الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

شكلياتها ، فانها متشابهة في مخارجها الصوتية على سواء.

فمهما كان التدبر في سائر القرآن راجحا او واجبا ، فهو في هذه الحروف غير ممكنة إذ لا مجال فيها ، اللهم إلّا ما ثبت في تأويلها عن أهليها ، ام تخرسا بالغيب او تخرصا : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) (٥١ : ١٠) : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٦ : ١١٦)!

(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢)

وترى لماذا «ذلك» إشارة البعيد ، وهذا الكتاب بين أيدينا قريب قريب؟ ثم وما هو «الكتاب»؟ وكيف (لا رَيْبَ فِيهِ) وفيه مرتابون كثير؟ وكيف هو فقط (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)؟ فما بال غير المتقين يعذبون وليس القرآن لهم هدى؟!.

ذلك لأن «ذلك» إشارة تلميحة إلى علوّ المحتد ، وبعد المنزلة لربانية الكتاب ككلّ : معنويا ولفظيا ، على كونه قريبا منّا كتابة وسماعا وتلفظا ، ثم وقريبا إن تدبرنا فيه معنويا حسب الإمكانيات والقابليات ، فهو إذا غريب عنا ، قريب منا ، جماع الغربة القربة ، التي تستحق «ذلك» مرة أخرى.

و «الكتاب» علّه أم الكتاب لدى الله : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤٣ : ٤) فهذا الذي تفصيله بين يديك (لا رَيْبَ فِيهِ).

أو والذي أنزل على الرسول ليلة القدر : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) نزولا محكما : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (٤١ : ٣) وهذا تفصيله (لا رَيْبَ فِيهِ) :

أو الذي أجمل في أم الكتاب «سورة الحمد» هو ذلك الكتاب لا ريب فيه.

١٦١

او الذي بشر به النبيون من قبل كما نجد في كتاباتهم ، ف «ذلك» هو «الكتاب» المعهود ذكره عنهم من ذي قبل (لا رَيْبَ فِيهِ).

أم هو كل «الكتاب» ففيه كل ما أنزل من كتاب وزيادة ، فهو هو كل ما كتبه الله وأوحاه إلى أنبياءه طوال الزمان الرسالي (لا رَيْبَ فِيهِ) ... ف «الكتاب» خبر ل «ذلك» في هذه الخمس ، و (لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً ..) خبران بعد خبر (١).

او (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) : الكتاب الخماسي المعنى لا ريب فيه! ف (ذلِكَ الْكِتابُ) مشارا ومشارا إليه مبتدء : و (لا رَيْبَ فِيهِ) خبره ، أو وصفه و (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) خبره (٢).

فالمعنى على الترتيب : «ذلك» أمّ الكتاب ـ ٢ ـ المنزل ليلة القدر ـ ٣ ـ النازل جملا في سورة الحمد ٤ ـ الذي بشر به من قبل ـ ٥ ـ كل الكتاب : «لا ريب في شيء من ذلك» (لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) يهديهم دون ريب كما أنه لا ريب فيه.

٦ ـ (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) ـ ٧ ـ (ذلِكَ الْكِتابُ) دون ريب (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)! ..

فسباعية الوجوه تعني سباعية المعنى دون تناحر واختلاف ، والقرآن حمّال ذو وجوه فاحملوه إلى أحسن الوجوه ، وهذه كلها حسنة يساعدها أدب

__________________

(١) هذه الوجوه تشترك في كون «ذلك» مبتدأ و «الكتاب» خبره ثم «لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» خبر ان بعد خبر أم وصفان.

(٢) هذا على كون «ذلِكَ الْكِتابُ» مبتدأ كله. ف «لا رَيْبَ فِيهِ» إما خبر ، و «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» وصفه او خبره الثاني ، أم حال و «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» خبره ، وكل هذه صحيحة تتحملها ألفاظ الآية.

(٢) هذا على كون «ذلِكَ الْكِتابُ» مبتدأ كله. ف «لا رَيْبَ فِيهِ» إما خبر ، و «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» وصفه او خبره الثاني ، أم حال و «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» خبره ، وكل هذه صحيحة تتحملها ألفاظ الآية.

١٦٢

اللفظ ويراعة المعنى.

وترى لماذا لم يفتتح الكتاب ب (ذلِكَ الْكِتابُ) وإنما بفاتحة الكتاب ، فهل إنه خارج عن الكتاب؟.

