الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أن هذه النعم هي من إله واحد دون أنداد! : أمثال ونظائر أو أضداد.

وكما التوحيد له درجات ، كذلك اتخاذ الشركاء الأنداد دركات : فالند قد يعبد من دون الله ، أو يعبد مع الله ، ام لا هذا ولا ذاك وإنما يخضع له كما يخضع لله ، ركوعا ام سجودا أم ماذا؟ واستغاثة واستعانة به من دون الله ، او مع الله ، او بعد الله ام ماذا؟ او اعتقاد تأثير له من دون الله او مع الله او بعد الله ام ماذا؟ فحتى الرئاء شرك بالله ، فجعل الأنداد لله محرم او كفر او شرك او إلحاد بالله ، صاعدة إلى اتخاذها آلهة من دون الله ، ونازلة الى الرئاء وبينهما متوسطات! : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) حيث الشرك كدبيب النمل! ففي الحديث أن رجلا قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما شاء الله وشئت قال : أجعلتني لله ندا؟! وقد قالت اليهود له (صلى الله عليه وآله وسلم) دينك خير دين لو لا أن أمتك مشركون! قال : وكيف؟ قالوا : حيث يقولون : لو شاء وشاء محمد ، فغضب فقال لهم : لا تقولوا هكذا ، قولوا : لو شاء الله فشاء محمد تفريعا لمشيئته (صلى الله عليه وآله وسلم) على مشيئة الله ، لا قرنا لها إياها!

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢٤).

.. تحدّ بالقرآن ـ أنه وحي السماء ـ الناس أجمعين في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، جزما بعدم إمكان الإتيان بمثل القرآن ولا بسورة من مثله : القرآن : (وَلَنْ تَفْعَلُوا)!.

٢٢١

وتحدّ بمن أنزل عليه «من مثله» : عبدنا ، تحديان يتمازجان ، فيضربان في أعماق تاريخ الرسالات وكتابات الأرض والسماء : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) : مثل القرآن من كتب الوحي في أنها وحي مهما اختلفت مراتبها ـ وكذلك فيمن أنزل عليه : رجالات الوحي (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) : مثل عبدنا الذي لم يدرس فأصبح مدرسا للعالمين ، او وحتى مثله في البشرية وان كان عالما نحريرا!

فقرآن محمد ومحمد القرآن معجزتان متلازمتان فائقتان سائر المعجزات لسائر رجالات الوحي ، خالدتان ما طلعت الشمس وغربت!.

التحدي بالقرآن :

نجد آيات التحدي بالقرآن في مثلث التحديات :

١ ـ بالقرآن كله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١٧ : ٨٨) وهذا أشمل التحديات حيث يشمل الجنّة والناس أجمعين متظاهرين متظافرين أيّا كانوا وأيّان ، والقرآن كما هو صادق على كله كذلك على آية منه وبينهما عوان!.

٢ ـ بعشر سور مثله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١١ : ١٤).

٣ ـ بسورة من مثله ـ كما هنا ـ وهو أقوى التحديات من حيث القرآن ومن أنزل عليه ، فالقرآن : (بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ، وإن كانت كالكوثر ـ لا فقط بعشر او به كله ـ ومن أنزل عليه وإن كان من كان إذا كان

٢٢٢

مثله : (١) أمّيا لم تسبق له أية دراسة أو كتابة او قراءة : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٢٩ : ٤٨) (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠ : ١٦) وان تقولوا : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ

__________________

(١) الضمير الغائب في «مثله» يرجع الى «عبدنا» كما هو راجع الى «ما نزلنا» وهما معا مقصودان حيث تتحملها الآية لفظا ومغزى.

وكما في تفسير البرهان نقلا عن تفسير الإمام العسكري عن الإمام الباقر (عليه السلام): في الآية قوله : «فأتوا» : يا معشر قريش واليهود! يا معشر النواصب المنتحلين بالإسلام الذين هم منه برآء! ويا معشر العرب الفصحاء البلغاء ذوي الألسن (بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) من مثل محمد مثل رجل منكم لا يقرأ ولا يكتب ولم يدرس كتابا ولا اختلف الى عالم ولا تعلم من احد وأنتم تعرفونه في أسفاره وحضوره ـ بقي كذلك أربعين سنة ثم اوتي جوامع العلم حتى علم الأولين والآخرين ـ فان كنتم في ريب في هذه الآيات فاتوا من مثل هذا الرجل بمثل هذا الكلام ليتبين انه كاذب كما تزعمون ، لأن كل ما كان من عند غير الله فسيوجد له نظير في سائر خلق الله ، وان كنتم معاشر قراء الكتب من اليهود والنصارى في شك مما جاءكم به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من شرائعه .. فاتوا بسورة من مثله ـ يعني : من مثل القرآن من التوراة والإنجيل والزبور وصحف ابراهيم .. فانكم لا تجدون في سائر كتب الله تعالى سورة كسورة من هذا القرآن.

