الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) : حيث كانوا قبل ظهور الإسلام يأمرون المشركين بالإيمان بمحمد الرسول الآتي وكانوا يستفتحون عليهم : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) وثم إذ ظهر الإسلام كان البعض من أحبارهم يأمرون أقاربهم من المسلمين بالثبات على ايمانهم وهم به كافرون ، او كانوا يأمرون فقراءهم ويكتمون الحق عن أغنيائهم مخافة انقطاع رواتبهم أو عطياتهم ، وكانوا يأمرون الناس باتباع التوراة وهم يخالفونه في تكذيب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويأمرون الناس بطاعة الله وهم يعصونه في محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)!

وهذه الشيمة الشنيعة مخالفة للكتاب (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) ومخالفة للعقل (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

تخالف كتاب الله الآمر بتصديق الرسول الآتي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والناهي بصورة عامة ـ عن الأمر بشيء مع نسيان نفسك فيه ، وتخالف العقل حيث يستقبح النفاق ، ولا سيما هذا النفاق الذي يظهر في الأمر والنهي بمظهر الإصلاح الوفاق ، وإن هو إلّا إفسادا : ثالوث المخالفة للحق ، يحمله أنكم (تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ)!

فلو أنهم كذبوا محمدا في صيغة واحدة قبل أن ياتي ولمّا ، لم يكن بذلك الخطير المضلّل لضعفاء النفوس ، حيث تكذيبهم ـ وهم أهل كتاب ـ بعد تصديقهم ، يؤكّد لمن سواهم أن محمدا لم يأت ذكره في الكتاب.

__________________

ـ قوله تعالى : لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون ـ أحكمت هذه الآية؟ قال : لا ـ قال : فالحرف الثالث؟ قال : قول العبد الصالح شعيب (ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) ـ أحكمت هذه الآية؟ قال : لا ـ قال : فابدأ بنفسك.

٣٨١

ف (أَفَلا تَعْقِلُونَ) : تقريع بعقولهم المعقولة المشدودة بأهوائهم في ثالوث اللّاعقل من أمرهم ، فالمقصود من الأمر والنهي إرشاد الغير إلى ما يصلحه واجتناب ما يفسده ، وإرشاد النفس والإحسان إليها أولى من الغير ، وتقديم الغير خلاف العقل ، وأن من يعظ الناس ولا يتعظ يرغّب الناس إلى العصيان أكثر مما كان ، سنادا إلى أنه لو كان صادقا وصالحا لما تركه إلى غيره ، وهذا يناقض غرض الأمر والنهي وهو الإصلاح ، وأن على الآمر الناهي ـ إذ يهدف الإصلاح ـ أن يحاول في تأثير أكثر فيما يزاول ، فإذ يقرنه بما يشجّع إلى العصيان ، كان قد جمع بين المتضادين (أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟

وهل يشترط في جواز الأمر والنهي كون الآمر الناهي فاعلا لكل برّ مستطاع له وتاركا لكل شرّ كذلك سرا وعلانية ، أن يكون عدلا في واقع أفعاله وتروكه لا في ظاهر حاله فحسب؟

قد يظن إطلاق التنديد له في آيتنا «أتامرون» ولكنها لا تعني إلّا ما «تأمرون .. وتنسونه» وأما المعروف الذي لم تأمروا به وأنتم تاركوه فلا تشمله «تأمرون». وكذلك التنديد في آية النهي : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) يخص المنع عن النهي بخصوص ما لم يتناه عنه ، وآية المقت لا تشمل نصا غير القول المنافق للفعل ، أمرا أو نهيا

ثم لو اختص السماح بالأمر والنهي بهذا المضيق في العدالة المطلقة لم تكن في هؤلاء العدول الكفاية في هذه المكافحة ، لأنهم قلة والفاسقين كثرة ، وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو المكافحة الكافية ، فقد يكون «حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك وتنهاهم عما تنهى نفسك» (١)

__________________

(١) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لما نزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) .. جلس رجل من المسلمين يبكي وقال : انا عجزت عن

٣٨٢

كما النهي في «لا يأمر بالمعروف من قد امر ان يؤمر به ولا ينهى عن المنكر من قد امر ان ينهى عنه» (١) يخص التارك لخصوص ما أمر به والناهي عن خصوص ما اقترفه ، وكما يخصه «من دعى الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال ودعى إليه» ومعها أحاديث عدة.

كما وأن مورد آية البر لا يتجاوزه ، ولا إطلاق لها تخصها بالعدالة المطلقة ـ ف (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) في ذلك البر .. لا وفي بر لم تأمروا به! وأقل ما هنا أن البر المأمور به هو القدر المتيقن دون سواه.

