الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

فمهما أنكر الكفار الحياة بعد الموت ، لم يهد لهم نكران الموت الأوّل ثم الإحياء عنه ثم الإماتة ، مما يكفي دليلا على وجود قدرة عليمة خلاقة حكيمة واحدة ، وان له الإحياء مرة اخرى كما أحيى في الاولى ، فحجة الاستنكار هنا تشمل كافة المكلفين : ماديين ومشركين ، وكتابين وموحدين : الناكرين منهم ليوم الدين!

ولأن الخطاب هنا موجّه الى الناس الأحياء ، فليكن الموت فيه قبل الإحياء ، لا موتا عما هم فيه من الحياة الإنسانية ولا أيّة حياة ، فقد كنا أمواتا إذ كنا أجنّة في بطون أمهاتنا ، وقبل خلق الروح الإنسانية فينا مهما كنا أحياء بالروح النباتية ، وبعض من الحيوانية ، حتى أتى دور الحياة الإنسانية بما أنشأ الله فينا خلقا آخر : «فأحياكم» للحياة الدنيا دون فصل ، بعد ما تهيأ الجنين لتقبّل الروح الإنساني وكما توحيه «ف» حيث تلمح بعدم الفصل.

(ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بعد فصل فيه تعمرون ، يميتكم عن الحياة الدنيا ـ وثم ماذا؟ ، (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) فهل للحياة البرزخية ، حيث بعدها : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)؟ فإن الرجوع الى الله هو الحياة الأخرى! علّه نعم ـ : لمكان الرجوع هنا ، وللآية الأخرى : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا (١) بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (٤٠ : ١١) حيث الإحياء الاوّل هو ـ فقط ـ عن الموت الاوّل كما هنا ، فالإحياء الثاني هو عن الموت الثاني نتيجة الإماتة الاولى ، ثم لا معنى للإماتة الثانية إلّا انها عن حياة ثانية تتوسط الحياتين : الأولى والأخرى ، وهي الحياة البرزخية ، فكما الإماتة الأولى إفناء للحياة الاولى فلتكن الثانية ايضا إفناء عن حياة مّا ثم الإحياء الثاني هو للحياة الأخرى.

وهذا اعتراف من جماعة أهل النار بإماتتين وإحيائين وهم في النار ،

٢٦١

بعد إذ كانوا لكلّ منها ناكرين : (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) (٤٤ : ٣٥) إذ حصروا الموت بما عن الحياة الدنيا كما حصروا الحياة بها ، فلا حياة بعدها وكما لا موت بعد الموتة الاولى! واعتراف اهل النار وهم في النار ، بما أنكروه يوم الدنيا ، دونما ردّ عليهم ، إنه مصدّق كواقع ، حيث المتناقضان لا يجتمعان والقرآن بيان دون إجمال او تقرير لضلال!

والترتيب الواقعي بين الإماتتين والإحيائين ، احياء عن الموت الأوّل ، ثم إماتة عنها ، ثم إماتة عن حياة تعيش هذه الإماتة ، فإحياء الى الحياة الأخرى ، فلولا الحياة البرزخية لم تكن هناك إماتة ثانية.

محالة الحياة البرزخية هي موت عن الحياة الدنيا ـ وليست موتا مطلقا ـ بل هي حياة مّا ـ تقبل الإماتة ثم الإحياء للحياة الأخرى.

ثم وعلّه لا! حيث الحياة البرزخية لا تحتاج الى إحياء ، فانها حاصلة في الحياة الدنيا وفي الموت عنها ، وهي بقاء الروح في البدن المثالي البرزخي ، فلا تعني الإماتة عن الحياة الدنيا إلّا انفصال الروح ببدنه المثالي عن هذا البدن نهائيا ، فتبقى ما تبقى من اصل الحياة برزخيا دونما حاجة الى إحياء.

لذلك لا تجد مصارحة قرآنية بإحياء برزخي ، وإنما الحياة والحياة فقط دونما إحياء!

ثم إنّ الرجوع الى الله بعد الإحياء الثاني لا يخص الحياة الاخرى بعد الموت ، حتى يخص هذا الإحياء بما بين الاولى والأخرى ، بل هو يعمها وما بعدها من رجوع الحساب فالثواب والعقاب : كما (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣٠ : ١١) (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)

٢٦٢

(٦ : ٣٦) فهل الإعادة والبعث هما في البرزخ؟! وليس فيه إلّا استمرار الحياة الدنيا. مهما نجد آيات اخرى هنا تعني من الرجوع الى الله الحياة الأخرى ، ولكنه بعد هاتين ليس إلّا ما يعم الحياة الأخرى والانتقال الى حياة الحساب ، ولا حجة في آيتنا : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ ... ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أنه الإحياء للأخرى ، واستعمال العام وقصد الخاص دون دليل ، خارج عن مذهب الفصاحة فضلا عن القرآن البالغ أعلى القمم فيها.