وفيه عن الإمام علي بن الحسين مثله وزيادة هي : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) من مثل محمد ـ اي : لم يختلف الى أصحاب كتب قط ولا تلمذ لأحد ولا تعلم منه وهو من قد عرفتموه في حضره وسفره ولا يفارقكم قط إلى بلد ، ليس معه جماعة منكم يراعون أحواله ، ويعرفون اخباره ، جاءكم بهذا الكتاب المشتمل على هذه العجائب ، فان كان متقوّلا كما تزعمون وأنتم الفصحاء والبلغاء والشعراء والأدباء الذين لا نظير لكم في سائر الأديان ومن سائر الأمم ، فان كان كاذبا فاللغة لغتكم وجنسه جنسكم وطبعه طبعكم وسيتفق لجماعتكم او لبعضكم معارضه كلامه هذا بأفضل منه ومثله ، لأن ما كان من قبل البشر لا عن الله فلا يجوز ألا يكون في البشر من يمكن من مثله فأتوا بذلك لتعرفوه وسائر النظار إليكم في أحوالكم انه مبطل كاذب على الله تعالى ...

٢٢٣

أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٦ : ١٠٣) فحيث لم يجدوا عربيا يفترون أنه علّمه ، قالوا : علّمه سلمان الفارسي ، خبلا في فريتهم وخبطا عشوائيا في مريتهم ، فجاء الجواب الحاسم : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)! فإذ لم يأت به عربي ولم يعلمه فكيف بأعجمي جاءه في العهد المدني ، وقد نزل من القرآن شطر عظيم في العهد المكي!.

٤ ـ ثم وحتى بآية فإنها قرآن ويشمله التحدي الاول وان لم ترد في خصوصها آية ، حيث الآية في القرآن تعني الآية الإلهية : الدالة على كونها إلهية المصدر والصياغة ، بنفسها ، وكما الآيات تعبير عن المعجزات فالقرآن آية إلهية بمجموعه ـ بعشر سور ـ بسورة ـ بكل آية آية : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢ : ٢٥٢).

ومهما كانت هذه الآيات درجات بالنسبة للمستدلين بها.

ولكنها كلها مصبوغة بصبغة واحدة ، مساغة بصيغة واحدة فصاحة وبلاغة وحتى في موسيقى التعبير فضلا عن محتوياتها.

فالقرآن آية إلهية جملة وتفصيلا ـ بآية او سورة او عشر سور أم كله ، مهما اختلفت القابليات في الحصول على هذه او تلك بمختلف العقول في مختلف الحقول!.

ومن ثم فحتى لو درس محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدارس كلها ، واكتسب العلوم كلها لا يقدر ان ياتي بمثل هذا القرآن ولو بسورة من مثله او آية! كيف ولم تسبق له سابقة دراسة او تلاوة ثم أتى بالقرآن العظيم الذي يعجز دون سورة منه العالمون ، ولقد كان المجال أمامهم مفتوحا ، واهتمامهم الشديد بمعارضة القرآن وإبطال حجته مفسوحا ، وحتى الآن لم يأتوا ولن يأتوا ولا بسورة من مثله ، أفلا يدل كل ذلك على تحليق

٢٢٤

القرآن على أجواء الفصاحة والبلاغة تعبيرا ، وعلى اجواء العقول في كافة الحقول ، وعلى اجواء مختلف العلوم معبرا عنه ، طوال اربعة عشر قرنا ، وحيدا في ميادين السباق ، بل لا سباق إذ لا رفاق!

أفلا يدل كل ذلك انه نازل بعلم الله؟ (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) (١١ : ١٤).

(مِنْ مِثْلِهِ) في دراسة موسعة :

«من» فيما يعنى من الضمير «عبدنا» ابتدائية نشوية : فاتوا بسورة من مثل عبدنا الأمي ثم قايسوا بها سورة من القرآن ، لتعرفوا البون الشاسع بينهما ، فليكن نازلا بعلم الله ، وحتى إذا استويا ، إذ لا مساواة ولا مسامات بين وحي الأرض ووحي السماء!.

او «من مثل عبدنا» في كونه عبدا وان كان من عباقرة العلم ـ وهو أمي! ـ فأتوا بسورة من أي جن او انسان او نبيّ او ايّا كان ، ثم قايسوا بها سورة من القرآن الذي جاء به هذا الأمي ، لتعرفوا ـ كذلك ـ البون بيّنا (١) فليكن نازلا بعلم الله.

وفيما يعني من ضميره (ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) ف «من» تتحمل الجنسية كما تتحمل النشوية الابتدائية : فأتوا بسورة من مثل القرآن : من كتابات الوحي ايّا كان ، سورة مأخوذة منها وهي مثل القرآن في الوحي ، او سورة هي جنس القرآن كذلك : (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٨ : ٤٩) : أهدى من التوراة والقرآن اللذين تنكرونهما ، فإذ لم يأتوا بكتاب الهي هو أهدى من هذين ـ

__________________

(١) هنا يجمع بين المماثلة في الامية ، والمماثلة في كونه عبدا ، وحتى نبيا حيث تحملهما الآية.

