من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

موارد الخمس :

في اي شيء يفرض الخمس؟

ظاهر الآية ان الخمس مفروض على الغنائم ، وبالرغم من ان الكلمة تطلق اليوم على غنائهم دار الحرب بيد ان المعنى اللغوي لكلمة الغنيمة لا يختص بما يحصل عليه المحاربون في ساحة القتال. وفي عصر نزول القرآن لم تكن هذه الكلمة قد أصبحت خاصة بهذا المعنى بالذات لذلك قال الراغب : الغنم (بفتحتين ) معروف قال : «وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما» والغنم (بالضم فالسكون ) إصابته والظّفر به ، ثم استعمل في كل مظفور به من جهة الأعداء وغيرهم ، قال : «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ» «فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً» المغنم ما يغنم ، وجمعه مغانم قال : «فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ» (١).

من هنا وجب الخمس على كل ما يكتسبه ويغنمه الفرد ، وهو ضرورة دفاعية ، وبهذه المناسبة ذكر القرآن هذه الفريضة ضمن آيات القتال ، كما ذكر ربنا الإنفاق في سبيل الله والجهاد بالمال ضمن الحديث عن الحرب والجهاد بالنفس.

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)

وجوه صرف الخمس :

حينما ينسب (شَيْءٍ) الى الله فان معناه تحرره عن امتلاك الناس. اما امتلاك الرسول وذوي قرباه فلا يعني امتلاكهم للمال بصفتهم اشخاصا. بل لأنهم يمثلون

__________________

(١) تفسير الميزان ـ العلامة الطباطبائي / ج ١٠ / ٨٩

٦١

قيادة المجتمع ، اما اليتيم فهو الذي مات أبوه ولم يبلغ الحلم ، والمسكين المحتاج الذي أسكنه الفقر عن ضرورات حياته ، اما ابن السبيل فهو عابر السبيل الذي انقطعت به الطريق فلا بد من توفير ما يبلغه محله.

و جاء في الحديث المأثور عن العبد الصالح (ع ) انه قال :

(الخمس في خمسة أشياء : من الغنائم (يعني غنائم دار الحرب حسب المصطلح في ذلك العصر المتأخر ) والغوص ومن الكنوز ومن المعادن والملاحة يؤخذ من كل هذه الصنوف الخمسة فيجعل لمن جعل الله له ، ويقسم اربعة أخماس بين من قاتل عليه وولي ذلك.

و يقسم بينهم الخمس الخامس على ستة أسهم. سهم لله تعالى ، وسهم لرسوله (ص ) وسهم لذي القربي ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لأبناء السبل ، فسهم الله تعالى ورسوله لاولى الأمر من بعد رسول الله وراثه فله ثلاثة أسهم. سهمان وراثة ، وسهم مقسوم له من الله ، فله نصف الخمس كلّا ، ونصف الخمس الثاني يقسم بينهم على الكتاب والسنة ما يستغنون به في سنتهم. فان فضل منه شيء فهو للوالي ، وان عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي ان ينفق عنهم ما عنده ما يستغنون به ، وانما صار عليه ان يمونهم لان له ما فضل عنهم ، وانما جعل الله هذا الخمس خاصة لهم دون مساكين الناس وأبناء السبيل عوضا لهم عن صدقات الناس تنزيها من الله لقرابتهم من رسول الله ، وكرامة من الله لهم عن أوساخ الناس ، فجعل لهم خاصة من عنده وما ينقيهم به ان يعيدهم في موضع الذل والمسكنة ، ولا بأس بصدقة بعضهم على بعض.

جاء في كتاب الدر المنثور عن ابن المنذر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال سألت عليا (ع ) فقلت يا أمير المؤمنين اخبرني كيف صنع ابو بكر وعمر (رض ) في الخمس نصيبكم؟ فقال (ع ):

٦٢

(اما ابو بكر (رض ) فلم يكن في ولايته أخماس واما عمر (رض ) فلم يزل يدفعه اليّ في كل خمس السوس وجند نيسابور ، فقال وانا عنده : هذا نصيبكم أهل البيت من الخمس ، وقد أهل ببعض المسلمين واشتدت حاجتهم فقلت : نعم ، فوثب العباس بن عبد المطلب فقال : لا تعرض في الذي لنا ، فقلت : السنا من ارفق المسلمين وشفع أمير المؤمنين ، فقبضه ، فو الله ما قبضناه ولا قدرت عليه في ولاية عثمان (رض ) (٣).

(إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ)

اي ادفعوا الخمس ان كنتم آمنتم بالله وبرسالاته التي أنزلت على عبده ورسوله محمد (ص ) يوم تميز الطيب عن الخبيث بالحرب.

(يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ)

جمع الايمان وجمع الكفر.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

قادر لنصرة المؤمنين برسالته على أعدائهم. وحين تنتصر الرسالة فذلك يكون دليلا واضحا على صدق برامجها وصوابها ، وكل فكرة يجب ان تقاس بالعقل وبالمكاسب الواقعية التي تحققها.

القضاء والقدر

[٤٢] بالرغم من ان المؤمنين كانوا في مواقع أسوأ من موقع أعدائهم إذ كانوا

__________________

(٣) تفسير الميزان / ج ١٠ / ١٠٣ ـ ١٠٥

٦٣

أسفل الوادي بينما أعداؤهم في أعلاه.

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)

العدوة شفير الوادي ـ وللوادي شفيران ادنى وأقصى. بينما العير الذي كان يحمل تجارة قريش كان أسفل من الجمعين ، حيث كان على بعد ثلاثة أيام من ارض المعركة اي على شاطئ البحر الأحمر.

لقد كانت الحرب مفاجئة بالنسبة الى المسلمين في بدر ، حيث كان الهدف الاصلي للحملة فك الحصار الذي فرضه الكفار على المسلمين ، ولو ان المسلمين كانوا يعلمون أنّه بدل القافلة المحملة بأنواع السلع الضرورية لمجتمع محاصر سوف يلقون الف محارب مجّهز وهم زهاء ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا لم يكتمل تجهيزهم للمعركة. لو كانوا يعلمون ذلك إذا تخلفوا عن المعركة.

(وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ)

ولكن الله هو الذي قدّر الحرب لحكمة بالغة.

(وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً)

بين القضاء والقدر فرق هو ان القدر : هو ما يسنه الله للكون من انظمة ، بينما القضاء هو تنفيذ تلك السنن أو تدخل مباشر للغيب لتغيير مجرى الأقدار. وكانت هزيمة الكفار من قضاء الله في تلك الفترة ، بينما قدر الله كان يقضي بهذه الهزيمة بالتالي.

(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)

بعد الانتصار الساحق للامة على اعدائها في حرب بدر ، تحقق انتشار الرسالة

٦٤

يسبين:

الاول : ان الرسالة قد حققت صدق نبوءتها.

الثاني : ان عقبة الخوف والدعايات الباطلة والتسلط الجاهلي قد ارتفعت عن طريق الرسالة ، فالآن بإمكان الجميع ان يستجيب للرسالة من دون عقبة. فاذا آمن فانما آمن بعقله ، وإذا كفر فسوف يلقى حقه بعد وضوح الحجة عليه.

(وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)

تدبير الله :

[٤٣] وكان من تدبير ربنا الحكيم انه ارى رسوله (ص ) العدو قليلا تشجيعا على محاربته ، بينما قلل المسلمين في أعين العدو حتى استهانوا بقوة الايمان وسلامة البرامج العسكرية وحكمة القيادة الرشيدة التي يملكونها.

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ)

اي إذا ذهب ما عندكم من عزيمة وهمة عندئذ يشتدّ الخلاف بينكم شأنه شأن كل مجتمع يفقد اندفاعه نحو هدف مشترك ومقدس.

(وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ)

واعطى للمؤمنين السلامة والأمن.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)

انه محيط بما لا يزال في قلوب المؤمنين من عوامل الخوف والهلع.

[٤٤] وحتى في بداية المعركة ارى الله المسلمين جمع الكفار قليلا بالرغم من

٦٥

كثرتهم الظاهرية ، فاستعد المسلمون للنزال بقلوب شجاعة. اما العدو فقد أراه الله المسلمين قلة ، ولم يستعد للمواجهة الحاسمة أو لم يستعد خوفا بل استهانوا بهم ، كل ذلك لكي تتم المعركة بهزيمة العدو. فانتشار الرسالة.

