من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

رأيه من غير امام من أئمة الهدى» (١)

ان اتباع أحد بصورة مطلقة ومن دون الانتفاع بعقولنا ، إنه نوع ظاهر من أنواع الشرك بالله ، لأن أهم أضرار الشرك هو إضلال الإنسان في الحياة.

بين الظن والحق :

[٣٦] ولان الشرك والطاعة العمياء للأصنام وكهنتها ، ورموز السلطة والثروة والرجعية ـ لأنه يسلب العقل ويلغي دوره ـ فان المشركين يتبعون التصورات والظنون وهي لا تجديهم شيئا ، ذلك لأن الظن يعكس حالة صاحبه النفسية ، ولا يعكس الحقيقة الخارجية ، والإنسان زوّد بالعقل من أجل أن ينسّق بين واقعه وبين الحقائق الخارجية ، ويدرأ عن نفسه أخطار هذا الواقع ، ومثل هؤلاء كمن يرسم خريطة وهمية عن منطقة ثم يسير عليها دون أن يعتمد على عينه وأحاسيسه.

(وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)

والسؤال : لماذا يتبع هؤلاء الظن بينما زودوا بالعقل والبصيرة؟

الجواب : إن المشركين يتبعون أهواءهم ، ويجعلون هوى الذات وحب النفس محورا لتحركهم ، فهم لا يهدفون أبدا الوصول الى الحق حتى يبحثون عن السبيل الذي يوصلهم اليه ، وهو العلم ولذلك فهم يرتكبون الجرائم بوعي وإصرار.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ)

__________________

(١) المصدر ص ٩٣

٣٨١

والله يجازيهم على أفعالهم ، ولكن يذكرهم أيضا بأن اتباع الظن هو طريق الخطايا ، لكي يتجنب المؤمنون ذلك ، ويبحثوا أبدا عن المعرفة التي توصل الى الحقيقة.

٣٨٢

سورة يونس

وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠)

٣٨٣

القرآن يتحدى بنفسه الكفار

هدى من الآيات :

وفي سياق الحديث عن الظن الذي يتبعه الجاهليون المشركون ، يذكّرنا القرآن الحكيم ، بالطريق المؤدي الى الحق وهو العلم ، وأحد مصدري المعرفة هو القرآن الذي لا يكون افتراء لوضوح آياته وتطابقه مع العقل ، ولأنه جاء مصدّقا لرسالات السماء السابقة ، وموضحا الكثير ممّا كان غامضا في تلك الرسالات ، وبذلك لا يرقى شك الى أنه نازل من ربّ العالمين الذي وسعت حرمته كل شيء ، فربّى كل شيء وأعطاه التكامل ، وأعطى الإنسان تكامله بالقرآن.

وهم يزعمون أن الرسول قد افتراه ، إذا ليأتوا بسورة واحدة مثل القرآن ، وليستعينوا بمن شاؤوا الصنع هذه السورة المفتراة إن كانوا صادقين؟!

كلّا .. إن السبب في كفرهم أنهم لم يبلغوا علم القرآن ، ولم يحيطوا بكل أبعاده ، فكذّبوا به لنقص فيهم ، ولأن الحقائق التي بشّر بها القرآن لم تتحول الى

٣٨٤

واقعيات أمامهم ، وحين تصبح الحقيقة واقعا خارجيا لا تنفع التوبة كما كانت عاقبة الظالمين من قبل ، والذي لا يؤمن بالقرآن مفسد في الأرض ، والله عليم به ، أما المصلحون فان قلوبهم نظيفة وأعينهم مفتوحة ولذلك يؤمنون به.

بينات من الآيات :

استحالة افتراء القرآن :

[٣٧] ان لكل حق حقيقة ، وعلى كل صواب نورا ، ومن يرى الحقائق بعين بصيرة وقلب نظيف بعيدا عن الحجب والنظارات السوداء ، وبعيدا عن العقد النفسية فانه لا يخطأ ، والقرآن ذاته دليل صحته وأنه من الله ، فهو لا يمكن افتراءه إذ هو أسمى من أن يقدر أحد على صنعه ، انه صنع الله الذي لا يقدر على مثله البشر ، هل يستطيع أحد أن يخلق طيرا كما خلق الله؟ كلّا .. كذلك لا يقدر أحد على افتراء القرآن.

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ)

ولكن القرآن حلقه في سلسلة رسالات سماوية تصدّق بعضها بعضا ، وهو خط ممتد يؤمن الناس به مجملا ، بالرغم من أن شهواتهم تدعوهم الى الكفر بالرسالة الجديدة لنقص في ذاتهم.

(وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)

فالقرآن يصدّق الرسالات السابقة ، مما يدل على أنه في خطها ، ومن يؤمن بها لا بد أن يؤمن به أيضا ، وهو لا يرقى اليه ريب ، لأنه من وحي الله الذي لا يرقى اليه ريب أو نقص سبحانه. والله رب العالمين الذي أعطى كل شيء خلقه وتصاعده ،

٣٨٥

فخلق السموات والأرض في ستة أيام ، وفي كل يوم يضيف خلقا جديدا ونعمة جديدة إليها ، وهو رب الإنسان الذي يعطيه تكامله بطرق شتى ومنها الوحي ، فواهب العقل هو منزل القرآن ، والإنسان غير المعقد يفهم هذه الحقيقة بوضوح.

[٣٨] ولكنهم يصرون على اتهام الرسول بأنه قد افترى القرآن كله ، إذا قل لهم ليفتروا هم بدورهم قرآنا ، وليأتوا ولو بسورة واحدة مثل القرآن في علمه وبلاغته ، وليستعينوا بمن شاؤا من الجن والأنس من أجل صنع سورة واحدة!

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

وكما لا يستطيع أحد أن يخلق نملة واحدة فهو لا يقدر على أن يأتي بجزء بسيط من القرآن ، لأن خالق النملة هو موحي القرآن ، والقرآن بذلك المستوى الأرفع الذي لا يحيط به علم البشر وقدراته.

دوافع الفكر :

[٣٩] وأحد العوامل النفسية التي تقف أمام ايمان هؤلاء هو جهلهم ، وضيق صدورهم ، وقلّة استعدادهم ، لذلك تراهم يكذّبون بأي شيء لا يعرفون كل أبعاده وخصائصه ، ولا يفكرون أن الحقيقة التي يرونها ويعرفون صحتها جديرة بالايمان ، ولا يجوز لهم إنكارها بمجرد أنهم لا يعرفون كل أبعادها.

(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)

وهذه صفة عامة للبشر ، و قد عبّر عنها الامام علي (ع ) بقوله :

«الناس أعداء ما جهلوا»

٣٨٦

وهذه من أسوأ الصفات الجاهلية والمتخلفة التي تقف عقبة في طريق تقدم البشرية ، وعلى الإنسان أن يربي نفسه ومجتمعة على استقبال كل جديد بروح ايجابية ، ولا يرفض أي شيء جديد بمجرد أنه لا يعرف عنه شيئا.

ومن الصفات الجاهلية هي انتظار تحوّل الحقيقة الى واقع ، فاذا أنذر الجاهلي والمتخلف حضاريا بالمجاعة بسبب التكاسل أو الاختلاف لم يؤمن بالحقيقة ، وانتظر قدوم المجاعة فعلا حتى يؤمن بها ، ولكن ما فائدة الايمان آنئذ.

إننا نريد العلم لنستبق به الأحداث ، ونمنع عن أنفسنا الأخطار ، أما بعد مجيئه فان الايمان لا يجدي شيئا ، بل سوف يحيط الواقع السيء بالإنسان ويقضي عليه كما دلّت على ذلك أحداث التاريخ.

(وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)

[٤٠] ومرة أخرى يؤكد القرآن أن أحد العوامل الأساسية للكفر بالقرآن الحكيم هو العمل السيء الذي ران على قلوب الكافرين ، فلم يدعهم يؤمنون بالرسالة ، ذلك العمل هو الفساد في الأرض.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ)

في المستقبل إذا كان مصلحا طيب القلب ، ينتظر المزيد من الآيات ، أو بعض الحالات النفسية التي يتغلب بها على ضغوط المجتمع الفاسد أو الشهوات العاجلة.

(وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ)

وهذا الفريق لا يؤمن بالرسالة بسبب توغله في الفساد ، وبناء حياته على أساس

٣٨٧

منحرف وشاذ.

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ)

٣٨٨

سورة يونس

وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦)

٣٨٩

البراءة

من أصحاب القلوب المريضة

هدى من الآيات :

وفي سياق البيان الالهي للقرآن ، وكيف أنه معجز لا يقدر على مثله بشر ، يبيّن ربنا سبحانه الحل الحاسم الأخير ، والذي يتسم بصرامة الحق وصراحته ، فان كذّبوا الرسول برغم وضوح رسالته ، فليقل أنه منفصل عنهم بريء من عملهم ، كما هم بريؤون من عمله ، فكل يتحمل مسئولية عمله ، ولذلك فهو والمؤمنون به أمة ، وهم أمة.