٢٢٥

كأنهما غير إلهيين ـ! دل ذلك بيقين أنهما من وحي الله ، فوحي الأرض أيا كان هو أدنى من وحي السماء دنوّ الأرض من السماء وأدنى : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ ..) (٥٠).

فهل أتى احد من أهل الكتاب بسورة من أي كتاب يقايسها بسورة من القرآن ، والمجال فاسح؟ كلّا حيث الحاصل من هذا القياس ـ على أبعد تقدير ـ مماثلتها سورة من القرآن ، او رجاحة القرآن كما هو حق التقدير ، وكيف بالإمكان مماثلة كلام العبد كلام الله او رجحانه عليه؟ فليكن نازلا بعلم الله.

ترى ومن الذي يشهد هكذا؟ إنه كلام الله نفسه! بل وكافة الشهداء من دون الله : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : أنه ليس من كلام الله! ليشهدوا في كافة مجالات القياس بقرآن محمد او محمد القرآن ، أنهما نازلان من عند الله : شاهدا هو كتاب الله ، ومشهودا له هو رسول الله ، إذا فهما معا معجزة بارعة إلهية ما لها من فواق!.

فهنا يصل التحدي الى الغاية ان يطلب من ناكري وحي القرآن أن يدعوا شهداءهم ـ كلهم ـ من دون الله ، ان يأتوا بسورة من مثل القرآن ، او بسورة من مثل محمد كسورة من القرآن ، ان يأتوا ويشهدوا لكم ، ولكن (لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) لا تأتون بمثله ومحال ان تأتوا ، ولئن أتيتم فإنكم وشهداءكم سوف تشهدون أن القرآن نازل بعلم الله ، إذ لا مماثلة بين ما أتاه وتأتون به!.

فكما (اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ..) (٤ : ١٦٦) كذلك الشهداء من دون الله عليهم أن يشهدوا عند القياس ، او ـ ولأقل تقدير ـ أن يسكتوا عن الشهادة ضد وحي القرآن ، إذ ليس لهم ايّ برهان إلّا

٢٢٦

عجزهم عن الإتيان بمثله!.

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) كما لم يفعلوا (وَلَنْ تَفْعَلُوا) كما يستحيل أن يفعلوا في مثلث الزمان ، ومن اي فاعل او محاول كان (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) : الناس النسناس الذين هم كذلك حجارة ، إذ غربت عقولهم وتخبطت أحلامهم فصمدوا على نكران القرآن ، وحجته باهرة كالشمس في رايعة النهار!

فكيف بالإمكان أن يدّعي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أعقل العقلاء حقا وعندهم ـ أن (لَنْ تَفْعَلُوا) وهو ليس على يقين من وحي القرآن؟ أليفضح نفسه ويهدم أساس دعوته لأحيان عاجله ام آجلة لو أتوا بمثله او فوقه! ولكنه يعلن في هذه الإذاعة القرآنية (وَلَنْ تَفْعَلُوا) : محال ان تفعلوا ـ لا فقط سوف لا تفعلون ـ حيث «لن» لمحة او صراحة لاستحالة مدخولها عقليا ام واقعيا ، ومن اللائح أن الإتيان بمثل القرآن محال فيهما حتى وإن كان من سائر كتابات السماء!.

وعند العجز (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) فحيث تجعلون أنفسكم هنا وقودا لنار الجحود والنكران لتحرقوا به وحي القرآن ، فهناك سوف تصبحون مع الحجارة وقودا للنار التي اضرمتموها من ذي قبل ف (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٢١ : ٩٨)

كل من له دراية وذوق بأساليب الكلام ، وتصورات البشر عن الكون ، وكل ما للبشر من مناهج ونظريات ، لا يخالجه شك ان ما جاء به القرآن في هذه المجالات يختلف تماما عما للإنسان ونظراءه ، كما يختلف الله عن مخلوقاته ، فكلام الله إله الكلام كما علمه إله العلم فإنه نازل بعلم الله!

٢٢٧

فالقرآن بذاته (لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ولكن : إذا لم تكن للمرء عين صحيحة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر!

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) : شك كأنه مسنود الى دليل ، ولا يملك أي دليل ، بل الأدلة الذاتية من القرآن نفسه تؤكد أنه نازل بعلم الله .. (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ..) ولكي تثبتوا أنه اختلاق خلقي وليس من الخالق في شيء (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) إذ لا مثيل له وحتى لسورة منه من كتابات السماء ، ولا مثيل لمن انزل إليه أن يأتي بمثله ، (فَاتَّقُوا النَّارَ ..)!

و (مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) تلمح ان العبودية هي الظرف الصالح لنزول الوحي ، لا سواها من طرق بشرية ، وما أجمله تعبيرا «عبدنا» في مثلث المعنى من «عبد» ـ «نا» وحروفه الثلاثة عند اهل المعرفة «فالعين علمه بالله تعالى والباء بونه عما سوى الله ، والدال دنوه من الله بلا كيف ولا حجاب» (١).

