الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

من الرعايا.

ثم المالك ليوم الدين على وجه الإطلاق يملك كل مالك بملكه وكل ملك بملكه حيث يملك مثلث الزمان والمكان بما فيهما ، ولكن الملك قد يكون بجنبه مالكون ، فالوجهة العامة في التصور عنهما تصور المالك المطلق أملك من الملك المطلق ، مهما كانا في الله على سواء ، وهو ملك كما هو مالك ، ولكنما أم القرآن بسبعها المثاني تقتضي أمّ التعبير ، و «مالك» أمّ ل «ملك» وإلى سائر التعبير كما الدين حيث يشمل كل ما في القيامة وهو أبرز سماته وحجر الأساس من كل خصوصياته.

إذا فهو مالك لكل كائن وملك على كل كائن ، ملكا وملكا للزمان والمكان وما فيهما ، ومن الهراء القول أن «مالك» لا يناسب (يَوْمِ الدِّينِ) حيث لا يملك الزمان ، فانه يخص كل زماني دون خالق الزمان!

وإذا كان هو مالك الزمان فلما ذا خص هنا ب (يَوْمِ الدِّينِ) وهو مالك يوم الدنيا كما يملك يوم الدين؟ كما وأنه مالك الملك يوم الدنيا ويوم الدين.

إنه ليس في الحق من الإختصاص ، فانما ترجيح ذكرا ليوم الدين ، فان آيته تخص الإنذار بيوم الدين ، وفي عرض مالكيته بخصوصه تهيّؤ أكثر وتهيّب للمصدقين بالدين ، ولان مالكيته يوم الدنيا كانت قرينة في طولها بمالكية عرضيّة مستودعة لأهل الدنيا ، وهذه منفية عن أهلها يوم الدين (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) فان قال «ملك الأيام» لم يكن بذلك التحديد والتهديد ، حيث الملوك والملّاك يوم الدنيا مخيّرون بجنبه فيما يفعلون ويفتعلون ، فعلّهم كذلك يوم الدين ، فلا يصل الى كل ذي حق حقه! وأما (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فقد يحصر المالكية له يوم الدين دون سواه وإن مستودعا باختيار لاختبار ، فإنهما ليسا في عقبى الدار.

١٠١

كما وان مالكيته الحقيقية تبرز لنا كريها يوم الدين ، وتزداد ظهور وبهورا لمصدّقيها يوم الدين ، وفي هذه الأربع كفاية لظاهر اختصاص «مالك» هنا ب (يَوْمِ الدِّينِ).

والدين في الأصل هو الطاعة والشريعة ، شريعة الطاعة وطاعة الشريعة ، عنيت منه في (٤٧) موضعا في القرآن ، مهما عني الجزاء بها يوم الجزاء في (١٥) موضعا آخر.

ولكنما الجزاء على طاعة الشرعة وعصيانها هي بروز لحقيقة الطاعة أو عصيانها ، فلها إذا يومان ، يوم التكليف بها وهو الاولى ، ويوم ظهورها بحقيقتها وهو الأخرى ف (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٧ : ٩٠) فالدين هو الطاعة للشّرعة كما هو ظهورها جزاء في الآخرة ف (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) تعني الثانية مهما يملك يوم الأولى كما هيه.

فلأن بروز الطاعة بحقيقتها هو جزاءها في الأخرى ، تسمى يوم الدين ، كما المالكية الإلهية بارزة يوم الدين اكثر مما هي يوم الدنيا ، تختص هنا بيوم الدين.

كما وأن من أيام الله (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) (١٤ : ٥) هي الأيام التي تبرز فيها شريعة الله وحكمه وطاعته ، وهي على الترتيب يوم الرجعة والموت والقيامة ، فيوم الدولة المهدوية (عليه السلام) من أيام الله حيث تظهر فيه شرعة الله كما في قسيميه مهما اختلف ظهور عن ظهور ، كما وقد تظهر قبل دولة المهدي (عليه السلام) موضعيا وعلى هامشها فله نصيب من أيام الله قدر ما له نصيب من تحقيق شرعة الله.

ومالكية يوم الدين تمثّل قاعدة ضخمة رزينة رصينة ، عميقة التأثير في حياة التكليف ، فكثيرون يدينون بألوهية الله وخالقيته ـ أم ـ وتوحيده ، ولا

١٠٢

يدينون بيوم الدين ، عائشين حياة اللامبالاة والأريحيّة إذ لا يخافون يوما آخر للدين ، وآخرون يدينون بيوم الدين معتبرين استمرارية الملك والملك فيه لآخرين ، فهم يملكون فيه إعفاء أو تخفيفا أو إفلاتا عن حكم أحكم الحاكمين.

