من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

يأكلون أموال الناس بالباطل ومجمل سلوكهم ليس في مصلحة المحرومين ، بل بالعكس تراهم يصدون عن سبيل الله ويكنزون الذهب والفضة ، ولا ينفقونها في سبيل الله.

فما هو جزاء من يكنز الذهب والفضة؟ انه عذاب اليم في يوم القيامة حيث يحمى عليها حتى تلتهب في نار جهنّم الحامية الشديدة التوقد ثم توضع على جباههم وجنوبهم وظهورهم حتى تكوى بها ، ويقال لهم : هذا عاقبة الأموال المكنوزة .. أصبحت ضررا عظيما عليكم ، بينما أردتم ان تصبح خيرا ، فذوقوا ما كنتم تكنزون.

بينات من الآيات :

المؤامرات على الرسالة :

[٣٢] الأحبار والرهبان وكل علماء السوء الذين اتخذوا الدين مطية لشهواتهم. ينصبون من أنفسهم حماة التقاليد الاصيلة والأفكار الرجعيّة ، ويقاومون كل حركة تقدمية ، وكل رسالة جديدة ، وهذه رسالة الله التي أنزلت على خاتم الأنبياء لتكون مبعث ضياء عظيم في العالم يقف حولها هؤلاء وينفخون عليها كأنهم يريدون إطفاءها بأفواههم الحقيرة ، فهل يقدرون؟

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ)

وحين يضيء الله نورا لا يستطيع البشر أن يوقف انتشاره ، لان الله القوي العزيز ينشره ويبلّغه آماده وأبعاده حتى يحقق أهدافه.

(وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)

أي يمنع الله كلّ عقبة تعترض طريق انتشار الرسالة حتى تتم الرسالة وتبلغ

١٦١

اهدافها.

ان هدف علماء السوء دائما هو إبقاء الناس في الضلالة وتجهيلهم ، وسلب ثقتهم بعقولهم حتى لا يفكروا ولا يعرفوا شيئا. ولكن الله الذي زود البشر بالعقل وبلور وأكمل العقول بالرسالة لا يسمح لإنسان أن يفقد بشرا قدرته على الفهم بل ينبهه ، ويوقظ عقله ، ويذكره بشتى الوسائل حتى يتم حجته عليه ، وآنئذ تكون له الحرية في أن يرفض الاستغلال ويتحدى التقليد الأعمى ولا يستسلم أو يخاف أو يرضى بالخنوع والذل.

ولعل الآية تشير الى هذه الحقيقة أيضا.

أهداف الرسالة :

[٣٣] الله الذي أرسل الرسالة على يد الرسول ، هو الذي يؤيد الرسالة في تحقيق الهدفين الاساسيين لها وهما :

ألف : توفير فرصة الهداية للناس حتى يتم الحجة عليهم ، والهدى هو الوصول الى الحقيقة ولا يصل البشر الى الحقيقة الا بالعلم بها والتسليم القلبي لها ، ذلك لأن العلم الذي لا يشفعه الايمان لا يكفي إذ يبقى الجحود والغفلة حاجزا بين البشر وبين الحقيقة ، انما عن طريق الايمان ، أو بتعبير آخر تسليم القلب للعلم الذي يكتشفه الدماغ يهتدي البشر ، والرسالة ليست علما فقط بل وقبل ذلك هي تزكية للنفس وتنظيف للقلب عن الحواجز والحجب حتى يتقبل العلم ، فهي إذا هدى وهذا واحد من هدفي الرسالة.

باء : أما الهدف الثاني فهو : إقامة سلطة الحق. سلطة العدالة والقانون ، سلطة القيم والمبادئ ، وذلك في مقابل سلطة القوة التي هي شريعة الغاب ، ومنطق

١٦٢

الجبارين ، ومن الواضح ان المجتمع اما تسوده شريعة الغاب أو شريعة الله. شريعة الحق و ...

ولأن الله الذي خلق الحياة منح قدرا من الحرية للناس الا ان العاقبة هي للحق.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)

أي بالرغم من مخالفة المشركين.

الممارسات العملية للأحبار والرهبان :

[٣٤] لماذا يجوز للإنسان أن يسمع كلام الطبيب والمهندس والخبير العسكري ، ويتبع أوامرهم دون تحقيق أو بحث بينما لا يجوز له أن يتبع الحبر أو الراهب اتباعا مطلقا ، أو ليس العالم بالدين يشبه الخبير في سائر الحقول؟

للاجابة ، على هذا السؤال الذي كان مطروحا عند اليهود والنصارى أيضا نستطيع أن نقول استلهاما من القرآن : ان مراجعة الخبير .. أي خبير بحاجة الى أمرين :

الأول : الثقة بأنه خبير فعلا ، فانك لا تراجع طبيبا تشك في معرفته بالطّب.

