الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

تقول هذه الآية! ولكنهم السبعون الذين اختارهم موسى لميقات ربه حيث سألوا الرؤية ، ومن بعده عبد الباقون عجل السامري : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ..) (٧ : ١٥٥) (١) ولم يكن الميقات إلّا واحدا كما تلمح له «ميقاتنا» ، فلأن عبادة العجل وسئوال الرؤية هما من باب واحد في تجسيم الإله ـ مهما اختلفا في تعيينه ـ نسبا معا إليهم جميعا ، كما وينسبان إلى الموجودين منهم زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الشيمة في الأخلاف هي نفسها في الأسلاف ، والشكيمة هي نفس الشكيمة ، طبيعة جاسية لا تؤمن إلّا بالمحسوس.

ولأن سئوال الروية كان أخف وطأة من عبادة العجل ، كانت عقوبته كذلك أخف منها ، حيث أولاء قتلوا بالصاعقة ثم بعثوا ، وهؤلاء تقاتلوا دون بعث لمن قتلوا ، وعلّ القاتل منهم ترجّى ليته المقتول لعظم المشهد وهول المطلع.

فإطلال فترة الإذلال الفرعوني أفسد من فطرتهم الشيء الكثير ، الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل الطويل ، تحطيما للفضائل وتحليلا للفواضل ، وغرسا للرذائل ، واستخذاء تحت رحمة الجلّاد ، ثم تمردا بعد رفع السوط ، وتبطرا حين النّهمة بالنعمة ، على ما كانوا عليه من حب المادة ، وصلابة العقيدة والحماقة العميقة.

ولكن الله تعالى يمهلهم دون أن يهملهم ، ففي كل مرة من تهريف او تجديف تدركهم رحمة الله وتوهب لهم فرصة الحياة لعلهم يشكرون فلا يهرفون بما لا يعرفون : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

وفي هذا البعث رجعة الى الحياة الدنيا دليل قاطع لا مردّ له على إمكانية

__________________

(١) ويأتي تفصيل سؤال الرؤية منهم ومن موسى في محاله.

٤٢١

الرجعة وقوعا فيما بعد كما نعتقده في دولة القائم المهدي (عليه السلام) وكما في آيات اخرى تبعث جماعات بعد موتهم (١).

ثم وفي هذه الآية دلالة باهرة على امتناع رؤية الله جهرة ، فلو أمكنت لم يستحق طالب الرؤية لمزيد الايمان عقوبة وتنديدا ، ولم يك ذلك منهم ظلما : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) (٤ : ١٥٣) ولم يك كذلك استكبارا وعتوا : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) (٢٥ : ٢١) لا بالنسبة للناس العاديين فحسب بل والنبيين كذلك كما في موسى : (لَنْ تَرانِي ..) اضافة الى سائر الدلالات القرآنية والعقلية التي تحيل الرؤية البصرية جهرا في كافة العوالم.

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٥٧) نعمة سابعة سابغة إذ كانوا في التيه (٢) نتيجة عصيانهم حيث لم

__________________

(١) كما في (الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) وفي الذي قتله بنو إسرائيل وأحياه الله ببعض بقرة : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) وفي (كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ... فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ..) وأضرابها التي يأتي تفاصيلها في طياتها.

(٢) نور الثقلين ١ : ٨٢ عن الاحتجاج للطبرسي عن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن أبيه عن آباءه عن الحسين بن علي (عليه السلام) فيما سأله اليهودي عن علي (عليه السلام) قال له اليهودي : فان موسى قد ظللّ عليه الغمام؟ قال له علي (عليه السلام) لقد كان كذلك وقد فعل ذلك لموسى في التيه وأعطي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من هذا : ان الغمامة كانت لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)

٤٢٢

يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم فارتدوا على أدبارهم فانقلبوا خاسرين .. (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٥ : ٢٦) : (.. وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٧ : ١٦٠) (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) (٢٠ : ٨١).

نعمة تضم نعما ثلاث : تظليل الغمام ـ إنزال المن ـ إنزال السلوى ـ والغمام من الغم : الستر ، وهو لا يحمل ماء أو لا يمطر : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ (٢ : ٢١٠) (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) (٢٥ : ٢٥) ثم ولا تجد غمامة في آية تمطر وإنما تغم وتستر ، بخلاف السحاب والغيم والمزن والمعصر فإنها هي التي تمطر ، وإن كانت كذلك تستر ، فقد كان الغمام في أربعين التيه سترة لهم من الشمس دائبة ، اللهم إلّا شتاء حيث تلزمهم نور الشمس ونارها.

