الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢٦ : ١٩٧).

وإليكم نموذجا من هذه التي كانت في التورات ولعبت بها ايدي التحريف والتجديف ـ مواصفات للقرآن كما في الأصل العبراني من كتاب اشعياء ـ ٢٨ : ٩ ـ ١٤.

إت مي يوره دعاه وإت مي يابين شموعاه غكمولي محالاب عتيمّي مشّادايم (٩) كي صولا صاو صولا صاو قولا قاو قولاقاو زعير شام زعير شام (١٠) كي بلعجي شافاه وبلا شون أحرت يدبّر إل هاعام هذّه (١١) أشر آمر إليهم زئت همّنوحاه هانيحو لعايف وزئت همّرجعاه ولا آبوء شموع (١٢) وهاياه لاهم دبر يهواه صولا صاو صولا صاو قولا قاو قولا قاو زعير شام زعير شام لمعن يلخو وخاشلو آحور ونشبار ونوقشو ونلكادوا (١٣) لاخن شمعو دبر يهواه أنشي لاصون مشلي هاعام هذّه أشر ييرو شالام (١٤):.

«لمن ترى يعلم العلم ولمن يفقّه في الخطاب أللمفطومين عن اللبن للمفصولين عن الثدي (٩) لأنه امر على أمر ، امر على أمر ، فرض على فرض فرض على فرض هنا قليل وهناك قليل (١٠) لأنه بلهجة لكناء وبلسان غير لسانهم يكلم هذا الشعب (١١) الذين قال لهم هذه هي الراحة فأريحوا الرازح وهذه هي الرفاهية فأبوا أن يسمعوا (١٢) لذلك سيكون كلام الرب لهم أمرا على أمر ، أمرا على أمر ، فرضا على فرض فرضا على فرض هنا قليلا وهناك قليلا لكي يذهبوا ويسقطوا إلى الوراء فيحطّموا ويصطادوا فيؤخذوا (١٣) لذلك اسمعوا كلام الرب يا رجال الهزء! ولاة الشعب الذي في أورشليم» (١٤).

٣٦١

إنها بشارات لطيفة للقرآن ونبيه ، تصريحا بلغته «بلسان غير لسانهم» أن نبيا غير عبراني يكلمهم بغير لغتهم ، بقرآن نازل عليه نجوما : «أمرا على أمر فرضا فرض هنا قليلا وهناك قليلا» قائلا لشعب إسرائيل : «هذه الراحة أريحوا الرازح : التعبان ، وهذا هو السكون» ولكن ..

فمن يصدّق ـ إذا ـ بهذا النبي وبقرآنه ، فقد صدق بسائر كتب السماء المبشّرة بهما ، ومن يكذب فقد كذب بها أجمع ، فالمسلم مسلم وموسوي ومسيحي حيث صدقهما في إسلامه ، والكافر بالقرآن كافر بموسى والمسيح ومن بينهما ، الذين بشروا به!

ف (آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ ...)!

وترى النهي يخص اوّلية الكفر به فلو كفروا به آخرا او بعد آخرين فلا نهي؟!

كلّا ـ إنه نهي عن مطلق الكفر به أولا وآخرا ، وذكر الاوّل هنا إيماء تنديد ، أنهم رغم ما كان عليهم الإيمان به قبل الآخرين ، لأنهم كانوا (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) دون الآخرين (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) فكانوا أوّل كافر به ـ هنا ينهون عما كفروا خلاف المترقب منهم ، نهيا عن واقع هو أفضح منكر فعلوه ، كالنهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً). إذ كانوا كذلك يفعلون ، ف : لا تكونوا أوّل كافر بمحمد والقرآن ، وبأنّ وصفه وكتابه في كتبكم مذكورة!.

فيا لهذا الكفر الاوّل من ضلال ذاتي وإضلال للآخرين ، فإنهم

٣٦٢

يستدلون بكفر الاوّلين فلا يؤمنون ، أن لو كان خيرا فليكونوا هم أوّل المؤمنين إذ كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم! وأهل البيت أدرى بما في البيت.

فقد منعوا هنا أن يكونوا قدوة في الكفر ، فحجة للنفوس الضعيفة ، رغم ما عليهم أن يكونوا أوّل المؤمنين ، فقدوة للآخرين.

ثم الاوّلية المنهية هنا تعم الزمنية والرتبية ، وقد جمعوا بينهما ، فكانوا أوّل كافر به منذ أوّل المواجهة من العهد المدني ، قبل أن يكفر به غيرهم من مشركين وكتابيين هناك ، وكانوا كذلك أوّل كافر به في ألدّه وأشده ، مهما كانت الاوّلية الزمية في العهد المكي للمشركين حيث لم يكن هناك كتابيون ، فهم أولاء كانوا الاوّلين والآخرين في الكفر المكي ، وبنو إسرائيل هم الاوّلون زمنا في العهد المدني ، ورتبة في المكي ايضا وفي كل العهود ، حيث لم يعهد كفر أكفر من كفرهم وحتى الآن!.