الثاني : الثقة بأمانته وانه لا يخونك ، فرئيس الدولة لا يستقدم طبيبا من الحزب المعادي وقائد الجيش لا يتبع نصيحة ضابط يشك في ولائه.

وكلما كانت القضية التي تراجع فيها أخطر كلما تحتاج الى ثقة أكبر في علم الخبير وأمانته ، ولكن قد يكون البشر غير عارف بأهمية قضيته فيراجع خبيرا من دون

١٦٣

ثقة كافية كما كانت الحالة عند اليهود حيث انهم لم يعطوا الرسالة أهمية كافية فاذا بهم يراجعون فيها الأحبار ، والرهبان من دون ثقة كافية ، بل مع علمهم بالمخالفات التي يحكم العقل والفطرة بأنها تتنافى والقبول بهم ، لذلك يذكر القرآن هؤلاء بتلك المخالفات الدينية التي تسقط الأحبار والرهبان من صلاحية الاتباع والتقليد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ)

ان أكل مال أحد بغير حق أبسط مخالفة يعرفها الجميع فطريا ودون حاجة الى معلومات دينية مسبقة ، والأعظم من ذلك انهم كانوا يصدون عن سبيل الله ، وسبيل الله هو كل خير ، مثل الدفاع عن المظلومين والمستضعفين وإعانة الفقراء والمساكين ، والعمل من أجل بناء الوطن ، وهكذا ... ان هؤلاء كانوا يصدون عن سبيل الله بدل العمل في هذا السبيل.

(وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)

وأيضا تراهم يؤيدون التجار الذين يكنزون الذهب والفضة ، بل هم أيضا قد يصبحون تجارا من هذا النوع.

(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)

ومن يكون عند الله معذبا هل يمكن تقليده واتباع أوامره؟

[٣٥] اما عذاب الله الذي ينتظر هذا الفريق من الناس فهو : ان ربنا سبحانه سوف يحمي هذه النقود حتى تلتهب ، ثم يضعها على جوانبهم ليحرقوا بها.

١٦٤

(يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ)

فبدلا من تحقيق هدفهم من الكنز ، وهو الانتفاع به أضرهم وأصبح نارا لاهبة تكوي أطرافهم.

(فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)

ما هو الكنز؟

سؤال : أي قدر من المال المخزون يعتبره الإسلام كنزا. هل هو الزيادة على حاجة الفرد؟ أم هو أكثر من أربعة آلاف دينار ، أم هو المال الذي لا ينفقه الفرد في سبيل الله ، ولا في بناء المجتمع ـ صناعيا أو عمرانيا أو زراعيا أو تجاريا ـ ولا يدخره لحاجة شخصية محتملة مثل مرض أو عالة. أم ماذا؟

قد يكون الكنز بالذات حراما للفلسفة المالية التي جاءت في سورة (الأنفال ) فان المال قيام للمجتمع فتخزينه من دون فائدة إضاعة لجهود الناس ، وتوقيف للحركة الاقتصادية ، أما من يعتبر تخزين المال كنزا مضرا بالمجتمع فان ذلك يحدده القانون حسب الظروف المتطورة ، وربما كان اختلاف الظروف سببا في اختلاف الأحاديث المأثورة في حرمة الكنز ، مما نذكر طيّا بعضها للاهمية البالغة لهذا الموضوع الحساس في ظروف يتحالف فيها ادعياء الدين مع مستغلي الشعوب المحرومة ومصاصي دمائهم وذلك تحت غطاء حق الملكية الفردية التي يقرها الإسلام ، ولكن في حدود المصلحة الاجتماعية ، اما الأحاديث فهي التالية :

ألف : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله ) :

«كل مال تؤدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وكل مال لا

١٦٥

تؤدّي زكاته فهو كنز وان كان فوق الأرض»

باء : روي عن علي (عليه السلام ) :

«ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز أدى زكاته أو لم يؤدها ، وما دونها فهي نفقة ، (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)»