ومن ثم ف «ثم» قبل : يحييكم ـ الدالة على تراخي الإحياء عن الإماتة تدلنا دلالة رابعة أنها الحياة الاخروية النائية عن الموت كثيرا ، لا الحياة البرزخية التي لا تنفصل عن الموت.

فعلى ضوء هذه الدلالة المربعة ، ننتقل من : علّه نعم او لا ، الى التأكدّ من عدم دلالة الآية على حياة برزخية ، فهل إذا تدل على نفيها؟ لمكان : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ولا إحياء إلّا عن الموت ، فليس هناك قبل الحياة إلّا الموت؟

في الحق إنه لا دلالة على نفيها كما لا تدل على إثباتها ، حيث الحياة البرزخية موت بالنسبة للحياة الأخرى ـ كما الحياة الدنيا موت بالنسبة لها ـ فكما يصح الإحياء عن الموت المطلق الذي لا حياة فيه ـ وهنا نفي للبرزخ ـ كذلك يصح عن الموت النسبي : ـ البرزخي ـ وهو أحيى من الحياة الدنيا ـ وهنا إثبات للبرزخ ـ :

فعلى ضوء الآية الأخرى : (أَمَتَّنَا ... وَأَحْيَيْتَنَا) حيث تثبت الحياة البرزخية ، نفسر آيتنا هكذا : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) أجنّة في بطون أمهاتكم قبل إنشاء الخلق الآخر «فأحياكم» بالحياة الدنيا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عن الحياة الدنيا فصلا للروح ببدنه المثالي عن هذا البدن (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)

٢٦٣

لحياة أخرى هي أرقى ، إحياء عن الحياة البرزخية التي هي موت وجاه الأخرى ، او إحياء بعد الإماتة عن الحياة البرزخية ـ وهو أحق وأحرى ـ وكما تدل الآية الأخرى : (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) حيث الإماتة الأولى إماتة عن الحياة الدنيا ، فلتكن الثانية اماتة عن حياة أخرى الى الحياة الأخرى ، فلو لا أنّ هناك حياة وسطى : بين الدنيا والاخرى ، لم يكن للإماتة عنها معنى!.

فالفرق بين الآيتين أنّ آيتنا لا تحمل إلّا إماتة واحدة ، وموتا قبل الحياة الدنيا ، وفي الاخرى إماتتان ، وحاصل جمعهما انّ كلّا من الموت والحياة ثلاث : موت قبل الحياة الاولى دون إماتة وهو الموت المطلق ، وموت بالإماتة عن الحياة الاولى ، وموت بالإماتة عن الحياة البرزخية.

ثم : حياة بعد الموت الاوّل ، وحياة بعد الإماتة عنها ، وحياة بعد الإماتة عن الثانية: الحياة الاولى ثم الوسطى ثم الأخرى ، وآيتنا هنا لا تتكفل إلّا بيان الحياة الاخرى ، إذ تواجه الناكرين لها ، لا البرزخية التي هي على هامشها ، تثبت بعد ما تثبت هي الاخرى.

فقيلة الناكرين للحياة البرزخية أن آيتنا تنكرها كما الآية الأخرى ـ وهي مثلها ـ لا تثبتها ، حيث تشملان الموتين والحياتين ، إنها قولة فارغة هراء ، حيث البون بيّن بينهما ، وأنها موت وإماتة دون الأخرى : إماتتين ، دلالة قاطعة هنا عليها ، وسكوت هناك عنها!

فالقرآن يثبت الحياة البرزخية في قرابة عشرين آية نبحث عنها في طياتها ، دون تصريح او تلويح بإحياء فيها فانها استمرارية للحياة الاولى بعد انفصال البدن عنها ، طالما يصرح في مئات الآيات بالإحيائين دنيا واخرى ، وتصرح آية وحيدة بإماتتين : تلويحة كتصريحه أن في البرزخ حياة ، وإلّا فالإماتة الثانية عماذا؟!

٢٦٤

هذا ولأن الإماتة الثانية لا تزعج الصالحين لا يأتون في الاخرى بذكرها إلّا تلميحا : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٣٧ : ٥٩) استثناء منقطع يعني أن لا موت في الآخرة ، اللهم إلّا الموتة الاولى في الاولى ، فلولا الموتة الثانية لم تكن لصيغة الاولى من معنى.

واما الكفار فتهمّهم الموتة الثانية وأكثر من الأولى ، فانها تنقلهم الى دار البوار ، جهنم يصلونها فبئس القرار ، ولذلك يصرحون بها دون المؤمنين ، وفي تصريحة يوم الدين حجة عليهم ، وحجة للمؤمنين يوم الدنيا تدليلا على حياة برزخية بين الحياتين.