الجواب : أنها السبع المثاني عدلا للكتاب ، فهي هي كتاب ، والقرآن العظيم كتاب ، وأين كتاب من كتاب؟ من إحكام في فاتحة الكتاب ، وتفصيل في سائر الكتاب ، ولتكن الحمد مشارا إليها في (ذلِكَ الْكِتابُ) ضمن كل مشار إليه ب «ذلك».

ثم ترى (ذلِكَ الْكِتابُ) كيف يشير إلى كل الكتاب ولمّا يكمل تفصيله مهما كمل محكمه ، وليس محكمه ـ فقط ـ النازل على الرسول ليلة القدر ـ ليس هو هدى للمتقين ، إنما للرسول والرسول فقط ، ثم وتفصيله هدى؟

أقول : «ذلك» نزلت حين نزلت ، تعني الكتاب المفصل ما نزل منه وقتها وما لم ينزل ، فانه كله في علم الله ، وهو كله هدى للمتقين بطبعه ، في دوره ووقته ، ثم تعني الكتاب الحاضر كله بعد تنزيله كله وتأليفه كما هو الآن ، كما تعنيه «ذلك» و «القرآن» وسواهما من أسماء تعني القرآن كلّه ، في القرآن كلّه.

أو أنها تعني بالفعل ما نزل قبلها من المكيات ، عناية الواقع الماضي والحاضر ، ومن ثم تعني ما سوف ينزل إلى آخر العهد المدني عناية المستقبل الأكيد الذي هو بمنزلة الحاضر.

وكما القرآن والكتاب كله قرآن وكتاب ، كذلك بعضه ، وحتى سورة قصيرة منه كالكوثر ، المتحدى بها الناكرون ، فلا غرو أن يكون «ذلك» إضافة إلى ذلك ـ تعني البعض الحاضر منه ، فانه نور وهدى بأبعاضه كما يهدي بمجموعة! ، كما وأن من «ذلك» سورة الحمد النازلة قبلها بأعوام ،

١٦٣

والنازلة قبل القرآن المفصل كله.

وللقرآن اسماء تعني مواصفاته بكيانه المتين ـ فانه : كتاب ـ قرآن ـ فرقان ـ مبين ـ بيان ـ تبيان ـ برهان ـ عظيم ـ عزيز ـ كريم ـ صراط مستقيم ـ حكم ـ ذكر ـ موعظة ـ نور ـ روح ـ مبارك ـ نعمة ـ بصائر ـ رحمة ـ حق ـ فصل ـ هاد ـ شفاء ـ مهيمن ـ تنزيل ـ هدى ـ قيم ـ بشير ـ نذير ـ حديث ـ فصل ـ نجوم ـ حبل ـ مثاني.

فالقرآن كله يحمل هذه المواصفات وسواها كلها جملة وتفصيلا (١).

(لا رَيْبَ فِيهِ) لا في كونه تفصيل ام الكتاب وما أنزل ليلة القدر ، فانه : (تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ) (١٠ : ٣٧) :

ولا في كونه كل كتاب فانه (تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٢ : ١١١) ..

ولا في أنه الحمد تفصيلا كما أن الحمد هو الكتاب اجمالا.

ولا في أنه المبشر من قبل حيث التصادق واقع بينه وما بين يديه من كتاب : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) (١٢ : ١١١) ومثالا عليه ما في كتاب اشعياء النبي (عليه السلام).

ولا في أنه كله وحي السماء حيث يشهد بآياته وبيناته : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٤ : ٨٢) (تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣٢ : ٢) كذلك ويشهد به من أوتوا الكتاب : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ

__________________

(١) هذه الأسماء وسواها تجدها في آياتها حسب مناسباتها.

١٦٤

بِهِ) (١٢ : ١٢١) (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) (٢ : ١٤٤):

ولا في كونه (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) كما هو لامح في النابهين غير المتعصبين. فلم يقل : لا شك فيه ، حيث الشاكون فيه كثير ، وإنما (لا رَيْبَ فِيهِ) حيث الريب هو شك مسنود إلى حجة : أن تتوهم بالشيء أمرا فيكشف عما نتوهمه (١) فالشك منه مريب ومنه غير مريب : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ... وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١١ : ١١٠) قالُوا يا صالِحُ ... وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) (١١ : ٦٢) مهما كانوا كاذبين في ريبتهم : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ... فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣)).

فقد تكون الريبة في الدعوة أو في كتاب الدعوة ، ولا ريبة في كتب الله ودعاته ، وقد تكون في المدعوين المرسل إليهم وهم الذين : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (٢ : ١٠).

