كتابنا : رسول الإسلام في الكتب السماوية).

٢٩٦

الشر : إبليس ، عند ما يؤمر الملائكة بالسجود لآدم ، ندرس هذه المعركة بأجواءها وأرجاءها ومخلّفاتها ومعداتها من خلال الآيات التي تستعرضها تصريحا او تلميحا وقد صرح بها في مواضيع سبعة (١) هذه منها :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) ٣٤

«وإذ» قد تكون عطفا على (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) ثم وعلى المحذوف في (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) إذ .. (وَإِذْ قُلْنا) بيانا لأهم ما كانوا يكتمون من الاستكبار عن السجود لآدم ، كما حصل لإبليس (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) ظهور العصيان إذ كان يكتم كفره.

وترى متى قال للملائكة اسجدوا لآدم؟ وكيف أمروا أن يسجدوا لآدم؟ وإذ لم يكن إبليس من الملائكة : و (كانَ مِنَ الْجِنِّ) (١٨ : ٥٠) فلا يشمله أمر الملائكة ، فكيف أبى واستكبر ، فهل عما لم يؤمر؟!

إنهم أمروا أن يسجدوا لآدم قبل خلقه : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) فموقع الأمر قبل خلقه ، وموقع السجدة بعد خلقه ، وقد تكون بعد ما علّم آدم الأسماء كلها لتكون السجدة أمكن وأمتن ، او تكون قبله لتكون المحنة أتم ، ولكن فلنسكت عما سكت الله عنه.

__________________

(١) المواضيع الستة الاخرى هي : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) (٧ : ١١) (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) ١٧ : ٦١) (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) (٢٠ : ١١٦) (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (١٨ : ٥٠) (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (١٥ : ٢٩) و ٣٨ : ٧٢).

٢٩٧

وأما السجود لآدم؟ فهل المسجود هنا آدم عبادة؟ و (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (١٢ : ٤٠) فلا يمكن أن يأمر بعبادة غير الله ، فانها تسوية ضالة ظالمة بين الله وسواه : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢٦ : ٩٨) ثم ولا طائل تحت هذه العبادة اللهم إلّا دفعا لعبادة غير الله ، اتباعا لملائكة الله!

او أنها تكريم لخليفة الله ، ان يسجد لآدم إكراما له واحتراما؟ فهكذا الأمر! فهل يأمر الله بهكذا تكريم لسواه ، وفيه إهانة لساحته ، وتشريك له معه في كرامته ، وتسوية له في حرمته ، ونيل من محتده ، فلم يكن الله ليسمح أو يأمر باحترام لآدم أو من فوقه ، وفيه اخترام لساحة قدسه والاحترام درجات قمتها احترام العبادة فلا يحق إلّا للمعبود!

كما وآيات السجود تختصه ـ عبادة واحتراما ـ بالله ، وما (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) من والدي يوسف له ، إلّا كما سجد الملائكة لآدم ، إذ تعنيان معنى سواء ، دون أن تفسر إحداهما الأخرى!.

فعدم جواز التسوية بين العالي والداني ، فضلا عن الله وخلقه ، إنه من المستقلات العقلية ، والسجود هو الغاية القمة من مراحل العبادة عبادة ، ومن الحرمة احتراما او شكرا ، اللهم إلّا إذا كان بقصد الاستهزاء فليس إذا سجودا ، ومسرح البحث هنا هو سجود العبادة والاحترام دون اللعبة والاخترام ، وهو ـ لا شك ـ منحصر في الله ، منحسر عمن سوى الله مهما كان عظيما ، فلا عظيم بجنب الله!

أترى ان الله يأمر بما هو ضلال وظلم في نفسه ، ولكي يرّغب الى عبادة غيره او احترامه كمثله سواء.

والقرآن في عشرات الآيات يصرح باختصاص السجود بالله أيّا كان : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)

٢٩٨

(٧ : ٢٠٦) أترى انه تعالى يمدح الملائكة في اختصاص السجود به ثم يأمرهم ان يسجدوا لآدم ، فانما الخالق هو الذي يحق أن يسجد له دون سواه ، فلا تعني (اسْجُدُوا لِآدَمَ) إلّا ما تعنيه (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) بفارق ان هذه مطلق السجود لله ، وتلك هي سجود الشكر حيث «لآدم» و (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (٤١ : ٣٧) : فتوحيد العبادة لله لزامه توحيد السجدة لله ، ولأنه الخالق دون سواه و (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (٧٢ : ١٨) (١).