ثم هذا الخطاب العام : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) يعني الحالة العامة السائرة لسائر الناس ، لا الذين لهم حياة ثانية وإماتة اخرى في الحياة الدنيا : (كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ ... فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) و (الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) إحياءات وإماتات أخرى لبعض الناس ، تدليلا حسيّا على أن وعد الله حق!

وترى كيف تحتج آيتنا على منكري المبدء والوحي بنكران المعاد؟ لأنها تحمل دليل التطور بعد ما ثبت المبدء والوحي بما مضى ، قرن الدليل الحسي الى العقلي ، إذا ف (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ)؟!.

ثم الموت هنا (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) من باب العدم والملكة لا عدم الملكة ، فكما يصدق على من مات عن حياة ، كذلك الموت البدائي الذي تلحقه حياة ، فلا يقال لما لا يقبل الحياة ميّت ، وإنما لما يقبلها كما هنا ، او ما يستقبلها كما في الموت بعد الحياة ، و «أمواتا» هنا تعني الموت الثاني حيث الاول تخصّ لفظة الإماتة دون (كُنْتُمْ أَمْواتاً).

٢٦٥

ثم الرجوع الى الله له درجات يتدرجها الراجعون ، ابتداء من الموت في حياة برزخية فيها ثواب وعقاب مؤقت نظرة الاخرى ، ثم الحياة الأخرى ، ثم الى موقف الحساب الختامي فالجزاء ، فنحن إذا في مثلث الرجوع الى الله ، وكما آياته تشملها أحيانا : (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١٠ : ٥٦) وبعض منها بعضا كما آيتنا و : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣٠ : ١١) (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٦ : ٣٦) حيث تدل على قاعدة مثلث الرجوع : موقف الحساب ، ومن ثم لا نجد تصريحة في الرجوع الثاني فحسب اللهم إلّا لمحات : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) (٢٤ : ٦٤) حيث الإنباء بما عملوا بعد الرجوع الى الله هو رجوع الحساب بعد رجوع الحياة (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (٥٠ : ٣) وعلّها صريحة في الثاني.

وترى ان الرجوع الثالث بعيد عن الثاني ولذلك يعطف عليه بتفريع البعيد (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)؟.

أقول : نعم : (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٦ : ٦٠) وطبعا هو بعد زمني بالنسبة لنا ، واما الله فلا : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥ : ١٠٥) فلا مناحرة بين «ف وثم» لاختلاف المقامين ، ثم لا نجد «ثم» إلا في ثنتين بين إحدى عشر آية (١) مما يؤكد القرب إلهيّا ، مهما كان بعيدا عندنا.

__________________

(١) العشرة الاخرى هي : ٣ : ٥٥ ـ ٥ : ٤٨ ـ ٥ : ١٠٥ ـ ٦ : ١٦٤ ـ ١٠ : ٢٣ ـ ٢٩ : ٨ ـ ٣١ : ١٥ ـ ٣٩ : ٧ ـ ٦ : ١٠٨ ـ ٣١ : ٢٣.

ثم الثانية المذكورة فيها «ثم» (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ) (١٠ : ٧٠).

٢٦٦

وهكذا نرى في آية قصيرة واحدة تفتح سجلّة الحياة كلها ثم تزوى وتطوى ، معروضة في ومضة لقبضة الباري جلّ وعلا ، ينشرها من همدة الموت قبل أيّة حياة ، ثم يقبضها بهدمة الموت بعد حياة ، ثم يحييها مرة أخرى في الاخرى ، ثم إليه ترجعون .. في استعراض سريع يرسم أدوار الموت والحياة ، مذكّرة للمغفلين الناكرين لقاعدة الحياة!

ثم ينتقل بنا الى جوّ أوسع من هذه الحياة ، في نعم وامضة رغم عامضة الحياة :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٩).

هنا يرتفع بنا ربّنا من حمأة هذه الأرض وحياتها المغمورة المحصورة في معمورتها ، إلى السماء والسماوات ، وليرفعنا عن هذه المحدودة فنجنح بأفكارنا ومحاولاتنا وتصرفاتنا الى عليّات الكون ، ولنعرف أنه تعالى وتقدس خلقنا لأمر عظيم ، أعظم من خدمة الأرض المتعة وسماواتها ، فانها كلها مخلوقة لنا ، مستعبدا لها لصالحنا دون أن نعبد الآلة ونعشوا عن ذكر خالق الآلة وغايتها ، رغم دعايات أنصار المادة ، المنغمسين في نزواتها المنطمسين عن غاياتها ، المحقّرين دور الإنسان فيها ، فكرامة الإنسان وسيادته واستعلاءه على الكون لغاية معرفة الله ، والحياة مع الله ، وطاعة الله ، هي القيم القمة من وراء هذه الآيات.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ) وهل من خالق إلّا الله «خلق لكم» : الناس كل الناس ـ «لكم» كأصل ولسائر الخلق وحتى الجان كفرع.