ف (أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) عليه وزره ووزر من كفر به إلى يوم القيامة ولا ينقص أولئك من أوزارهم ، كما أن اوّل من آمن به له أجره وأجر من آمن به إلى يوم القيامة ولا ينقص أولئك من أجورهم ، وكما ثبت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ولا ينقص أولئك من أجورهم شيء ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيء».

... (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (٤)

.. إنها آيات بيّنات في كتابات الرسل الإسرائيلين تحمل بشارات

٣٦٣

بالقرآن ونبيّه ، اشتروا بها ثمنا قليلا أن حرفوها بزيادة أو نقصان او تحوير وتغيير ، في التوراة والإنجيل وما بينهما من كتاب ، كيلا يبقى أثر من محمد وقرآنه فيها ، مغبة ثمن قليل وكلّ ثمن بجنب آيات الله قليل! : من أثمان مادية يأخذونها من الأثرياء المستغلين ، ومن معنوية يكتسبونها : بقاء ومزيدا على مناصبهم الروحية الإسرائيلية ، ومكانة عند الفراعنة والقياصرة ، هؤلاء الذين يرون شريعة القرآن خطرا على كيانهم ، ومكانتهم فيما بينهم من الربانيين والأحبار ـ أم ماذا!.

فهذه الأثمان كلها قليلة وجاه آيات الله ، دون أن يعني «قليلا» هنا مقابل الكثرة ، إذ لا كثرة في ايّ الأثمان في هذه التجارة البائرة الخاسرة ، حيث تبوء خواء في الدنيا والآخرة!

هنا المثمن المباع هي آيات الله ، والثمن ما يكسبونه بتحريف آيات الله ، والثمن لا يشترى وإنما المثمن هو المباع والمشترى ، فما هو التوجيه لكون الثمن هنا هو المشترى؟.

علّه أن الثمن هو المرغوب فيه دائما مهما كان نقدا أم سواه ، فالذي يقدم ببيع ما عنده بما ليس عنده ، ليس الّا لرغبته فيما ليس عنده ، مهما كان ما عنده مرغوبا فيه أو مرغوبا عنه.

فهؤلاء المحرفون آيات البشارات كانوا راغبين عنها إذ يرون فيها انقضاء النبوة الإسرائيلية ، وهم يزعمونهم : شعب الله المختار! فإذ يجدون ثمنا عما لا يحبون فهم إلى هذه التجارة يجنحون ، فاشتراء ثمن ببيع آيات الله يوحي بأنهم عنها إليه راغبون.

فليس الثمن والمثمن إلّا بمقياس الرغبة ، حيث المرغوب فيه ثمن والمرغوب عنه او المفضل عليه مثمن ، ففي تبادل سلعتين تعتبر كل واحدة

٣٦٤

ثمنا ومثمنا باعتبارين ، دون فرق بين المتاع والنقد ، فقد يكون النقد ايضا مثمنا كما يكون ثمنا.

وهنا ـ إذ كانت الرغبة ـ كل الرغبة ـ فيما يعتاضون به آيات الله المرغوب عنها ، أصبح العوض ثمنا يشترى والآيات مثمنا يشرى.

ولأن ما رغبوا فيه قليل بجنب آيات الله ـ ايّا كان ـ فالنهي يستأصل هذه التجارة بكل أثمانها أنها قليلة!.

وقد يكون المثمن مرغوبا عنه ولا يكون الثمن مرغوبا فيه ولكنه أفضل من الثمن عنده ، فهنا يشرى المثمن ولا يشتري الثمن وكما في يوسف عند إخوته : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (١٢ : ٢٠) دون واشتروا به ثمنا بخسا.

إنهم اشتروا بآيات البشارة ـ وهي عهد الله ـ ثمنا قليلا : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) (١٦ : ٩٥) خشية من الناس وتقاة : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) ـ (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٥ : ٤٤) خلافا للميثاق الذي أخذ عليهم (.. فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) (٣ : ١٨٧).

تجارة خاسرة إسرائيلية أن اشتروا بآيات البشارات ثمنا قليلا ، رهبة من السلطات الزمنية ، خشية من الناس وتقاة وحفاظا على كياناتهم أحبارا ورهبانا ، واستدرارا لما يدرّ عليهم من أموال (١) فاشتروا هذه الأثمان

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٣ مجمع البيان : روي عن أبي جعفر (عليه السلام) في هذه الآية قال : كان حي بن اخطب وكعب بن الأشرف وآخرون من اليهود لهم مأكلة على اليهود في كل سنة فكرهوا بطلانها بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فحرفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته وذكره ، فذلك الثمن الذي أريد في الآية.

٣٦٥

القليلة بعهد الله وميثاقه الذي واثقهم به والنبيين.