(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً)

بالرغم من انهم زهاء الف.

(وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)

فهو الذي يقضي فيها بحكمة الرشيد بالرغم من السنن والأقدار الظاهرة إلّا ان هناك عوامل خفية بعضها نفسية وبعضها طبيعية تلعب دورا حاسما في اللحظات الهامة. مثلا في الحملة الامريكية على إيران بعد انتصار المؤمنين كانت هناك زوبعة رملية غير محتسبة في منطقة الحادث افشلت الحملة التي أعدت لها أكبر قوة عسكرية في العالم عدة أشهر ، وزعمت انها غالبة ارادة الله ـ حاشا لله ـ انه عامل طبيعي يتدخل بطريقة غير منتظرة فيغير مجرى تاريخ كامل. لان نهايات الأمور بيد الله مصير الأمور ومرجعها هي الارادة الأسمى لربنا الحكيم.

٦٦

سورة الأنفال

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ

____________________

٤٦ [تذهب ريحكم ] : تتلاشى قوتكم ودولتكم.

٤٧ [بطرا ] : البطر الخروج من موجب النعمة من شكرها وأصل البطر الشق.

٤٨ [تراءت ] : التقت.

[نكص على عقبيه ] : ولى مدبرا.

٦٧

سورة الأنفال

وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩)

٦٨

عوامل الانتصار

هدى من الآيات :

الله ينصر المؤمنين ولكن الله حكيم لا ينصر الا من وفر في نفسه عوامل الانتصار الظاهرية والخفية .. وفي هذا الدرس يوصينا الله ببعض تلك العوامل.

اولا : الثبات وعقد العزم على الاستقامة.

ثانيا : ذكر الله كثيرا.

ثالثا : الطاعة التامة لله وللقيادة الرسالية.

رابعا : تجنب الخلافات الجانبية ، لأنها تسبب فشل القلب وتوانيه وذهاب الهمة والتطلع عنه.

خامسا : الصبر وتحمل الصعاب لان الله مع الصابرين.

اما عوامل الهزيمة التي يذكرنا الله بها فهي :

٦٩

اولا : الخروج الى المعركة بطرا مغرورين بالنعم ، غير مفكرين بعواقب الأمور. وكذلك الخروج رياء.

ثانيا : ان يكون هدف المعركة خبيثا مثل الصد عن سبيل الله ، والتسلط على رقاب الناس ، غفلة عن ان الله محيط بهم.

ثالثا : الخداع الذاتي ، والزعم بان كل عمل يصدر منهم فهو صحيح.

رابعا : الغرور بالقوة التي لديهم.

خامسا : الاعتماد على الشيطان واهوائه.

وهكذا اعتمد الكفار على خداع الشيطان فانهزموا ، إذ ان الشيطان خدعهم وتركهم في ساحة الحرب يواجهون السيوف والحرب وحدهم وتبرأ منهم وقال : (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ).

وفرق بين الغرور وبين التوكل على الله. والمنافقون لا يعرفون هذا الفرق فيزعمون ان الاعتماد على الدين الصحيح وعلى الله ، كالاعتماد على الخرافات وأقوال الشيطان. كلا .. (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، بعزته يكسر شوكة الكفار ، وبحكمته ينصر المؤمنين عليهم.

بينات من الآيات :

شروط الانتصار :

[٤٥] أول شروط الانتصار ، هو عقد العزم على الاستقامة والثبات مهما كلف الأمر .. كما قال الامام علي (ع ) لابنه محمد ابن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل : «تزول الجبال ولا تزل. عضّ على ناجذك. أعر الله جمجمتك. تد في الأرض

٧٠

قدمك. ارم ببصرك أقصى القوم وغضّ بصرك ، واعلم ان النّصر من عند الله سبحانه» (١)

ولكن العزم على الثبات بحاجة الى تنمية الارادة وشحذ العزم وذلك عن طريق تحقيق الشرط الثاني للانتصار .. وهو ذكر الله ذكرا كثيرا. لان ذكر الله يوجه المرء الى أوامره الرشيدة ، والى وعده ووعيده بالثواب أو بالعقاب ، والى آلائه التي تشكر ، ورضوانه الذي يرجى وحبه الذي يتطلع المؤمن الى الشهادة من اجله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

الفلاح يأتي بالنتيجة بعد شرطي الثبات عند اللقاء ، وذكر الله كثيرا.