والقرآن لا ينفي الريبة عن قلوبهم : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (٩ : ٤٥) (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) (٩ : ١١) (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) (٤٠ : ٣٤) وإنما ينفي الريبة عن نفسه متحديا كل مفتر مرتاب (لا رَيْبَ فِيهِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣٢ : ٢) (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه ..) (٢ : ٢٣).

__________________

(١) مفردات القرآن للراغب الاصبهاني.

١٦٥

فليأت من يرتاب فيه بسلطان مبين. ولا نراه منذ بزوغه حجة إلّا داحضة تبوء بالفشل والفضيحة على المفترين ، فمن اين يكون فيه ريب ودلالة الصدق واليقين كامنة في مطلعه ، ظاهرة في عجزهم عن الإتيان بمثله (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)!

(هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢).

القرآن هدى للناس أجمعين دلالة وبيانا : (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) وهدى للمتقين موعظة وتبيانا : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (٣ : ١٣٣): (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) (١٩: ٩٧) (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (٦٩ : ٤٨).

وكما التقوى ـ وهي قبول الوقاية إذا وقي ـ درجات ، كذلك الهدى التي هي على ضوءها درجات ، فمن لا يتقي ، فيعاند الهدى تعنتا ورفضا لا تحصل له أية هدى بالقرآن ، بل ولا يزيده إلّا خسارا ، ومن يتقي فهو يقيه كما يتقي ، درجات بدرجات ، وكما تزيد هداه تقوى فهما تتعاملان : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٤٧ : ١٧).

فمن تقوى هي تقوى فطرية وفكرية ، إذا وقي صاحبها عما يناحرهما ويزيدهما وضاءة وقوة يقبلها ، والقرآن يحمل ببيناته هذه الوقاية فهو إذا هدى للمتقين ، فان الهدى حقيقته وطبيعته ، كيانه وماهيته ، ولكن لمن؟ «للمتقين» الذين يفتحون مغاليق قلوبهم ويواجهونه بفطرتهم التي فطرهم الله عليها ، متحذّرين استهواء الأهواء والضلالات ، ومتحرّين الهدى ، فعندئذ يتفتّح القرآن عن هداه ، يسكبها في قلب ترك هواه إلى هداه.

١٦٦

فإذا اهتدى المتقي هكذا هداه الأولى ، ثم اتبع رضوان الله على ضوء القرآن ، يهديه ثانية سبل السلام : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥ : ١١٦).

واستقبال أفعال المتقين : «يؤمنون .. يقيمون .. ينفقون. يوقنون» يلوّح إلى عامة مراتب التقوى ، ابتداء من تقوى الفطرة قبل الإيمان بالقرآن وصالح الأعمال ، وانتهاء إلى الهدى الفعلية إيمانا بالقرآن وعملا صالحا للإيمان ، ثم هناك مزيد للتقوى بعد هذا الإيمان وبينهما متوسطات.

فلو مضت هنا أفعال التقوى ك «آمنوا .. أقاموا .. أنفقوا .. أيقنوا» لكانت مواصفات للتقوى الحاصلة بعد الإيمان ، فليست التقوى صفة لقوم خصوص آمنوا ثم اتقوا ، وإن صدقت لهم أكثر ممن سواهم.

فيا لاستمرارية أفعال التقوى من دلالة تعم درجات التقوى قبل الإيمان جاهزا له ، وبعد الإيمان متدرجا الى درجاته : «يؤمنون .. يقيمون ..» أن حالتهم قبول الإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولمّا يؤمنوا ويقيموا ، إذ لم يحن حينه حيث لم تأت داعيته.

إذا فالقرآن (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ولمّا يتقّوا عقائديا وعمليا ، لما اتقوا فطريا وفكريا ، ومن ثم هدى للمتقين بكافة درجاتهم حتى القمة الرسالية لخاتم المرسلين.

كما الهداية المستدعاة في قلب الصلاة تعم هذه الدرجات.