فآيات البشارات كانت تباع حفاظا على السلطات الإسرائيلية ، وآيات العقوبات على الأغنياء والكبراء تباع حتى يأخذوا هم رواتبهم ولا تقع العقوبات على الأغنياء ، وآيات الجزاء على الظلامات والفرعنات تباع حتى لا تمس من كرامة الفراعنة والقياصرة .. وهكذا كانت شنشنة الإسرائيليين القديمة وحتى الآن ، وإنهم كما يصرحون يرون : «ان الغاية تبرر الوسيلة» فيبرّرون التحريفات بغية الغايات.

(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤٢) :

نهيان في استفهام انكار وتنديد : عن لبس الحق بالباطل ، وعن كتمان الحق : (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٣ : ٧١) فالحق المكتوم بغير لباس او لبس الباطل لا يلبس بالباطل ، وانما هو الحق الظاهر غير المكتوم يلبس بالباطل (١).

فكما ان لبس الحق الظاهر بالباطل محرم ، كذلك كتمان الحق ، فلا بد للحق ان يظهر بصورته وصيغته حتى يتبعه أهلوه ، وللباطل ان يظهر كذلك حتى يجتنبه مخالفوه ، فلا تخلطوا الحق بالباطل فتعمى مسائله وتشكل معارفه.

وهم في هذا المجال من التحريف والتجديف كانوا ولا يزالون يزاولون كتمان الحق إن استطاعوا او تلبيسه بالباطل وتخليطه إذا ظهر ، فقد حذفوا بشارات عن كتابات النبيين ، وكتموا أخرى عن بسطائهم ، أو حرفوها

__________________

(١) ف «وتكنموا الحق» هنا مجزوم بالعطف على «لا تلبسوا ..» فتكرر لاء النهي والمعنى : ولا تكتموا الحق ، لا ان تكون الواو حالية وتكتموا منصوبا ب «ان» المقدرة ، حيث الحق المكتوم لا يلبس بالباطل الا بعد ظهوره او إظهاره.

٣٦٦

بتلبيسها بالباطل ، فيما كانت ظاهرة ، أم علّها إذا ظهرت لا تدل على ما تدل ، والقرآن يفضحهم في مواضيع شتى نتحدث عنها في طياتها.

و «لا تلبسوا» قد تكون من اللبس : التغطئة والتعمية خلاف الإيضاح ، او من اللّبس الستر ، الذي هو ايضا من اللّبس ، فقد كانوا يلبسون الحق بالباطل : (لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) (٦ : ١٣٧).

تغطية للبشائر الواضحة بما يعمي عليها من باطل التحوير والتغيير ، او ما يسترها عن الدلالة بتأويل : تغيير اللفظ او تأويل المعنى ، وهما باطلان يلبس بهما الحق ، ولكنما الحق وهو : الثابت عند الفحص ـ له دولة ، طالما الباطل ـ وهو الزائل عند الفحص ـ له جولة.

تعال معنا الى بشارات العهدين : عتيق التوراة وجديد الإنجيل ، ترى عجبا من ذلك اللّبس واللّبس والكتمان الشامل ، تجد تجديفاتهم وتحريفاتهم ، بعد الفحص عن الآيات التي تحمل بشارات ، وقد أفردنا بحثا عنها في : «رسول الإسلام في الكتب السماوية» وفي التالي عرض لبعض نماذجها :

عمدوا الى «محمد» في التوراة فحرفوه الى غير محمد كما في : (هوشع ٩ : ٥ ـ ٩) من قوله تعالى حسب النص العبراني :

كي هنّيه هالخو ميشود ميصرييم تقبصم موف تقبرم «محمّد» لكسفام قيموش ييراشم حوح باهاليهم (٦) بائوا يمّي هفقوداه بائوا يمّي هشّلوم يدعو ييسرائل إويل هنابئ مشوكاع إيش هاروح عل رب عونحا وربّاه مسطماه (٧).

ها إنهم يرتحلون لأجل الخراب ، فمصر تجمعهم وموف تدفنهم

٣٦٧

و «محمد» لفضتهم والقرّاص يرثهم والعوسج يستولي على أخبيتهم ٦ تأتي أيام التمييز. تأتي أيام الجزاء سيعلم إسرائيل ان النبي السفيه ورجل الروح مجنون لكثرة اثمك وشدة الحنق

ف «محمد لفضتهم» تصريحة بينة باسمة المبارك وانه سوف يأخذ من فضتهم : أموالهم ـ جزية ، وان إسرائيل سيعلم ان هذا النبي ـ لكثرة اثمك وشدة الحنق ـ سوف يسفّه ويجنّن وهو رجل الروح القدسي الرسالي ...

ولكنهم حنقا عليه وحمقا منهم وإثما به دخلوا في مربع من التحريف : «والقراص يرث فضتهم الشهية» ـ ٢ «يرث القريص نفائس فضتهم» ـ ٣ «الأمكنة المرغوبة لفضتهم» ٤ «بيت الأمل لفضتهم»! ترجمة للإسم العلم : «محمد» بوصف : الشهية ـ نفائس ـ الأمكنة المرغوبة ـ بيت الأمل ترجمات متضادة مع بعض ، مضادة للأصل معنويا وأدبيا.