وتراه «لكم» ـ فقط ـ تعنى هذا النسل الأخير؟ كما (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) (٢٧ : ٦) (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) (٥٥ : ١٠) (الَّذِي

٢٦٧

جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) (٢ : ٢٢) (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (٦ : ٩٧) (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) (١٠ : ٦٧) (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) (٢٠ : ٥٣) (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٤٠ : ٧٩) (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) (٦٧ : ١٥) (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) (٧١ : ١٩).

فهل إن خلق الأرض وما فيها ، وجعلها مهدا وفراشا ومهادا وذلولا وبساطا ، وجعل النجوم وإنزال ماء السماء ، وجعل الليل والنهار وما إليها من حياة ارضية ومستفيدة من السماء ، هي هي كلها فقط «للناس»؟ هذا النسل الأخير؟

فكيف إذا يهمل سائر من يستفيدون من الأرض ويفيدون ، ومنذ أن تهيأت الأرض للسكنى؟ أفبناء وأثاث للناس هذا الناس ، يخلق قبل خلقه بملايين السنين؟

لا يمنع الخطاب أن يستغرق كلّ الناس طوال الحياة الأرضية الصالحة لحياة الناس ، إيحاء بان «الناس» ليس فقط هذا النسل الحاضر البادئ من آدم وزوجه ، مهما اختلفت أنساله منذ صلوح الأرض لسكنى الناس ، في عقلياتها وسائر درجاتها كما يلوح لنا من آية الاستخلاف.

وبما أن «الناس» بين مختلف الخليقة الأرضية هم الأساس القمة في الخلق ، لذاك يختص بهم الخطاب تشريفا ، وعلى هامشه الجن وسائر الخلق المستفيدين من الحياة الأرضية.

وكما قد يختص بنا الخطاب تشريفا لنا على سائر الناس ، حيث يواكبنا نحن ، إذ نزل القرآن في دورنا ، وبينهما الخطاب لهذا النسل الأخير منذ آدم

٢٦٨

حتى القيامة الكبرى.

«خلق لكم» : كل أنسال الناس ـ النسل الأخير ـ الناس زمن الخطاب حتى القيامة ـ فان هذا الخطاب ـ وكثير مثله ـ يوّجه على غرار القضايا الحقيقية ، الشاملة للناس ايّا كانوا وأيّان.

(خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) : خلق لكم جميعا ـ ما في الأرض جميعا ، فهو في ازدواجية الجمع ، فكما الأرض بما فيها جميعا خلق لكم ، كذلك هي لكم جميعا.

وها هما قاعدتان فقهيتان من أعمها وأهمها في التشريع الإسلامي : أصالة الإباحة في جميع الأشياء ، وأصالة الاشتراك فيها.

ف (ما فِي الْأَرْضِ) يشملها وما في ظهرها وبطنها وما في جوّها ، جمعا لما في الأرض الى الأرض ، حيث «في» تعني الظرف ، فظرف الأرض بمظروفها : بكل حواياها وزواياها ، بكل أبعادها ـ ما صدق الأرض وما فيها ـ إنها جميعا خلقت لنا جميعا.

وبما ان «لكم» تفيد الانتفاع ، فهنا الغاية من خلق الأرض وما فيها أن ننتفع بها كما نشاء بما نشاء وحيث نشاء وأنّى ، حتى يأتينا من الله حظر في : كيف ننتفع ومتى وأنّى وممّا؟ وهي أصالة الإباحة في كافة التصرفات والانتفاعات ، ولكنها تلميحة كتصريحه أن هذه التصرفات محددة بحدود الحفاظ على المنافع الفردية والجماعية ، الفردية التي لا تضر بالمجتمع ، والجماعية التي تحافظ على منافع الأفراد : أصالة الفرد والمجتمع ، ولكنما المجتمع هو الاوّل والأولى إذا تناحرا ، لمكان «لكم»!

فحرية التصرف فيما في الأرض هي مباحة مسموحة ما لم تناحر حرية الآخرين.

٢٦٩

ثم وأصالة الاشتراك : «لكم جميعا» فخلق الله ليس لناس خصوص او اشخاص خصوص ، وانما «لكم جميعا» أن تنتفعوا مما في الأرض جميعا.

فكما الله إله الناس جميعا دون اختصاص بناس دون ناس كذلك ، رزقه هو لهم جميعا دون اختصاص ، إلّا ان يختصوا بما يقدّمون من أفكار وأعمال ، فلهم ما لهم بما قدموا دونما اشتراك ، ولهم ما للجميع ما لم يقدموا دونما اختصاص.