وهل التارك لمعروف خفية يأمر به ، أو الفاعل لمنكر خفية ينهى عنه؟ قد يقال : نعم ، إذ يصلح المجتمع ولا يفسد حيث لا يعلمون كيف هو في سرّه؟ مهما كان كالذابح نفسه ، فان المتجاهر يذبح نفسه وغيره فعليه اللّعن والمقت الكبير حيث يضر ولا ينفع ، وغير المتجاهر إنما يذبح نفسه وينجي غيره ، فأمره ونهيه واجبان من الناحية الجماعية ومحرمان من الناحية الشخصية ، فان ترك الواجب وترك الأمر به فإثمان ، وإن أمر به فإثم واحد لتركه ، ومقت مّا لأمره مع تركه رغم أنه واجب ، واجب أن يأمر

__________________

ـ نفسي كلفت اهلي ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسبك ... (وسائل الشيعة ج ١١ ص ٤١٧ عن الكافي).

وفي الوسائل ص ٤٢٠ ح ١٠ ـ في الإرشاد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قيل له : لا نأمر بالمعروف حتى نعمل به كله ولا ننهى عن المنكر حتى ننتهي عنه كله؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا بل مروا بالمعروف وان لم تعملوا به كله وانهوا عن المنكر وان لم تنتهوا عنه كله».

(١) الدر المنثور ١ : ٦٥ ـ أخرجه الطبراني عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

٣٨٣

بعد ما يأتمر ، فإذ لم يأتمر سرا فليأمر.

او يقال : إن امر التارك ونهي المقترف لا يجبان ولا يحرمان ، كما قد يستوحى من بعض ما مرّ من أحاديث ، ولكنما المستفاد من إطلاقاتها كتصاريح ولا سيما الآيات ، أن امره ونهيه محرمان ما دام لم يأتمر أو لم ينته وإن كانا هنا أخف مقتا ممن يجاهر بترك المعروف وفعل المنكر ، وهما واجبان بوجوب الائتمار والانتهاء ،

فالإتيان بالمعروف وترك المنكر ، واجبان شخصيا ، وواجبان جماعيا ، مهما كان الاوّل على الأعيان والثاني كفائيا ، فمن يترك واجبا ويفعل منكرا فيما لم يقم بالأمر والنهي من فيه الكفاية فتركه للواجب تركان ، وفعله المنكر محظوران ، مهما كان في ظرف الكفاية تركا أو محظورا واحدا ،

فالتارك الآمر بما ترك هو كتارك الأمر بما ترك وأضل سبيلا ، كما الفاعل لما ينهى ، فانه رغم ما أمر ونهى ، لم يأمر ولم ينه كما أمر ، وهكذا يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سياجا سلبا وإيجابا على الجماعة المؤمنة ، أن يحاولوا دوما في إصلاح أنفسهم وإصلاح مجتمعهم ، لكي ينمو ويزدهر في كافة الأجواء والأرجاء.

ولا عجب أن يجتمع الأمر والنهي في الأمر والنهي ، حيث النهي عنهما فعلي ، والأمر بهما شأني يفرض على المكلفين الائتمار والانتهاء ثم الأمر والنهي.

وإن تعجب فعجب قول جمع من الفقهاء كيف لم يشترطوا في وجوبهما الفعلي ائتمار الآمر وانتهاء الناهي ، وعساكر الآيات وفي ظلالها الروايات تمنع عن فعلية الأمر إلّا للمؤتمر ، وعن فعلية النهي إلا للمنتهي؟! حيث تحثّ على الأمر بعد الايتمار ، وعلى النهي بعد الانتهاء.

وسوف ناتي على قول فصل في حدود وشروط الأمر بالمعروف والنهي

٣٨٤

عن المنكر في مجالاتها الأنسب طيات آياتها إنشاء الله تعالى.

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦))

هنا ـ وبعد أوامر ثمانية ونواهي أربعة متداخلة ، وتنديد ببني إسرائيل ـ يأمرهم الله بغية تحقيق الائتمار والانتهاء ، والتحليق على عوائقهما ، أن يستعينوا الله بالصبر والصلاة ، بجناحي السلب والإيجاب.

والصبر هو الصبر الاستقامة في الهزاهز ، والصمود عن نزوات الشهوات واللذائذ ، فرضا أم سواه ، دون اختصاص بصبر الصوم (١) وان كان هو من أفضل الصبر ، لبعده عن الرياء ، ونفيه او حصره للشهوات ، وهو سياج شامل لسائر الصبر بسائر مجالاته وجلواته ، كصبر على المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية» (٢).