وإذ كان الله لا سواه (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يملك يومه بمن فيه وما فيه من حساب وثواب وعقاب او توبة وشفاعة وعفو أو إعفاء ، إذا فلا مجال لأمنيّات كاذبة كاسدة رخيصة في فوضى الحساب والجزاء يوم الدين ، ف (الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٨٢ : ١٩) و (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٨٨ : ٢٦) و (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ).

وقد تعم (يَوْمِ الدِّينِ) مثلث أيام الله ، مهما كان الأصل هو القيامة الكبرى إماتة وإحياء ، فالبرزخ برزخ في الدين ، ودولة المهدي (عليه السلام) ساعة من ساعات الدين كما هي من أشراط الساعة الدين.

و «يوم» هنا مطلق الزمان ، محدودا كما لأهل النار ، وغير محدود كما لأهل الجنة ، ف (يَوْمِ الدِّينِ) كمطلقه غير محدود فإن لأهل الجنة (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).

ولأن «الدين» هو أبرز سمات ذلك اليوم وأجمعها ، يختص السبع المثاني بذكره ، إشارة إلى كل سماته في القرآن العظيم ، إجمالا يشير إلى تفصيل ، وكما هو سائر في آياتها السبع.

فالقيامة بتدميرها وتعميرها وحسابها وسائر ما لها من أسماء بسماتها ، مطوية في «الدين» فانه ظهور الطاعة وخلافها ، فهو الأصيل الأصيل ، وهي كلها من فروعها وآثارها ، وقد دلت عشرات من الآيات على انعكاس

١٠٣

الأعمال كلها يوم الدين ، وأنها هي بنفسها الجزاء ، وأنّ الدين الحق هو الميزان لثقل الميزان وخفته (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) فالقيامة هي يوم الدين الشّرعة والكتاب ميزانا ، والدين الطاعة والمعصية ظهورا ، والدين بحقيقته جزاء وفاقا.

وهكذا يكون آيات السبع المثاني بكلماتها ، نماذج رئيسية محكمة عن تفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين.

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥).

العبادة هي الانتصاب للمعبود في منصب المعبودية ، استجاشة لكل الطاقات والإمكانيات في جانحة او جارحة لخدمته ، بكل ذل وانكسار ، بعيدا عن كل عزّة واستكبار ، وهي درجات كما الاستكبار دركات ، ولأن العبد «المملوك» قد يملك بعضه ويملك في بعض ، لمالك او مالكين ، وهو مطلق العبد ، وآخر يملك كله لشركاء متشاكسين وهو العبد المطلق ولكن ليس في إطلاق العبودية وإخلاصه لمالك واحد ، وقد يملكه مالك واحد ولكنه يستسلم له مع أهواء آخرين ، وذلك الثالوث خارج عن مغزى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فإنها عبادة خالصة لله رب العالمين ، بملكية حقيقة لا تشذ عن ذاته ولا عن عبادته شيئا لغير الله وفي غير الله.

وهي جوهريا تنافي الاستكبار : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٤٠ : ٦٠) كما الإخلاص فيها ينافي الإشراك لها : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١٨ : ١١٠) كما وبأحرى ينافي الإشراك فيها (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (١٧ : ٢٣).

إن المعبود الحق وهو الله يملك عبادا سواك ف (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي

١٠٤

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) (١٩ : ٩٤) ولكنك لا تجد معبودا بحق سواه ، وهو يربّيك كأن ليس له عبد سواك ، ثم أنت تعبده ـ ان كنت عابده ـ كأن لك أربابا سواه! إنه لا بد لك من معبود حقا أو باطلا ، وقولة القائل : إن العبودية ذلّ أيا كان المعبود ، والإنسان عزيز أيا كان ، فليرفض العبودية لايّ كان ، إنه هرطقة هراء ، والله منها براء.

أجل إن العبودية الذل أمام الذليل والأذل كما يفعلها الذين يعبدون من دون الله ، إنها ذلّ وظلم ومس من كرامة الإنسان ، ولكنها أمام الله عز وعدل وفضل يرجع إلى الإنسان ، ولا يتحلّل أي ذي حجى أم ذي شعور عن عبادة مّا حقا أو باطلا.

وبصيغة مختصرة محتصرة إن في الكون إلهين اثنين معبودين : حق وباطل ، فالباطل هو عبادة النفس والهوى ، والحق هو عبادة الله على هدى ، وليست عبادة من سوى الله إلّا ناتجة عن عبادة الهوى : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٣٨ : ٢٦).

ومثلا على العابدين الإنسان أيا كان ، وحتى الذي يدعي الألوهية من دون الله ، فإن له إلها وآلهة من أصنام وأوثان ، مهما كان هو طاغوتا لمستضعفي الإنسان ، ولأقل تقدير هو يعبد نفسه وهواه (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) (٤٥ : ٢٦).