إذا فالأرض بمائها وهواءها وكلاءها ومعادنها وغاباتها ، بما فيها وما عليها وما إليها ، هي جميعا للناس جميعا ، لا يحق لأحد ان يختص بنفسه منها شيئا إلّا ما عمل وكدح : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ).

والإقتصاد الإسلامي اختصاصي في وجهات الأعمال بحصائلها ، واشتراكي في خلق الله كخلق الله ، رفضا ليمينية الإختصاص الظالم في كلّ شيء ، ويسارية الاشتراك الغاشم في كل شيء ، وإنما : اختصاص عادل واشتراك عادل ، دون الكلمات والعبارات والدعايات البراقة ، الجوفاء الخواء من الحقيقة ، وإنما هو الحق كلّه والحقيقة كلّها.

ولأن جميع ما في الأرض مخلوق لنا فلنا أن ننتفع منها باستخدام العلم والعمل ، كدحا في سبيل الانتفاع مما هبانا الله ، ولنعبد الله على منّه وإحسانه ، ولماذا يسبقنا من لا يعرفون الله أو يكذبونه ، ثم نحن المسلمين نعيش على هوامشهم ونحسب أننا نحسن صنعا! ..

وفي الحقل الفقهي لا نفهم من «لكم» هنا كما في غيرها إلّا حلية الانتفاع مما في الأرض ، دون ملكية لعين الأرض والأرضيات ، فإنها ليست من سعي الإنسان ولا يملك الإنسان ـ أيا كان ـ إلا ما سعى : (وَأَنْ لَيْسَ

٢٧٠

لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ..) ضابطة عامة تعم النشآت الثلاث : الاولى والوسطى والاخرى(١).

ولأن الأرض «لكم جميعا» تستفاد ضابطة اخرى ان استثمارها ليس فوضى تستغله أكلة الأرض حيث يحرم الآخرون وهم شركائهم فيها! وإنما كلّ حسب حاجته وسعيه ، ونصوص التحجير والإحياء والتعمير (٢) لا تعني ـ وليست وجاه نصوص الآيات لتعني ـ أنها من اسباب ملكية رقبة الأرض ، وفيها دلالات تناحرها تدليلا على ما تدل عليه آياتها ، ف

«من أحاط حائطا على أرض فهي له» (٣) و «من أحيا مواتا فهي له» (٤) و «أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض ـ او عمّروها ـ وعمروها فهم أحق بها وهي لهم» (٥) هذه لا تدل على أكثر مما تدل عليه آيتنا (خَلَقَ لَكُمْ) مع الاولوية الحاصلة بالإحياء والتعمير دون ملكية رقبتها ، فانها ليست من سعي عمّارها حتى يملكوها ، فانما يملكون ما سعوا لها «وله ما أكل منها فان تركها أو أخربها فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها فهو أحق بها من الذي تركها ..» (٦).

__________________

(١) ف «أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» تشمل الكل ومنها الاولى ـ و «أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى» تخص البرزخ ، و «ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى» تخص الاخرى.

(٢ ، ٣). هو النبوي العامي : كما في (ج ٥ مفتاح الكرامة ص ٢٤).

(٢ ، ٣). هو النبوي العامي : كما في (ج ٥ مفتاح الكرامة ص ٢٤).

(٤) صحيحه عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الصادق (عليه السلام) (وسائل الشيعة.

(٥) صحيحة محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) ففيها (او) وفي أخر (و)

(٦) صحيحة أبي خالد الكابلي عن الباقر (عليه السلام): وجدنا في كتاب على ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، انا واهل بيتي الذين أورثنا الأرض ونحن المتقون والأرض كلها لنا فمن أحيى أرضا من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها الى الامام من اهل بيتي وله ... فليؤد خراجها الى الامام من اهل بيتي وله ما ـ

٢٧١

فاشتراكية الأرض لها مرحلتان ، اولى وهي قبل ان يسعى لها تحجيرا او احياء وتعميرا ، فليست إذا اولى لأحد ، وثانية هي بعد هذه الثلاثة او واحدة منها ، حيث الاولوية تخرجها عن اشتراكية الانتفاع ، فانه لمن استثمرها على حده ، ولا تخرجها عن اشتراكية العين.

فان تركها مستثمرها دون عذر او حاجة كان لمن يحتاجها باستثمارها دون مشاكسة فيها ، كما لو استثمر اكثر مما يحق لم يحق له إلّا قدره ، وهو في الزائد عامل في الأرض ليس له إلّا اجرة المثل.