إنه الصبر الجميل المتدرع درع الله الحصين في كل بأساء وضراء وحين البأس ، كطاقة صامدة سلبية تسلب عن الإنسان كل انتكاسة إيمانية في داخله أو خارجه ، ويعبّد له الطريق لخوض المعارك الإيجابية في سبيل الله ، فإنه شاق طويل ، ملي بالأشلاء والدماء ، بالعقبات والعقوبات ، والصبر

__________________

(١) إذ لو كان هو المعني فقط لأتي بلفظه الخاص «الصوم» لا ما يشمله وغيره ، فالأحاديث المفسرة له بالصوم من باب الجري وبيان الصداق الأجلى ، كما يرويه في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية : يعني بالصبر الصوم وقال : إذا نزلت بالرجل النازلة والشدة فليصم فان الله عز وجل يقول : واستعينوا بالصبر والصلاة ، ورواه مثله في الفقيه عنه (عليه السلام).

(٢) الدر المنثور ١ : ٦٦ ـ اخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر وابو الشيخ في الثواب والديلمي في مسند الفردوس عن علي قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

٣٨٥

هو الزاد الذي لا بد منه لمواجهة المشاكل «وهو للمؤمن أمير جنوده» (١) في كافة المعارك ، بل «الصبر نصف الإيمان» (٢) بل «هو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد إذا قطع الرأس نتن باقي الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له» (٣) و «لصبر أحدكم ساعة في بعض مواطن الإسلام خير من عبادته خاليا أربعين سنة» (٤).

دون الصبر التخاذل والتكاسل والمسايرة الممايرة ، صبرا على الظلم والضيم ، صبر الهزيمة الخواء عن استقامة الإيمان والصمود!.

كما الصلاة هي الصّلات ، فإنها عمود الدين وعماد اليقين ، مهما شملت كافة الصّلات الإيجابية بالله ، إلّا أن الصلاة هي القمة فيها ، وكما كان يستعين بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (٥) عند الغمّة ،

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٦٦ ـ اخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس قال : كنت ذات يوم رديف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : الا أعلمك خصالا ينفعك الله بهن؟ قلت : بلى ـ قال : عليك بالعلم فان العلم خليل المؤمن والحلم وزيره والعقل دليله والعمل قيّمه والرفق أبوه واللين اخوه والصبر امير جنوده.

(٢) الدر المنثور ١ : ٦٦ اخرج البيهقي عن ابن مسعود قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الصبر نصف الايمان واليقين الإيمان كله».

(٣) الدر المنثور ١ : ٦٦ ـ اخرج ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان والبيهقي عن علي (عليه السلام) قال : ..

(٤) الدر المنثور ١ : ٦٧ ـ أخرجه البيهقي عن عسعس ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد رجلا فسأل عنه فجاء فقال : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اني أردت ان آتي هذا الجبل فأخلو فيه وأتعبد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

وفيه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.

(٥) الدر المنثور ١ : ٦٧ ـ اخرج احمد وابو داود وابن جرير عن حذيفة قال : كان

٣٨٦

حيث القلب يستمد منها قوة وتحس الروح فيها صلة ، والنفس زادا أنفس من عرض الحياة الدنيا وأعمال الآخرة ، فهي إذا مدد حين تنقطع المدد ، وصلة ورصيد حين تنقطع الصلة وينفد الرصيد ، ومزيد ومزيد للرعيل الأعلى كالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الوثيق الصلة بالله ، دائب الرصيد إلى الله.

هنا يتقدم الصبر على الصلاة ـ على فضلها ـ لأنه سلب وهي إيجاب : إزالة لما لا ينبغي ثم تحصيلا لما ينبغي ، فإنه تخلية وهي تحلية ، فهو تهيئة وهي تعبئة.

وهذان الجناحان هما لزام كل سالك سبيل الله ، دون اختصاص بمن خوطبوا من بني إسرائيل وكما في سائر القرآن ، حيث يعم كافة الأشباه والنظائر ، وكما اختصت آية أخرى بالمؤمنين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٢ : ١٥٣) توجيها دائبا مستمر الإيحاء من هنا وهناك ، دون رسوب فيمن خوطبوا في عجالة النزول.

فالصبر الذي لا يستعان به ، والصلاة التي لا يستعان بها ، هما خاويان عن الصبر والصلاة ، وهما لغير الخاشعين :

(وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ).

ترى ما هي الكبيرة هنا إلّا على الخاشعين؟ أهي الصلاة المستعان بها ونعما هي ، فإنها ثقيلة شاقة إلّا على الخاشعين؟ أم الصلاة أية صلاة

__________________

ـ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أحزنه امر فرغ الى الصلاة.

وفيه اخرج احمد والنسائي وابن حبان عن صهيب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : كانوا ـ يعني الأنبياء ـ يفرغون إذا فزعوا الى الصلاة.

٣٨٧

فكذلك الأمر ، وإن كانت أخف حملا وثقلا؟ أم هي الاستعانة بالصبر والصلاة مهما اختلفا حملا في الاستعانة بهما؟ أو هي هما وما قبلهما من فعل الواجبات وترك المحرمات ، مهما اختلفت هي ايضا في حملها؟.