إنه ليست لله تعالى حظوة في عباداتنا ، فنحن الذين نحظوا بعبادته ، حظوة معنوية لأنها اتصال معرفي باللّانهاية في الكمال ، وأخرى حيويّة أخرى ، أنه يدلنا بها إلى التقوى ويردعنا عن الطغوى : (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللهَ

١٠٥

هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٥١ : ٥٨) (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢ : ٢١).

والناس بين من يعبد الله وحده على درجاتهم ، أم يعبده مشركا في عبادته ، أم مشركا به معبودا سواه ، ام لا يعبد إلا سواه ، بديل ألّا يعبد إلّا إياه (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فضلا عن تخصيص العبادة لغير الله.!

إن العبودية العادلة الحكيمة هي مفرق الطريق بين التحرر المطلق عن كل عبودية ، وبين العبودية لغير الله من طواغيت ، وأوثان وأصنام ونظم وأوهام وعادات وأحلام ، فالناس بين عابدين لغير الله ، ومدعين التحلل عن كل عبادة وعبودية حتى الله ، مفرطين فيها أو مفرّطين عنها ، رغم استحالة التحلّل عن أية عبادة وعبودية ، فإنهم يعبدون شهواتهم ومشتهيات غيرهم من طواغيت ثم يدعون التحلل عن كل عبودية ولهم منها أبطلها وأحمقها!.

فإذا يعبد الإنسان ربه الخالق له المدبر أمره فهذه مفخرة له إذ ترفع من كيانه ، وحين يعبد أضرابه أو من دونه فقد حطّ من كيانه كإنسان ، وردّ إلى أسفل سافلين.

ثم و «نعبد» قد تكون من العبودة كما هي من العبادة ، فمن العبودة الرضى بلا خصومة ، والصبر بلا شكاية ، واليقين بلا شبهة ، والشهود بلا غيبة ، والإقبال بلا رجعة ، والإيصال بلا قطيعة.

ومن العبادة الصلاة بلا غفلة ، والصوم بلا غيبة ، والصدقة بلا منة ، والحج بلا إراءة ، والغزو بلا سمعة ، والذكر بلا ملالة ، وسائر العبادات بلا أية رئاء وسمعة وآفة.

ف «نعبد» تشمل بإطلاق التعبير كلا العبادة والعبودة كما كلّ منهما

١٠٦

درجات وفي التخلف عنهما دركات.

وهنا في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) انتقالة من غياب الحمد إلى حضور العبادة والاستعانة ، حيث المعرفة البدائية وهي شرط العبادة ، هي غائبة بطبيعة الحال ، ومن ثم إلى حضور المعبود المعروف بما عرّف نفسه وتعرّفنا إليه في خطوات سابقة سابغة : (بِسْمِ اللهِ) ـ إلى ـ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أنت قبل صلاتك منشغل عن الله بمشاغل الحياة وشواغلها ، فلما تكبّر وتعني به أنه أكبر من أن يوصف ، تأخذ في التغافل عما سوى الله والانشغال بالله ، ولكي تتهيّأ لحضوره في معراج الصلاة تقدّم ما تقدّم على (إِيَّاكَ نَعْبُدُ ..) وحين تكمّل أصول المعرفة والدين بالبسملة ـ إلى ـ مالك يوم الدين ، هنا يسمح لك أن تخاطب صاحب المعراج ب (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

فمن قبل كنت في غياب هو مطلق الحضور ، وأنت الآن في الحضور المطلق.

ف «اعبد ربك كأنك تراه وإن لم تكن تراه فإنه يراك».

في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) خرق لكافة الحجب ظلمانية ونورانية ، وهو مجال فاسح لمقام التدلّي في «أو أدنى» بعد ما «دنى» فالدنو المعرفي العبودي كقاب قوسين ، يعني أن ليس بينه وبين الله أحد ، ثم التدلي هو أن ينمحي العابد عن نفسه كما محّى ما سواه فلا يبقى إلّا حجاب الذات المقدسة وهو لزام الألوهية : بيني وبينك إني ينازعني ـ فارفع بلطفك إني من البين.

الله تبارك وتعالى حاضر لدى كل كائن ، وناظر إليه رقيب عليه ، وهو أقرب منه إليه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) قربا علميا وقيوميا ، لا

١٠٧

ذاتيا او زمانيا ومكانيا فانها بعد في ساحة الألوهية ، ومس من كرامة الربوبية :

فلتكن في حاضر خاطرك ، في علمك وعملك ، في سرّك وعلانيتك ، في جوارحك وجوانحك ، حاضرا لديه ، أقرب منك إلى نفسك فضلا عما سواك ، انمحاء لنفسك لكمال الحضور ، فانعدم هنا عن كافة شخصياتك وتعلقاتك أمام ربك حتى تنوجد متعلقا بل وتعلقا بربك متدليا به.