وإنها لنعمة كبرى حيث يراعيهم ربهم بها في الصحراء الجرداء ، يقيهم هجيرها بالغمام ، وجوعهم ـ حيث هم منقطعون عن مواد الغذاء ـ بطيبات من الغذاء لا جهد فيها ولا عناء.

غمام يظلهم من الهاجرة التي كانت تفور بالنار ، ومنّ يمن به عليهم وسلوى يتسلون به ، مثلث النعم السابغة رغم ما لهم من سوء الحال والسابقة.

__________________

ـ تظله من يوم ولد الى يوم قبض في حضره وسفره فهذا أفضل مما اعطي موسى (عليه السلام).

٤٢٣

وترى ما هو المن وما هي السلوى اللذان رزقوهما في التيه؟

ذكرهما في موضع الامتنان دليل على أنهما لم يكونا من أرزاق التيه كبّر من البراري ، وقد يلمح إنزالهما «إلى» لإتيانهما من السماء ، كما و (طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) تشير إلى أنهما أو أحدهما مجموعة طيبات دون لون أو لونين من الأكل ، ولا تنافيها الوحدة في قولهم: (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) إذ قد يعني النوع الواحد على طيبته كلّه ، وهم تهوّسوا (مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها).

فهل هما اثنان : من وسلوى : طيبان؟ وهناك «طيبات» ، أو أن المن ما يمن به من طعام وهو الطيبات ، والسلوى ما يتسلى بها نفسيّا؟ لا نص في القرآن او ظاهر يفسرهما إلّا قدر ما فسّر : أنه أو أنهما طيبات ليس من رزق الأرض المعتاد ، بل هي منزّلة السماء وإن كانت على أشجار.

وقد يروى أن «الكمأه من المن وماءها شفاء للعين» (١) لا أنها فقط هي المن ، وهي ثمرة بيضاء كالشحم تنبت من الأرض يقال لها شحم الأرض ، فنزولها إذا هو كثرة إنباتها في التيه تقصّدا لأصحاب التيه ، كما

__________________

(١) رواها أصحابنا وإخواننا جميعا ، فمن الاول ابن بابويه القمي عن احمد بن محمد بن خالد البرقي عن محمد بن علي عن محمد بن الفضل عن عبد الرحمن بن زيد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

وفي الدر المنثور ١ : ٧٠ ـ أخرجه احمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم عن سعيد بن زيد قال قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ... كما وأخرجه احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن أبي حاتم عن سعيد بن زيد قال قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ... كما وأخرجه احمد والترمذي من حديث أبي هريرة والنسائي من حديث جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وابن عباس.

٤٢٤

ومنها «الترنجبين» (١) او شيء كان يسقط على شجرة الترنجبين (٢) او ما كان ينزل عليهم بالليل فيقع على النبات والشجر والحجر فيأكلونه (٣) وجملة القول هنا أن ليس شيء مما ذكر او يذكر (٤) هو المن فقط ، إذ لا تعنيها لغته ، وإنما هي مصاديق عدة من المن : «ما يمن به عليهم في التيه من الأكل» وهي كلها (طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) فالأرضي منها نازلة من علوّ الرحمة ، والسماوي منها نازلة من عل كما هي نازلة برحمة ، فهما إذا نازلان من عل أيا كان.

ثم السلوى هي في الأصل ما يتسلى به ومنه السّلوان والتسلي ، وإذا كان المن منة الغذاء البدنية ، فالسلوى إذا هي الغذاء النفسية ، فالأوّل يصلح ويصحح البدن ، والثاني يؤمّن ويسلىّ الروح ، وهما «نعمتان مجهولتان الصحة والأمان» والطير السماني الذي جاء تفسيرا للسلوى هو من المن ، فان السلوى لغويا لا تعني طيرا أم شيئا خاصا ، وقد يكون السماني سلوى في المن يسلي الذائقة بلحمه الملذّ بين سائر المنّ ، لا أنه هو السلوى

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ١٠١ ـ عن الامام الحسن العسكري (عليه السلام) ان المن الترنجبين كان يسقط على شجرهم فيتناولونه ....

(٢) الدر المنثور ١ : ٧٠ ـ اخرج جماعة عن السدى : فانزل الله عليهم المن فكان يسقط على شجرة الترنجبين.

(٣) علي بن ابراهيم القمي في معنى الآية.