فالأصل العبراني يقول : «موف تقبرم ـ موف تقبرهم ـ محمّد لكسفام ـ محمّد لفضتهم ـ قيموش ييراشم ـ القريص يرثهم! ـ حوح باهاليهم ـ يكون العوسج في منازلهم»!

وهذه الترجمات الأربع حذفت حروفا أو أضافت أخرى ، وقدمت كلمات وأخرت أخرى ، حتى لبست حق البشارة بباطل لا يمتّ بصلة لبشارة.

فالترجمة الثانية جعلت «محمد» المفرد ـ جمعا «محمديم» مضافا ـ بحذف اللّام ـ إلى كسفام : «محمد يم كسفام» : نفائس فضتهم ، والأصل «محمد لكسفام» وأسقطت ميم الجمع عن «ييراشيم» فأصبحت الجملة : «قيموش ييراش محمد يم كسفام» فترجمت ب : يرث القريص نفائس فضتهم ، وهم في عجالة التحريف نسوا أن يضيفوا ياء الجمع إلى محمد ويحذفوا اللام من

٣٦٨

«لكسفام» وميم الجمع من «ييراشم» فأصبحت الترجمة غلطة على غلطات!

وكذلك بقية الترجمات المفصلة بأخطائها في كتابنا : «رسول الإسلام في الكتب السماوية».

فإذ قد نرى أنهم يعمدون إلى «محمد الرسول» في هذا النص ليحيدوه إلى غيره ، فما ذا ـ إذا بالنسبة لما لا يحمل اسمه الخاص!.

فويلهم إذ يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون حقه من باطله!

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ٤٣)

هل أمروا هؤلاء بالصلاة والزكاة حسب شريعة التوراة؟ وقد أمروا قبله أن يؤمنوا بشريعة القرآن ولها صلاة وزكاة غير مالها!

أم أمروا بهما حسب الإسلام وهم بعد لم يسلموا فلا يمكن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة إسلاميا قبل الإسلام ، ولو أتي بهما كأعمال وأقوال فأين إذا ركن النية المنوطة بقصد القربة؟.

في الحق إن الآية مما تدل على تكليف الكفار بالفروع كما هم مكلفون بالأصول ، فيعذبون بتركها كترك الأصول ويسألون : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ، قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ .. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) (٧٤ : ٤٧) ، حيث يردف ترك الصلاة والزكاة ـ قدما ـ على الخوض والتكذيب!

وأما أنهم لا يستطيعون الإتيان بهكذا فروع مشروطة بنية القربة والإسلام وهي مستحيلة قبل الإسلام؟ فهذا امتناع بالاختيار ولا ينافي الإختيار ، حيث أمروا قبله بالإسلام ثم بفروعه ، فإن أسلموا أمكن لهم الإتيان بهكذا فروع ، وإن لم يسلموا تركوا الواجبين بما اختار والكفر!

٣٦٩

فالصلاة الصلاة ، الزكاة الزكاة ايها المسلمون ، النصارى واليهود ، ايها الإنسان أيا كان : «لأن الصلاة الإقرار بالربوبية ، وهو صلاح عام ، لان فيه خلع الأنداد والقيام بين يدي الجبار بالذل والاستكانة. والخضوع والاعتراف وطلب الإقالة من سالف الزمان ، ووضع الجبهة على الأرض كل يوم وليلة ، ويكون العبد ذاكرا لله تعالى غير ناس ، ويكون خاشعا وجلا متذللا طالبا راغبا في الزيادة للدين والدنيا ، مع ما فيه من الانزجار عن الفساد ، وصار ذلك عليه في كل يوم وليلة ، لئلا ينسى العبد مدبره وخالقه فيبطر ويطغى ، وليكون في ذكر خالقه والقيام بين يدي ربه زجرا له عن المعاصي ، وحاجزا ومانعا عن أنواع الفساد»(١).

فليس الله في عز ربوبيته بحاجة الى ذل عبوديتنا ، إلّا ما يرجع إلينا من مصالح عقيدية ـ أخلاقية ـ فردية وجماعية ، من اقام الصلاة ، لولاها علها لم تجب! او إذا وجبت فلقوام القيم النفسية امّا هيه.

و «علة الزكاة من أجل قوت الفقراء وتحصين اموال الأغنياء ، لأن الله عز وجل كلف اهل الصحة القيام بشأن اهل الزمانة والبلوى كما قال الله : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) في أموالكم إخراج الزكاة وفي أنفسكم توطين النفس على الصبر مع ما في ذلك من أداء شكر نعم الله عز وجل ، والطمع في الزيادة ، مع ما في ذلك من الزيادة والرأفة والرحمة لأهل الضعف ، والعطف على اهل المسكنة ، والحث لهم على المواساة وتقوية الفقراء ، والمعرفة لهم على امر الدين ، وهو عظة لأهل الغنى وعبرة لهم ليستدلوا على فقراء الآخرة بهم ، وما لهم من الحث في ذلك على الشكر لله عز وجل

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٤ عن عيون الاخبار في العلل التي ذكرها الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) فان قال : فلم أمروا بالصلاة؟ قيل : لأن ....