ثم ولم يسبق لأحد من أنبياء الله ، ولا لنبي الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يسمح بالسجود او الركوع له ، ومناط السماح ـ لو جاز لآدم ـ هو فيه أقوى بما لا يحصى! ولقد كذّب كونه تحية الأنبياء (٢) إذ «ما ينبغي لبشر أن يسجد لبشر» (٣) ولا «لأحد أن يسجد لأحد من دون الله يخضع له خضوعه لله ويعظم به السجود كتعظيمه لله» (٤) لا وحتى أن يقبّل

__________________

(١) راجع لتفسير الآية الى ج ٢٩ : ١٩٣ ـ ١٩٤ تجد بحثا فصلا عن السجود

(٢) روى احمد بن حنبل في مسنده ٤ : ٣٨١ ـ ان معاذا لما قدم من اليمن سجد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : يا معاذ! ما هذا؟ قال : ان اليهود تسجد لعظمائها وعلمائها ورأيت النصارى تسجد لقسسها وبطارقتها ، قلت ما هذا؟ قالوا : تحية الأنبياء فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : كذبوا على أنبيائهم.

(٣) الجصاص ١ : ٣٥ عن عائشة وجابر بن عبد الله وانس ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ما ينبغي لبشر ان يسجد لبشر ولو صلح لبشر ان يسجد لبشر لأمرت المرأة ان تسجد لزوجها من عظم حقه عليها «ورواه ابن ماجه واحمد بن حنبل في مسنده ٤ : ٣٨١ و ٦ : ٧٦ و ٥ : ٢٢٨ وروى ما في معناه ابو داود في سننه ـ نكاح : ٤٠.

(٤) تفسير البرهان ١ : ٨١ عن تفسير الامام الحسن العسكري قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ... ولم يكن سجودهم لآدم انما كان آدم قبلة

٢٩٩

رجل ولي من أولياء الله ، فهل «بقي شيء ـ بقي شيء» (١) لله ، لو سوينا بينه وبين عباده احتراما فضلا عن عبادة! كما هوى رجل على قدميه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : تنح! دع عنك أفاعيل الأعاجم (٢) وما إلى ذلك من مواقف مشرفة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من آل الرسول ، مستنكرين الركوع او السجود ـ مهما كان احتراما دون عبادة لغير الله ـ ، ولهم! وهم من نعرفهم بفضلهم على آدم ومن فوقه ، فكيف يختص آدم بسجود الملائكة ، ثم يحرم من هم أدنا منهم ان يسجدوا لمن فوقه ، ان هي إلّا قيلة فارغة هراء ، والله منها براء! أم كان آدم قبلة لهم في سجودهم لله؟ والقبلة لا يسجد له ، وإنما يسجد إليه ، وهنا السجود لآدم لا الى آدم! ثم لا تفضيل له عليهم بالسجود إليه كقبلة ، كما الرسول يسجد إلى القبلة التي هي دونه! والسجدة لآدم تحمل تكريما له على الملائكة وفيهم إبليس القائل : (أَرَأَيْتَكَ

__________________

ـ لهم يسجدون نحوه لله عز وجل وكان بذلك معظما مبجلا ولا ينبغي لأحد ... ولو أمرت أحدا ان يسجد هكذا لغير الله لأمرت ضعفاء شيعتنا وسائر المكلفين من شيعتنا ان يسجدوا لمن توسط في علوم وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

(١) في الوافي باب المعانقة والتقبيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قيل له اعطني يدك اقبلها فأعطاها ثم وجهك فأعطاه ، ثم قال : ورجلك قال : هل بقي شيء ثم قال : لا يقبل وجه احد ولا يده إلّا رسول الله او من أريد به رسول الله ـ وفي حديث آخر : إلّا رسول الله او وصي رسول الله.

(٢) في حديث لا اذكر مسنده ان أعجميا أراد ان يهوى على قدمي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : تنحّ! دع عنك أفاعيل الأعاجم.

وفي تفسير الرازي ٢ : ٢١٢ عن الثوري عن سماك بن هاني قال : دخل الجاثليق على علي بن أبي طالب فأراد ان يسجد له فقال علي (عليه السلام) : اسجد لله ولا تسجد لي.

٣٠٠