«فاتوا» إن كنتم كتابيين فمن كتب السماء ، وان كنتم مشركين ناكرين لها (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) كسورة منه «من مثل عبدنا» في أميته ام وفي بشريته ، او كونه خلقا أيا كان (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : في ريبكم : فإنه شك مسنود إلى دليل وليس لكم أيّ دليل!

هنا يتحدى (بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) واخرى (بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٠ : ٣٨) ومماثلة سورة من غير القرآن لسورة من القرآن مماثلة للقرآن كله ، والتحدي قائم في مثلث : سورة ـ عشر سور ـ القرآن

__________________

(١) مصباح الشريعة عن الإمام الصادق (عليه السلام).

٢٢٨

كله ، أدناه سورة او آية ، وأعلاه كلّه ، وبينهما متوسطات ذكر منها عشر سور.

وترى ما هي «سورة» ليقف التحدي عندها ، أم ماذا؟

أقول : انها لغويا فعلة من «سور» : سور المدينة وحائطها ، الذي يفصلها عن غيرها ، فالسورة من القرآن آيات محدودة مفصولة عن محدودات أخرى ، وبماذا؟ طبعا بالبسملات في بداياتها كآية منها ـ إلّا البرائة ـ وفي نهاياتها كآية مما يليها كالسور كلها ، وانما تعرف البراءة سورة في نهايتها كسائر السور ، وفي بدايتها بما تواتر ان (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ ..) اولى آياتها ، فالبسملة بصورة عامة ـ إلّا التي في النمل ـ سور بدء ختم للسّور كلها ، إضافة الى المعروف المتواتر القاطع من بداياتها ونهاياتها.

وقد تدل «سورة» و «عشر سور» واضرابها (١) ان القرآن كما هو الآن رتب سورا زمن الوحي ، مهما نزل في قسم منه سورا وفي آخر آيات ، فلو لم يكن مرتبا حينذاك سورا لم يشمل التحدي القرآن كله.

او أنه يلمح الى ترتيب سابق للعهد المكي ، وترتيب يلحقه في العهد المدني ، فيما لم تنزل سورا ، ومهما يكن من شيء فلا ريب ان جمع القرآن وترتيبه لم يكن إلّا بالوحي كما ان تنزيله بالوحي : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (٧٥ : ١٧) (٢) دون تدخّل لأحد في تأليفه سورا وآيات إلّا كما امر الرسول وأئتمر فألّفه كما أمر.

__________________

(١) مجموع ما ذكر فيه «سورة» في القرآن تسعة مواضع : هنا و ٩ : ٦٤ و ٨٦ و ١٢٤ و ١٢٧ ـ ١٠ : ٣٨ ـ ٢٤ : ١ ـ ٤٧ : ٢٠ ـ ١١ : ١٣ ـ وعامة الدلالة فيها أن القرآن أنزل سورا ، الا طوائف من آياته.

(٢) راجع الى تفسير الآية في سورة القيامة ج ٢٩ : ٢٨٠ ـ ٢٨٤.

٢٢٩

فسورة من القرآن وإن كانت أقله كالكوثر ، تتحدى الجن والإنس في الدهر كله ، لا ردحا من الزمن وجماعة خاصة ، فالتحدي يعم الزمن وأهله : (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) أن يأتوا بمثله بشريّا ام إلهيّا ، فان الله لم يكلّم أنبياءه في سائر كتابات الوحي كما كلّم محمدا في القرآن ، رمزا لخلوده ، وهيمنة له على وحي الأرض والسماء كله ، وسبقة له في كافة ميادين السباق ، بل ولا سباق معه فيها إذ لا رفاق!.

فإنه ليس عبارات يحاولون محاكاتها ، بل هو كسائر ما يبدعه الله من آيات معجزات ـ وأعلى منها كلها ـ يعجز المخلوق من صياغته وصنعه ، فهو امر من الله كما الروح من أمره ، لا يدرك الخلق سره مهما أدركوا من معناه.

انه آية إلهية يدل بنفسه على نفسه دون شهود آخرين : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٤ : ١٦٦) فلا تعني شهادة الله بما أنزل إلّا شهادة كلام الله أنه منه دون سواه حيث : «أنزله بعلمه» : فمعالم علم الله فيه باهرة : علما في كافة الحقول أدناها صياغة الألفاظ فصاحة وبلاغة ، وأعلاها العلوم الإلهية التي لن تدرك إلّا بالوحي وبينهما متوسطات.

فالبشر الذي يعرف كلام البشر بوسمته ووصمته ، يعرف الوسمة الإلهية دون أية وصمة في القرآن ، لحد لا يستطيع وحيدها في الكلام ان يعبر عنه إلّا انه «يؤثر» : يبقى مدى الدهر دون معارضة ، وان افترى عليه : «أنه سحر» تناقضا فاضحا واضحا (١).

__________________

(١) راجع تفسير الآية ج ٢٩ ص ٢٤٦ ـ ٢٥٠.