أم تحضر بحضرته كما أنت حاضر لنفسك ، ام ـ لأقل تقدير ـ كما أنت حاضر عند عزيز من أعزتك وأنت تراه ، أم وادنى منه أنه يراك ، آه يا ويلنا ونحن بعيدون في معراجنا عن هذه الأربع ، بل نجد كل ضالة سوى الله في صلاتنا! أفنحن أضعف من نساء في المدينة بالنسبة لحضرة يوسف (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) ويوسف عبد من عبيد الله ، فهن؟؟؟ أنفسهن فيقطعن أيديهن من جمال الحضور ، ونحن نتثاقل عن معراج الصلاة لحد النفور ، فأين تفرون؟!

فليكن المصلى في معراجه حضورا مطلقا لدى ربه دون غياب ، فان إليه الإياب وعليه الحساب وهو رب الأرباب.

تتقدم «إياك» هنا على «نعبد ونستعين» تدليلا على حصر العبادة في الله ولله ، وحصر الاستعانة في الله : نعبدك أنت لا سواك ، ونستعينك أنت لا سواك ، تعبيرا عبيرا عن (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ).

تتقدم ، لأن الله أحق في التقديم عليك وعلى عبادتك بكل موازين التقديم ، فمن أنت حتى تتقدم على ربك وإن في حضرة العبودية ، وما هي عبادتك حتى تتقدم على المعبود في حضرته؟!

و «نعبد .. ونستعين» جمعا ليس جمع التعظيم للمفرد حيث المقام مقام

١٠٨

التطامن والتذلل ، فإبراز نفسك كفرد زائد أمام ربك فضلا عن جمعك.

وإنما يعني أمورا عدة بين راجحة ومفروضة ، وكلها مفروضة في شرعة المعرفة.

فلكي لا تكذب في صلاتك ادعاء لحصر عبادتك في الله ، تدمج نفسك في جموع العابدين ، من الملائكة والجنة والناس أجمعين ، من السابقين والمقربين وأصحاب اليمين ، حتى تصدق دعواك في حصر العبادة ، فان المخلصين صادقون في حصرهم بأسرهم ، فأنا ـ إذا ـ قائل عنهم ، وناقل منهم وان لم أكن بنفسي أهلا لتلك الدعوى ، فلّعلي أسير بسيرتهم فأكون معهم (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٤ : ٦٩).

فإذا أنت تقبل حق العبادة أيها الرب الجليل ، فاقبل مني أنا الذليل البائس الهزيل ، تلك العبادة الخليطة بعبادات المخلصين.

ثم دمجا لنفسي في كل العالمين ممن يعبده ويسجد له طوعا أو كرها ف (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) والكون محراب فسيح تعبد فيه الكائنات ربها بلسان فصيح وغير فصيح.

ولأن الصلاة جماعة أحرى أم هي مفروضة كأصلها ف (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) هي حكاية الحال الحاضرة والمقال لجموع المصلين ، ومعنا ملائكة الله إن كنا في صلاتنا فاردين ، ومعنا سائر الكون على أية حال.

وحتى إن كنا في حصر العبادة لله صادقين ، علينا أن نخفي أنفسنا في جموع العابدين تحرزا عن الإنّية والظهور ، وإعفاء لأثر الشخوص والغرور ، فلا أنا لائق للإشخاص والشخوص ، ولا عبادتي تليق بحضرة المعبود ، إذا ف «نعبد ونستعين واهدنا» في مثلث من انمحاء الشخصية أمام

١٠٩

حضرة المعبود.

إن العبودية المطلقة تقتضي الطاعة المطلقة وبينهما عموم مطلق ، فكل عبودية طاعة وليست كل طاعة عبودية اللهم إلّا مطلق العبودية الجامعة مع الشرك خفيا وجليا.

ولماذا تنحصر العبادة بأسرها في الله؟ لأنه «الله ـ الرحمن ـ الرحيم ـ رب العالمين ـ مالك يوم الدين» وكل من هذه برهان تام لا مردّ له على ضرورة الانحصار.

فهو «الله» في مثلث الزمان وقبله وبعده ، سرمديا ما له من فواق ولا رفاق ، الكمال المطلق الصادر منه كل كامل وكمال (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ)؟ (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)؟!

وهو «الرحمن» لا سواه ، قبل أن يخلقك وبعد خلقك ، لا رحمان إلّا إياه ، (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ)؟!.

وهو «الرحيم» بمن يستحق خاصة الرحمات لا سواه.