[٤٦] اما ثالث شروط النصر. فهو الطاعة لله بتنفيذ برامجه والطاعة للرسول وللقيادة الرسالية التي تحكم باسم الله من أجل تنفيذ أوامره اليومية.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ)

ومن ابرز فوائد الطاعة الوحدة ، ونبذ الخلافات ، ورد كل الخلافات الى حكم الله ورسوله.

(وَلا تَنازَعُوا)

ولكن لماذا يجب تجنّب النزاع؟

اولا : لأنه يضعف الارادة ويبعث الوهن في النفس.

__________________

(١) ـ نهج البلاغة ص ٥٥ خطبة ١١

٧١

ثانيا : لأنه يذهب بالكرامة والعزة والتطلع ، وبالتالي يدّمر كل فريق شخصية الفريق الثاني ، ومن تحطمت شخصيته وهانت نفسه عليه فانه لا يحارب عدوه ، ولا يرى نفسه كفؤا للصراع مع منافسيه.

(فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)

من هنا نعرف ان القيادة التي يعيش المجتمع تحت ضلالها الصراعات ليست بقيادة حقيقية كما عرفنا ان من عوامل النصر غير المنظورة هي إعطاء الثقة والكرامة للمحاربين ، وعدم الاستهانة بهم أبدا.

اما الشرط الآخر للنصر بعد الطاعة فهو الصبر ، وتحمل الصعاب بانتظار المستقبل المشرق.

(وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)

يؤيد ويسدّد خطاهم. وحيث يكون الصبر تكون الاستراتيجية الطويلة الأمد ، والاستمرار في تنفيذ الخطة ، وتحمل الجراح والجد والنشاط في العمل ، أملا في المستقبل ، وربما هذه المنافع وغيرها بعض ما يعنيه ان يكون الله مع الصابرين.

[٤٧] حين يكون هدف القتال مقدسا ، تخدم الطبيعة والصدفة المحاربين ويسدد الله خطاهم اما إذا فسدت نية المحارب فقاتل من أجل الفخر والرغبة في ذكر اسمه في الاندية ، أو حارب لأجل اعتقاده بأنه اسمى من غيره لما رزقه الله من نعم الحياة.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ)

حين يشعر الفرد بالاستغناء واكتمال حياته المادية ، يأخذه الغرور فيخرج من

٧٢

بيته لاستغلال الآخرين والتسلط عليهم وإثبات قوته وسطوته.

«وجاء في التفاسير عن ابن عباس : لما رأى أبو سفيان انه أحرز عيره أرسل الى قريش ان ارجعوا فقال ابو جهل : والله لا نرجع حتى نرد بدرا (وكانت بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام ) فنقيم بها ثلاثا وتفرق علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا ، فوافوها فسقوا كؤوس المنايا وناحت عليهم النوائح.

ان هذه الواقعة التاريخية واحدة من مصاديق الحرب التي تشعلها نزوة شخص واحد يريد ان يصبح من ورائها بطلا معروفا كما أراد هتلر ذلك ، وكما سعى وراءها صدام في العراق فمن أجل ان يصبح بطل القادسية الجديدة ، أشعل نار الحرب فكان هو ونظامه أول المحترقين فيها.

وهناك حرب قذرة اخرى تشعلها مجموعة منظمة تهدف إيقاف توسع الرسالة كالحرب الامبريالية ضد الثورات التحررية. وكما الحروب المنظمة التي قادتها الجاهلية ضد رسالة الإسلام.

(وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)

دوافع القتال عند الكفّار :

[٤٨] ثلاثة عوامل نفسية تدفع الكفار الى خوض غمار الحروب الطاحنة لهم :

الاول : بسبب سلبيات أعمالهم. فمع كل عمل سيء تنمو شاذة في النفس ، فالظلم البسيط يبسط ضبابا قاتما على القلب وكلما يكبر الظلم يتكثف الضباب فيصبح سحابا ، فسحابا داكنا فمتراكما فحجابا من الظلمات ، يرين على القلب ، وهكذا تتكرس عادة الظلم عند مرتكبه حتى يرى الظلم أصلا ثابتا من الحياة بينما

٧٣

العدالة شذوذا وجريمة. ان العنصريين والرأسماليين والشوفينيين يرون المتمردين والثوار عليهم ، يرونهم خارجين عن العرف والعقل والصواب ، ذلك لان تراكم سلبيات العمل السيء على قلبهم جعلت الأعمال حسنة في أعينهم.