٣٧٠

لما خوّلهم وأعطاهم ، والدعاء والتضرع والخوف من ان يصيروا مثلهم في امور كثيرة ، في أداء الزكاة والصدقات وصلة الأرحام واصطناع المعروف» (١).

وهل الصلاة فرادى أم وفي فرض ثان جماعات؟ فرضا على فرض؟.

(وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) توحي بفرض ثان ، فالركوع لوحدك فرض ، وركوعك مع الراكعين فرض على فرض ، فالركوع هنا يعني الصلاة ، والمعية تعني جماعة الصلاة ، معية الزمان والمكان والكيان والأركان ، لا فحسب معية في أصل الإتيان بها ، فانها حاصله بأصل الصلاة وقد امر بها قبل آن! (٢).

ولماذا عبر عن الصلاة هنا بالركوع دون السجود وهو أفضل؟ علّه لأنه أوّل ما يشاهد من حالة الصلاة ولا سيما في الجماعات ، ولذلك تسمى الركعة ركعة دون «سجدة»! وأن السجود يعم الصلاة وغيرها كعبادة مطلقة ، والركوع هيئة خاصة بالصلاة ، لذلك ترى هذه المعية في الركوع فقط دون السجود حتى فيما يذكران معا : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٣ : ٤٣) دون «واسجدي مع الساجدين» حيث هو أعم من الصلاة وسواها ، طالما يذكران على سواء فيما لا تعنى جماعة

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٤ عن من لا يحضره الفقيه وكتب الرضا علي بن موسى (عليه السلام) الى محمد بن سنان فيما كتب اليه من جواب مسائله ان علة الزكاة من اجل ...

(٢) ملحقات الاحقاق ج ١٤ : ٢٧٦ اخرج العلامة اخطب خوارزم في المناقب ص ١٨٩ ط تبريز قال ـ سند متصل الى ابن عباس ـ في قوله تعالى : «وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» نزلت في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام) خاصة وهو اوّل من صلى وركع ثم ذكر عدة طرق اخرى عنه مثله.

٣٧١

الصلاة : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (٢ : ١٢٥) (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) (٤٨ : ٢٩) ولأن السجود أفضل من الركوع تراه مقدما عليه حتى في ركوع جماعة الصلاة : (.. وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٣ : ٤٣).

ثم ولم يختص الركوع بين أركان الصلاة بذكره إلّا في هذه الآية تدليلا على عنايتها بالجماعة دون ذكر ركن أو أركان ، والركوع هو الخاص بالصلاة من بين أركانها ، فتكبيرة الإحرام تعم هذه الصلاة وما لا ركوع فيها ولا سجود كصلاة الأموات ، والحمد وسورة بعدها تقرئان في كافة المجالات ، وأذكار الركوع والسجود ، وحالة التشهد والسلام ، وسبحانيات الأخريين ، لا تخص شيء منها بالصلاة ، اللهم إلّا الركوع وهو أبرز حالة ولا سيما في الجماعات!.

وهذه الآية مما تدل على وجوب الجماعة في الصلاة ، وسوف نوافيكم بإشباع البحث في آية صلاة الخوف إن شاء الله تعالى.

وبما أنهم أمروا بالصلاة بعد الإيمان ، يعرف أن الصلاة هي أوّل ظاهرة من مظاهر الإيمان العبادة ، فهي قمة العبادات وعمود الدين.

ثم أمروا بالزكاة بعد الصلاة تدليلا على أنها أفضل وأوجب العبادات المالية الجماعية ، ثم (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) ايحاء أن الصلاة التي هي صلة فردية بالله ، يجب أن يؤتى في جماعات المصلين ، فأصبح هذا الدين جماعيا في كافة الجهات وحتى في الصلاة.

وعلّ المعية هنا فيما عنت ، انضمام بني إسرائيل إلى صفوف المصلين المسلمين ، دون استقلال لهم في صلاتهم إن أسلموا ، استغلالا لقوميتهم ، حيث الإسلام ينسي ما كان ، ويتبنى الحياة جديدة نظيفة عن كافة الأدران ، إضافة إلى ما يتعلمون من فرائض الصلاة حين يركعون مع الراكعين.

٣٧٢

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٤٤).

استفهام إنكار بتقريع حار ، يوجه إلى بني إسرائيل عجالة في هذه المواجهة المندّدة ، وإلى كل من يفعل كما يفعلون : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) وهو كل خير من قال او فعال او حال (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) نسيان تجاهل أم جهلا عن تناس (تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) في تطبيق البر الذي به تأمرون ، ولا سيما وأنتم في تركه تجاهرون حال (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أفَلا تَعْقِلُونَ) عقلا لموازين البر والأمر به عن الكتاب ، وعقلا في الدعوة إلى داعية الكتاب.