(٤) فعن عكرمة انه شيء مثل الطلّ شبه الرب الغليظ ، وعن مجاهد انه صمغة ، وعن الربيع بن انس انه شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه ، وعن وهب بن منبه انه خبز الرقاق مثل الذر (الدر المنثور ١ : ٧٠) او شيء كالطل فيه حلاوة يسقط على الشجر (مفردات القرآن للراغب) ولعلّه المادة التي يصنع منها في ايران «الگز» والعرب اصطلحوا له المن بالاضافة الى السلوى ، ولكنه فقط المن دون السلوى.

٤٢٥

والسلوى هي ـ فقط ـ السماني (١).

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) من المن ، على السلوى الطمأنينة ، حيث لا تطيب الطيبات على غير طمأنينة ، فلا طيبات في المنّ ـ بل ولا منّ إلا بالسلوى.

(وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) : إنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم وكفرانهم نعم الله التي كانت تنزل عليهم تترى ، ولا سيما في صحراء التيه القاحلة الجرداء ، حيث سقاهم ـ إلى سائر النعم ـ عيون الماء : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ

__________________

(١) البرهان ١ : ١٠١ عن الامام الحسن العسكري (عليه السلام) .. والسلوى : السماني طير اطيب طير لحما يسترسل فيهم فيصطادونه ..» والشيخ مرسلا عن الصادق (عليه السلام) «.. وكان المن والسلوى ينزل على بني إسرائيل ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس فمن نام تلك الساعة لم ينزل نصيبه وكان إذا انتبه فلا يرى نصيبه احتاج الى السؤال والطلب» ونزول السلوى مع المن في هذه الفترة تدل على انها غير التسلية ولكنها رواية مرسلة. ثم والتفسير المنسوب الى الامام (عليه السلام) مخدوش في نسبته ، كما وان متنه يشمل على غرائب من التفسير قد لا تلائم القرآن او يخالفه ـ ولم يرد تفسير السلوى بالسمانى الا فيه فلا حجة ـ إذا ـ فيه ، وقد يؤول بما أوّلناه ، حيث السلوى لا تعني ـ لغويا ـ السماني. وفي الدر المنثور ١ : ٧٠ عن ابن عباس ان السلوى طائر شبيه بالسمانى كانوا يأكلون منه ما شاءوا وكما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة ، وعن الضحاك ـ وفقا للعسكري ـ : السماني هي السلوى ، وعن قتادة كانت السلوى طيرا الى الحمرة تحشرها عليهم الريح الجنوب فكان الرجل منهم يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده ، وعن وهب بن منبه قال : سألت ، بنو إسرائيل موسى اللحم فقال الله : لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض ، فأرسل عليهم ريحا فأذرت عند مساكنهم السلوى وهو السماني ميلا في ميل قيد رمح في السماء فخبّوا للغد فنتن اللحم.

٤٢٦

مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٧ : ١٦٠).

أتراهم بعد كل ذلك شكروا ، كلا! إنهم ظلموا حيث خالفوا أوامر الله إلى غيرها ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، ومن مظالمهم :

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٥٩).

نعمة ثامنة : (وَإِذْ قُلْنَا) لهم بعد ما تاهوا في الأرض أربعين سنة لتخلفّهم عن أمر ربهم بدخول بيت المقدس بعد خروجهم عن مصر : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ. قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ، قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٥ : ٢٦).

فبعد ما تاهوا في الأرض هذه السنين ، وأنعمنا عليهم فيها بطيبات وانتهى أمد التيه (قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) : الأرض المقدسة التي كتب الله لكم دخولا للسكنى : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ

٤٢٧

الْمُحْسِنِينَ. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) (٧ : ١٦٢).

أمروا أن يدخلوا باب القدس سجدا ويقولوا حطة ، وترى كيف يمكن الدخول سجدا والسجدة المعروفة هي وضع الجبهة على الأرض ولزامه السكون ، والدخول هو حركة المشي فكيف السجود؟.

إن قرينة الدخول الحركة تحوّل السجود عن الساكن منه إلى غاية الخضوع حالة الحراك في الدخول ، أن يركعوا في دخولهم قدر المستطاع ، حيث يمكنهم المشي حالته ، فلا يعني السجود إلا غاية الخضوع ، ولها في كل حقل ما لها من هيئة تناسبها على كونها غاية الخضوع حالها ، وكما (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ ..) (٢٢ : ١٨).

أترى أنها تسجد لله على هيئة سواء؟ وإنما حالة خاشعة سواء في مداها ، فكذلك يفسر (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) خشّعا لله حيث تدخلون بيت الله ، ولأن الله أدخلكم الأرض التي كتب لكم.