ومنهم من يزعم أن تقرّبه الى الرسول ومن دون الايمان برسالته تنفعه شيئا ، ولكن هل يقدر الرسول اسماع من به صمم؟ كلّا .. لأن النقص فيه وفي قدرته على الاستجابة للرسالة.

كما أن بعضهم ينظر الى الرسول عسى أن يريه سبيل الهدى دون أن يؤمن برسالته التي هي الضياء والهدى ، ولكن حين تكون العين عمياء هل تنفعه أشعة الشمس القوية شيئا؟! إن الصمم والعمى ليسا من الله بل من ارادة الناس

٣٩٠

أنفسهم ، لأن الله لا يظلم أحدا فيخلقه ـ سبحانه ـ أعمى أو أصمّ ، كلا بل الناس يظلمون أنفسهم بعدم محاولة الرؤية والاستماع.

وهكذا يعطي هذا الدرس رؤية واضحة تجاه كفر الناس وايمانهم ، وأنه من أنفسهم وبسبب سوء اختيارهم.

بينات من الآيات :

مبدئية العلاقات :

[٤١] يبدو أن بعض الناس يريدون الإبقاء على علاقتهم مع رسل الله بعد قطع علاقتهم مع رسالاتهم ، فيكذّبون الرسول ولكنهم يريدون أن يكونوا هم والرسول من قوم واحد ، وهكذا الأمر بالنسبة الى علاقة الناس بأصحاب المبادئ ، بيد أن الله يأمر رسوله بقطع العلاقة مع من يكذّب بالرسالة.

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)

فالكل يعمل حسب وجهته ويتحمل وحده مسئولية عمله ، والمبدأ هو الذي يفصل هذه الجماعة عن تلك ، وليس أي شيء آخر ، وحين يفصل المبدأ بين قوم وآخرين لا ينفع وحدة الأرض واللغة ، أو حتى القرابة في ربط بعضهم ببعض.

الذات منطلق الاهتداء :

[٤٢] ومن الناس من يزعم ان الرسول هو الذي يعطيهم الرؤية من دون أن يسعى هو من أجل ذلك ، وهذا غلط فظيع ، ذلك لأن الهداية أو الضلالة بقدر من الإنسان نفسه ، والذي لا يبدأ الخطوة الأولى في هذا الطريق لا يجديه شيء آخر ، ويكون مثله كمثل أصم يطلب من الآخرين أن يسمعوه شيئا بينما النقص من

٣٩١

ذاته ، وأنه مهما كانت قوة الصوت فانه لا يسمع!!

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ)

فالأصم لا يستجيب عقله لحديث ، لأن سمعه مسدود ، وهؤلاء لا ينتفعون بسمعهم ولا يعقلون ما يدخل سمعهم من أحاديث ، والسمع أرفع جهاز إدراك عند البشر ، باعتباره الأداة الأوسع انتشارا والأكثر فائدة في نقل التجارب والخبرات من جيل لآخر ، وبالتالي فهو الواسطة الفضلى للحضارة البشرية ، التي هي تراكمات الخبرات عبر العصور المتمادية ، وربما لذلك عقّب القرآن على الصمم بعدم العقل.

[٤٣] وكذلك هناك بعض من لم يعرف هذه الحقيقة ، أن الهداية هي أولى مسئوليّات البشر ، وإنّ من لا يعمل من أجلها لا يبلغها أبدا.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ)

وكأن الرسول هو المسؤول عن هدايته وعن توجيهه.

(أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ)

فالأعمى لا يرى ، لا لأن الضوء قليل ، بل لأن جهاز الاستقبال معطب ، والتحرك يجب أن يكون ابتداء من الفرد نفسه.

[٤٤] ولا يجوز ان يزعم الإنسان أن الله هو الذي سلب الفرد سمعه وبصره ، بل الإنسان هو نفسه الذي لا ينتفع بسمعه وبصره.

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

فالناس هم الذين لا يستفيدون من أدوات التوجيه عندهم ، وربما عبّر القرآن

٣٩٢

بكلمة الناس لسبب هو أن بعض الناس يضلّل بعضهم بعضا ، وأنهم مسئولون عن هداية بعضهم ، كما أن التعبير القرآني في السمع جاء بصفة جماعية ، بينما جاء عند التعبير عن البصر بصفة فردية ، ربما لأن السمع عملية حضارية يكلف بها الناس جميعا ، بينما البصر يغلب عليه الجانب الفردي.

[٤٥] للإنسان الجاهلي غلطتان كبيرتان.