فقد ينهى الإنسان عما هو فاعله ، أم يأمر بما هو تاركه غافلا قاصرا وفي جهل مركب قاهر فهو معذور ، أم علما بفرضه فعلا أو تركا ولكنه معذور يبين عذره او يبيّن فهو معذور ، وأما أن ينسى نفسه فيما ينهى او يأمر عارفا عاقلا عن الكتاب وفي أمره ، متعمدا في تناسي الهزء واللّامبالاة ، فذلك قطعا غير معذور ، فإنه خلاف عامد للكتاب وعقل الكتاب وعقل الأمر ، كيف (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟

فهنا الآية لا تندد ـ فقط ـ بترك البر ، بل ويثقل النهى عن الأمر به وأنت تاركه (١) فهو الذي ياتي بويلات عقائدية وأخلاقية وعملية فيمن يؤمرون.

إن معترف العصيان في هذا الميدان يخيّل إليه نفي العصيان ، وإلا فكيف ينهى عالم الكتاب ويأمر وهو نفسه في نسيان! أم هو العالم يلعب بأمر الكتاب ـ إذا ـ فلا أصل للكتاب الذي يلعب به حملته! فهنالك

__________________

(١) المصدر عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال : انما يأمر بالمعروف وينهى عن

٣٧٣

شروط عدة لمن يأمر او ينهى (١) وليس بذلك الفوضى!

فمن الشروط المتأصلة في جواز الأمر والنهي ـ الواجبين بشروطهما ـ أن لا ينسى الآمر الناهي نفسه فيما يأمر او ينهى ، وهناك لأقل تقدير آيات ثلاث تدلنا بوضوح على هذا الشرط الأصيل ، هذه أولاها ، ثم ما ينقل عن العبد الصالح شعيب (عليه السلام) : (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى

__________________

المنكر من كانت فيه ثلاث خصال : عامل بما يأمر به تارك لما ينهى عنه عادل فيما يأمر عادل فيما ينهى رفيق فيما يأمر رفيق فيما ينهى (١١ : ٤٠٣ ح ١٠ الوسائل).

(١) في اصول الكافي عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قلت له عن الدعاء الى الله والجهاد في سبيل الله اهو لقوم لا يحل الا لهم ولا يقوم به إلّا من كان منهم ، او هو مباح لكل من وحّد الله عز وجل وآمن برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن كان كذا فله ان يدعو الى الله عز وجل والى طاعته وله ان يجاهد في سبيله؟ فقال : ذلك لقوم لا يحل الا لهم. ، ولا يقوم بذلك الّا من كان منهم ، قلت من أولئك؟ قال : من قام بشرائط الله تعالى في القتال والجهاد على المجاهدين فهو مأذون له في الدعاء الى الله تعالى ومن لم يكن قائما بشرائط الله تعالى في القتال والجهاد على المجاهدين فليس بمأذون له في الجهاد ولا الدعاء الى الله حتى يحكم في نفسه بما أخذ الله عليه من شرائط الجهاد ـ الى ان قال ـ ومن كان على خلاف ذلك فهو ظالم وليس من المظلومين وليس بمأذون له في القتال ولا بالنهي عن المنكر والأمر بالمعروف لأنه ليس أهلا من ذلك ولا مأذونا في الدعاء الى الله ـ الى ان قال ـ ولا يأمر بالمعروف من قد أمر أن يؤمر به ولا ينهى عن المنكر من قد أمر ان ينهى عنه ، ثم قال (عليه السلام) ثم ذكر من اذن له في الدعاء اليه بعده وبعد رسوله في كتابه فقال : ولتكن منكم امة ـ الآية ـ ثم اخبر عن هذه الآمة ومن هي وانها من ذرية ابراهيم وإسماعيل من سكان الحرم ممن لم يعبدوا غير الله قط ، الذين وجبت لهم الدعوة دعوة ابراهيم وإسماعيل من اهل المسجد الذين اخبر عنهم في كتابه انه إذ هب عنهم الرجس وطهرهم تطيرا ـ الحديث ـ

٣٧٤

بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (١١ : ٨٨) حيث تعد مخالفته إلى ما ينهى عنه في عداد الإفساد وكما الأولى تعده خلاف العقل.

والتعدية هنا ب «الى» مضمّنة نفي الميل الى ما ينهى ، لا ـ فقط ـ نفيا لاقترافه ، بل واقترابه والميل إليه!

فلا يحق او يجوز لناه ينهى عن خطيئة إلا بعد ما هو ناه نفسه قبله حتى عن الميل إليه ، فضلا عن اقترافه أو اقترابه ، فان ثالوث الميل قلبيا والاقتراب أو الاقتراف عمليا هو من الإفساد ، وكيف لي بذلك النهي وانا رسول؟ ف (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) ما بقيت لي نفس أو نفس!