فهنا دخولان : (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) دخولا في قرية القدس ، (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) دخولا في القدس نفسه : البيت المقدس من باب خاص وهو المعروف الآن بباب حطة ، وعلّها الباب الثامن أو التي كان يصلي إليها موسى.

(وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ ..) ولأن غفر الخطايا فرّع على قول حطة كما فرّع على دخول الباب سجدا كجزاء لهما ، نعرف أن «حطة» تعني حطّ الخطايا ، أن يستغفروا ربهم لكي يحط عنهم خطايا من كان منهم مخطئين ، وأن يزيد في درجات من كانوا محسنين.

٤٢٨

فهم لم يؤمروا فقط بالقول «حطة» : كيفية من الحط ، كلمة مفردة لا تعني كلاما يفيد معنى! وإنما طلبا لانحطاط خطاياهم بكيفية خاصة يتقدمها الدخول سجدا ، لكي تتكيف جوارحهم وألسنتهم ومعها قلوبهم بعباد منحطّين أذلاء حين يدخلون ، شكرا لما أنعم عليهم والتماسا لحط خطاياهم (١).

فلا يصح القول : أنهم أمروا أن يقولوا «حطة» بنفس اللغة وهي عربية وهم عبريون ، بل ما يفيد معناها في كيفيتها الكلامية التامة بعبريتهم.

فكما أن سجدتهم كانت غير السجدة المعروفة ، كذلك حطتهم كانت غير هذه الحطة في صيغة التعبير ، وإنما معنى الحطة ومعنى السجدة كما يناسب حالهم ومقالهم.

(نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) ان كنتم مخطئين (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) من كان منكم محسنين ـ ولكن :

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ .. الَّذِينَ ظَلَمُوا) خاصة ، لا هم بأجمعهم ، حيث كان فيهم محسنون دخلوا الباب سجدا وقالوا

__________________

(١) هنا وردت روايات عن الائمة من آل الرسول (عليهم السلام) «انما مثلنا في هذه الامة كسفينة نوح وكباب حطة في بني إسرائيل» ففي الدر المنثور ١ : ٧٣ ـ اخرج ابن أبي شيبة عن علي بن أبي طالب قال : انما ...

ونور الثقلين ١ : ٨٢ عن عيون الاخبار باسناده الى الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام) عن أبيه عن آباءه عن امير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكل امة صديق وفاروق وصديق هذه الامة وفاروقها علي بن أبي طالب (عليه السلام) إن عليا سفينة نجاتها وباب حطتها. أقول : وهكذا تظافرت الروايات من طريق أصحابنا وإخواننا ..

٤٢٩

حطة : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ).

وقد تلمح (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدلا عن «المخطئين» او «الظالمين» أنهم جماعة من الخاطئين إذ ظلموا بتبديل القول غير الذي قيل لهم ، ظلما على خطيئتهم ، لا كل الخاطئين ، إذ تابعت فرقة منهم سيرة المحسنين ، ففعلوا ما فعلوا وقالوا ما قالوا ، وتخلفت أخرى قدما الى تخلفات اخرى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) ـ (بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) (٧ : ١٦٢) فهم إذا ثلاث: محسنون ـ تائبون ـ خاطئون ظالمون فاسقون ـ ولم يكن الرجز إلّا على الآخرين.

وترى ان (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) يعني تبديل قول «حطة» فقط إلى غيره؟ دون تبديل لفعل : (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً)؟ والفعل أصعب تحقيقا وأقرب تخلفا!

إن قولا ـ هنا ـ الموصوف بغير الذي قيل لهم هو مفعول ثان ل «بدل» فأوّلها : قول الله ، فقد بدلوه الى غيره : ما يغايره ـ فتبديل قوله : (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) دخولهم معاكسا ، كأن يدخلوها زاحفين على أستاههم (١) مقبلين لها بأدبارهم مهما كانوا راكعين لكي يعاكسوا امر الله مستهزئين.

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٧١ ـ اخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس وأبي هريرة قالا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دخلوا الباب الذي أمروا ان يدخلوا فيه سجدا يزحفون على أستاههم وهم يقولون : حنطة في شعيرة.

ورواه مثله في تفسير البرهان ١ : ١٠٣ عن تفسير الامام الحسن العسكري (عليه السلام) بقوله : «لم يسجدوا كما أمروا ولا قالوا ما أمروا ولكن دخلوها مستقبيلها بأستاههم وقالوا : هطا سمقانا ، يعني حنطة حمراء نتقوتها أحب إلينا من هذا الفعل وهذا القول ..».

