من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

سورة يونس

وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)

____________________

٥٣ [يستنبئونك ] : الاستنباء طلب النبأ الذي هو الخبر.

[لافتدت ] : الافتداء إيقاع الشيء بدل غيره لدفع المكروه به يقال فداه يفديه فدية.

٤٠١

القرآن يحطّم حواجز الأيمان

هدى من الآيات :

في سياق الدروس السابقة التي كانت آيات القرآن تهدينا الى أنّها وحي من عند الله ، تحطّم هذه الآيات الحواجز النفسية التي تمنع الايمان ، ثم تذكر بأن القرآن شفاء وموعظة ، وأنه فضل ورحمة وخير مما يجمع الناس ، فتبدء الآية الأولى بالسؤال الذي يوجهه الكفار الى الرسول عن أن القرآن حق؟ ويجيب الرسول ويحلف بربه الكريم أنه لحق ، أما حاجز الغرور والعزة بالإثم فانه وهم باطل ، إذ أن الكفار ليسوا بقادرين على تعجيز أقدار الله وتفشيل خطط الرسول ، ثم لا ينفع المال والبنون ، لأنه حين يأتي العذاب ويراه الظالمون يتمنون لو قبل الله منهم أن يفتدوا عن عذاب ذلك اليوم بكل ما في الأرض لو كانوا يملكونها ، وقد بلغت الندامة أعمق أعماقهم وقضي بينهم بالقسط ، وجوزوا على أعمالهم وهم لا يظلمون. والحاجز الآخر الذي يحول بين الإنسان والايمان بيوم الجزاء هو تردده في قدرة الله أو صدق وعده سبحانه ، ولكن أ ليس لله ما في السموات والأرض ، وأن وعده حق كما يدل عليه ما يجري في السموات والأرض؟ ولكن جهل هؤلاء بالدنيا وسننها هو السبب المباشر لضلالتهم ،

٤٠٢

ثم أو ليس الله يحيي ويميت؟ أو ليس قادرا على بعث الناس من جديد؟!

وهكذا ينادي القرآن الناس بأنه جاء موعظة من ربهم ، وانه يشفي صدورهم من عقد الجهل والعصبية والانغلاق ، وانه يهدي الناس ، وإذا آمن به الناس وطبقوه فهو رحمة لهم ورفاه ، وهذا الرفاه يجمعه الناس من وسائل مادية بحتة لا تعطيهم رفاه ولا رحمة.

بينات من الآيات :

في رحاب الحقائق :

[٥٣] ويتساءل الكفار هل يؤمن الرسول بما يقول ويقولون له : أحق هو؟ فيجيب الرسول بحسم وبالضرورة : إنه لحق.

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ)

وبين السؤال والجواب نستنبط عدة حقائق :

اولا : بالرغم من أن الحقائق الفلسفية العامة ليست قابلة للتقليد والطاعة العمياء الّا أن السؤال عنها مفيد ، إذ قد تحمل الاجابة إشارات هادية لك لو فكّرت فيها لعرفت الحقيقة مباشرة ، فيكون السؤال مثل أن يسأل أحد عن مكان الماء ، فحين يشير الآخر اليه ويلتفت السائل يرى الماء مباشرة.

ثانيا : ان احدى المشاكل الرئيسية التي تعترض طريق الناس عن الايمان هو تهيّب الايمان ، والاعتقاد بأن المؤمنين ليسوا في الواقع مؤمنين بصدق ، ولذلك إذا عرفوا صدق ايمان المؤمنين بالرسالة ، زال حاجز الهيبة وتشجعوا على الايمان ، ومن هنا كان تأكيد المؤمنين ايمانهم قوليا وعمليا أو بسبب تضحياتهم الرسالية كان ذلك ذا أثر فعّال في روحية المترددين والشاكين.

٤٠٣

ثالثا : أن الرسول أجابهم بصورة مؤكدة ، وحلف بربه حلفا يؤثر في وجدان السامعين ، لأنه يتصل بمن ربّاه وأنعم عليه ، وعموما القسم بالرب قسم وجداني عميق الأثر.

وبعد الحوار أكّد الرسول على أن حاجز الغرور هو الذي يفصلهم عن الايمان ، فيزعمون أنهم قادرون على مقاومة نفوذ الرسالة ، أو الإتيان بأفضل منها حتى يسبقوها!! كلا.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)

التذكير بالآخرة نقطة الانطلاق :

[٥٤] الإنسان بفطرته مؤمن ، ولكن دواعي الشهوة والطيش والغرور ، والجهل تمنعه عادة عن الارتفاع الى مستوى الايمان ، ويهدم القرآن جدار الغرور بتذكير البشر بيوم فاقته ، حين يحين ميعاد جزائه على ظلمه لنفسه ، عند ما يتمنى لو كان يملك ما في الأرض جميعا ليفتدي بها عن نفسه ، فيخلّصها من العذاب ، ولكن هيهات!!