فحذار حذار على اكلة الأرض ، فليس كما يزعمون أنهم يملكون مدّ أعينهم من ارض الله كما تمدهم أموالهم وأعوانهم ، وانما لكلّ نصيبه حسب المكانة والمكان والحاجة المراعاة فيها حاجات الآخرين ، بالتحجير والإحياء والتعمير ، فلو حجّر دون إحياء ، او أحيا دون تعمير مغبة استغلالها في غلائها زالت عنه هذه الأولوية المسموحة ، وانتقلت الى من يستغلها لحاجته او حاجيات الآخرين.

وهاتان الضابطتان تسمحان لكل انسان ان يستفيد من ارض الله التي خلق لهم جميعا ، كل كما سعى وقدر الحاجة ، دون إجحاف بحقوق الآخرين ، فلا تبقى أرض صالحة معطلة ، ولا عاطل عن استثمارها ولا عامل ـ فقط ـ لمن يستمثرها ، قضية العدل والنصفة وإعطاء كل ذي حق حقه ، حيث تقتسم الاولويات بين الساعين قدر الحاجيات ، ثم هم في

__________________

أكل منها حتى يظهر القائم ... وهنا أحاديث اخرى تدلنا على انتقال الاولوية الى من يعمرها بعد الذي يهملها كصحيحة معاوية بن وهب عن الصادق (عليه السلام): «أيما رجل أتى خربة بائرة فاستخرجها وكرى أنهارها وعمرها فان عليه فيها الصدقة فان كانت ارض لرجل قبله فغاب عنها وتركها فأخربها ثم جاء بعد يطلبها فان الأرض لله ولمن عمرها». أفلا يدل خروجها بخرابها عن ملكه على انه لم يملكها حين أحياها؟!.

٢٧٢

الزائد كعمال لأنفسهم وسواهم على سواء.

ومن حصائل هذا البحث أن الأرض ـ أيّة أرض ـ لا تملك وانما تملك منافعها المحللة لمن أحياها ، دون رقبتها إذ ليست مما سعاه محييها ، والقاعدة الحاصرة القرآنية : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) تحصر الملك فيما يحصل بالسعي ، وتحسره عما سواه ، وليست الأرض سعيا لأحد إلّا الله ، اللهم إلّا منافعها لمن يحييها.

فان قلت : الأموال الموروثة او المهداة والتي تنفق في حلها هذه ايضا ليست مما سعى لها من يرثونها او يهدى وينفق لهم.

قلنا : اجل ، ولكن كونها لسعاتها يسمح لهم ان يورثوها وينفقوها لمن يشاءون فيملكها غير سعاتها بما مّلكوها إياهم ، قضية الملكية المطلقة لهم ، فالمال ـ اي مال ـ إنما يملك بالسعي او التمليك ، وليست الأرض من سعي محييها ، ولا يملكها أحد ـ حتى يملكها من يشاء ـ إلّا الله ولم يملّكها لناس خصوص وإنما «لكم جميعا».

(خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ..)

وترى أنّ خلق هذه الأرض بما فيها مقدم على خلق السماء؟ أقول : نعم وأقول : لا!

نعم : إنها خلقت قبل تسبيع السماء ، فقبل نجومها ومصابيحها ومنها الشمس! ولا : فانها خلقت مع دخان السماء او بعده ام قبله : لا ندري ، حيث انفجرت المادة الأمّ «الماء» فأزبدت زبدا خلقت منه الأرض وزملاؤها : الست الاخرى ، وثار منها دخان هو المادة السماوية الأولى.

٢٧٣

فهنا الإشارة : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) كتصريحه أن خلق الأرض بما فيها هو قبل تسبيع السماء ، وكانت السماء وقتئذ سماء ، أمع الأرض ام قبلها؟ هنا لا ندري ، وتجد التفصيل الأصيل في «فصلت» كما فصلناه على ضوء الآيات الثلاث(١).

ف (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) هنا هي رواسيها وبركاتها وأقواتها ثم من بعد ذلك سوّى السماء سبعا وهي دخان لم تسوّ بعد سماء ولا سماوات فللسماء مراحل ثلاث : ١ ـ الدخان ـ ٢ ـ السماء مبنية واحدة ٣ ـ السماوات السبع.

واللائح من آية البقرة والآيات من فصلت أن الأرض خلقت برواسيها وأقواتها قبل خلق السماء سبعا ، وإذ كانت دخانا : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ... فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ).

وآيات النازعات تؤخر إخراج ماء الأرض ومرعاها وإرساء جبالها ـ بدحرها ـ تؤخرها عن بناء السماء ، ولأن خلق الأرض ببركاتها وأقواتها كان قبل تسبيع السماء ، فلا يعني بناء السماء في النازعات ـ قطعا ـ تسبيعها ، فانما تطوير غازها الى سماء واحدة هو أقل تقدير لبناءها : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها. وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها. وَالْجِبالَ أَرْساها. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٧٩ : ٣٣).