لكلّ وجه على اختلاف درجاتها ومرجحاتها لفظيا او معنويا ، والجمع أوجه ، فان الصلاة ـ فقط ـ كبيرة إلّا على الخاشعين ، فضلا عن المستعان بها ، والاستعانة بها ، ثم والصبر ، والمستعان به منه ، والاستعانة به ، ثم وما تقدمهما من فعل الواجبات وترك المحرمات ، وإن كانت الصلاة المستعان بها ، غير الكبيرة الثقلية ، تكفي حملا لحمل الصبر وما قبل الصبر (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ).

ومن هم الخاشعون؟ : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ)!.

الخشوع من حالات القلب : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) (٥٧ : ١٦) والخضوع للجوارح ، ويجمعهما خنوع التعظيم والعبودية لله ، فمن خشع قلبه لله خضعت جوارحه لله ، وقد تخضع الجوارح والقلب فارغ

فالخشوع لله يتبنّى الإيمان السليم أن يخنع الخاشع بكله لله ، مهما اختلفت مراتبه ، فكيف يفسر ب (الَّذِينَ يَظُنُّونَ ..) والظن في مجال المعرفة مقدوح لا ممدوح؟ : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ... إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٦ : ١١٦).

والحل أن الظن قد يقابل العلم كما هنا فهو ظن العقل ولا يكفي في الإيمان ، بل وعلم العقل إنما يفيد إذا دخل القلب وتحول اعتقادا راجحا ثم اليقين.

٣٨٨

وقد يقابل اليقين فهو ظن القلب الذي يساور العلم ، وهو أحيانا أقوى من علم العقل حيث الظانون في قلوبهم كلهم مؤمنون بالله خاشعون لله رغم العالمين بعقولهم إذ قد يجحدون : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)

وآية الخاشعين الظانين تعني ظن القلب وجاه اليقين ، لا ظن العقل وجاه العلم ، كما ويدل عليه الخشوع وهو حالة للقلب لا سواه ، وتماثلها آيات أخرى تمدح هكذا ظن : (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) (٢ : ٢٤٩) (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) ( : ) (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) (٧٢ : ١٤) أو تندد بمن لا يظن : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) (٨٣ : ٤).

فغير فصيح ولا صحيح أن يعبّر عن العلم بالظن (١) والقرآن كتاب عربي مبين ، والظن هو الظن في موقفه والعلم هو العلم ، طالما كان ظن القلب علما ومن أقواه ، كما وعلم العقل ظن في القلب او من أضعفه ، ومن المايز بين العلم واليقين وظنهما ، ان العلم وظنه يحصلان ببرهان عقلي او حسي دون حاجة الى مراس في صالح ، واحتراس عن اي طالح ، ولكنما اليقين او ظنه لا يحصلان بعد العلم العقلي إلّا بالأعمال الصالحة وترك

__________________

(١) وهكذا تفسّر الأحاديث التي تفسر الظن هنا بالعلم او اليقين كما رواه في التوحيد عن علي (عليه السلام) في الآية : يعني انهم يوقنون انهم يبعثون ويحشرون ويحاسبون ويجزون بالثواب والعقاب والظن هاهنا اليقين (نور الثقلين ١ : ٧٦). فلا يعني ان لغة الظن هنا تعني اليقين ، بل ان الظن منهم يقين وكما يروي في البرهان ١ : ٩٥ ـ عن علي امير المؤمنين (عليه السلام): «يقول : يوقنون انهم مبعوثون والظن منهم يقين» إذ لا يصح ان تعني لغة الظن من بعض الظن ومن بعض اليقين ، اللهم الا باختلاف موطنه كظن القلب الذي هو علم ويقين.

٣٨٩

الطالحة ، حيث اليقين هو سكون الفهم واطمئنان القلب مع ثبات الحكم ، والعلم ثبات للحكم وقد يكون القلب جاحدا او مضطربا ، لذلك ترى أن لليقين مراتب وليست للعلم مراتب.

وترى أليس يقين القلب من علمه وعينه وحقه أحق أن يكون تفسيرا للخشوع من ظنه؟ فلما ذا جيء هنا بظنه ، وكأن الخاشعين الموقنين في مثلثة الدرجات ليسوا من الخاشعين؟!.

ذلك لأن الآية تعني جموع الخاشعين بدرجاتهم ، المبتدئة بظنه ـ بدرجاته ـ ثم يقينه بعلمه : (عِلْمَ الْيَقِينِ) وعينه : (عَيْنَ الْيَقِينِ) وحقه : (حَقُّ الْيَقِينِ) طالما اليقين في مثلّثه ايضا درجات فوق بعض ودون أن تقف لحدّ في مجالات المعرفة والزلفي ، كما المعروف : الله ـ ليس له حد محدود.