جيم : في تفسير علي بن إبراهيم ، ضمن حديث مطول. ان عثمان بن عفان نظر الى كعب الأحبار فقال له : يا أبا اسحق ما تقول في رجل ادى زكاة ماله المفروضة. هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيء؟ فقال : لا ولو اتخذ لبنة من ذهب ولبنة من فضة ما وجب عليه شيء ، فرفع أبو ذر رضي الله عنه عصاه فضرب بها رأس كعب ، ثم قال له : يا ابن اليهودية الكافرة ما أنت والنظر في أحكام المسلمين. قول الله أصدق من قولك حيث يقول : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

دال : و في حديث عن الامام الباقر (عليه السلام ) :

«ان الله حرم كنز الذهب والفضة وأمر بإنفاقه في سبيل الله» (١)

ما دام القانون يحدد المصلحة العامة فان اختلاف الأحاديث يدل على الظروف المختلفة.

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٢ / ٢١٣ ـ ٢١٤.

١٦٦

سورة التوبة

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ

____________________

٣٧ [ليواطئوا ] : المواطأة .. الموافقة.

١٦٧

سورة التوبة

عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)

١٦٨

النسيء عقدة الجاهلية ،

والاستنفار ضرورة جهادية

هدى من الآيات :

بعد الحديث عن الكفار من أهل الكتاب ، عاد القرآن مرة اخرى للحديث عن المشركين وضرب لنا مثلا من انحراف الشرك ومسبقا بين حكم الأشهر الاثني عشر التي يعتبر اربعة منها حرما ، وبيّن ان الالتزام بهذه الأشهر هو الدين القيّم ، فيجب الا يظلموا أنفسهم فيها وبعدئذ امر المسلمين بقتالهم بلا استثناء ، ووعدهم النصر إذا التزموا بالتقوى.

اما التلاعب بأحكام الله ، وتغيير الأشهر ـ حسب الأهواء ـ فانه زيادة في الكفر ، وضلالة يقع فيها الكفار حيث يحلون الشهر ذاته في عام بينما يحرمونه في عام آخر ، ليكون المجموع بقدر العدد الذي جعله الله وهكذا يخالفون تعاليم الله من دون وازع نفسي ، بل زيّن لهم سوء عملهم لكفرهم المسبق ولان الكفر يحجب الضمير ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ).

ويخاطب القرآن المؤمنين : لماذا لا يخفّون الى القتال حين يؤمرون به؟ هل من

١٦٩

أجل الاكتفاء بالدنيا والرضا بها. بينما قيمة الدنيا في حسابات الاخرة قليل جدا؟

بينات من الآيات :

الأشهر الحرم والأهواء الجاهلية :

[٣٦] الشهور في السنة اثنا عشر شهرا ، فالقمر يبدأ هلالا وينتهي الى بدر ، ثم يتناقص حتى يغيب قبل أن يظهر مرة اخرى هلالا ، كل ذلك خلال ثلاثين نهارا ، ويتكرر هذا الأمر كل شهر اثنا عشر مرة ، وعلينا ـ نحن البشر ـ ان نوافق أعمالنا حسب سنن الطبيعة لا سحب اهوائنا ، وسنن الطبيعة هي الحق التي خلق الله السموات والأرض عليها ، ومن مظاهر الجاهلية العمل حسب الأهواء العاجلة دون تفكير في ظروف الطبيعة أو حتى دون معرفة بها والقرآن خالف ذلك قائلا :

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)

ففي كتاب الطبيعة كما كتاب التشريع ، ومنذ ان أوجد الله الكون جعله جاريا على نظام ثابت متين وعلينا اكتشاف هذا النظام فنسعد بالتوفيق معه ، والا فان ذلك يسبب لنا متاعب كثيرة ينهانا الله عنها وينصحنا بعدم التورط فيها.

(مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)

والمشركون هم الذين يخالفون هذه الحقائق الكونية ، وعلينا قتالهم لتصحيح مسارهم ، كما انهم يعتبرون عقبة في هذا السبيل بطبيعة جهلهم وفساد نظامهم.

(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)

إذا السبيل مختلف.

١٧٠

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)

الملتزمين بمناهج الإسلام التي هي حالة مخالفة للعمل بالأهواء.

ما هو النسيء؟

[٣٧] إنّ تغيير احكام الله مثل حكم الأشهر. وسائر الأحكام وذلك حسب مشتهيات هذا الحاكم أو ذاك ، وشيخ هذه العشيرة ورئيس تلك الجماعة ، فانه زيادة في الكفر.