بناها من أصلها الثاني «الدخان» المنبثق من المادة الأمّ «ماء» (٢)

__________________

(١) (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ...).

(٢) ياتي تفصيل البحث عن «ماء» المادة الام في آيتها في سورة هود.

٢٧٤

وترى أن هذا البناء الاوّل للسماء هو قبل تكملة الأرض أم بعدها؟ آيات «فصّلت» تقدّمها على هذا البناء ، وآيات النازعات تؤخرها عنها ، فهل هنا تنازع بين فريقي الآيات؟

أقول : هنا تكملة للأرض في أدوارها الأربعة بخلق رواسيها وبركاتها وتقدير أقواتها هي كلها قبل بناء السماء سماء إذ هي دخان كما في آيات «فصلت».

وهناك تكملة أخرى ـ بإرساء جبالها وإخراج ماءها ومرعاها ـ هي بعد بناء السماء كما في النازعات ، إذا فلا تناحر بين الآيات.

وحاصل الترتيب التكويني ، ١ ـ خلق الأرض ببركاتها وأقواتها كامنة فيها والجبال غير راسية في متونها ٢ ـ بناء السماء برفع سمكها فإغطاش ليلها وإخراج ضحاها ـ ٣ ـ دحو الأرض فإخراج ماءها المكنون ومرعاها ، وإرساء جبالها المجعولة عليها فيها ٤ ـ تسوية السماء سبعا بعد هذا البناء وذلك الخلق ، وقد توحي بفصل بناء السماء بين تكملتي الأرض : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أن تأتي الأرض للتكملة الثانية والسماء لبناءها ، ثم تسبيع السماء بعد هذا البناء وتلكما التكملتين.

او قد تكون بناء السماء هي هي دخان السماء ، فقبلها او معها خلق الأرض ببركاتها وأقواتها والجبال من فوقها ، وبعدها دحو الأرض بليلها وضحاها بإخراج ماءها ومرعاها والجبال ـ من فوقها ـ أرساها في متنها.

إذا فإتيان السماء لتسبيعها وإتيان الأرض للتكملة الثانية اما هيه؟ (١)

وترى ماذا تعني (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ)؟ أقول : معاني الاستواء تختلف حسب اختلاف مواردها ، متعدية باداة وسواها ، فمنها الاعتدال والتمام : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) (٢٨ : ١٤) والاستقامة :

__________________

(١) تفصيل البحث الى الآيات في فصلت.

٢٧٥

(فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) (٤٨ : ٢٩) والإحاطة : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٢٠ : ٥) والاستقرار : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ) (٢٣ : ٢٨) (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) (٤٣ : ١٣) والتماثل : (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) (٢٦ : ٧٦) وإتمام التدبير على سواء فيما عديت بإلى كما هنا : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) : أتمّ تدبيره الى تسوية السماء سبعا دونما تكلف رغم أنها سماء.

ومعنى المساواة مضّمنة فيها في كافة أحوالها ، فالاستواء الى السماء هو إتمام تدبيره الى السماء ، على سواء في ذلك بين الأرض والسماء فانما هما وجاه خلقه وتدبيره سواسية سواء ، دون عييّ ولا لغوب.

ولماذا «فسواهن»؟ والسماء واحدة لا يرجع إليها ضمير جمع! وجمع السماء وهي السبع لا تسوّى سبعا ، اللهم الا تحصيلا للحاصل!.

أقول : السماء واحدة قبل تسبيعها ، ولكنها لمشارفتها الى سبعها اعتبرت كأنها سبع «فسواهن» السماء المشارفة لسبعها (سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ولذلك فهو على كل شيء محيط وبكل شيء قدير.

وطالما تنادى آيات من الذكر الحكيم ـ المستعرضة لخلق الكون ـ أن السماوات سبع ، فقولة القائلين أنها بليارات حسب عديد الكرات ، او أنها الأجواء السبعة للمنظومة الشمسية ، إنها قولة خاوية هراء ، فان سماوات المفرطين هناك والمفرّطين هنا كلّها مطويات كنقاط في السماء الاولى من السبع حسب القرآن وقد فصلت في «فصلت» (١)

كما وان توجيه خلق ما في الأرض بتقديره دون إيجاده رغم المصارحة من

__________________

(١) نفصل البحث حول السماوات في الآيات من فصلت وسائر اياتها ، كل حسب دلالاتها.

٢٧٦

متظافر الآيات ، وزعم أن إيجاده مؤخر عن السبع السماوات ، في اتفاق مزعوم ، إن ذلك مما يضرب به عرض الجدار (١) فالقرآن بنفسه وجيه لا يقبل التوجيه ، وإنما علينا توجيه أفكارنا الى مغازي آي الذكر الحكيم!.