فكما أن ظن القلب ويقينه درجات فالخاشعون به أيضا درجات ، يجمعها أن الصلاة أم ماذا؟ ليست عليهم كبيرة ثقيلة ، فإنهم لبخوعهم أمام الله وخشوعهم لله ، يجنحون إلى عبادة الله وطاعته ، بل ليس لهم في الحياة ألذّ من الصلاة ، وكما يروى عن أوّل العابدين : «وقرة عيني الصلاة» : (يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) (٢١ : ٩٠).

هؤلاء هم الخاشعون (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) فما هو لقاء الرب؟ وما هو الرجوع إلى الرب؟ دعامتان للخاشعين بعد الصلاة وهي عمود الدين؟

قرينة قرن اللقاء بالرجوع تدلنا على أن ليس اللقاء هو الرجوع مطابقا حتى يفسر برجوع الموت او الحساب او ما بعد الحساب ، المختصة باللقاء منذ الموت ، بل هو لقاء الرب ايّا كان وايّان ، في حياة الدنيا العمل ولا حساب ، او الأخرى الحساب ولا عمل ، ومن أسباب لقاء الرب يوم

٣٩٠

الدنيا هو العمل الصالح النابع عن الإيمان : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١٨ : ١١٠) (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢ : ٢٢٣) كدحا وسعيا وعناء في إزالة الحجب وترك الهوى حتى يلقاه : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٨٤ : ٦) لقاء معرفيا ورضوانا من الله وهي الحياة الطيبة : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ..) (١٨ : ١١٠). وأما اللقاء القرب قيوميا وعلميا فهو حاصل بين الله وما سواه دون كدح ، فإنه لزام ربوبيته ومربوبيتها ، كما وأن اللقاء المعرفة الضرورية بالموت ثم الحشر يعم الجميع ، مهما اختص لقاء الرحمة والثواب بالذين آمنوا وعملوا الصالحات.

ف (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) هم العالمون بالله العارفون الله فهم ملاقوه هنا بما خشعوا ، كما يلاقونه في الأخرى لقاء مزيد المعرفة والثواب ، والرحمة والرضوان ، فخشوعهم يدفعهم هنا إلى لقاءه ـ ولقاءهم يدفعهم إلى تحضيرهم للقائه منذ الموت ، وعلمهم بلقائه بعد الموت يدفعهم إلى مزيد ومزيد من خشوعهم ولقاءهم يوم الدنيا.

(وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) بعد لقيا الدنيا المعرفية بالصالحات ، وبعد لقيا الحساب المؤقت في البرزخ ، ولقيا الحساب النهائي يوم القيامة ، وتكملات للقاء المعرفة والرضوان ، فمن ثمّ الرجوع الى الله ، إلى عالم من الراحة والأمان ، تحت ظلال الإيمان ورحمة الرب المنان.

فليست ـ فقط ـ الحياة الأخرى في القيامة الكبرى هو مجال الرجوع إلى الله ، مهما كان من درجات الرجوع : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢ : ٢٨) حيث يتأخر الرجوع الأصل الأخير ، عن الحياة الأخيرة بعد الحياة البرزخية.

٣٩١

وقد يعني من الرجوع هنا منذ الموت الى ما بعد الحياة الأخرى : رجوعان الى الله يتقدمان الآخر ، مثلث من اللقاء الرجوع والرجوع اللقاء ، بعد لقيا الحياة الدنيا المعرفية دون رجوع : (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) (٢٤ : ٦٤)

فهنا لقاء بلا رجوع كما هنا ، ولقاء رجوع في مثلث الموت والحشر واللقاء الرجوع الأخير بعد الحياة الحشر.

ولماذا الرجوع ولم نكن قبل في هذه الثلاث ، فانه الموت الأول ، ثم الحياة البرزخية لاوّل مرة والحياة الأخرى ورجوعها كذلك؟

الجواب : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) حيث كنا عنده دون تكليف واختيار ، إذ كنا أجنة في بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا ، وما قبله أو بعده قبل التكليف والإختيار ، ثم خوّلنا إلى حال الإختيار ـ نعمل ما نشاء ـ اختبارا ، ثم نرجع إليه منذ الموت كما كنا ، إلى عالم الرب دون تدخّل فيه لأحد (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

فهنا صبر وصلات أخرى بالله ، خاشعين لله ، ومن ثمّ لقاء الله والرجوع إلى الله ف (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)).

آيات ثلاث تفضّل بني إسرائيل على العالمين وتحذرهم عن الجزاء يوم الدين ، ثانيهما في السورة نفسها : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٢ :

٣٩٢

١٢٣) وثالثتها في الجاثية : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٤٥ : ١٦).