٤٣٠

وتبديل قوله (قُولُوا حِطَّةٌ) قولة معاكسة كالقول «لا حطة» او مستهزء ك «حنطة». أما هيه؟

والرجز من السماء الذي أنزل على الظالمين منهم الفاسقين هو الاضطراب حيث تعنيه لغته ومنه رجز البعير إذا تقارب خطوها واضطرب لضعف فيها ، والرّجز لتقارب أجزاءه ، فرجزهم هو الاضطراب المتتابع المتقارب ، وكما وأنزل على آل فرعون رجزا من السماء : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ ... وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٧ : ١٣٤) ومهما عرف رجز آل فرعون كما هنا لم يعرف رجز بني إسرائيل إلّا بوصفه العام : عذاب مضطرب متناوب ينزل على الذين فسقوا وظلموا دون أن يعرف قومية ولا عنصرية ، على آل فرعون الظالمين او بني إسرائيل الظالمين سواء!

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٦٠).

نعمة تاسعة هي إسقاءهم في التيه في صحراء جرداء لا ماء فيها ولا كلاء ، وجحيم الهاجرة تفور بالنار : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ ..) (٧ : ١٦١).

فاستسقاء قومه ـ لا طلبهم للاعجاز ـ يلمح أنهم كانوا عطاشى في قفر ،

٤٣١

لا في مدينة او قرية ، فهو التيه ، ودلالة ثانية أمرهم بعد ذلك : (اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) فقد تمت لهم مربع النعم السابغة وهم في التيه حيارى ، رغم أنهم تاهوا جزاء عما تخلفوا من اقتحام القدس وفيها العمالقة الجبارون.

ثم الانبجاس والإنفجار مترتبان تلو بعض ، فلما ضرب بعصاه الحجر انبجس : انفراجا أضيق من الإنفجار ، ثم انفجارا باثنتي عشرة عينا منبجسة عدد الأسباط المقطّعة اثنتي عشرة أمما ، حيث كانوا يرجعون إلى اثني عشر سبطا عدد أحفاد يعقوب (عليه السلام) وهو إسرائيل المنسوبون إليه المتسللون عنه ، وهم رءوس القبائل الإسرائيلية (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) حيث عيّن لكلّ خاصة لا تعدوهم إلى سواهم ، وقيل لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) أكلا من طيبات المنّ وشربا من هذه العيون (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) حيث كانت لهم نفسيات مفكّكة وجبلّات متداعية هابطة ، آبية من الارتفاع إلى مثل الأخلاق الأبيّة.

وأصل العثا شدة الفساد ، فهو السعي في شديد الإفساد ، فقد يكون الفساد نتيجة عدم انضباط النفس عن الحرام أحيانا مّا فهو من اللمم ، وأخرى انضباط النفس غورا في الحرام وخوضا فيما لا يرام ، وثالثة تجنيدا للقوى للإفساد وهو عثا الإفساد وعيثه محسوسا وغير محسوس (١) وهنا النهي موجّه إلى حالتهم الفعلية الرديئة : السعي في عيث الفساد حالة الإفساد ، وهو غاية الطغيان والكفران رغم أنهم نالوا من رحمة الله غاية النعمة ، واين نعمة من نقمة!.

ثم ترى أكان هذا الحجر خصيصا من حجر التيه؟ أم حجرا منكرا

__________________

(١). في غريب القرآن ان العيث والعثى متقاربان الا ان العيث اكثر ما يستعمل في الفساد المحسوس والعثى فيما يدرك حكما لاحسا أقول : ولعل العثى هنا تجمع بين الإفساد غير المحسوس والمحسوس ، حيث الاوّل إذا تجاوز حده ظهر في المحسوس.

٤٣٢

أيّ حجر؟ .. تعريف «الحجر» دون منكّره : «حجر» دليل الإختصاص ، وكما ان عصاه عصى خاص : (بِعَصاكَ الْحَجَرَ) لا «بعصى حجرا» وهي عصى لها معجزاتها الأربع : فلق البحر ـ تفجير العيون ـ صيرورتها جانا تهتز (٢٧ : ١٠) وثعبانا مبينا (٧ : ١٠٧) (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (٧ : ١١٧) وقد كان موسى يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه وله فيها مآرب اخرى (٢٠ : ١٨).