__________________

(١) في تفسير الآلوسي نقل الامام الواحدي عن مقاتل واختار المحققون ولم يختلفوا ان جميع ما في الأرض مما ترى مؤخر عن خلق السماوات السبع بل اتفقوا عليه ، إذا يجعل الخلق في الآية بمعنى التقدير لا الإيجاد ، او بمعناه ويقدر الارادة يعني أراد خلق ما في الأرض جميعا ، وكذلك الخلق والجعل في آيات فصلت!

٢٧٧

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٣٣)

٢٧٨

آيات اربع تبين موقف هذا الإنسان ـ السامي ـ بعد سائر أنساله في الأرض ، أن جعله الله خليفة في الأرض ، بعد ما خلق له ما في الأرض كأنه هو فقط إنسان الأرض ، وبعد أن أعطاه المعرفة التي يعالج بها خلافة الأرض ، لئلا يخلد إلى الأرض ويتبع هواه ويفرط عن هداه ، بل يتابع صراطه الإنساني الى الله ، فيحقق في نفسه خلافة الله ، فلنعش ردحا مع هذه الخلافة السامية ، بعين البصيرة وانشراح الصدر ، في ومضات الاستشراف ، مطّلعين على ساحته الأعلى ، متطلعين إلى المشية العليا ، حيث الجعل رباني فليكن الخليفة ربانيا ، مثلا أعلى للرب آية لربوبيته ، لا مثلا ينوبه سبحانه سبحانه!

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً .. (٣٠))

آية يتيمة منقطعة النظير في تصريح الخلافة الأرضية لهذا الإنسان ، مهما تلمح لها وتلمع آيات أخرى في إشارات .. يحق لنا أن نجدّ السير بهذه اليتيمة بكل إمعان وإتقان ، في كلّ لفظة أو لمحة ، ولكي نحصل منها على معرفة منقطعة النظير.

«وإذ» ترى ما هو المعطوف عليه هنا؟ لا نجد هنا معطوفا عليه مذكورا يناسبه ، فليكن سرا بين الله ورسوله غير مذكور لنا ، حيث الخطاب هنا له (صلى الله عليه وآله وسلم) ذاتيا لا لنا .. «فاذكر ..» «واذكر» إذ قال ربك ..

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) ولماذا «ربك» لا (رَبِّ الْعالَمِينَ)؟ علّه لأن له الحظ الأعظم من هذه الخلافة ، فهو الخليفة الأعظم والإمام الأقدم ، ابن لآدم الاوّل صورة وأبوه سيرة وسريرة! :

وإني وإن كنت ابن آدم صورة فلي فيه معنى شاهد بأبوتي ، كما وأعظم الأسماء التي علمها الله آدم هو الحقيقة المحمدية كما تأتي.

٢٧٩

(وإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) : و (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) (٣٨ : ٧١) (... مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ : مَسْنُونٍ) (١٥ : ٢٨) ف «بشرا من طين من صلصال من حما مسنون» ، هو الخليفة في الأرض مهما اختلف هذا الخلق عن ذلك الجعل حيث خلق بشرا من طين ثم جعل إنسانا خليفة.

ثم ترى وماذا تعني الخليفة عامة وماذا هنا؟ إنها من الخلف : أن ياتي كائن خلف آخر ينوبه في كونه أو كيانه أو صفاته وأفعاله ، وكأنه هو بعده ، مهما اختلفا في درجات ، فلا بد إذا من مشاركة بينهما تهمّه الخلافة ، وتاء الخليفة للمبالغة ، أنه يتابع ما للمستخلف عنه بجد بالغ وعزم فارغ ، او يزيد عنه كما هنا ، او ينقص او يساوي كما في غيرها ، على اشتراك ذلك المثلث من الخلفاء في المجانسة مع المستخلف عنه كونا وكيانا قضية الخلافة في حقها وحاقّها.

فهل إن هذا الإنسان ـ إذا ـ خليفة الله؟ أن يخلف الله في ألوهيته في أرضه ، كأنه غائب عن الأرض ، فالإنسان له خليفة ونائب في الأرض؟

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) فلما ذا الخلافة في الأرض؟ وله الحكم في الأرض كما في السماء ، وليس الرسل إلّا مبلغين عن الله ، لا خلفاء أو وكلاء أو نواب عن الله! فلما ذا الخلافة في الأرض؟

ولو أنها الخلافة الإلهية في الأرض لكانت الملائكة المخاطبون هنا أحرى أن ينهموها ، فلما ذا السؤال او الاعتراض : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ)؟ فهل إن خليفة الله في فهم ملائكة الله يفسدون ويسفكون؟! وهم أنوار عارفون ، لا يتهمون الرب فيما يخفى ، فكيف فيما يجلو! ف «ما علم الملائكة بقولهم أتجعل فيها .. لو لا أنهم قد كانوا

٢٨٠