٢٣٠

القرآن يتحدى في كافة الحقول :

١ ـ فصاحة العبارة وبلاغة التعبير وهي ابسط تحدياته وأسهل معجزاته مع القمة العليا في صياغته ونظامه وتركيبه وانسجامه ، أما لو صرفت الأنظار من مبانيه الى أسراره ومعانيه ، فهنالك تنقطع الإشارات وتحيا العبر وتموت العبارات ، حيث تحار دونها العقول والنفوس ، وتخضع الرقاب وتطأطأ الرؤوس ، فانها هبّة الملكوت ، وهيبة الجبروت ، هناك الفزّة والهزّة ، والعظمة والعزة ، والنفائس والبزّة ـ.

لقد كانت بلدة القرآن أملك البلاد لأساطين الفصحاء البلغاء ، وزمنه أبهج الأزمنة بمهرة الكلام ، وقد شق عليهم ظهور القمة المتفوقة في الفصاحة والبلاغة غاية الشقوة حتى تخاوصوا بحماليق الحنق إليه ، واعترفوا بعجزهم في أولى خطوة وأقصرها اعجازا وهي قشرها فضلا عن لبها ، فعاد لبيدهم بنكرانه بليدا ، وبليدهم بإيمانه لبيدا ، وشيبتهم وليدا ، وقائمهم حصيدا ، وعالمهم أبا جهل ، وسهيلهم على السهل ، وعتبتهم أعتاهم ، وبو لهبهم أخمدهم وأخزاهم ، وعبد شمسهم آفل ، ونابغتهم خامل ، وحيّ أخطبهم ميّتا ، وهشامهم مخزوما ، ومخزومهم مهشوما ، وسراتهم أسارى ، وكبّارهم من الصغار صغارا ، قد وسموا جباههم بنار العار والعيار ورسموا على محاسنهم وسم السوء بالذل والصغار ، وجعلت كلماته في أعناقهم أغلالا فظلوا لها خاضعين ، وطاشت ألبابهم فقالوا : ان هذا الا سحر مبين (١).

تحداهم القرآن فيما يعرفون من جانب اللفظ دون جناب المعنى ، به

__________________

(١) قسم من هذه العبارات ملتقطات من كتاب الدين والإسلام للإمام محمد حسين آل كاشف الغطاء.

٢٣١

كله فعجزوا ، ثم بعشر سور فعجزوا ، ثم بسورة فكذلك الأمر ، فضلا عما تحداهم في سائر الحقول ، ولكنهم التجأوا الى مفاوضة الحقوف عن معارضة الحروف ، وعقلوا الألسنة والعقول ، ورضوا بكلم الجراح عن الكلم الفصاح» (١).

فمعجزة القرآن في سائر الحقول يفوقها تفوّق المعنى على اللفظ ، والعقول على الأجسام ، فما اللفظ إلّا أداة للتعبير ، وهو فيها ايضا بالغ قمة الاعجاز فضلا عما سواها.

كما وأنّ معجزة الفصاحة والبلاغة قد تخص أهليها ، وفي خصوص العربية ، والقرآن يتحدى العالمين دون خصوص العرب العرباء الفصحاء البلغاء ، فالتحدي شامل كافة الحقول المتسابقة ألفاظا ومعاني وحقائق.

فرغم ما تجد في كلام غير الله ـ أيا كان ـ : القمم والسّفوح ـ التوافق والتعثّر ـ القوة والضعف ـ التحليق والهبوط ـ الرفرفة والثقلة ـ الإشراق والانطفاء ، وأمثالها من سمات الاختلاف والتغير والنقصان والملل والكلل ، لا تجد شيئا من ذلك في القرآن ، وفيه من صريح الحق ، والبعد عن الكذب والخيال ، ما يناحر مظاهر الفصاحة والبلاغة المرسومة!

فالفصاحة ركنها في وصف خيالات بعيدة عن الواقع تجاوب الآمال الشاسعة ، والقرآن كله حق وبيان الواقع! ومع ذلك فانه في أعلى قمم الفصاحة!

ومن عواملها الكذب ، فاي شاعر تركه الى الصدق نزل شعره كما نزل

__________________

(١) ... نفس المصدر السابق.

٢٣٢

شعر لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت لما أسلما ، والقرآن كله صدق! وفصاحة الكلام ـ ولا سيما الطويل المتجول في مختلف الحقول ـ لا تتفق إلّا في بعض دون بعض ، والقرآن كله في قمة الفصاحة!

ومن طبيعة الكلام مهما كان فصيحا أنه يبلى على التكرار والترداد ، والقرآن لا يبلى على ترداده ، بل يزهر ويبهر اكثر واكثر.

ومنها وحتى في الأشعار مختصة ببعض المجالات دون اخرى ، والقرآن زاهر في كافة المجالات!

ومن نضارة الكلام وطراوته أن ينحو منحى الزهوات والشهوات والوعود الفارغة ، والقرآن مقتصر على إيجاب عبادات ، وتحريم حرمات والحث على ترك مشتهيات ، وأسر أهواء ، وسلب حريات ، وهو مع ذلك في أرفع قمم الفصاحة والنضارة.

فالتعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية وحتى في موسيقاه ، إنه طريق عاقم غير مسلوك ، حتى ولأنبياء الله ، فكيف بسائر الناس مهما بلغوا مبالغ الأدب في التعبير ، فهي طريقة خاصة بالقرآن نفسه ، لا تضاهيها وحتى سائر كتابات السماء ، فان الله ما أراد في سائر كلامه ما اراده في القرآن من صيغة معجزة خالدة ، ولكي تتم حجته فيه ، ويطمّ ربوبية العبارة والتعبير على مرّ الدهور.

فمن ذا الذي يجرأ على محاولة او خيالها واحتيالها لمعارضة القرآن ، وحتى في هذه الناحية التعبيرية ، اللهم إلّا من سامح عن عقله ، وغره غروره وفضح نفسه ، كمسيلمة الكذاب حيث عارض سورة الفيل : بتقوّله الخواء الخيلاء : «الفيل ما الفيل وما ادراك ما الفيل له ذنب وبيل وخرطوم طويل» كما ويخاطب سجاح النبية : «فنولجه فيكن ايلاجا ونخرجه منكن

٢٣٣

إخراجا» وثالثهما طائش من حزب الثالوث معارضا سورة الحمد : «الحمد للرحمن. رب الأكوان. الملك الديان. لك العبادة وبك المستعان. اهدنا صراط الايمان» وأمثالها من تقولات وقفت لحدها دون تكرار ، حيث لم تجلب إلّا الفضاحة والاختجاج! بديل الفصاحة او الاختلاج.

وإن لاسلوب القرآن ميزته الإلهية الخاصة تمتاز آياته عن غيرها في اي كلام ، وحتى افصح من نطق بالضاد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وصنوه علي (عليه السلام) حيث يظهر ويزهو كالشمس في رايعة النهار.

وما تصدى لمعارضته لفظيا ـ منذ نزوله حتى الآن ـ الا مأفون الرأي مايق العقل ، وإن تعجب فعجب من خطيب مصقع وفارس لا يقمع ، لما تصدى للقرآن أفحم وتبلد ، وأبكم وتلدّد.

فهذا مسيلمة وسجاح واضرابهم من الأولين والمتنبي والمعري وأمثالهم من الآخرين ، كل بزعمه أتى بآيات تضحك منها الثكلاء وتبكي حروف الهجاء.

فيا من فجرّوا اليوم من العربية جداول وأنهارا ، وجلوا من خرائدها ثيبات وأبكارا ، واجروا المحيط بأقرب الموارد من قاموس لغاتها ، وجاءوا بالوسيط والبسيط في مجمع البحرين من حريري مقاماتها ، تعالوا تعالوا بمن يساندكم متسابقين فاتوا بسورة من مثله وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين.

القرآن في اقل تحدياته يتحدى بسورة وآية تشملها فيما تشمل (أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) ولكنهم قد يتحّدون بآية : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ

٢٣٤

(بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وليست هي عديمة النظائر او قليلتها ، حيث الآيات كلها آيات تعني انها دلالات ربانية في ألفاظها ومعانيها ، فضع نظراك أنّى شئت من بيناته ، وسرّح فكرك في أية آية من محكماته ، تجدها شقيقة لتلك (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ)!

يا من يخلد بخلده معارضة القرآن مهما كدحت وسعيت وأتعبت نفسك وأعييت فقد تقحّمت يا خراشة على منيع سور ، وتهجمت يا فراشة على بركان نور ، فما أجرأك يا هذه على أن تخترق! وما أحراك إذا أن تحترق ، وأنى لك التسنّم او التنسّم لس؟؟؟ نّي صعود تلك المزالق! (١)

آية من القرآن ان كانت في رسالة كانت عينها ، ام في خطبة كانت وجهها وزينها ، ام في قصيدة فقلادة جيدها ، مهما كانت حافتها كلام النبي ، او حافتها كلام نبيّ!

وجملة من جمله إن أفردتها بهرت ، وان ضممتها في عقدها أعجزت وقهرت ، فهي على كمال إلفها بأخواتها ، وارتباطها بلداتها ، تامة بنفسها ، قائمة بذاتها ، فهاك نصف الآية (.. قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (٦ : ٩١).

فهي برمتها كبعض اية جملة مستقلة ، ثم قل ـ يلعبون ـ مستقلة ، وبلا «يلعبون» ودون «في خوضهم» ودون «ثم ذرهم» كلها مستقلة ، استقلالات خمس في آية! ان ضممتها الى أخواتها سطعت وان أفردتها

__________________

(١) مما صنفناه وملقطات من الإمام كاشف الغطاء.

٢٣٥

لذاتها برعت وشعّت! متجلية ببهجة القدرة ، متحلية بخالص العزة ، تجمع السلاسة الى الرصانة ، والسلامة الى المتانة ، ولا تحسبنها آية او آيات عدة ، فانها كلها او جلّها لو فتحت النظر وأجليت البصر ، ففيها من خمس وما زاد ، الى عشر ويزيد ، فخذ عشرا من «حم. تنزيل الكتاب ـ ١ ـ من الله ـ ٢ ـ العزيز ـ ٣ ـ الحكيم ـ ٤ ـ غافر الذنب ـ ٥ ـ وقابل التوب ـ ٦ ـ شديد العقاب ـ ٧ ـ ذي الطول ـ ٨ ـ لا إله إلا هو ـ ٩ ـ اليه المصير ـ ١٠ ـ»! تصلح كل واحدة عنوانا لخطبة ، ومدارا للبحث كراسا ذا الطّول بقصر ام طول!