وهنا لا بد أن يتذكر الإنسان بأن المهم ليس ما يملك لأنه يزول عنه ، ولكن نفسه وعمله هما الباقيان.

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ)

ظلما ذاتيا بارتكاب المعاصي ، أو ظلما اجتماعيا باغتصاب حقوق الآخرين ، لو أنها كانت تملك

(ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ)

٤٠٤

وربما كان معنى أسرار الندامة الشعور بها عميقا في سرهم ، وليس بمعنى اخفائها ، لأنه لا أحد يقدر على كتمان حالته يوم القيامة ، ولكن من المسؤول عن ندامتهم أو ليست أنفسهم!!

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)

أي بالدقة التامة دون أي زيادة أو نقيصة.

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)

الوعد الحق :

[٥٥] ولو زعم الكفار أن اعادة بعث الناس مستحيل ، أو زعموا أن جزاءهم في الدنيا غير وارد ، فليعلموا أن الله هو مالك ما في السموات والأرض وأن وعده حق.

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

ولو كان لهؤلاء العلم بالكون بقوانينه وسنن الله الحاكمة فيه لعرفوا أن كل عمل يتحول الى جزاء عاجلا أو آجلا. خيرا أو شرا ، تلك هي أبسط قاعدة حياتية ، فكيف لا تنتهي حياة الناس بالجزاء الشامل يوم القيامة؟

[٥٦] والله يحي ويميت ، فهو قادر على احياء الناس بعد موتهم ، ولذلك فنحن نرجع اليه للحساب.

(هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

[٥٧] والله الذي يذكرنا بنفسه ينزل القرآن الذي يتفجر من خلاله التذكرة

٤٠٥

بالله ، وهو موعظة من رب العالمين ، فالذي وفّر للعالمين أسباب معيشتهم ، وهداهم إليها بالغريزة والعقل ، هو الذي أنزل القرآن ليكون جسرا بين الحقيقة والسلوك ، ويوجه البشر الى الإصلاح ، ويحذرهم من الفساد ، والسبيل الذي يتبعه الذكر لبلوغ هذا الهدف هو : تزكية النفوس وتهيئتها لقبول الحقائق فهو شفاء لما في الصدور ، والنتيجة التي يحصل عليها الناس بعدئذ هي :

أولا : الهداية ومعرفة ما ينبغي عمله وما يجب تركه.

ثانيا : الرحمة التي هي الرخاء والرفاه والسعادة ، وهي خاصة بالمؤمنين المنفذين لتعاليم القرآن.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)

السعادة الحقيقية :

[٥٨] وعلى الناس أن يفرحوا عند ما يطبقون مناهج الله ، ويحصلون من ورائها على السعادة والفلاح ، لأنها سعادة حقيقية لكل الناس وفي كل زمان ، وحتى في الآخرة.

(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)

ربما يكون فضل الله هو القرآن والعترة وأئمة الهدى ، بينما رحمة الله ما ينتهي اليه العمل بالرسالة.

(هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)

من حطام الدنيا الذي أمده قصير ، وخيره محدود في طائفة دون طائفة ، وهو بالتالي يختص بالدنيا فقط.

٤٠٦

سورة يونس

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١)

____________________

٦١ [شأن ] : الشأن اسم يقع على الأمر والحال تقول ما شأنك وما بالك وما حالك.

[تفيضون ] : الافاضة الدخول في العمل على جهة الأنصاب اليه مأخوذة من فيض الإناء إذا انصب الماء من جوانبه.

[يعزب ] : العزوب الذهاب عن المعلوم وضده حضور المعنى للنفس.