الغلطة الاولى :

عدم فهم طبيعة الجزاء وأنه ليس من الضروري أن يكون بعد العمل مباشرة. الجزاء يأتي وكل آت قريب لذلك لا يجوز للإنسان من أن يكفر بالجزاء لأنه قد تأخر قليلا عنه ثم الجزاء الموعود في القرآن ليس جزاء بسيطا لأنه يتسم بصفتين أساسيتين :

الاولى : أنه جزاء خالد.

الثاني : أنه لا يمكن للإنسان أن يهرب منه أو يطلب الاذن من ربه في العودة الى الدنيا لتجربة إرادته مرة اخرى.

وبالقياس الى الخلود الذي يتسم به الجزاء الالهي على الأعمال فإن الفترة التي يقضيها الإنسان في الدنيا بسيطة وبسيطة جدا.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ)

الفترة التي كانوا خلالها في الدنيا تعتبر بالقياس الى زمن الآخرة ساعة واحدة ويكفيك للقياس أن تعلم بأنك قصارى ما تعيش في الدنيا سبعين عاما أو ثمانين أو أكثر أو أقل بينما تعيش في يوم القيامة في يوم واحد فقط خمسين ألف عام. هل بإمكانك أن تقيس هذه الفترة المحدودة بذلك الزمن الممتد إلا أن تقول أن هذه ساعة من ذاك.

٣٩٣

(يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ)

يعرف بعضهم بعضا ويتذكر بعضهم بعضا وكأنهم في هذه الدنيا وهنالك تكون الخسارة لمن؟ لأولئك الذين كذبوا بذلك اليوم أما الرابحون فهم الذين آمنوا بذلك اليوم واستعدوا له سلفا.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)

[٤٦] أما الغلطة الثانية :

فهو الاعتقاد بأن الجزاء الذي يعدهم الرسول ناطقا عبر الله إن هذا الجزاء انما هو من الرسول نفسه. فمثلا ينتظر بعضهم وفاة الرسول أو يدبرون المؤامرات ضده زاعمين أن تصفية الرسول يعني خلاصهم مما ينذرهم به.

الرسول مجرد منذر ومبشر أما العذاب فهو من الله فسواء كان الرسول أو لم يكن بين أظهرهم فإن جزاء أعمالهم لا بد أن يلحقهم.

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ)

الله قبل الرسول هو شهيد على أعمالهم فأين يهربون.

٣٩٤

سورة يونس

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢)

____________________

٤٨ [الوعد ] : خبر بما يعطي من الخير والوعيد خبر بما يعطي منه الشر.

٤٩ [نفعا ] : اللذة والسرور.

٥٠ [أقم ] : الاقامة نصب الشيء ونقيضه الاضطجاع واقام بالمكان استمر فيه كاستمرار القيام في وجهة الانتصاب.

٣٩٥

لكل امة أجل

هدى من الآيات :

في سياق الدرس السابق حدّثنا القارن الحكيم عن مسئولية الإنسان المباشرة عن الهداية ، حيث تنتهي عاقبة الضلالة بالخسارة الكبرى التي تلحق المكذّبين بآيات الله ولقائه ، وحين يحشرهم الله للجزاء في ذلك اليوم الرهيب يعرف الناس بعضهم بعضا ، ويزعمون أنهم لم يلبثوا في الدنيا الّا برهة قصيرة من الوقت ، وليس المهم ان يرى صاحب الرسالة ما يعدهم الله من العذاب في الدنيا ، أو يتوفاه الله ولكنهم بالتالي يعودون الى ربهم ، والله شهيد على مواقفهم وأفعالهم.

ولكل أمة رسول ، فاذا جاء الرسول وبلغ الرسالة وأتم الحجة عليهم ، قضى الله بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ، بل يجازون بما فعلوا.

ويستعجل الناس العذاب ، ويقولون متى هذا الوعد؟! ويجيب ربنا قائلا : ان هناك أجلا محددا لكل أمة يستنفذون قبله كل فرصة لهم في الدنيا ، (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).

٣٩٦

وإذا وافاهم أجلهم سواء بالليل أو بالنهار ، فهل يسبقوه ، أو هل هو مما يستعجله البشر ، وهل يطالب المجرم بسرعة الجزاء؟!

بل أنهم سوف يؤمنون بعد انتهاء الفرصة ، ذلك لأنه أصبح حقيقة واقعية أمامهم ، ويعرفون أن استعجالهم كان خاطئا.