ولزام هذا الحجر ان يكون من الكبر بقدر يمكن ان تتفجر منه اثنتى عشرة عينا ترد مشاربها مئات الآلاف من بني إسرائيل دون تضايق وانتظار ، او تمانع واحتصار ، بعيون واسعة ، ومشارب شاسعة ، فلا يمكن أن يكون حجرا صغيرا يحمل ، كما لا يكون جبلا كبيرا ، حيث النص «الحجر» لا «الجبل» فليكن حجرا كبيرا أيّا كان في جبل أو غير جبل حتى يستجيب طلب هكذا انفجار بمشارب فاسحة دون انتظار واحتصار ، والنص لا يثبت هنا الإعجاز إلّا في انفجار العيون الاثنتي عشرة :

ان ضرب موسى بعصاه الحجر ، دون أن يحمل الحجر ـ ايضا ـ على صغره كحمل بعير ، هكذا انفجار شربا لعشرات الآلاف المنقسمة إلى أسباط اثنى عشر (١).

__________________

(١) في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى أبي الجارود (وهو من الكذابين المعروفين بالجعل) قال قال ابو جعفر (عليه السلام) إذا خرج القائم من مكة ينادي مناديه الا لا يحملن احد طعاما ولا شرابا وحمل معه حجر موسى بن عمران (عليه السلام) وهو وقر بعير فلا ينزل منزلا الا انفجرت منه عيون فمن كان جائعا شبع ومن كان ظمآنا روّي ورويت دوابهم حتى ينزلوا النجف من ظهر الكوفة.

وفي الخرائج والجرائح عن أبي سعيد الخراساني عن جعفر بن محمد عن أبيه مثله وفي آخره : فإذا نزلوا ظاهره انبعث منه الماء واللبن دائما فمن كان جائعا شبع ومن كان

٤٣٣

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٦١).

نعمة عاشرة وتلك عشرة كاملة مما أنعم الله به عليهم وهم يكفرون ويقتلون ويعصون ويعتدون ، ف (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ..).

(لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) ف «لن» تحيل صبرهم ، وطبعا إحالة ـ هنا ـ باختيار ، أن لن يرضوا بمنّ الله في طيبات ما رزقهم : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) كما مضت تفسيرا للمن أم والسلوى ، فوحدة الطعام لا تعني الوحدة العددية صنفا فإنه المنّ : الطيبات ، بل هي وحدة النهج بغيب نزوله : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) بعيدا عن الاعتياد الأرضي وأتعابها وأشغابها ، مستبدلين الذي هو أدنى بالذي هو خير كرزق الجنة ، حيث أرادوا الدّنيّة رغم أن الله اختار لهم العليّة ، ولكن الطبائع المتخلفة النحسة ليست لتقبل إلّا الدنية.

هنا يسيئون الأدب بجنب الله مرة حيث استحالوا صبرهم على هذه الطيبات ، وأخرى إذ طلبوا من موسى متعنتين : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) كأنه ـ فقط ـ ربه وليس ربهم ، وليتهم طلبوا ما هو أطيب وأعلى! ولكنهم طلبوا من رزق الأرض الأرذل الأدنى : (مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها

__________________

ـ عطشانا روي ، أقول : بهذا المرسل وذلك المخدوش لا يمكن اثبات معجزة لا تشير إليها الآية والله اعلم.

٤٣٤

فالفوم : الثوم ـ والبصل هما الخبيثان على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أكل هذين الخبيثين فلا يقرب مسجدنا» خبث الريح وأمثاله ، مهما طابا في مآرب اخرى أكلا ام سواه ، والقثاء ليست طعاما يغني من جوع ولا فاكهة ، والبقل والعدس ليسا من الحاجيات الدائبة.

فرغم أن هذه الخمسة من المأكولات ، ولكنها ليست من ضروريات الطيبات ، : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً ...) ف «اهبطوا» توحي الى انتقالهم من حياة عالية الى حياة هابطة ، و «مصرا» تشير تنكيرها الى انها ليست مصرا معينة فليكن مصرا : الذي خرجوا منها حيث لم يقل «مصر» حتى تعنيها.

فإجابة هذه الطلبة الهينة الزهيدة لا تتطلب دعاء ولا محاولة إلهية فانها موفورة في كافة الأمصار ، فلا حاجة الى : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) اللهم إلّا في خروجهم عن التيه الى مصر ، ولكنهم لم يطلبوه وانما (مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها ..) في التيه ام سواه! وإذ أنتم ترفضون حياة الطيبات دون صراع ومخانقة في تحصيلها ف (اهْبِطُوا مِصْراً ..) الى حياة خانعة خانقة متعبة حيث تجدون بغيتكم حاضرة : من بقلها وقثاءها وفومها وعدسها وبصلها ..