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ)

والنسيء بمعنى التأخير يقال : نسأت الإبل في ظمئها يوما أو يومين أو أكثر من ذلك والمصدر النسيء ، وجاء في التفسير : كانت العرب تحرم الشهور الأربعة وذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم وإسماعيل وهم كانوا أصحاب غارات وحروب ، فربما كان يشق عليهم ان يمكثوا أشهر متوالية لا يغزون فيها فكانوا يقررون تأخير المحرم الى الصفر فيحرمونه ويستحلون المحرم فيمكثون بذلك زمانا ثم يزول التحريم الى المحرم ولا يفعلون ذلك الا في ذي الحجة. (١)

(النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) :

ويبقى سؤال : لماذا يعتبر ذلك زيادة في الكفر؟

ربما لأن الاعتداء الذي كان الجاهليون يغيّرون الأشهر من أجله هذا الاعتداء حرام بذاته فاذا غيروا حكما شرعيا وعقدا اجتماعيا توافقوا عليه من أجل الاعتداء

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ / ٢٩.

١٧١

فان ذلك يعني تجاوز كلّ القيم والمقدسات دون تغييرها ، ومع الاعتراف بان الحرب فيها خطأ يرتكبونه ، ولكن لماذا كان الجاهليون يغيرون الأشهر الحرم للقيام بالاعتداء على بعضهم؟

لأنهم كانوا يحاولون التخلص من وخز الضمير ، ولومة المؤمنين بالشرائع. تماما كما يفعل الطغاة اليوم حيث يلبسون جرائمهم ثوب الشرعية فيلاحقون المطالبين بحرياتهم وحقوقهم تحت شعار المحافظة على الأمن ، وربما باسم الدين أيضا ، أو يضعون قوانين ثم يحاكمون الناس على أساسها في الوقت الذي لا يملكون حق إصدار القوانين بل هذا بذاته أكبر الجرائم بحق الشعب.

وهكذا يصبح التبرير الذي يتذرع به المجرمون دافعا لهم نحو المزيد من الجريمة ، والتخلص من روادع الجريمة النفسية والاجتماعية باسم ذلك التبرير. ولذلك أكّد القرآن هنا : انّ النسيء ليس زيادة في الكفر فقط بل هو سبب للضلالة والانحراف أيضا :

(يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا)

انهم كانوا يحلون ذات الشهر (مثلا : شهر ذي الحجة ) في هذا العام بينما يحرمونه في العام الآخر حسب خططهم الحربية ، وهكذا كانوا يتلاعبون بالشرائع والقوانين.

(يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ)

أي ليجعلوا الأشهر الحرم أربعة كما قال الله. ولكن بعد تغيير محتواه حسب أهوائهم.

(فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ)

١٧٢

زين لهم الاعتداء. حتى غيروا أحكام الله من أجله ، وهكذا لو جعل الفرد هدفه غير مرضاة الله وغيّر أحكام الله للوصول اليه ، وبرر فعلته الاجرامية. بأن الغاية تبرر الوسيلة.

بيد أن العملية كلها تسبب الضلالة والجحود لأن القلب البشري الذي يستهدف الوصول الى مطامع ذاتية لا يبحث عن الحقيقة ، فلا يهتدي إليها.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)

ذلك لأن الكفر ـ وهو هنا المخالفة العملية للواجبات ـ يؤثر على العقل فيسلب منه ور المعرفة.

[٣٨] قلنا ان أهم شيء يحدد فكر البشر وسلوكه هو هدفه الذي زين له فعشق الوصول اليه فاذا كان هدفه الله واليوم الآخر فانه كما السائق الرشيد يقود سائر العجلات والاجهزة في سيارة الحياة على الطريق السليم وإلّا فان كل العجلات تسير في طريق الانحراف والهلاك. وهكذا ضلّ الكافرون ضلالا ، وهكذا يضل المؤمنون إذا لم يحذروا ويتقوا ويخلصوا أهدافهم ، فلو كان هدف الفرد المتعة في الحياة الدنيا لترك الجهاد في سبيل الله خوف الموت. وتثاقل عن تنفيذ أوامر الله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ)

أي تثاقلتم وتباطأتم ، وبرّرتم بتبريرات هدفها تأخير الحرب. مرة تقولون : الآن وقت الحر القائظ. أ فلا ننتظر حتى يعتدل الجو ، ومرة تقولون : البرد شديد فلننتظر قليلا حتى تخفف وطأته ، ومرة تبررون بعدم الاستعداد الكافي للمعركة.