وهو (رَبِّ الْعالَمِينَ) لا ربّ سواه خلقا ولا تدبيرا ، فمن ذا نعبد إلّا إياه؟

وهو (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ليس إلّا إيّاه فكيف نعبد سواه ، وإليه الإياب وعليه الحساب؟

فإن كنت تعبد ما تعبد حبا للكمال المطلق فهو الله فلا تعبد ـ إذا ـ إلّا إياه.

وإن كنت تعبد استدرارا للرحمة أم إدرارا فالرحمة المدرار خاصة بالله فلا تعبد إلا إياه ، شكرا واستكمالا به ، واحتراما لديه ما أنت المحتاج إليه دونه.

١١٠

وإن كنت تعبد لمكان الربوبية فلا تعبد إلّا إياه فانه ـ فقط ـ رب العالمين لا سواه :

وإن كنت تعبد طمعا في الثواب أو خوفا من العقاب فلا تعبد إلّا إياه فانه ـ فقط ـ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) لا سواه :

فمثلث : العبادة الحرة وطلب الثواب وخوف العقاب ، منحصر في الله منحسر عن سواه ، فكيف ـ إذا ـ تعبد سواه وقد (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)؟!

ثم الواجب في شرعة التوحيد عبادة الذات «الله» حضورا وإدراكا : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) «ومن زعم أنه يعبد بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب» عبادة من لا يحضره فلا يعرفه اللهم إلّا بما أنعم ، فلولا النعمة لم تكن عبادة! و (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) تنافي الغياب ، فالله تعالى حاضر لك وأقرب إليك منك ، فلتكن حاضرا لديه علما به وإدراكا دون إحاطة ، فلو كانت عبادتك بالصفة الفعلية فهي إحالة على غائب ، وكثير هؤلاء الذين يعبدون الغائب :

«ومن زعم أنه يعبد الصفة والموصوف فقد أبطل التوحيد لأن الصفة غير الموصوف» وهي الصفة الفعلية دون الذاتية فانها عين الذات ، فعبادة الذات بصفة الفعل ، أم بصفة الذات اعتبارا لها زائدة على الذات ، إنها ناحية عن خالص التوحيد إلى خالص الشرك أم شائبه ، حيث الثانية شرك في الذات وشرك في العبادة ، أن تعبد الذات بصفات الذات كأنها زائدة على الذات ، والأولى شرك في العبادة أن تعبده لأنه «الرحمن الرحيم ـ رب العالمين ـ مالك يوم الدين» فإنها عبادة التجار والعبيد دون الأحرار ، حيث يعبدون الله لأنه الله ، ومهما صحت الثلاث وقبلت ، إلّا في شرك الذات ـ فالعبادة الصحيحة هي عبادة الذات سواء كانت للذات فقط ، أم للذات

١١١

والصفات تعليلا لعبادة الذات ، وأما أن يعبد الذات والصفات ذاتية او فعلية ، او يعبد الصفات كما هيه ، أو يعبد الصفات تفريعا عليها الذات ، فكل ذلك إبطال للتوحيد فذلك بين إشراك وإلحاد!

«ومن زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير» (١) حيث يجعل الصفات أصلا يفرّع عليها الذات ، ففي عبادتهما هكذا مع بعض شرك أنحس من التسوية ، وفي عبادة الصفات أصالة بتفريع الذات انزلاق إلى إلحاد ، وفي عبادة الذات بأصالة الصفات ، أن يعبده هو لهذه الصفات ، تحلّل عن عبادة الأحرار إلى العبيد والتجار (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (٦ : ٩١).

فالعبادة درجات : ١ ـ خوفا من عذاب الله وهي عبادة العبيد وكثير ما هم و ٢ ـ طمعا في ثواب الله وهي عبادة الأجراء وهم أقل منهم (٢) ـ ٣ أن تعبد الله لأنه الله وهم أقل قليل وكما عن مولانا امير المؤمنين علي (عليه السلام): ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك (٣).

وهذه المراتب مطوية في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) في ظلال ما قبلها ، ف (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لأنك الله ، فأنت أهل أن تعبد «لا نريد منك غيرك ، لا نعبدك بالعوض والبدل كما يعبدك الجاهلون بك المغيبون عنك» (٤).

__________________

(١) يرويه إخواننا عن الامام الصادق (عليه السلام) وبين الأقواس بيانات منا.

(٢) الكافي محمد بن يعقوب باسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان العباد ثلاثة قوم عبدوا الله عز وجل خوفا فتلك عبادة العبيد وقوم عبدوا الله طلب الثواب فتلك عبادة الاجراء وقوم عبدوا الله حبا فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة.

(٣) مرآة العقول للمجلسي من باب النية ج ٢ ص ١٠١.