٤٠٧

حرمة التشريع من دون اذن الله

هدى من الآيات :

الهدف من الوحي الالهي هو موعظة الإنسان ، وشفاء صدره وهدايته ، وبالتالي إنزال الرحمة عليه ، ويتجسد هذا الهدف عمليا في التشريعات الصائبة التي تتجاوز الهوى والشهوات ، ومن لا يتبع هدى القرآن يبدأ بتشريعات شاذة في رزق الله وفي نعمه السابغة ، فتراه يجعل بعض النعم حلالا وبعضها حراما افتراء على الله ، وبعيدا عن اذن الله ، وماذا ينتظر هؤلاء يوم القيامة ، بعد أن كفروا بنعم الله وحرموها على أنفسهم؟ أو ليس ذلك خلاف العقل والفطرة أن يتفضل الله على الناس فلا يشكرونه ، بل ويفترون عليه الكذب ويحرمون رزق الله على أنفسهم؟

ان أعمال البشر كلها تجري بعلم الله وبشهادته ، ففي أية حالة يكون البشر ، وأي عقيدة ينتمي إليها ، وأي عمل يقوم به ، فان الله شاهد عليه حين تحركه دون أن يعيب عنه شيء بوزن الذرة أو أكبر أو أصغر ، وهو بالاضافة انَّ شهادة الله يسجّل في كتاب مبين ، فعلى البشر أن يتبع في كل عمل من أعماله حدود الله وهداه ، ولا

٤٠٨

يعمل حسب اهوائه.

بينات من الآيات :

الوحي هدى الطريق :

[٥٩] لقد جاء الوحي ليملأ فراغا حقيقيا في الحياة ، ذلك لأن الحياة نعمة واسعة من الله علينا فلا يحق لنا بل لا ينبغي أن نتحرك فيها من دون هدى الله الذي يرسم لنا خريطة التحرك ، ويحدد لنا معالم العمل.

(قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً)

وهل يحق لنا أن نتصرف في رزق الله ، ونقول : هذا حرام وهذا حلال؟ كلا .. بل علينا أن نتقيد وفق اذن الله.

(قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)

انها قضية فطرية ، ان التصرف في نعم الله لا ينبغي أن يكون من دون اذنه ، وهل اذن الله للناس إذنا مطلقا بالتصرف في ملكوته ، من دون عقل كاف وعلم ، أم انه كذب وافتراء؟ أجل ان علينا أن نبحث عن وحي الله ليحدّد لنا خريطة الحياة.

[٦٠] وماذا يتصور الذين يفترون على الله الكذب ، ويشرعون من دون اذن الله؟ وكيف يمكن أن يعاملهم الله هناك. وقد كفروا بأنعم الله ، فحرموها على أنفسهم وعلى الناس من دون اذن الله ، هل يعذبهم أم يغفر لهم؟!

ان مجرد التفكير في أن المشرع سوف يسأل أمام الله يوم القيامة يكفيه رادعا عن التشريع بالهوى.

(وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ)

٤٠٩

لقد منّ الله بمختلف النعم على البشر وسخّر للإنسان ما في السموات وما في الأرض ، وزوّده بقدرة الارادة ونور العقل وسلامة الجسد ، ولكن الناس ضيّقوا على أنفسهم وحدّدوا طاقاتهم بلا سبب ، فرسموا لبعضهم البعض الحدود الزائفة في الأرض ، قائلين هذه أرضك وهذه أرضي ، ثم وضعوا أنظمة للتجارة والصناعة ، ومن ثم صنعوا الأغلال الفكرية والأثقال الثقافية ووضعوها حول نفسيات البشر ، من خوف الطبيعة الى خشية الابتكار ، الى المحرّمات الكثيرة التي ما أنزل الله بها من سلطان ، الى الرسوم والعادات الباطلة ، وكل ذلك منعهم من الانتفاع بنعم الله وكان بمثابة الكفر بتلك النعم.

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ)

وهل هذا شكر لفضل الله على الناس ، أن يحرموه على أنفسهم؟! من هنا ينبغي أن يسارع البشر الى وحي الله ، ويؤمن به ويتخذ منه تشريعاته دون أن يحيد عنه قيد شعرة ، لا زيادة ولا نقيصة ، حتى ينتفع بالنعم.

الرقابة الالهية :

[٦١] البشر محاط برقابة الله عليه ، فلا يكون في وضع ولا ينتمي الى فكرة ولا يعمل عملا الّا ويشهد الله عليه ، لأنه حاضر عنده وليس بغائب عنه ، إذا فعلى البشر أن يجعل أوضاعه وأفكاره وأعماله في أطار الوحي ، ووفق تشريعات الله ، ولا يسترسل في قراراته حسب اهوائه.

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ)

أي في حال من الأحوال.

(وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ)

٤١٠

أي ما تقرأ من القرآن ـ حول ذلك الشأن ـ هذا عن الرسول والمؤمن الذي يتبع في شؤونه هدى القرآن ، أما بالنسبة الى غيره فما يتلوه هو أفكاره النابعة من اهوائه ، والله سبحانه شاهد عليها كما هو شاهد على شأنه وعمله.

(وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ)

تحوّل الخطاب الى الجماعة بعد أن كان فرديا ، والسبب قد يكون أن لكل إنسان شأنه وفكره ، ولكن العمل عادة ما يكون جماعيا يقوم به أولا أقل يرضى به مجموعة من الناس فيشتركون في مسئوليته ، ولو بقدر الرضا عنه وعدم ردع عامله.

(إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ)

أي حين تخوضون فيه وكأنكم منفلتون عن القيود ، أحرار في التصرف لكم مطلق القرار في العمل ، بينما الواقع غير ذلك وهو أنكم محدودون في أطار شهادة الله عليكم ، لذلك اتبعوا هدى الله.

(وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)

إن كل شيء له وزنه الخفيف أو الثقيل ، ابتداء من وزن الذرة الصغيرة وحتى وزن المجرّة الكبيرة ، انها جميعا محسوبة عند الله ، ومسجّلة في كتاب واضح لا تختلط أوراقه ، أو تضيع معلوماته ، من هنا ينبغي أن يتصرف البشر بعقل وبحذر ، يضع كل شيء موضعه المناسب ولا يرفع قدما ولا يضع خطوة ولا يتحرك قليلا أو كثيرا ، الّا وفق برنامج معد سلفا ، مطابق للوحي ، حتى لا تسجل ضده نقطة في كتاب الله ، وفي الدرس القادم يبيّن القرآن كيف يتجنب الفرد هذه المشكلة ، مشكلة الاسترسال في الحياة.

٤١١

سورة يونس

أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥)

٤١٢

أولياء الله البشرى والعزة

هدى من الآيات :

ما دامت حياة الفرد محاطة بشهادة الله وتسجل عليه كل حالة وفكرة وجولة ، فان البشر في خطر عظيم ، ويطرح السؤال : كيف الخلاص؟

الجواب : عن طريق الايمان والتقوى ، الذي يجعل الفرد وليا لله ، قريبا منه ، ويبعد عنه الخوف والحزن ، ويوفّر له البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، والله حكم بألّا يبدل سنته وكلماته ، بل يعطي للمؤمن المتقي أفضل النعم في الدنيا والآخرة ، ومن تلك النعم العزة ، لأن العزة لله جميعا ، وهو الذي يعطيها للمؤمنين المتقين ، و (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

بينات من الآيات :

هل نحن أولياء الله؟

[٦٢] من هو الولي الحقيقي لله؟

٤١٣

إنه المؤمن المتقي الذي لا يجعل بينه وبين ربه حاجبا من غفلة أو شهوة أو ضلالة ، ولان هذا الفرد قريب من مصدر الأمن والبشرى ، فلا خوف عليه من المستقبل ، ولا حزن على الماضي.

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

[٦٣] وكيف يمكن أن يبلغ البشر درجة ولاية الله؟

بالايمان بالله وبرسالاته ، وبالتالي بالحق الذي قد يخالف أهواءه ، ثم التقوى بتطبيق برامج الرسالة في حياته عمليا بالتزام صارم وتعهد مسئول.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)

ويبدو من الآية ضرورة استمرار الايمان والتقوى في حياة الفرد ، بدلالة صيغة الماضي المؤكدة بكلمة «كان» ذلك لأن أكثر الناس يؤمنون ويتقون ولكن قبل أن يتعرّضوا لامتحانات عسيرة.

لمن البشرى؟

[٦٤] ولهؤلاء المؤمنين البشرى بحياة آمنة كريمة في الدنيا ، وأفضل منها في الآخرة.

(لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ)

والبشرى هي التطلع الى هذه الحياة الآنية ، ذلك التطلع الذي يحققه الفرد بعمله وجهاده.

(لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ)

٤١٤

فالله قد أجرى في الكون سننا حكيمة ، وجعل منها إعطاء الحياة الآمنة السعيدة للمؤمن ، وانه لا يبدلها لأنه قوي عزيز ، والواقع ان الايمان بالله وبرسالاته ، والتقوى بتطبيقها عمليا يعني تسخير أفضل ما في الكون من أجل سعادة البشر ، والاجتناب عن كل شيء.

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

لمن العزة؟

[٦٥] وبما ان عاقبة الأمر للتقوى ، فان الوصول الى هذه العاقبة يمر عبر صعوبات كبيرة ومنها الحرب الاعلامية التي تحاول بعث اليأس في قلوب المؤمنين عن طريق تسفيه آمالهم وطموحاتهم المستقبلية ، وتوجيه نظرهم الى واقعهم الفاسد الذي يعيشونه ، والذي يتسم بتسلط الظالمين عليهم ، ولكن القرآن يؤكد مرة أخرى أن هذا الواقع سوف ينتهي ويأتي مكانه واقع أفضل ، حيث العزة والكرامة.