ثم ترى القرآن في أعلى قمم الفصاحة والبلاغة لا في حقل واحد ، رغم احوال البلغاء المختلفة غير المؤتلفة ، فامرؤ القيس بليغ إذا ركب ، والنابغة إذا رهب ، والأعشى إذا طرب ، وزهيرا إذا رغب! والقرآن بليغ حيثما كان!.

أيها المدعي معارضة الفصاحة القرآنية او بلاغته ، الذين عارضوا القرآن وهم يعيشون وحيه كانوا اسعد منك في البلاغة ، واروى في العربية زندا واكثر مراسا وأقوى أمراسا فإنهم أصلها الأصيل ، ثم هم أشد على القرآن عداوة واعمق نكاية ، إذ حادهم وتحداهم ، عاب آلتهم وسفّه أحلامهم ، ونكس اعلامهم ، وكسر أصنامهم ، وفعل بهم الأفاعيل وجاءهم بالاهاويل ، وهم على ما هم لما سمعوه طاشت ألبابهم وتقطعت أسبابهم ومزقوا معلقاتهم ، وافتضح من عارضه لحد أنكرها وحمّلها على غيره.

٢ ـ عدم الاختلاف فيه :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً

٢٣٦

كَثِيراً) (٤ : ٨٢).

فالتدبر في مجموعة هو جعل بعضه دبر بعض بغية إنتاج معاني جمعية وجامعة اضافة الى مفردات ، فالتدبر في القرآن حقه باستنطاق بعضه ببعض وتدليل بعضه على بعض يسفر عن كمال التلاؤم والوئام بين آياته البينات دون أيّ اختلاف ، لا في آياته مع بعض ، ولا فيه مع الواقع ، ولا متطلبات الفطرة والحياة ، ولا في ألفاظه فصاحة وبلاغة ووزنا ، فأبواب الاختلاف السبعة الجهنمية مغلقة على القرآن! حيث التعبير فيه منقطع النظير لا يتفاوت فصاحة وبلاغة ووزنا ولا معنى ، رغم تفاوت الحالات في نزوله نجوما سورا وآيات ، في العهد المكي المغلوب المضايق ، والعهد المدني الغالب المضايق ، في الحرب وفي الصلح ، وفي متضادة الحالات ، نرى آياته البينات في تناسق مطلق شامل كامل ، في كافة المجالات التي جالت فيها ، وكافة الحقول التي قالت كلمتها فيها.

فظاهرة عدم الاختلاف ، والثبات ، هي الطابع الإلهية لكلامه المجيد ، الذي لا يوجد في اي كلام من اي متكلم ، حيث الخلق ايّا كان متحول متكامل دون أي ثبات أو وقفة ، نازلا وصاعدا أم ماذا ، فحالة التغير باستمرار ، لزام الكائنات غير الإلهية مهما كانت في قمم الكمال كأنبياء الله!

فالاختلاف المستمر الدائم من حال الى حال ، من باطل الى صحيح والى أصح ، من مستوى الى مستوى ، ولا سيما في ردح طائل من الزمن ، هذا الاختلاف هو لزام الكائن غير الإلهي أيا كان ، حيث لا يحيطون بكل شيء علما ، وهو بكل شيء محيط ، فترى من عباقرة الفكر في مختلف الحقول العلمية من يؤلفون كتبا علمية طوال زمن ، فيها اختلافات حسب الحالات والبيآت التي يعيشونها ، والتجربيات والتفكيرات المتواصلة التي يعملونها ،

٢٣٧

ثم وأخيرا وبعد كافة التدقيقات تجدها وفيها اختلافات او اختلاقات! ولكنما القرآن النازل طوال ثلاث وعشرين سنة في تضاد الحالات وتناقضاتها لا تجد فيه ايّ اختلاف (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) لا قليلا ، حيث القلة القليلة من العلم ينتج الاختلاف الكثير ، وليس في القرآن اي اختلاف ، من كثير ولا قليل.

لا اختلافا في فصاحة العبارة وبلاغة التعبير ، فان آيه منسقة على نسق واحد لا اختلاف فيه ولا اختلال ، ولا فيما يحمله من معاني في مختلف الحقول ، مما تراه واضحا عند ما تتدبر اعمال اديب او مفكر او فنان او سياسي او اقتصادي او اخلاقي او اجتماعي او عسكري او ايّا كان.