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ)

الثاني : الغرور ، والاعتقاد بان قوتهم أكبر من القوى الاخرى ، وربما تنشأ هذه الحالة النفسية من الاعتقاد المضخم بالذات .. لذلك حكى ربنا سبحانه عنهم وقال :

(وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ)

الثالث : يخيّل الى قلب الكافر ان هناك بعض الناس يؤيدونهم وذلك بسبب بعض المواعيد الفارغة لذلك قال الشيطان :

(وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ)

ساعة المواجهة!

اما هذه الدوافع النفسية ما هي الا سراب سرعان ما تتكشف حقيقته.

(فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ)

في ساعة المواجهة الحقيقية يعرف الكفار أن أعمالهم خبيثة وباطلة ، وان كيدهم ضعيف ، وان أنصارهم المزعومين قد تبخروا وتلاشوا.

الشيطان تولى يوم المواجهة ، وتبرأ حتى من أقواله ومزاعمه السابقة ، وخشي من الله ، وخاف العاقبة السوء التي تنتظر فريقه.

٧٤

وإذا حدث هذا في بدر بصورة مجسدة كما جاء في حديث مأثور ، فان ذلك انما هو مثل ظاهر لواقع الكفار مع من يخدعهم من شياطين الجن والانس ، والنكوص على العقب هو العودة قهقرى.

وقد يكون الشيطان الغاوي أولئك الضعفاء المنهزمون نفسيا ، الذين يتزلفون الى قادة العدو للحصول على المكاسب ، وعادة ما يكون هؤلاء أشد تطرفا من غيرهم في طرح الشعارات والتهديدات ، ولكنهم أول المنهزمين الذين يبررون هزيمتهم بمعرفتهم بأمور لا يراها الآخرون.

[٤٩] في الجانب الاسلامي توجد أيضا عناصر ضعيفة مثل المنافقين الذين يرون مبادرة المؤمنين بالقتال نوعا من الغرور الذي يدفعهم اليه دينهم الجديد ، وايمانهم بفكرة الرسالة.

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ)

والمرض قد يكون النفاق وقد يكون الخوف والرهبة من العدو.

ونسي هؤلاء ان الكفار يفقدون قدرة التوكل على الله ومدى ما في التوكل من بعث الروح الرسالية المندفعة.

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

٧٥

سورة الأنفال

وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦)

٧٦

الكفار يصنعون جزاءهم بأيديهم

هدى من الآيات :

بعد ان أوضحت آيات الدرس السابق عوامل النصر والهزيمة ، تشجعنا آيات هذا الدرس على الحرب ضد الكفار .. دون لين أو هوادة ، لأنهم منبوذون عند الله بكفرهم ، وتعاملهم ملائكة العذاب بقوة ، يضربون وجوههم وادبارهم ، ويقولون لهم بشماتة ذوقوا عذاب الحريق .. فهل غضب الله عليهم عبثا؟ أم بسبب استحقاقهم للعذاب لما قدمت أيديهم وصنعته أفعالهم لان الله ليس بظلام للعبيد سبحانه؟ مثلا قوم فرعون والذين كفروا بآيات الله انما أخذهم الله بذنوبهم لكفرهم ، لأنه لا يمر الكفر بدون عقاب لان الله قوي شديد العقاب. وعموما ارادة البشر تصنع حياته ومستقبله ولا يغير الله نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم من طيب في القلب وصلاح في العمل ، فتفسد نياتهم وتسوء أفعالهم. هذا قوم فرعون انما أخذهم الله بذنوبهم وأغرقهم حين كذبوا بآيات الله وكانوا ظالمين. ان الله لا يحب الكفار ، ويعتبرهم شر الأحياء التي تدب وتتحرك فوق الأرض ، فالكفار هم الذين ينقضون

٧٧

عهدهم ، ولا يتقون ربهم لذلك يمقتهم الله ويأمر بقتالهم كما يأتي في الدرس القادم.