(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) وترى ما هي هذه الذلة وهذه المسكنة؟ ولماذا ضربت عليهم؟ وحتى متى؟ وهل ضربت عليهم ـ فقط ـ ام يعدوهم الى اضرابهم بما يفتعلون؟ اسئولة تطرح نفسها في الظرف الذي احتلت إسرائيل فسلطيننا وقدسنا فاختلت الموازين بهذا الاحتلال الاختلال ، فهل هم بعد أذلّاء مساكين؟!.

في الحق ان الذلة والمسكنة هما لزامان لكل من يحذو حذوهم كما قال الله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ

٤٣٥

بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) ولا نجد شعبا أنحس منهم في تاريخهم الأسود ، ، ولذلك نرى الذلة والمسكنة لزامهم دائبا ، إلّا بحبل من الله وحبل من الناس : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٣ : ١١٢) : عصيانا لله حيث يكفرون بآيات الله ، واعتداء على عباد الله حيث يقتلون أنبياء الله ، شر عصيان بجنب الله وشر اعتداء على عباد الله ، كسيرة لهم دائبة مهما اختلفت صورته ، فعصيانهم لله وكفرهم وتكذيبهم بآيات الله مستمر ، وقتلهم رسل الله كذلك حيث اختلقوا عليهم في كتابات الوحي الإسرائيلية ما يمس من كراماتهم كرسل وصالحين ، وأنكروا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) شر نكير ، ولو كان بين أظهرهم لقتلوه كما حاولوه في زمنه (١) ويأبى الله إلّا ان يتم نوره ولو كره الكافرون.

فهم ـ إذا ـ قتّالون لرسل الله ورسالاته كما يستطيعون بسيرة واحدة مهما اختلفت الصورة ، فالسيره هي السيرة والسريرة هي السريرة «وكل انسان يعمل على شاكلته».

ثم المسكنة هي حياتهم دائبا أيا كانوا وأيان وكما نراهم حتى في

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٨٤ عن اصول الكافي بسنده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : والله ما قتلوهم بأيديهم ولا ضربوهم بأسيافهم ولكنهم سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا فصار قتلا واعتداء ومعصية أقول : هذا من باب التطبيق وبيان مصداق خفي لقتلهم ، لا انهم ما قتلوهم ابدا ، ففريق قتلوهم بما دلهم آخرون ثم وفريق رضوا وهم شركاء ثلاثة في قتلهم ، كما ان الذين حرّفوا شرائعهم وكذبوهم وافتروا عليهم ، فقد قتلوا رسالاتهم فهم كلهم شرع سواء.

٤٣٦

دويلتهم لأول مرة يعيشون بأضيق المعيشة رغم انهم يمتلكون أضخم الثروات ، حيث يصرفونها في الأسلحة المحافظة على استمرارية الاحتلال ، فميزانية التسليح للجنود ، والتصليح لما يدمر دوما من عمرانهم بالعمليات الفدائية ، هذه الميزانية هي اضعاف ما تصرف في حاجياتهم المعيشية ، رغم كافة الحيل والاحتيالات في جمعهم للأموال والثروات من كافة أنحاء العالم ، فهم أقناهم رغم انهم أغناهم ، وأسكنهم حين انهم أثراهم!

ثم الذلة هي حياتهم (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) وليس لهم هكذا حبل طول تاريخهم العتيق (وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) وذلك حينما أخذت تستحكم حبلا من الناس المستعمرين يمنة ويسرة بكل شغب وعسرة ، عمالة عجالة للاستعمار حتى تشكيل دويلة العصابات ، وترى أن هذا الحبل يدوم؟ كلّا فإنه ينفصم بعباد صالحين مرتين ثم لا حبل لهم الى يوم الدين (١)؟.

ثم ولا يتغلب حبلهم من هؤلاء الناس النسناس إلّا حين ترك المسلمون حبلهم من الله ومن الناس : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ..) (٣ : ١١٢) وليس المخاطبون ب (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) هنا إلّا المسلمون المتمسكون بالحبلين وكما تتقدم آيتهما آياتهما : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ ... وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ... وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ (٢) عَذابٌ عَظِيمٌ ...

__________________

(١). راجع الفرقان ١٥ تفسير سورة الاسراء آية بني إسرائيل.

٤٣٧

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ. لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً ...) (٣ : ٩٦ ـ ١١١).

فحبل من الله هو الإيمان والاعتصام بالله وتقوى الله ، والاعتصام بحبل الله : كتاب الله ونبي الله ـ عقيدة الإيمان وعمل الإيمان ، إنها حبل من الله ، ثم جماعية الاعتصام بحبل الله على تكوّن أمة فيهم داعية الى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر ، وعدم التفرق عن دين الله أو في دين الله ، إنها حبل من الناس ، دون سناد إلى النسناس. وإذا : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً).