وإنها تحدد موقف هذا التفضيل مبدئيا انه ليس فوضى جزاف ، وإنما جعلت فيهم النبوة ونجاهم الله من آل فرعون مغبّة أن يؤمنوا ، فقد فضّلوا هكذا لكي يحملوا الرسالة ، رسلا كما حملوها ، ثم أمة فمنهم من حملها ومنهم دون ذلك ، فلما بغوا وطغوا فلم يحملوها أمة بدلت الفضيلة رذيلة حيث بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار.

كما أن هذه الفضيلة ـ في موقفها ـ تتحدد بالعالمين زمنهم ، أو ومنذ بزوغ الرسالات حتى الرسالة الموسوية ، ومن ثم العيسوية وما بينهما ، دون أن تعدوها إلى ما بعدها : (.. ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) حيث هي تتلو في الجاثية آية بغيهم بعد تفضيلهم.

إذا فهي فضيلة محددة وقتيا وفي إطار الإيمان ، وأما بعد الرسالة الإسلامية ، وأما بعد كفرهم وتكذيبهم بآيات الله ، وأنهم كانوا أوّل كافر بها إذ جاءت ، إنهم بعد هذا وذاك أصبحوا من أرذل الأمم ، مهما كان المؤمنون منهم أفضل الأمم قبل الإسلام.

فإنما الايمان وعمل الصالحات فقط هما المنجيان يوم الجزاء ، دون الانتسابات الجوفاء والهويات والأمنيات الفارغة : الهباء ، ف (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٤ : ١٢٣).

٣٩٣

فالحساب شخصي ، والتبعة فردية ، و (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) ـ (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) فـ (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) : (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَ ضِيَ لَهُ قَوْلاً) (٢٠ : ١٠٩) (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (١٩ : ٨٧) (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٤٣ : ٨٦) (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٢١ : ٢٨) ...

مبدء اسلامي عظيم هو التبعة الفردية القائمة على المساعي وحتى في إطارات الشفاعات ، مما يستجيش اليقظة الدائمة في الضمائر ، في حالة عوان بين الخوف الرجاء.

وطالما الخطاب هنا لبني إسرائيل ولكنه يشمل كل نفس حيث النص : لا تجزي نفس عن نفس ، لا إسرائيلي عن إسرائيلي!

فمربع السلب يسلب عن كل نفس أي جزاء وأية شفاعة أو عدل أو نصرة (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) : الله دينه.

١ (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً ..) (٣١ : ٣١).

فالجزاء هي الكفاية والغنى كما المجازاة هي المكافاة ، فالجزاء يوم الجزاء انما هي لكل نفس عن نفسها دون سواها ، ولو كان الجازي هو الرسول فضلا عن سواه من والد او ما ولد ام من ذا؟ (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤٤ : ٤١) لا يغني «مولى» حتى لو كان نبيا «عن مولى» حتى زوجته وولده كما في نوح لابنه وزوجته ، وفي لوط لزوجته : (.. فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (٦٦ : ١٠).

٣٩٤

وذلك خلاف ما كانت اليهود والنصارى يزعمونه أن أنبياءهم أو آباءهم الأنبياء سوف يجزون عنهم ويغنون ، أو لأنهم أبناء الله وأحبائه فلا يعذّبون ، (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٥ : ١٨).

كما وأن هناك هرطقات كنسية تهرف بما لا تعرف أو تتجاهل قائلة : «أن المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا» (رسالة بولس إلى غلاطية صح : ٣) .. ان تحمّل جميع لعنات شريعة الناموس بصلبه .. أنه جازى كل ملعون بلعنه صلبا وكذلك ذوقه حرّ النار ، فأمته ـ إذا ـ أحرار ، بعيدون عن النار ، رغم تصريح التورات : «ملعون من لا يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها ويقول جميع الشعب آمين» (تثنية ٢٧ : ٢٦) وهكذا الإنجيل : «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ، ما جئت لأنقض بل لأكمل فمن نقض أحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات» (إنجيل متى ٥ : ١٧ ـ ١٩) ومن طريف الإعجاز أن بولص ناقض شريعة الناموس وافق اسمه إثمه حيث يعني الصغير! (١).

٢ (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) : كضابطة عامة ألّا يقبل شفاعة للمجرمين من شافع ، أو منهم أن يستشفعوا ، حيث المرجع لضمير المؤنث في «منها» أعم من نفس شافعة أو مشفع لها : (يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) (٢ : ٢٥٤) (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٧٤ : ٤٨).

٣ (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) والعدل هنا والعدل هو المثل ، او الفدية

__________________

(١) راجع «عقائدنا» ص ١٦٥ ـ ١٧٠ حيث فصلنا فيه الكلام ..