ثم التقوى ـ كما تلوح من آياتها ـ هي على درجاتها تعم التقوى الفردية في صلة العبد بالله ، والتقوى الجماعية في صلاته بعباد الله ، في كافة

١٦٧

حقولها : العلمية ـ الفكرية ـ العقائدية ـ العملية ـ السياسية ـ الاقتصادية ـ الحربية ام ماذا من مجالاتها وجلواتها ، وهي على شتاتها ترتبط بحبل واحد هو تقوى الله ، فان دين الله يضم كافة الحقول الحيوية تنظّرا وتنضّرا ، سبكا لها بسبائكه المكينة المتينة ، ما لا قبل لها لأي نظام بشري أم ماذا؟

فالقائد السياسي في دولة الإسلام بحاجة إلى تقوى سياسية بعد ما سواها وأكثر منها ، كما قائد الجيش يجب أن يكون الأتقى في الدفاع عن بيضة الإسلام ، ووزير الثقافة أتقى ثقافيا ، أم من ذا من المتقين في النظام الإسلامي السامي ، حيث لا تختص التقوى بصلات العبادات الخاصة كالصوم والصّلاة ، بل وكافة الصلات والحركات والسكنات للمسلم تشملها حقيقة التقوى ، التي هي الوقاية وقبولها عما لا يحمد أولاه أو عقباه في أية مجالة من مجالات أو حالة من حالات ـ كما تعم وقاية الغيب والشهادة ، وقاية كل حق وعن كل باطل ، معنويا وماديا ، فرديّا وجماعيا ام ماذا.

فالمتقي من شرط الحق يدافع ويذود عنه ما لا يحق قدر المستطاع ، فان استطاعها وطبّقها دون تقصير او قصور فهي التقوى المطلقة ولا تحصل إلّا في دولة الحق خارجا عن صراعات الباطل وقليل ما هي.

وان استطاعها على قصور في مختلف الصراعات ، تاركا للأدنى لتطبيق الأفضل الأعلى ، حيث لا يسطع الجمع بينهما في مصطدمات الحياة ، فهي ـ إذا ـ التقية ، فليست التقية هي الخوف والترك ، وإنما هي تقوى جانبيّة حفظا للأهم في ترك المهم ، مما يجعل قيام الحسين (عليه السلام) تقية كما قعود الحسن تقية ، ويجعل قيامات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في العهد المدني ، وقيامات علي (عليه السلام) في خلافته تقية ، كما قعود الرسول في العهد المكي وقعود الامام زمن الخلفاء تقية ، حيث يترك المهم

١٦٨

وقاية وإقامة للأهم في دين الله ، قياما كان أو قعودا.

فالمؤمن بالله من شرط الله مهما اختلفت الظروف والإمكانيات ، فاختلفت صور التقوى في مختلف الميادين.

والتقوى بصيغة مجملة نابعة من الغيب ، غيب الفطرة والعقل والقلب ، نابغة إلى غيب الحقائق : غيب الله ـ غيب الآخرة ـ غيب الوحي ، فالصلاة الناتجة عن الايمان بهذه الغيوب ، ثم الإنفاق في سبيل الله ، وهي الخمس المذكورة هنا من صفات المتقين ، ثلاث هي الغيب ، واثنان هما الشهادة الناتجة عن مثلث الغيب.

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(٤))

فالغيب الاوّل هو مطلق الغيب الذي يجب الإيمان به ، وهو يشمل غيب الألوهية الذي لزامه غيب الآخرة ، اللذان لزامهما غيب الوحي : ما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبله ، ومثلث الغيب هذا لزامه عبادة الله : الصلاة ، ورعاية عيال الله : الإنفاق!

ثم الإيمان بالملائكة من فروع الإيمان بغيب الوحي ، والوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء وحين البأس ، والإتيان بالصدق والتصديق به هي كلها من نتائج الإيمان بمثلث الغيب ، كما الإيمان بضلعي الوحي والآخرة مربوط بقاعدة الإيمان بغيب الألوهية!

وهذه جماع أوصاف المتقين هنا وفي سائر القرآن ، التي تجمعها الخمس هنا ، كما يجمع الخمس ايضا مطلق الغيب.

فالإيمان بالغيب كلما كان أعمق وأعرق يضرب إلى إيمان الشهود أوفق

١٦٩

وأليق ، لحدّ يجعل حياة المؤمن حياة التقوى إذ يصبح من شرط الحق الذائدين عنه ، المضحّين في سبيله بالنفس والنفيس.

ولأن الإيمان بغيب الألوهية واليوم الآخر هما الأصل لسائر الغيوب ، حتى وغيب الوحي ، تراهما كحجرى الأساس للتقوى ، فهنا يتوسطها سائر الغيب والشهادة ، وقد تترك الأوساط : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) (٢١ : ٤٩).

ولأن إقام الصلاة أقوم عماد في الشهادة للإيمان بغيب الألوهية تراه يقرن به ظرفا لتأثير الإنذار ، وكأنه فقط من نتائجه : (.. إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٣٥ : ١٨).

ولأن اتبّاع الذكر الذي يحمله وحي الرسالات والكتب هو من أهم لزامات الإيمان بغيب الألوهية ، تراه قرينا له لتأثير الإنذار : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ ..) (٣٦ : ١١).