والنفور والتحرك في سبيل الله لا يختص بالحروب. إذ كل سعي نفر كما

١٧٣

جاء : (النفر : الخروج الى الشيء لأمر هيّج عليه. ومنه نفور الدابة ). (١)

ومما يؤسف له ان الكثير منا يبطئ العمل في سبيل الله بحجة أو بأخرى ، والحجج كلها باطلة والسبب الحقيقي كامن في حب الدنيا.

(أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)

ان المؤمن الواعي يجب ان يكون مقتلعا من الأرض. متحررا من جاذبية المادة. مندفعا في الاتجاه السليم الذي يأمر به الله لان المتعة البسيطة في الدنيا لا تعادل أبدا راحة الاخرة. ان الدنيا زائلة قصيرة والمتعة فيها مشوبة بالصعاب بينما الاخرة باقية خالدة ومتعتها خالصة لا يشوبها خوف أو حزن.

سنّة التحرك في الحياة :

[٣٩] التيار الرسالي يندفع في الحياة ، كما سيل جارف يرعاه رب السماء ، وتحركه كل سنن الحياة وانظمتها ، فاذا تركت أنا الجهاد فانما أشذ عن حركة عظيمة وأهلكت نفسي.

(إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً)

فالراحة المنشودة من وراء ترك السعي والتحرك تتبدل بعذاب أتجرع ألمه.

(وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ)

والتعزز والأنفة يسببان الاستغناء عني وعزلي عن شرف المسؤولية.

__________________

(١) المصدر ٣٠.

١٧٤

(وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً)

وإذا فكرت في الانتقام فلا أستطيع أن انتقم من الحق أبدا.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

إذ هو القادر على ان يسلب مني كل قوة أوتيتها فلم استخدمها في سبيل تنفيذ أوامره فما ذا يبقى لي غير خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

قصة الهجرة والانتصار :

[٤٠] هل انتصرت الرسالة بي ، فحين كنت بعيدا عنها سادرا في الغفلة والجهل من الذي نصر الرسالة أو ليس الله؟! فلما ذا التعزز عليها؟!

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)

من مكة المكرمة ، زاعمين : ان هذا الإخراج يؤثّر في مسيرة الرسالة التصاعدية.

(ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ)

وهو أبو بكر حيث خرج معه للهجرة.

(لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا)

مطّلع علينا محيط علمه وقدرته ولطفه بنا فلما ذا الحزن ولماذا القلق.

جاء في التفاسير : قال الزهري : لما دخل رسول الله وأبو بكر الغار أرسل الله زوجا من الحمام حتى باضا في أسفل الثقب ، والعنكبوت حتى تنسج بيتا فلما جاء

١٧٥

سراقة بن مالك في طلبهما ورأى بيض الحمام وبيت العنكبوت قال : لو دخله أحد لا نكسر البيض وتفسخ بيت العنكبوت فانصرف.

(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ)

على رسول الله الذي تحمل ثقل الرسالة ، وهكذا من يحمل الرسالة ويثبت فان الله يبعث في قلبه الاطمئنان والدعة حتى لا تهزه الحوادث المتغيرة أو المشاكل الطارئة.

(وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها)

هي جنود الملائكة في الغزوات ، كما انها جنود الحق المجندة في هذا الكون الرحيب ، والتي لا يراها البصر العادي. ان سنن الحياة وانظمة الكون كلها تدعم رسالة الحق وصاحب هذه الرسالة ولكن لا يشعر بها أحد.

(وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى)

لأنها لا تعتمد على قاعدة صلبة ، أو أساس متين إنها تعتمد على الكفر بالحقائق وجحودها ، فكيف تثبت؟!

(وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا)

لقد خلقت كلمة الله هكذا .. انها هي العليا ، وهي المنتصرة أخيرا.

(وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

فبعزته يجعل كلمة الكافرين السفلى بعد أن منح لهم الحرية لبعض الوقت حتى يبتليهم ويمتحن قدرة المؤمنين على الاستقامة ، وبحكمته يدبر أمور الكون.

١٧٦

سورة التوبة

انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)

____________________

٤٢ [عرضا ] : العرض الشيء الزائل.