(٤) تحف العقول عن الامام الصادق (عليه السلام) :

١١٢

وإياك نعبد لأنك «الرحمن ـ الرحيم ـ رب العالمين» طمعا في رحمتك وربوبيتك :

وإياك نعبد لأنك (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) طمعا في ثوابك او خوفا من نارك وهذا أضعف العبادة.

وهذه الدرجات الثلاث كل منها درجات كما أن عبادة غير الله دركات.

وكما (الْحَمْدُ لِلَّهِ) تتبنّى هذه الخمس ، كذلك (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فإنه كمال الحمد.

وكما أن عبادة التأليه تخصه ، كذلك عبادة الطاعة ، وعبادة الأفعال والأقوال ، فالقول : لو لا الله وفلان لما نجحت إشراك في القول ، وسجدة الاحترام وركوعه لغير الله إشراك في فعل الاحترام ، والطاعة المطلقة لغير الله إشراك في طاعة الله ، وإن كان (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ولكنها طاعة لله دون سواه.

ولماذا تتقدم (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) على (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)؟ والاستعانة لزام العبادة ، حيث الموكول إلى نفسه على توفّر العراقيل بينه وبين ربه ليس ليعبد ربه؟

علّه حث لاستجاشة الطاقات وتكريس الإمكانيات ل (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ثم إكمالها ب (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فالعبادة هي فعل العبد مشفوعا بعون الله ، فعليك الحركة ، وعلى الله البركة ، رفضا للاتكالية في الأمور المختارة ، وتحريضا على السعي ثم الاستعانة في كماله وإنتاجه.

كما وان الاستعانة تعم العبادة وسواها ، والعام يذكر بعد الخاص تعميما له ولسواه ، ف (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وفي كل ما ترضاه.

١١٣

ثم العبادة لا تنحصر في مجالات الذكر والصلاة والحج : فانها تشمل كافة حركات الحياة وسكناتها ، فلتكن كلها صلاة لله وصلات بالله لتصبح الكل عبادة لله.

ولأن العابدين فرادى وجماعات لا يقدرون على إخلاص العبادة لله لضعفهم في أنفسهم ووجاه عرقلات الشياطين ، فلا حول عن معصية الله إلّا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعة الله إلّا بعون الله ، فعلينا الاستعانة بالله في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) كما في سواه ، استعانة تكوينية وتشريعية في : كيف نعبده ، هديا إلى صراط مستقيم في عبادته ، وفي تحقيق حق العبادة الخالصة هديا إلى الصراط إيصالا إلى المطلوب منه ، فلو لا الإعانة تشريعية وتكوينية لم تتحقق العبادة اللّائقة الخالصة.

ف (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) على طاعتك وعبادتك «وعلى دفع شرور أعدائك وردّ مكائدهم والمقام على ما أمرتنا به» (١) و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) : استزادة من توفيقه وعبادته واستدامة لما أنعم الله عليه ونصره (٢) (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) : أفضل ما طلب به العباد حوائجهم(٣).

ولماذا (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) دون «بك نستعين»؟

لأن بينهما فارقا والنص يوحي بتوحيد الأولى دون الثانية ، سامحا للاستعانة بغير الله في الله وإلى الله حين يأذن الله ويرضى ، فالمستعان ـ فقط ـ هو الله ، ثم المستعان به في الله وإلى الله في إعانة هو الله ومن يأذن به

__________________

(١) تفسير الامام الحسن العسكري (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٢) من لا يحضره الفقيه عن العلل عن الرضا (عليه السلام).

(٣) مجمع البيان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

١١٤

الله ، حيث الدار دار الأسباب ، وإن كان الله قد يقطع الأسباب كأيّة رسالة أو كرامة أو عناية خاصة بمن يحبّ ويرضى.

ففي توحيد الاستعانة بالله منع عن كل استعانة بغير الله ، وأمّا التوحيد في استعانته فهو سائد في الاستعانة بما يأذن به الله كما في الاستعانة بالله.

فكما (الْحَمْدُ لِلَّهِ) والعبادة لله ، كذلك المستعان هو الله لا سواه ، ومهما حمدنا سواه واستعنّا بسواه فلسنا لنعبد سواه إذ (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).

فنحن «نستعين» بهدي الرسول الله في : كيف نعبده (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ).

و «نستعين» باستغفار الرسول الله في غفرانه كما أمر الله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٤ : ٦٤).

كما «نستعين» بدعاء الرسول وشفاعته الله بإذنه «لا يملكون الشفاعة (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٧٨ : ٣٨).