ولأن الأصل الأهم في الغيب هو غيب الألوهية لمن جاء بقلب منيب نراه مفردا دون

قرين : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) (٥٠ : ٣٣).

إذا فالتقوى تنبع من الإيمان بغيب الألوهية ، ثم غيب الآخرة ، ثم غيب الوحي ، ثم تضرب بها إلى مظاهر الشهود ، في الصلاة كأهم الرباطات بالخالق ، وكالزكاة كأهمها بالخلق.

١٧٠

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) :

والإيمان هو أن تجعل نفسك في أمن وطمأنينة ، ولأن الحياة الدنيا وزخارفها متغيرة فانية ، فالإيمان بها زيادة في تزعزع واضطراب ، وأمّا غيب الألوهية واليوم الآخر والوحي ، فالإيمان بها يؤمن الإنسان ويطمئنه عن الهزائز : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)! .. يؤمنون بالغيب : «بما غاب عن حواسهم من الأمور التي يلزمهم الإيمان بها كالبعث والحساب والجنة والنار وتوحيد الله وسائر ما لا يعرف بالمشاهدة وإنما يعرف بدلائل قد نصبها الله تعالى دلائل عليها.» (١).

والايمان بما غاب عن الإحساس الحيواني هو من ميّزات الإنسان عن سائر الحيوان ، فإنه ممتاز بالعقل بعد الحس ، ما به يعقل ما يقصر عنه الحس.

إن العقل والحس يتعاملان في تصديق الغائب عن الإحساس كما يتعاملان في العلوم التجريبية ايضا ، فلا مجرد الإحساس يكفي ، وحتى للعلم بالمحسوس ، ولا مجرد العقل يكفي وحتى لتصديق الغائب عن الإحساس إلّا قليلا.

فحصر الإدراكات بوسائل الحس فقط تفريط ، كما أن حصرها بالعقل فقط إفراط ، ولذلك نرى الآيات تجمع بين العقل والحس في تعامل دائب في الإيمان بالغيب ، مستدلة بالآيات الآفاقية الحسية ، والأنفسية غير الحسية : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٤١ : ٥٣).

__________________

(١) البرهان ١ : ٥٦ عن تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).

١٧١

إن السوفسطائيين الناكرين لوجود العلم ـ سواء عن طريق العقل او الحس ـ ينكرون وحتى أنفسهم ، وترى أليس إنكارهم أنفسهم علما فكيف أنكروه؟ أو أنه جهل ـ إذا ـ فخلافه وهو إدراكهم أنفسهم علم!.

كذلك الحسيون أنكروا أيّ سناد إلى العقل ، ثم وهم يسندون في نكرانهم إلى دليل العقل!

ثم العقليون يعتمدون فقط إلى العقليات ، ومن المستحيل إلّا قليلا أن تنتج العقليات الصرفة ـ دون أيّ سناد إلى الحس ـ ما يصدّقه الإنسان!

ولكنما الإلهيون المعتدلون هم الأمة الوسطى ، إذ يجمعون بين العقل والحس ، مهما كان العقل إمام الحس والحس أمامه ، وكما يقول الإمام الصادق : «العقول أئمة القلوب والقلوب أئمة الأفكار والأفكار أئمة الحواس والحواس أئمة الأعضاء»!

فالإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان فيتخطّى رتبة الحيوانية الحسية إلى درجة الإنسانية العائشة العقل مع الحس ، نقلة بعيدة التأثير في تصور الإنسان لحقيقة الوجود ، وتصديقه للوجود الحق ، كما هي بعيدة في حياته الأرضية ، إذ يرى نفسه في رباط دائم بالوجود اللّانهائي وراء هذا الكون : المكوّن لهذا الكون ، فينظّم حياته صالحة كما يرضاه خالق الكون.

ثم النص (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) لا «يدركون الغيب» او «يحيطون علما بالغيب» حيث الغيب منه ما لا يدرك نهائيا كغيب الذات الإلهيّة وصفاته الذاتية وأفعاله ، وكغيب الوحي ، اللهم بآيات محسوسات أو معقولات تدل عليه ، او الوحي لأصحابه الخصوص.

ومنه ما يدرك في اليوم الآخر كاليوم الآخر والملائكة أم ماذا ، ولكنه لا يدرك يوم الدنيا ، فلا سبيل إليها إلّا إيمانا وتصديقا.