ولكنما القرآن مع ما يحمل من منهج التنظيم للنشاط الإنساني فرادى ومجتمعات ، بشتى الملابسات التي تطرأ في الحياة ، ومنهج التقويم للإدراك البشري ، ومنهج التنسيق بين الإنسان جملة وتفصيلا في جميع أجياله ومستوياته وأحواله ، وبين هذا الكون الذي يعيش فيه ، ثم بين دنياه وأخراه وثم وثم ... تجد فيها كلها تلائما ووئاما تاما دون ايّ اختلاف.

فما من مذهب بشري او نظرية إلّا وهو يحمل الطابع المتفاوت ، جزئية النظرية والرؤية ، والتأثر الوقتي بالمشاكل الوقتية ، وعدم الحيطة بالتناقضات التي تؤدي الى الاصطدام بين مكوناتها ، والى مئات المئات من التضادات الناشئة من طبيعة الكائن المحدود غير الإلهي (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

إن القرآن منهج حياة ، متوفرة فيه نواميس البشرية في كافة أحوالها وأطوارها ، يعالج النفس المفردة ، والأفراد المتشابكة ، والمجتمعات الشائكة المتعاركة ، كل ذلك بالقوانين الملائمة للفطرة ، والواقع ، ومتطلبات الحياة

٢٣٨

الراقية ، يعالجها كلها علاجا عاجلا وآجلا ، متناسق الخطوات في كافة الجهات ، في الوقت الواحد ، فلا يغيب عن حسابه احتمالة من الاحتمالات ، ولا حالة من الحالات الكثيرة المتشابكة ، لأن مشرّع هذه القوانين هو خالق الفطر والكائنات.

وأما النظم غير الإلهية فهي على قصورها الذاتي ، متأثرة بملابسات الحياة ، وقاصرة عن الحيطة بجميع الاحتمالات ، فقد تعالج مشكلة فردية وتخترق مشكلة اجتماعية أم فردية أخرى.

ومهما ادعى المدعون ان في القرآن تناقضات واختلافات فهي تظهر بعد التدبر في آياته انها ملائمات متوافقات ، ولحد الآن ما ثبت اي اختلاف او غلطة لفظية فضلا عما سواها ، رغم ما يوجد في العهدين آلاف الاغلاط والمناقضات ، مما تؤكد ان التوراة والإنجيل الحاليين تأثرا بكثير من الخرافات والأساطير (١).

فمن المستحيل عقليا وواقعيا كون القرآن من عند غير الله ، وطابع الربانية ظاهر في مظاهر عدم الاختلاف فيه : آياته مع بعض لفظيا ومعنويا ، ومع الواقع الكوني والتطلّب الفطري والعقلي والفكري ، ومع الحاجيات الحيوية التي يعيشها الإنسان ايّا كان!

لذلك ترى جملاته تسمّت بآيات (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ)

__________________

(١) يقول المسيحي الفاضل «يا ركز» ان في الكتب المقدسة ثلاثون الف غلط ، والقسيس «ميل» و «كريستاج» ينهيانه الى نيف ومائة الف غلط ، و «شولز» ان اغلاطها لا تحصى ، وفي دائرة المعارف البريطانية والفرنسية انها زهاء مليون غلط وكما يعترف بهذه الاغلاط والاختلافات في الكتب المقدسة كثيرون مثل : اكهارن ـ كيسر ـ هيس ـ ديوت ـ ويز ـ فرش (راجع كتابنا : المقارنات العلمية والكتابية بين الكتب السماوية).

٢٣٩

(٢ : ٢٥٢) تدليلا أنها كلها تحمل سمات إلهية ، وبصمات ربوبية ، مكتوبة بقلم الوحي الأعلى ، خارجة عن وصمات غير الله : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

٣ ـ بعلم الغيب ومطلق العلم :

نجد بطيّات كثير من آياته البينات تحديات بعلم الغيب ، ومطلق العلم ، الذين لا يحصلان بالوسائل غير الإلهية ، اللهم إلّا بالوحي.

إنه يتحدى بالعلم جملة : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦ : ٥٩) (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (١٦ : ٨٩) (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).

وكما يتحدى بالعلم تفصيلا ، ونموذجا واحدا من تحدي التفصيل : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (٤٢ : ٢٩) حيث تذكرنا بملاحم علمية غيبية ثلاث :

١ ـ إن في السماوات دوابا كما في الأرض : (وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) ولم يصل العلم ـ الغازي للفضاء ـ حتى الآن الى التأكد من وجود جوّ للحياة او نباتات في بعض الكرات ، فضلا عن دواب هناك كما في الأرض!.

٢ ـ (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ) مما تبرهن ب «هم» وهي لذوي العقول ، ان من دواب السماوات ذوي العقول كما للأرض ، مهما لم نعرف اسمائهم وسماتهم ، كيف ونحن نجهل وجود أيّة حياة في الكرات.

٣ ـ ان عقلاء الأرض والسماوات ـ وعلّ سائر دوابهما ايضا ـ سوف يجتمعان ، حيث الجمع هنا : (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) لا يعني يوم الجمع وان شمله ، فانه الجمع بعد البث ، فكما الله بثهما فيهما بعد خلقهما ، كذلك هو جامعهما «إذا يشاء»: في مستقبل نجهله! ـ.

٢٤٠