او «نستعين» الله بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وذويه (عليهم السلام) في كشف الكربات ودفع الأذيّات وأضرابها من حاجات كوسائل كريمة مأذونة لم تخرج عن توحيد استعانة الله ، ابتغاء الوسيلة إليه بإذنه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٥ : ٣٥).

وسيلة مشفوعة بالتقوى والجهاد ، دون اكتفاء بها واستقلال لها متاركين التقوى فيها والجهاد ، وإنما استغلالها بأمر الله وإلى ابتغاء مرضات الله :

١١٥

فليس لنا ان نتوسل بكل شيء إلى الله ، ولا أن نؤصّل شيئا فيما نبغي أمام الله فنستقلها بجنب الله.

إذا فالله يستعان فقط دون سواه ، وبغير الله يستعان إلى الله وفي الله بإذنه ورضاه ، فقد نستعين الله فيما نستعين به ممن سوى الله ، لأن الإعانات كلها من الله ، وراجعة إلى الله ، بوسائط أم دون وسائط ، ولكنما الوسيط في الاستعانة تكوينا وتشريعا لا بد له من إذن الله ، وكما استعان ذو القرنين في بناء الردم بمن ظلموا : (قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) (١٨ : ٩٥).

إذا فالاستعانات الإيمانية بإذن الله كلّها استعانة الله ، وهي هي اللّاإيمانية إشراك بالله أو إلحاد في الله.

فالتوسل بالأصنام والأوثان أو عبادتها ليقربوكم إلى الله زلفى ، أم يؤثّروا تأثيرات ، استعانة بغير الله فيما منع الله شركا بالله أو إلحادا في الله.

كما التوسل بالأحجار والأشجار أماذا من جمادات ونباتات أم حيوان وإنسان أم ملك أو جان أم أيا كان ، كل ذلك توسّل شركي إن توسلت بها إلى الله ، أم إلحادي فيما تستقلها من دون الله.

فنحن نتعاون في الله : (تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) (٥ : ٢) ونستعين بعبادة الله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (٢ : ٤٥) ونستعين برسل الله وكل الهداة الى الله تعرفا الى مرضاة الله ، وكلّ ذلك استعانة الله واستعانة بالله (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١٢ : ١١٢).

والضابطة السارية في الاستعانة بغير الله في الله وإلى الله في أمور عادية غير عبادية ، أن تكون مأذونة بالوحي بصورة خاصة أو عامة ، فعدم

١١٦

الإذن ـ إذا ـ دليل المنع لأن منصب العون خاص بالله فضلا عن المنع.

ومن المأذونة بصورة عامة هو التعاون والاستعانة في كافة الأمور والمشاغل الحيويّة المباحة ، وهي في غير المباحة ـ فقط ـ غير مباحة دون شرك أو إلحاد ، إلّا إذا أشركت بالله أم استقلّت بجنب الله.

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٦)

هل يصح «السراط» كما في الشواذ؟ كلّا وإن اتحد المعنى ، حيث النص المتواتر هو «الصراط» مهما كان أصله اللغوي من سرط الطعام (١).

وهو هنا الدين ككل لأنه مؤدّ إلى استحباب الثواب واستدفاع العقاب ، طريقا قاصدا ومنهجا رائدا وبيانا زائدا يوصل إلى الهدف المقصود.

إنها خير دعاء واستدعاء في قلب السبع المثاني ، وهي قلب الصلاة ، كما هي قلب العبادات فإنها خير موضوع ، وإن لها خير موضع في خير موضوع ، فإنها بعد خطوات المعرفة والعبودية والاستعانة ، فلأن الدعاء هي مخّ العبادة فلتكن في مخّ العبادة.

وإنها دعاء لا يستغني عنها أحد من عباد الله حتى أسبق السابقين وأقرب المقربين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الطاهرين (عليهم السلام) فضلا عمن دونهم من سائر المخلصين والمخلصين وعباد الله أجمعين.

__________________

(١) في الدر المنثور ١ : ١٤ ـ اهدنا السراط بالسين عن عبد الله بن كثير وابن عباس وفي أسانيد عن ابن عباس «الصراط» وكما أخرج الحاكم وصححه وتعقبه الذهبي عن أبي هريرة ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرء «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ».

١١٧

ولأن موقع الدعاء هو أقرب حالات القرب إلى الله ، فدعاء الهداية وهي قمّة الدعاء أصبحت رابع الخطوات ، بعد المعرفة الغائبة في (بِسْمِ اللهِ) ـ الى ـ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ثم الحاضرة بخالص العبادة في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ثم أخرى هي بخالص الاستعانة ، فلما اكتملنا خطواتنا الثلاث ووصلنا إلى القمة المقصودة ، فلكي نثبت على ما نحن عليه من الهدى ، ثم نستزيد هدى على هدى ، نقول : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

والهداية هي الدلالة بعطف ولطف بكل مرونة وازدهار ، دون أية خشونة واستكبار ، وحتى بالنسبة لأكبر المستكبرين فرعون : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً. لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٢٠ : ٤٤).