ثم وثالثه تثقل على آمره وناهيه المقت الكبير : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (٦١ : ٣) (١)

فصحيح ان فاعل المعروف غير الآمر به ، وتارك المنكر غير الناهي عنه مع توفر شروط الأمر والنهي ، انه ممقوت عند الله ، وكذلك الذي ـ فقط ـ يترك المعروف ويفعل المنكر ، ولكنما المقت الكبير والإفساد الكبير وخلاف العقل إنما هو على من يجمع بين الأمر قوليا وتركه عمليا ، فإنه بذلك يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف بذلك الجمع المفسد المزري الضاري.

__________________

(١) راجع الفرقان (٢٨ : ٢٩٨ ـ ٣٠١) تجد تفصيلا لتفسير آية المقت.

٣٧٥

فهنا الآيات ، وعلى ضوءها الروايات تأتي بحملة قارصة كبيرة على هؤلاء المفسدين اللاعبين بالدين ، الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ، او يخالفون الناس الى ما ينهونهم عنه ، ويقولون ما لا يفعلون ، ف «لا يأمر بالمعروف من قد أمر أن يؤمر به ولا ينهى عن المنكر من قد أمر أن ينهى عنه» (١) حيث القصد من الأمر والنهي هو الإصلاح العقلاني للمجتمع ، خلقا لجوّ الصلاح والطمانينة ليعيشوا على رغد أمن وراحة ، إضافة إلى ما فيه من نبعة فياضة للخير من الآمرين والناهين ، فكل إناء إنما يرشح بما فيه ، والمسلم المليء من الخير يرشح به بعمله ولسانه ، والنزيه عن الشرير يرشح كذلك نهيا عنه ، واجبان : ذاتي يتبنّى إصلاح الفرد ، وجماعي يتبنىّ إصلاح المجتمع ، ابتداء من الذاتي وانتهاء إلى الجماعي.

نرى خطباء من أمة الإسلام يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم على حدّ ما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «تقرض شفاههم بمقاريض من نار» (٢) «يجاء بأحدهم يوم القيامة فيلقى في النار فتذلق به أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار» (٣)

__________________

(١) هذا من الحديث المفصل الماضي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قلت له عن الدعاء إلى الجهاد ..

(٢) الدر المنثور ١ : ٦٤ ـ أخرجه جماعة عن انس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت رجعت فقلت لجبريل من هؤلاء؟ قال : خطباء من أمتك كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون.

(٣) الدر المنثور ١ : ٦٤ ـ أخرجه احمد والبخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : يجاء برجل يوم القيامة فيلقى في النار ... فيقولون : يا فلان! ما لك ما أصابك؟ الم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه.

٣٧٦

ف مثل العالم الذي يعلّم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه (١) ولمّا يقال لأحدهم : يا ويله بم لقيت هذا إنما اهتدينا بك؟ قال : كنت أخالفكم الى ما أنهاكم عنه (٢).

فليكفّ الذي لا يعمل عن أن يأمر ، أو ليعمل ثم يأمر وكما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «من دعا الناس الى قول او عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكف او يعمل ما قال ودعا إليه ..» (٣) فكفه عن الأمر بما ترك يكف عنه سخط الله ـ مهما كان هو تاركا كسائر التاركين ـ كما أن عمله بما قال يكف عنه سخط الله ، حيث المعني من السخط في هذا المجال هو المقت الكبير ، فلو ترك الأمر بشيء وهو تاركه ، كف عنه المقت الكبير ، مهما بقي عليه مقت صغير.

ف «من لم ينسلخ من هواجسه ، ولم يتخلص من آفات نفسه وشهواتها ، ولم يهزم الشيطان ، ولم يدخل في كنف الله تعالى وتوحيده وأمان عصمته ، لا يصلح له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة فكلما أظهر أمرا يكون حجة عليه ، ولا ينتفع الناس به .. ويقال له يا خائن! أتطالب خلقي بما خنت به نفسك وأرخيت عنه

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٦٥ ـ أخرجه الطبراني والخطيب في الاقتضاء والاصبهاني في الترغيب بسند جيد عن جندب بن عبد الله قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٢) المصدر عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : اطلع قوم من اهل الجنة على قوم من اهل النار فقالوا : بم دخلتم النار وانما دخلنا الجنة بتعليمكم؟ قالوا : انا كنا نأمركم ولا نفعل.

(٣) الدر المنثور ١ : ٦٥ ـ أخرجه الطبراني عن أبي عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

٣٧٧

عنانك؟!» (١).

أجل وانه «كالذابح نفسه» (٢) كما يذبح غيره ، مهما كان يهديه إن لم يعرف نفاقه! فهو من «أعظم الناس حسرة يوم القيامة» (٣) «وأشدهم عذابا» (٤).

ومن أجهل وأمقت وأفسد وأضلّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما تترك المعروف جهارا ، او تفعل المنكر جهارا ، ثم تأمر بما تترك وتنهى عما تفعل ، ولماذا؟!.

ألأنك تحب الله فتطالب حق الله من خلقه ، فلما ذا تخونه أنت مجاهرا مستهترا حرمات الله أمام خلقه ، خلافا للعقل الذي يرشدك إلى خلافه ، فإما عملا بما تأمر ، او تركا للأمر ، فلما ذا تأمر بما تجاهر في تركه ، أو تنهي عما تجاهر في فعله؟.