١٧٢

وهناك جهال غابت عقولهم وغربت ، يحاولون إدراك ذات الله بما يدركون الكون المحسوس ، وهم عاجزون عن إدراك حقيقة المحسوس.

وآخرون يحاولون الحيطة العقلية او العلمية بذاته تعالى (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٢٠ : ١١٠).

فإنما الممكن في هذا المجال التأكّد من وجود الغيب فالإيمان به كما هو ، لا كما نعرفه أو نحيط به ، كما الكثير من الطاقات المادية ، كالذرة والقوة الجاذبية العامة ، نصدق بها بأدلتها دون أن نحسها أو ندركها ، فغيب الذات الألوهية أحق بعدم الحيطة وأحرى.

ثم الغيب هنا ثلاث مذكورة كأصوله ، وهناك غيوب غير مذكورة كفروع لها ، من غيب البرزخ وهو من فروع غيب الآخرة ، ومن غيب القائم المهدي (عليه السلام) (١) وهو من فروع أصل الوحي والنبوة ، ومن غيب الرجعة في دولة المهدي (عجل الله تعالى فرجه) وهو فرع من فروع الحياة البرزخية والآخرة وإلى سائر الغيب (٢).

__________________

(١) البرهان ١ : ٥٤ ـ ابن بابويه باسناده عن جابر بن عبد الله الانصاري في حديث يذكر فيه الأئمة الاثني عشر وفيهم القائم قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طوبى للصابرين في غيبته. طوبى للمقيمين على محبتهم أولئك من وصفهم الله في كتابه فقال :(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أولئك حزب الله ألا ان حزب الله هم الغالبون ، والبرهان ١ : ٥٣ ـ ابن بابويه بسنده عن داود بن كثير الرقي عن أبي عبد الله في الآية قال : من آمن بقيام القائم انه حق ، وعن يحيى بن أبي القاسم قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الآية قال : والغيب فهو الحجة الغائب (عليه السلام) وشاهد ذلك قوله تعالى : ويقولون لو لا انزل عليه آية من ربه فقل انما الغيب لله فانتظروا اني معكم من المنتظرين.

(٢) الدر المنثور ١ : ٢٦ عن انس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليتني قد لقيت إخواني فقال له رجل من أصحابه أولسنا إخوانك؟ قال : بلى أنتم اصحابي ـ

١٧٣

ثم الايمان بهذا الغيب يدفع المؤمن إلى مظاهر الايمان وعمودها الصلاة ، لا القيام إليها فقط ، أو إتيانها فقط ، وإنما إقامتها :

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) :

فإقامة الصلاة هي تقوى العبادة ، دون إتيانها او القيام إليها فانه طغواها التي يؤتى بها رئاء الناس كسالى ، وإنها من شيم المنافقين : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) (٤ : ١٤٢) (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) (٩ : ٥٤).

__________________

وإخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ثم قرأ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ). أقول واخرج ما في معناه البزاز وابو يعلي والمرهبي في فضل العلم والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واخرج الحسن بن عروة في حزبه المشهور والبيهقي في الدلائل والاصبهاني في الترغيب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واخرج الطبراني عن ابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) واخرج الاسماعيلي في معجمه عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) واخرج ابن أبي شيبة في مسنده عن عوف بن مالك عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) واخرج احمد والدارمي والبارودي وابن قانع معا في معجم الصحابة والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي جمعة الأنصاري عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) واخرج ابن أبي شيبة وابن أبي عمر واحمد والحاكم عن أبي عبد الرحمن الجنهي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) واخرج احمد وابن حبان عن أبي سعيد الخدري ـ أقول : وكل هذه الأحاديث على اختلافات سطحية لفظية تتفق في تفضيل المؤمنين الذين لم يروا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على أصحابه الذين رأوه.

واخرج جماعة عن تويلة بنت اسلم قالت : صليت الظهر او العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ثم جاء نأمن يخبرنا ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد استقبل البيت الحرام فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلو البيت الحرام فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك فقال : «أولئك قوم آمنوا بالغيب».

١٧٤

فإقام الصلاة ليست هي القيام فيها إذ ليس كلها قيام ، ولا أنه إقامة لها كلها! إنما هي جعلها قوامة الحياة وأصالتها التي يتفرع عليها سائر الحياة ، اتجاها الى الله وحده لا شريك له ، وارتفاعا عن عبادة العباد ، دائما عليها مواظبا لها مراعيا حرماتها وواجباتها ، شرائطها وأجزاءها ، أوقاتها وكلّ ما يتوجب فيها ، من معنوياتها وهي أحرى فإنها أصلها ، ومن مظاهرها ما يجعل المصلى كلّه صلاة لله ، وصلات بالله ، وخدمات في سبيل الله!.