٣٩٥

المماثلة (١) فليس لأي نفس مثل تملكه حتى تؤتيه بديلا ، ولو كان ف (لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ).

٤ (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) هؤلاء المحرومون من الجزاء الكفاية والعدل والشفاعة ، ليس لهم أي ناصر ولا عاذر من دون الله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

قول فصل حول الشفاعة :

الشفاعة هي من الشفع قبال الوتر ، فالعاصي بنفسه يستحق العقاب فيضم إلى نفسه وجيها عند صاحب الأمر فيستعين به في الغفران ، إذا لم تحصل له وسيلة أخرى (٢) وكانت الشفاعة في إطار التشريع ، أو أن سببا من الأسباب ينضم إلى الموجود الناقص فتتم السببية بهذه الشفاعة التكوينية إذا كانت في إطار التكوين كمعجزات الرسل ، فإنها أفعال لله لا سواه ، تجري على أيدي أنبياء الله تدليلا على أنهم يحملون رسالة من الله ، فلا يكفي أن يخلق المسيح من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه ليكون طيرا إلّا بإذن الله وهذه شفاعة تكوينية للتدليل على الرسالة الإلهية.

وتأتي الشفاعة بمختلف صيغها ومسوغاتها أم الإحالة لها أو التي تفرضها في (٣١) موضعا من الذكر الحكيم :

ومن آيات الشفاعة ما تنحو منحى التكوينية أو أنها الهدف الرئيسي

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٦٨ ـ اخرج ابن جرير عن عمر بن قيس الملائي عن رجل من بني امية من اهل الشام احسن الثناء عليه قال : قيل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما العدل؟ قال : العدل الفدية.

(٢) كالتوبة ورجاحة الحسنات واجتناب كبائر السيئات ، حيث الشفاعة هي في المرحلة الرابعة.

٣٩٦

فيها : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ... ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ..) (١٠ : ٣) فإنها الشفاعة في الخلق والإيجاد ، فلا وسيط فيه تغييرا وتطويرا بعد الخلق الأوّل إلّا بإذنه ، فإنه الوحيد في شئون الخالقية (١).

ثم هناك آيات كثيرة أخرى بين ناكرة نافية للشفاعة في التشريع مثل التي مضت وأضرابها حيث تنفي الشفاعة يوم الدين وتنكرها من كل نفس لكل نفس : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) من نفس شافعة ان تشفع او مشفّع لها ان تشفّع ، وان كان الآية تبدء بخطاب بني إسرائيل ، فإن هذه من مقررات يوم الدين ، لهم ولمن سواهم على سواء ، وآيات نفي الشفاعة لا تنفي مطلق الشفاعة وإنما المنفي فيها هو الشفاعة المطلقة.

وهنا آيات اخرى تثبت الشفاعة بعض الإثبات لله وبأذن الله

__________________

الشفاعة منها تكوينية ومنها تشريعية ، ومن الثانية ان تشفع نفس متقاضية حكا من ربه بعطف من الله ولطفه كما فعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تحويل القبلة ، او ان تشفع حكمة ومصلحة فيما يروم ، وعلى اية حال فلا شفاعة في التشريع كأصل لغير الله فانه الشارع لا سواه ، ثم لا إذن ولا توكيل ولا تخويل في تشريع لسواه!

ومن الاولى ان يشفع نفسه برحمة من الله حتى يوحي أو يلهم ويعلم ، او يشفع فعله بارادة الله حتى يجعل له آية كما في المسيح (عليه السلام) ، او يشفع استغفاره باستغفار المذنبين حتى يغفر الله لهم كما في الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، او يشفع نفسه بوجاهتها برحمة الله وهكذا الأمر ، او يشفعها بشخص المذنب او بهما ـ وفي كل ذلك ليس الله بحاجة الى شفع ، فقد يشفع دون شفيع كما في التوبة او رجاحة الحسنات ام ترك كبائر السيئات في باب المعاصي ، ام يشرع دون شفع كما في سائر الأحكام التشريعية ، فما شفع الشافع إلا تكريما له ، وتقريبا للمشفع له ان يتربى تربية بغية أن يشفع له.

٣٩٧

ويجمعها : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣٩ : ٤٤) فله أن يشفع برحمته ، أو يأذن لمن يشفع فيمن يشفع بشروط.

فلا شفاعة إلّا بإذنه ، دون وكالة وتخويل : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢ : ٢٥٦) (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (٣٤ : ٢٣) إذن للشافع أن يشفع وللمشفّع له أن يشفّع له ، شفع الإذن وإذن الشفع ، وليس الإذن فوضى جزاف ، وإنما على شروط فيهما ، جميعا او فرادى ، ومنها الرضى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (٥٣ : ٢٦) : يرضى الشافع دينا ويرضى له قولا : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (٢٠ : ١٠٩) (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٧٨ : ٣٨) ويرضى المشفع له دينا : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٢١ : ٢٨) من ارتضى الله دينه وهو «من ساءته سيئة وسرته حسنته» (١) أن يعيش ديّنا مهما يفلت منه فالت ويفوت عنه فائت ، ويرضى له قولا في اعتذاره.