ثم من الهدى ـ وهي رحمة ـ عامة تعنيها «الرحمن» وخاصة تعنيها «الرحيم» وهنا أخصّ تعنيها (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) والخلق في مثلث الهدى درجات حسب الدرجات.

١ ـ ورحمانية الهدى هي تكوينية لا سواها : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢٠ : ٥٠) مهما اختلفت درجات الخلق وبمستواها هداها ، وهي لزام كلّ خلق دونما حاجة إلى استدعاء ، فالقوانين المحكّمة على المادة تكوينية دونما استثناء ، من كيماوية وفيزيائية وفيزيولوجية نباتة أم حيوانية أم إنسانية أمّا هيه ـ

والكون كله على صراط مستقيم في هذه الهداية الإلهية دونما تخلّف واختلاف ، حيث الربوبية الإلهية مستقيمة دون خلاف (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١١ : ٥٦) :

٢ ـ ومن ثم تكوينية رحيمية كما في هدى العقل والفطرة : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٩٠ : ١٠) وهما لكافة المكلفين من الملائكة والجنة والناس

١١٨

أجمعين امّن هم ممن لا نعرفهم؟ ونحن نطلب فيما نطلب تجلّي الفطرة وزيادة العقل ، لكي نهتدي إلى صراط مستقيم.

٣ ـ أم تشريعية ككلّ شرعة إلهية : (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) وهذان حاصلان لكل مكلف قدر تكليفه ، فلولاهما لم تك من المصلين حتى تطلب الهداية ، إذا فلا دعاء لهما ولا استدعاء اللهم إلّا تداوما فيهما واستزادة ، أن يزيدنا لبّا ونورا وفرقانا لتعرّف أعرف إلى شرعته.

٤ ـ ام رحيمية تكوينية هي التوفيق لقبول الهداية لمن يتطلّبها (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٧ : ٣٠) فكذلك الأمر ، فلولا قبول الهدى لما اهتديت إلى الصلاة :

٥ ـ ام هي واقع الهدى بعد الاهتداء إليها توفيقا لمزيد الإيمان وعمل الصالحات : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) (١٠ : ٩١) (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥ : ١١٦) فهذه من أحسن الدعوات وأفضل المستدعيات لأن هديها من أفضل الهديّات.

٦ ـ ام هي التوفيق لدوام الهدى والثبات عليها بعد الوصول إليها : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٦٠ : ٩٠) ومنها العصمة والتسديد في البقاء على هدي الصراط المستقيم (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (١٧ : ٧٤) (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) (١٧ : ٨٦).

٧ ـ أم هي استزادة من هدي الصراط المستقيم (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)

١١٩

حيث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يتطلّب في صلواته ليل نهار هدي الصراط المستقيم ، فضلا عمن دونه في صراطه.

٨ ـ ام هي ـ أخيرا ـ صراط الجنة الأخرى على هدي الجنة الأولى ، التي هي جنّة عن كل ضلالة في الأولى والأخرى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) (٧ : ٤٣) وهي في الأخرى جنتان ثانيتهما وأولاهما جنة المعرفة والرضوان: (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ).

فبالسبعة الأخيرة من هذه الثمان : ـ عدد أبواب الجنان ـ نغلق أبواب النيران ونفتح أبواب الجنة الثمان : فأولى الهدى هي الفطرة والعقل ، غير مكسوفة بطوع الهوى ، وأخراها هي لمن بلغوا الذروة من الرعيل الأعلى وبينهما متوسطات ، ولكلّ نصيب مما كسبوا وما ربك بظلام للعبيد ، والعطيّات حسب القابليات ، والطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق ، فما من أحد إلّا وهو يحتاج هدي الصراط المستقيم.

ولماذا نطلب هداية الصراط المستقيم ، دون الهداية «إلى» أم «على» أم «ل»؟ علّه لأن الهداية «إلى» لا تعم الهداية «على» وهي الحيطة الشاملة على الصراط المستقيم ، فإنها واقع الهدى ، لا السبيل إليها والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو على صراط مستقيم ، مهما كان إليه في البداية : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً ..) (٦ : ١٦١) فقد كان إليه ثم أصبح عليه فكيف يتطلّب «اهدنا إلى او على الصراط المستقيم»! ثم الهداية «على» تخص أهلها الخصوص ، والهداية «ل» أمر بين أمرين ، ودعاء الهداية في الصلاة تعم عامة المصلين ، وأما هدى الصراط المستقيم فهو يعم مثلث الهدى!

١٢٠