ثم حبل اليهود من الناس لن يفيدهم خروجا عن ظاهر الذل إلّا مرتين على بقاءهم في مسكنتهم : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) إفسادا في الأرض كل الأرض مرتين ، وعلوا كبيرا مرة واحدة هي الثانية (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) واحتلال فلسطيني ومن ثم القدس ولحد الآن هي المرة الأولى من الإفساد العالمي بعلوّ غير كبير ، وسوف يقضي عليهم (عِباداً لَنا) أقوياء صالحون يجوسون خلال الديار (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً).

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) ردا لإسرائيل الى ما كانت اوّل مرة وأقوى علوا : (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ... فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) المرة الآخرة الثانية ، «ليسوءوا» هؤلاء العباد الصالحون «وجوهكم» أسوء من الأولى (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) (لأقصى) (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) (١٧ : ٧).

ولم يسبق لإسرائيل إفساد عالمي طول تاريخ إفسادهم أن يؤسسوا دولة

٤٣٨

الإفساد إلّا في احتلال القدس ، ولا علو كبير عالمي إلّا مستقبلا بعد ان يدخل (عِباداً لَنا) القدس بجوسهم خلال الديار اوّل مرة ، ثم رجوعهم الى ما كانوا وأفسد وأعلى (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) حيث يرجعون الى المسجد الأقصى (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً).

وهم منذ وجدوا مفسدين والى يوم الدين يسأمون سوء العذاب وحتى في قوتهم وشوكتهم حيث دويلة العصابات : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧ : ١٦٧) سوء عذاب دائب بعباد صالحين كما هنا وهناك ومنذ التأديبات المتتالية زمن الرسالات الاسرائيلية والرسالة الاسلامية حتى الآن ، ام وطالحين كالهلتريين ام من ذا؟ حيث هم قبل دويلة العصابات المغتصبة كانوا مشردين نيلة كل نائل وغيلة كل غائل ، وهم في دويلتهم الآن في خطر دائب وتفجرات داخل أراضيهم ليل نهار ، أفلا يكفي هذا لسومهم سوء العذاب؟!

إذا فالمسكنة لزامهم مضروبة عليهم ضرب السكة لا تمحى ، مهما كانت الذلة (إِلَّا ... وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) حيث لا يبقى ، وانما ردح من الزمن «مرتين» على سومهم سوء العذاب حتى في هاتين المرتين ، كما وانهما مضروبتان لكل من يفتعل فعلتهم : تركا لحبل من الله وحبل من الناس حتى وان كانوا مسلمين و (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) دون المتمسكين بالحبلين ، القائمين بشروط الله حتى وان كانوا غير مسلمين ف : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ

٤٣٩

بِالْمُتَّقِينَ) (٣ : ١١٥).

وهذه الآيات تأتي بعد التي تأمر المسلمين بما تأمر وتضرب على اليهود الذلة والمسكنة ف (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (٤ : ١٢٤).

فانما هو الايمان وعمل الصالحات فقط دون جنسيات او هويات :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢).

طوائف اربع ذكروا ردف بعض بمختلف أسماءهم الحاكية عن مختلف شرائعهم وطرائقهم ، ثم جمعوا وأمثالهم غير المذكورين هنا في طابع الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ، كما يوحي لذلك ترك الضمير الراجع إليهم «من آمن» دون «منهم» مما يوحي بأن الضابطة العامة في مثلث النجاة : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ـ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ـ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) إنها ـ فقط ـ مثلث : الايمان بالله ـ واليوم الآخر ـ والعمل الصالح ، مهما كانوا من الذين آمنوا او الذين هادوا او النصارى والصابئين ، أم أيا كانوا من الموحدين ، وكما دلت آية (لَيْسُوا سَواءً) ان اهل الكتاب منهم ليسوا سواء فيما يذكر لليهود منهم ، فحتى اليهود ايضا إن كانوا في مثلث الإيمان فهم ناجون ، فضلا عن سواهم! وكما أن الثلاث الاخرى موحدون ، كذلك الصابئون ، حيث ذكروا معهم ثم يشملهم «من آمن ..» وإلّا لم يكن لذكرهم في شمل الموحدين هنا من معنى.

وفي حين انهم يتأخرون هنا ذكرا عن الذين هادوا والنصارى ، نراهم في المائدة يتوسطون بينهم : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا

٤٤٠