بينات من الآيات :

مجيء الرسول شرط التوقيت :

[٤٧] قبل أن يتم الله حجته على خلقه لا يأخذهم بذنوبهم ، لذلك فأنه تعالى يبعث لكل أمة رسولا ، ويحدد لهم أجلا ، فاذا جاء إليهم رسولهم وبلّغهم رسالات ربه ، فاذا كذّبوه قضى الله بينهم بالقسط ، فمن آمن واتبع هدى ربّه نجى وأفلح ، ومن كفر أحاط به البلاء ، والله لا يظلم أحدا ، (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)

والسؤال : هل أن هذا الرسول يجب أن يكون رسولا يوحى اليه مباشرة من الله ، أو قد يكون وليا من أولياء الله تابعا لرسول من قبل الله ، يقوم بتبليغ رسالات الله بمثل ما كان يفعل الأنبياء؟

يبدو لي أن عموم الكلمة تشمل القسم الثاني.

[٤٨] ولكن متى يقضي الله على الأمم؟ وكم هي الفترة بين بعث الرسول ، وبالتالي كفر الناس بها ، وبين العذاب؟

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

فقد تمتد الفترة ويتأخر العذاب حتى يتساءل الكفار بأسلوب المنكر المستهزئ

٣٩٧

متى العذاب؟ ولماذا لم يأت الدمار الموعود؟!

[٤٩] وهذا السؤال يكشف عن خطأين أساسيين عند البشر :

الخطأ الأول : أن الناس يزعمون أن مبلّغ الرسالة هو الذي ينزل العذاب ، وبالتالي يحدد موعده ، بينما الله هو الذي يحدد موعد العذاب لا الرسول ، أما الرسول فلا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، ولهذا فهو لا يدعي أنه الذي يبعث العذاب.

أما الخطأ الثاني : أن الإنسان يحسب أن العقاب يجب أن يكون مباشرة وراء العمل وكأنه النار والحرارة ، ولا يعرف أن العمل السيء في المجتمع مثل الميكروب في الجسد يتكاثر وينتشر ، ثم تظهر عوارضه فتحيط بالجسد وقد تقضي عليه ، وأن بين العمل السيء والجزاء فترة معلومة عند الله ، إذا انقضت فسوف لا تمدد ، وبالتالي لا يزيد ولا ينقص.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ)

فاذا شاء الله أعطى بقدر ما تقتضيه حكمته ، أعطى في صلاحية العمل وقدرته ضرا أو نفعا.

(لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)

سنن الحق في الحياة :

ان الحياة قائمة على موازين حق لا تتبدل بأهواء الناس ، فهناك عوامل السقوط وعوامل النهوض ، وهناك آثار ايجابية للإخلاص والتضحية ، والنشاط والوحدة ، ونظافة القلب والجسد ، وسلامة العمل وإتقانه ، كما ان هناك آثارا سلبية للغل ، والاستئثار ، والكسل والتفرقة ، والعقد النفسية ، والأوساخ المادية ، فإذا تفاعلت

٣٩٨

هذه الآثار ، ورجحت كفّة الآثار السلبية انهارت الأمة ، بينما تتقدم إذا انعكست الحالة ، المهم أن الإنسان قادر على إنقاذ الموقف قبل أن يتردّى الى نهايته ، فهناك لا فرصة للخلاص أبدا.

[٥٠] ومن هنا فان الذين يستعجلون العذاب ويتساءلون بضجر متى هذا الوعد؟ لا يعرفون أن العذاب ليس مما يستعجله الإنسان ، وأنه إذا جاءهم لم يجدوا مهربا منه ـ فكيف يستعجلونه؟!!

(قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً)

حينما اتخذتم النوم لأنفسكم لباسا للراحة والأمن ، فاذا بالعذاب يباغتكم.

(أَوْ نَهاراً)

وأنتم على كامل الاستعداد لمواجهة الأخطار ، ولكن من دون أن تكون لديكم القدرة على مواجهة عذاب الله.

(ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ)

هل يستعجلون آلامه الشديدة ، أم يستعجلون تحطيم أمانيهم وقهر كبريائهم ، ومفارقة أحبّتهم ، هل هي أشياء يطالب بها الإنسان ، أم أنه الغرور والنزق؟

[٥١] نعم .. إذا وقع العذاب وأصبح حقيقة ملموسة بأيديهم ماثلة أمام أعينهم ، آنئذ فقط يؤمنون به ولكن عبثا!

(أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)

وكان استعجالهم السابق دليلا على عدم ايمانهم به وعدم توقعهم لحدوثه.

٣٩٩

[٥٢] وأخطر شيء في القضية هو أن العذاب لا ينتهي بل يبقى خالدا.

(ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)

فالجزاء هو ذاته الأعمال التي اكتسبتموها ، والتي تحولت الى عذاب دائم ، أعاذنا الله منه.

٤٠٠