ومنها الحفاظ على عهد الرحمان واتخاذه : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً. لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (١٩ : ٨٧) لا المتقون إلّا من اتخذ عند الرحمن عهد الشفاعة واذنها ، ولا المجرمون إلا من اتخذ عند الرحمن عهد العبودية :

__________________

(١) كما يروى عن الامام الرضا (عليه السلام) (تفسير البرهان عن امالي الصدوق) وفي الكافي عن حفص المؤذن عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رسالته الى أصحابه قال : واعلموا انه ليس يغني عنكم من الله احد من خلقه لا ملك ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك ، من سره ان ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب الى الله ان يرضى عنه.

٣٩٨

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ..) أن يعيش حياته تطبيقا لعهد العبودية إلّا أن يفلت فالت من اللمم أم ماذا؟

ومنها الشهادة بالحق وهم يعلمون : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٤٣ : ٨٦) ٤ فلا شفاعة ممن يدعون من دون الله ولا لهم ، اللهم إلّا لأهل الله شافعين ومشفعين أن يشهدوا بالحق عالمين ، فيشهد الشافع أن فلانا كانت حياته إيمانية ويشهد المشفع بأعماله ما يصدّق الشافع (١).

فمن عاش حياة الإيمان ومات على إيمان ، وبقيت له سيئات من كبائر لم تكفّر ولم تغفر ، فهو الذي يشفع له يوم القيامة ، حيث التوبة شافعة يوم الدنيا لأي ذنب ، وإن كان شركا ، والصغائر مكفّرة بترك الكبائر : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٤ : ٣١) (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ ..) (٥٣ : ٣٢).

وبرجاحة الحسنات الكبرى مثل الصلاة ، فإنها يذهبن السيئات : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (١١ : ١١٤).

ومن الحسنات ما يبدل السيئات حسنات : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (٢٥ : ٧٠).

ولا شفاعة إلّا في القيامة لمن رضي الله له قولا ودينا واتخذ عند الرحمن عهدا ومات على إيمان ، بعد ما كفّرت سيئاته بترك الكبائر أو بدلت حسنات ، او

__________________

(١) في الخصال عن علي (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاثة يشفعون الى الله عز وجل فيشفّعون : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء. العلماء هنا هم أوصياء الأنبياء والشهداء هم شهداء الأعمال من الأولياء.

٣٩٩

أذهبت حسناته سيئات ، ثم مات وعليه كبائر لم تكفر بما يجازى في البرزخ فاستحق العذاب يوم القيامة ، فهنالك الشفاعة على شروطها لمن يأذن الله ويرضى ، كما يروى عن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنما شفاعتي لأهل الكبائر من امتي» (١).

إذن فليست الشفاعة بالتي تشجّع على الانهماك في المعاصي دون مبالاة ، وإنما هي سياج صارم على نزوات المسلم في حياته الإيمانية ، ألّا يقنط من رحمة الله فيترك سائر الحسنات لأنه ترك واحدة ، او يخوض في السيئات لأنه اقترف واحدة ، لو لا الشفاعة بتوبة او رجاحة للحسنات ، او ترك للكبائر ، او شفاعة يوم القيامة.

فإنما الشفاعة الفوضى ودون شروط هي التي تشجّع على اللّامبالاة ، وتناقض تشريع الأحكام ، كالتي عند المسيحيين من الفداء الصليبي ، كما أن نفي الشفاعة إطلاقا يخلّف قنوطا من رحمة الله ، حيث الكثرة الكثيرة من الناس يبتلون أحيانا بمنكرات ، فلولا الشفاعة لخاضوا المحرمات ، إذ يرون أنفسهم من أهل النار ، دون مناص ولا فرار!

والحالة العوان بين الخوف والرجاء هي التي تصلح الإنسان ، بين

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ عن امالي الصدوق عن الامام الرضا عن امير المؤمنين (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أنا له الله شفاعتي ثم قال : انما شفاعتي لأهل الكبائر من امتي فاما المحسنون فما عليهم من سبيل فقيل للرضا (عليه السلام) يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فما معنى قول الله عز وجل (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) قال : من ارتضى الله دينه وهو من ساءته سيئته وحسنته ورواه «انما شفاعتي» الفريقان بطرق عدة ، فمن ليس من امة الإسلام لا تناله الشفاعة ومن ليست له كبيرة ليس بحاجة الى شفاعة حيث كفرت صغائره بكبائر المنهيات.

٤٠٠