بينات من الآيات :

القيم فوق كل شيء :

[٥٠] المهم عند الله القيم التي يستهدفها المرء بعمله ، فهي دون لون البشر وأسلوب التحدث والطول والعرض. والغنى والفقر ، فهي المقياس لذلك فان الله لا يعبأ بالبشر الذين كفروا بآياته ، وانها ظاهرة غريبة! ان الله الذي أسبغ نعمه ظاهرة وباطنة على الإنسان ولكنه يعامل الكفار بهذه الطريقة.

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ)

وخلفهم وهم يقولون ازدراء بهم.

(وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ)

[٥١] فلما ذا يأخذ الله الكفار بهذه الشدة؟ يجيب ربنا ويقول :

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)

اليد ابرز عضو في جسد البشر. وحين يقول ربنا قدمت أيديكم يتبين ان ارادة البشر وأقرب أعضائه اليه يده التي صنعت هذا الواقع مقدما

ولو لم يكن ذلك لكان ينسب الى ربنا انه ظلام للعبيد ، كثير الظلم لهم بينما الصفة المعروفة لنا عن ربنا انه رحيم ودود بسبب مزيد نعمه التي لا تحصى. إذا فعملنا وليس شيء آخر هو سبب العذاب.

٧٨

(وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)

فهم عبيده فلما ذا يظلمهم؟ هل يتلذذ بظلمهم (حاشاه ) وهو الغني الحميد ، أم يخشى منهم سبحانه وهو القوي العزيز.

[٥٢] وكمثل ظاهر من واقع التاريخ هذا ، قوم فرعون هل ظلمهم الله أم أخذهم الواقع الفاسد الذي صنعته أيديهم؟

ان ذنوبهم التي أحاطت بهم فاخذهم الله بها اي جعلها تلتف حول أعناقهم.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ)

اي كالعادة التي جرت في آل فرعون.

(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ)

فلا يتهاون في معاقبة من يستحق العقاب ضعفا ماديا أو معنويا سبحانه.

[٥٣] ذلك فيما يتصل بسنة الله في الآخرة ، اما سنته الأظهر لنا فيما نراها من تطور المجتمعات فما دام الناس مستقيمين على القيم السماوية والعمل الصالح ، فان نعم الله تشملهم وبركاته تترى عليهم ، وإذا غيروا قيمهم وسلوكهم غير الله عادة الإحسان الى النكبة والدمار.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ)

حتى يغيروا ذلك العوامل الذي أنعم الله الحكيم بسببها تلك النعمة عليهم ، لقد أنعم الله على مجتمع ما نعمة الحرية بسبب توحيدهم ورفضهم للاستسلام اما ضغوط

٧٩

الجبت والطاغوت ، وأنعم عليهم الصحة بسبب استقامتهم على الفطرة الاولية التي خلقهم بها ، وأنعم عليهم بنعمة الراحة النفسية بسبب مكارم الأخلاق وسلامة السلوك والتربية.

(حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)

اي يبدلوا صفات الخير المتعلقة بأنفسهم الى صفات السوء.

(وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

يسمع ما في ظاهر المجتمعات ، ويعلم ما في صدورهم.

[٥٤] مثلا : سنة الله في آل فرعون كيف ان ربنا أنعم عليهم بالأمن والرفاه وجنات تجري من تحتها الأنهار ، حتى طغوا وبدلوا صفة وعلاقة التعاون بينهم الى علاقة الاستغلال ، وصفة النشاط في عمل الصالح الى صفة التواني أو المبادرة في عمل الفساد وهكذا فبدل الله نعمه وأرسل عليهم الطوفان فدمر مدنيتهم ، وأرسل عليهم القمل والدم والضفادع ، بدل الثمرات والأرزاق وأرسل عليهم رياح الثورة فاقتلعت جذورهم ورماهم ربهم في البحر.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ)

اي بحجج الله وبيناته ورسالاته البليغة التي وضحت لهم برنامج الحياة السعيدة.

(فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ)

ومن دون الظلم الذاتي وقيامهم بما يستوجب العقاب إذا لم يكن ربنا الودود يأخذهم بهذه العقوبة الشديدة ، يبدو من كلمة (كل ) ان جميع المغرقين كانوا ظالمين

٨٠