١٧٧

التعبئة العامة وتبريرات المنافقين

هدى من الآيات :

يجب الجهاد بأية صورة ممكنة بالنفس والمال. بيد ان البعض يزعم ان الجهاد سفرة سياحية أو مكسب عاجل ، وحين يكتشف ان الجهاد يتطلب طيّ مسافات متباعدة يتركه ويحلف بالله انه لا يقدر عليه ، وانه لو استطاع الجهاد ما تركه ، بيد انهم لا يضرّون إلّا بأنفسهم ، وعلى القيادة الاسلامية ان تتخذ الجهاد وسيلة لكشف العناصر الضعيفة والمنافقة فلا تأذن لمن يستأذنها في ترك الجهاد. ذلك لان المؤمنين لا يستأذنون القيادة لأنهم يتطلعون نحو الجهاد بأنفسهم وأموالهم إيمانا منهم بالله واليوم الآخر ، والله عليم بهم.

والكفار الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر أو يرتابون في ذلك هم وحدهم الذين يستأذنون.

١٧٨

بينات من الآيات :

الاستنفار والجهاد :

[٤١] يجب النفر على الجميع بقدر استطاعتهم فقد يكون شابا نشيطا غنيا ليست لديه علاقة عائلية أو اجتماعية أو اقتصادية ، أو يكون شيخا أو ضعيفا أو فقيرا ذا عائلة كبيرة وعلاقات اجتماعية واقتصادية تثقله عن الخروج.

والتحرك من أجل الله قد يكون جهادا أو عمرانا أو تمهيدا للجهاد ، لذلك أكدّ القرآن على الخروج بصفة عامة وبصورة خاصة.

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً)

أي سواء شقّ عليكم النفر أولا ، وقد يفسر النفر الخفيف بالسرايا المتحركة ذات المجموعات الصغيرة ، بينما النفر الثقيل هو تحريك الجيش بأسلحته الثقيلة ، وإذا صح هذا التفسير فانه يعني ان الجهاد أو العمران أو أيّ تحرك ، جماعي من أجل الإسلام ليس من مسئوليات الدولة فقط وانما كل مجموعة قادرة على القيام بمهمة رسالية فان عليها ان تبادر من أجل تحقيقها.

(وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ)

والجهاد بالمال يعني بذل كلّ فائض مالي يمكن أن يبقى عند المسلم بعد الإنفاق على نفسه حسب القناعة والزهد ، فالعامل الذي يقدر على الاكتفاء بثلثي اجره يحتفظ بالثلث الآخر ليجاهد به في سبيل الله ، والموظف القادر على الاكتفاء بنصف راتبه يصرف النصف الآخر في سبيل الله ، والمدير الذي يتمكن ان يعيش بثلث مدخوله يصرف الثلثين الباقيين في سبيل الله ، وهكذا يعتبر الجهاد بالمال زيادة على مجرد إنفاق الضرائب المفروضة على كل مسلم وفي الظروف العادية كالزكاة

١٧٩

والخمس انه اجهاد النفس في الاقتصاد وذلك بهدف الادخار من أجل الهدف المقدس.

وقد نقوم بالجهاد المالي بطريقة اخرى وهي ان يتطوع الواحد منا بعمل ثلاث ساعات اضافية في اليوم لمصلحة الإسلام.

أما الجهاد بالنفس فليس فقط بالشهادة في سبيل الله في لحظة المواجهة. بل وأيضا بالعمل الجاد في سبيل الله ، عملا يستنفذ الجهد ، وحتى لو كان عن طريق التطوع بيوم عمل كل أسبوع لتحقيق هدف عمراني مثل بناء الجسور وتمهيد الطرق ، وإصلاح الاسلحة وصنع الوسائل الحربية والعمرانية.

والجهاد بالمال والنفس يكون في مرحلة الاعداد للمعارك ، ولذلك قدم هنا الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس لان الرأسمال ضرورة أولية لأيّ إعداد حربي.

والامة التي تجاهد في سبيل الله تبني مستقبلها ، وتشيد صرح استقلالها ، وتحقق أحلامها في المدنية والرفاه. بينما المجتمع الاناني الذي يعمل كلّ فرد من أجل ذاته ومصالحه الخاصة ، ويتحطم في أول مواجهة مع عدوه أو ينهار عند نزول الكوارث الطبيعية ، ويذوب استقلالها في غمرة الصراع الحضاري. من هنا كان الجهاد خيرا للامة من التقاعس ، ويحتاج الناس الى العلم بحقيقة الجهاد وانه يعود عليهم بالنفع لأنه يحفظ استقلالهم ويبني حضارتهم. ان هذا العلم يدفعهم للمزيد من التضحية والجهاد لذلك قال ربنا :

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

موقف المنافقين :

[٤٢] بيد ان الجاهلين يريدون الجهاد سفرة قريبة أو غنيمة حاضرة ولو كان

١٨٠