ثم ومن إقامتها استحضار معاني ألفاظها ، وملامح أفعالها ، ثم الارتقاء الى معانيها تغافلا ـ لا غفلة ـ عن ألفاظها ، ثم تغافلا عن نفسه لحدّ لا يرى إلّا ربه بنور اليقين ، دون حجاب إلّا حجاب ذات الألوهية وهذه صلاة تخص صاحب المعراج (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم ذويه المعصومين (عليهم السلام) ، وعلى ضوءها وفي هامشها المصلون الحقيقيون.

ومن ثم وبعد إقامة الصلاة لله ، يقوم في صلات بخلق الله أن ينفق مما رزقه في سبيل الله :

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)

من رزق المال ، والحال ، من ثروة علمية او عقلية ، او ثقافة إيمانية (١) ام ماذا؟ فان كله من رزق الله ..

ثم ومن أموال ومن ايّ الطاقات الموهوبات التي يمكن إنفاقها أو الإنفاق منها فإنها كلها رزق الله!

__________________

(١) البرهان ١ : ٥٣ ـ ابن بابويه بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث في الآية قال : مما علمناهم ينبئون وما علمناهم من القرآن يتلون.

أقول وهذا من باب التفسير بالمصداق الخفي من الرزق.

١٧٥

فإن الخلق مستخلفون فيما رزقهم الله : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (٥٧ : ٧) دون استثناء ، وحتى إنفاق المال هنا وفي أضرابها من آيات الإنفاق لا يخص خصوص الزكاة ، ف «إن في المال حقا سوى الزكاة».

وهذا من التضامن بين عيال الله مع الصّلة الصّلاة لله ، أن تصبح الحياة مجال أخوّة وتعاون ، لا معترك تناحر وتطاحن ، عائشين جو المحبة والحنان ، لا جبهات القتال بين أظفار وأنياب ومخالب بني الإنسان.

ثم ولا يكفي الايمان بغيب الله وإقام الصلاة والإنفاق ، حتى يربطها وسواها بما أنزل الله :

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ)

إيمانا شاملا خطّ الرسالات الإلهية أولا وأخيرا ، دون تفريق بينها ، وإنما تصديق بها كلّها ، مهما يجب تطبيق الأخيرة منها لا سواها.

ثم ولا يتم كل ذلك إلّا بإيقان بالآخرة :

(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)

و «هم» هنا يختصهم بإيقان الآخرة ، فإنه ناتج عن الأربعة الأولى ، فمن يؤمن بغيب الله ووحي الله ، ويصلي لله ، وينفق في سبيل الله ، لا بد وأن يوقن بيوم الله.

فهنا إيمان باليوم الآخر يدفع الإنسان إلى أعمال الإيمان من صلاة وإنفاق وايمان بوحي السماء.

ثم إيقان باليوم الآخر هو نتيجة أعمال الإيمان ، فالإيمان باليوم الآخر كإيمان بالوحي مطوي في الإيمان بالغيب ، وإنما يبرز هنا أخيرا إيقانا بعد إيمان نتيجة عمل الإيمان ، فثمّ إذا أيقن بالآخرة يزداد في الإيمان وعمل

١٧٦

الإيمان ، وهكذا يستمر دور الإيمان والصالحات تعاملا وطيدا حتى يبلغ بصاحبه الذروة دون حدّ ولا نهاية.

وهنا نجد تساوقا وتناسقا بين هذه الخمس من مواصفات المتقين على درجاتها ، ما نجد التقوى سارية في كافة جنبات الحياة في الغيب والشهادة ، فرادى وجماعات وفي كل المجالات.

من تقوى في محراب العبادة : الصلاة (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) إلى تقوى في محراب الحرب والقتال : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٢ : ١٧٧) (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (٣ : ١٢٥).

وتقوى في الإقتصاد : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ـ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٥ : ٩٣) (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ... فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) (٢ : ٢٨٣) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا ..) (٢ : ٢٧٨).

وتقوى سياسية : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ..) (٢ : ٢٠٦) (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) (٣٣ : ١).

وعلى الجملة تقوى فردية وتقوى جماعية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ..) (٦ : ٦) :

وتقوى في الصبر والمصابرة والمرابطة : الروابط السياسية وسواها بين

١٧٧

المؤمنين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ) (٣ : ٢٠٠) (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) (٨ : ١).