او إصلاحا للناس؟ وليس إلّا إفسادا لهم وتشجيعا للناس في الجهار بترك شريعة الناس.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٥ عن مصباح الشريعة عن الامام الصادق (عليه السلام).

(٢) تفسير البرهان ١ : ٩٣ ـ العياشي عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قلت له قوله : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) ، قال : فوضع يده على حلقه ، قال : كالذابح نفسه.

(٣) نور الثقلين ١ : ٧٥ ـ عن اصول الكافي باسناده الى خيثمة قال قال لي ابو جعفر (عليه السلام) ابلغ شيعتنا ان أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثم خالفه الى غيره.

(٤) نور الثقلين ١ : ٧٥ عن اصول الكافي باسناده الى قتيبة الأعشى عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من وصف عدلا وعمل بغيره.

٣٧٨

فما لم تامر أنت التارك ، او لم تنه أنت الفاعل ، فالناس أمثالك يظلون كما هم ، أما إذا تخالفهم الى ما تنهاهم عنه أو تأمرهم به ، فأنت أنت تفسدهم أكثر مما كانوا ، وتفسد نفسك أكثر مما كنت!.

أما نفسك فإنها حجة ظاهرة عليك : لم تقول ما لا تعمل وأنت تعلم؟.

وأما هم ، فقد يزدادهم جرأة في هتكهم حرمات الله ، ووهنهم في عقيدة الايمان ، إن كانت ، او فسقا على فسق ، إذ يرون أنك مستهزء بشريعة الله ، وإلّا فما ذا يدفعك للأمر بما أنت تاركه ، أو النهي عما أنت فاعله؟. فهو ـ إذا ـ يستجر اللعنة والنكبة إلى الآمر الناهي ومن يأمرهم وينهاهم ـ ف «لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له والناهين عن المنكر العاملين به» (١) «فانهوا عن المنكر وتناهوا عنه فإنما أمرتم بالنهي بعد التناهي» (٢).

هذه المظاهر المنافقة ـ ولا سيما ممن يتظاهر بخلافها ـ إنها الآفة التي تصيب النفوس بالشك والريبة ، لا في الدعاة وحدهم ، بل وفي الدعوات ذواتها أيضا ، لا سيما إذا كانت الدعاة من رجال الدين ، حيث العرف الأكثري الساذج من الناس تعتبرهم تجسيدا للدين ، فنفاقهم في أقوالهم وأفعالهم يحسب نفاقا في الدين نفسه ، فهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم ، حيث يسمعون قولا جميلا ويرون معه فعلا أو تركا قبيحا ، فتمتلكهم الحيرة بين هذا وذاك ، فلا يعودون يثقون بالدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين.

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١١ ص ٤٢٠ ح ٩ محمد بن الحسين الرضي في نهج البلاغة عن علي (عليه السلام).

(٢) المصدر ح ٨ عنه (عليه السلام).

٣٧٩

فالكلمة الرنانة الطنانة البراقة ، الخاوية عن واقع معناها ، إنها تأخذ موقعها في مسامع السامعين ، ولكنها تصل هامدة إلى قلوبهم ، مجتثة بقية الإيمان لو كانت او تزيد في رينها وفسقها إن لم تكن.

في حين أن الكلمة التي تخرج من القلب ، المفسّرة بالعمل قبل الإفصاح بها ، إنها ترجمة حية عن جمال الواقع ، فتصل الى شغاف القلوب وضّاءة فعّالة ، مهما لم يكن لها طنين او بريق : (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) فالكلام إذا خرج من القلب دخل في القلب وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان.

وما أجمله جمعا بلاغة الكلام وفصاحته ، مع التفسير الحيّ له من صاحب الكلام في فعل او حال ، وأجمل منه الابتداء بالفعل ثم القول وكما يروى : «مروا الناس بالمعروف وانهوهم عن المنكر بغير ألسنتكم».

هنا القرآن يوجّه بني إسرائيل حين يواجههم ويوجّه الناس أجمعين الى ضرورة الموافقة بين القول والعمل وضراوة المنافقة بينهما ، بخطاب تنديد وتهديد : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ..) كما هناك يواجه المؤمنين بنفس النمط (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) وهنالك ينقل عن العبد الصالح شعيب (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) ومعها عشرات من الروايات ، التي تبرز شرط العمل كأبرز شرط للسماح بالأمر والنهي صلاحا ذاتيا وإصلاحا للمجتمع (١).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٦٥ ـ اخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان وابن عساكر عن ابن عباس انه جاءه رجل فقال : يا بن عباس! إني أريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر ، قال : او بلغت ذلك؟ قال : أرجو ، قال : فان لم تخش ان تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل ، قال : وما هن؟ قال : قوله عز وجل : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ، أحكمت هذه الآية؟ قال : لا ، قال : فالحرف الثاني؟ قال : ـ

٣٨٠