وهكذا نرى التقوى بطيّات آياتها تشمل كافة مجالات الحياة من عقائدية وإيمانية وعلمية ـ عبادية وسياسية واقتصادية وحربية ـ وفردية وجماعية أما هيه؟

ومن أفضل التقوى : «أن تدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس» (١) و «أن تحب الله بقلبك كله وتعمل بكدحك وقوتك ما استطعت وترحم ابن جنسك : ولد آدم كلهم ، وما لا تحب أن يؤتى إليك فلا تأته إلى أحد فأنت تقي لله حقا» (٢).

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥) :

أولئك المتقون على هدى من ربهم ، «إلى هدى» فإنهم مسيطرون على الهدى ، مجتازون طرق الردى (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) : إذ أفلحوا بمحراث التقوى كل شائكة في حرث الدنيا ، فأصبحت الأولى هي الأخرى (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى).

فالإفلاح هو الشقّ ، والمتقون يشقون أمواج البحور المتلاطمة الهائجة المائجة بسفن التقوى ، وفي سائر القرآن مواصفات أخرى للمفلحين توازي

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٤ ـ اخرج جماعة عن عطية السعدي قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يبلغ العبد المؤمن ان يكون من المتقين حتى يدع ...

(٢) المصدر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري قال : بلغنا أن رجلا جاء الى عيسى (عليه السلام) فقال : يا معلم الخير كيف أكون تقيا لله كما ينبغي له؟ قال : بيسير من الأمر : ...

١٧٨

صفات المتقين (١).

هذا شطر من صفات المتقين يفتتح به القرآن كأفضل ما به يتصفون ثم تقابلهم صفات الكافرين الذين لا يؤمنون بما ينذرون :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦).

الكفر هو ستر الشيء ، ويوصف الليل بالكافرة لسترها الأشياء بظلامها ، والزارع بالكافر لستره البذر بالتراب ، ويوصف غير المؤمنين والمتقين بالكفار إذ رانت قلوبهم عن مشاهدة الحق ، وسدّت نوافذها وأغلقت عن الايمان بغيب الحق وشهادته ، وقطعت وشائجها عن تصديقه.

وترى إن الذين كفروا هنا هل هم الكافرون أجمعون؟ وهم أضراب ، وليس الإنذار وعدمه سواء عليهم كلهم!.

كلّا إنها لا تعني مطلق الكفر حيث الكثير منهم يؤمنون ، من مشرك او كتابي ام ماذا؟ وإنما الكفر المطلق المازج عقولهم ، الضائقة به صدورهم ، المقلوبة قلوبهم ، المنحرفة أفكارهم ، والخاطئة حواسهم ، فهم في غيّهم يترددون ، وفي عيّهم يعمهون : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ

__________________

(١) (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٧ : ٨) وهي موازين التقوى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ... فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٧ : ١٥٧) (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥٩ : ٩) (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٩ : ٨٨) (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٣ : ١٠٤).

١٧٩

خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢ : ٨١) : كفر محيط بهم حيث لا يبقي لهم نوافذ بها يبصرون ف (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

ليس النص «الكافرون» حتى يشملهم أجمعين ، بل (الَّذِينَ كَفَرُوا) كفر حدث وجاه الرسالة الإسلامية ، بعد كفر سبق : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) : الذين جحدوا بعد البينة ، وأنكروا بعد المعرفة!. ولا انه كلما حدث من كفر بعد كفر ، فالبعض (مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يتردون ردحا من الزمن ثم يؤمنون ، أم يتوبون عما كفروا فيهتدون.

وانما يعني أخسّ دركات الكفر والطغيان ممن (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٢٧ : ١٤) (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (٣١ : ٣٢) فريق خصوص من الكافرين الذين بلغوا في كفرهم وجحودهم ما لا يؤمل فيه إيمان ، مهما بقيت في قلوبهم نوافذ لرؤية الحق ، ولكنهم يجحدون ، فيجازيهم الله إذ يسدّ هذه البقيّة : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

فهؤلاء الأوغاد المناكيد من صناديد قريش وأضرابهم ، الكفار الألداء جمعوا بين دركات الكفر : الخمس ـ في خماسية قاعدتها كفر الجحود على علم ـ (... وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) ثم كفر النعم : (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١٦ : ١١٢) وكفر العمل : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) (٣٠ : ٤٤) ولحدّ الايمان بالكفر لا الكفر فقط : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) (٤٠ : ١٢) (١).

__________________

(١) البرهان ١ : ٥٧ ـ الكليني باسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه

١٨٠