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

فربنا المهيمن على حياتنا لا يدع المؤمنين في هذه الحالة الاستثنائية ، حتى يكرمهم بالنصر والكرامة ، ولكن بعد أن يوفروا في أنفسهم صفات أولياء الله التي جاءت في النصوص الاسلامية والتي نذكر بعضها فيما يلي :

١ ـ سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع ) عن قوله تعالى «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» فقيل له : من هؤلاء الأولياء؟ فقال أمير المؤمنين :

«قوم أخلصوا لله في عبادته ، ونظروا الى باطن الدنيا ، حين نظر الناس الى ظاهرها ، فعرفوا أجلها حين غرت الخلق ـ سواهم ـ بعاجلها ، فتركوا ما علموا انه

٤١٥

سيتركهم ، وأماتوا منها ما علموا أنه سيميتهم» (١)

٢ ـ و عن أبي جعفر (عليه السلام ) قال : «وجدنا في كتاب علي بن الحسين (ع )» «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» قال :

«إذا أدّوا فرائض الله ، وأخذوا بسنن رسول الله ، وتورّعوا عن محارم الله ، وزهدوا في عاجل زهرة الدنيا ، ورغبوا فيما عند الله ، واكتسبوا الطيب من رزق الله ، ولا يريدون هذا التفاخر والتكاثر ، ثم أنفقوا فيما يلزمهم من حقوق واجبة ، فأولئك الذين بارك الله لهم فيما اكتسبوا ، ويثابون على ما قدموا لآخرتهم» (٢)

__________________

(١ ، ٢ ) تفسير الميزان ص ٩٨ ، الجزء الحادي عشر

٤١٦

سورة يونس

أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)

٤١٧

الشرك بين الظن والخرص

هدى من الآيات :

خلفية الخوف من الجبت والطاغوت هو الشرك بالله. وفي هذا الدرس يذكّر ربنا عباده بحقيقة الشرك الذي ليس هو سوى الظن والوهم (تصورات وخيالات ) بينما الله وحده مالك كل من في السموات والأرض ، ومن بينها أولئك المعبودون من دون الله باسم الشركاء ، وأنظمة الحياة التي تساعد الأحياء على البقاء ، أنها بدورها من الله ، فهو الذي جعل الليل ليسكن فيه الأحياء ، وجعل النهار مضيئا ، كل ذلك آيات لمن يفتح أذنه للسماع.

وليس من قوة في الأرض وفي السماء الّا وهي خاضعة لله ، وليست أداة وآلة بيد الله ، لأن الله غني وهو أرفع من أن يتخذ مساعدا أو ولدا ، ان هذا الكلام نابع من الجهل الذي لا برهان عليه.

والذين يفترون على الله الكذب ، ويدعون شركاء لله أو أولاد ، لا يفلحون ولا ينالون السعادة ، إذ أن بعض المتعة يصيبهم في الدنيا ، وبعدها يذوقون عذاب النار

٤١٨

الشديد بسبب كفرهم بالله.

بينات من الآيات :

الملك لله :

[٦٦] لا خوف على المؤمنين بل لهم النصر والعزة ، وأن أصحاب السلطة ، أنهم ليسوا في الواقع سوى مملوكين لله ، كما أن الملائكة والجن من سكان السموات الذين يعبدون من دون الله ، ويزعم البسطاء أن لهم تأثيرا حاسما على أحداث الحياة ويعيشون الرعب من تأثيراتهم ، كل أولئك مملوكين لله!!

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ)

انهم ليسوا شركاء لله ، بل عباد مربوبون ، كأي شخص أو شيء آخر ، وفي الواقع اتباعهم لهؤلاء نابع من التصور والوهم.

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)

فخلفية الشرك بالله العظيم ، هي اتباع الخيال والاحتمال ، فمن يتبع العقل يتخلص من التصورات النابعة من قوة الخيال ، أو من ضغوط الشهوات ، لأن العقل يميّز بين الخيال النابع من الحب والغضب (الهوى ) وبين الرؤية الصافية للحقائق ، كما أن من يتبع العلم يتخلص من سلطان الاحتمالات التي لا مرجح لأحدها على الآخر ، أما الجاهلي فانه يتبع الظن والخرص ، وهما يدعوانه الى الخضوع للشركاء.

تدبير الله :

[٦٧] والله هو المهيمن على الكائنات ، فهو الذي قدّر الليل والنهار ، فجعل

٤١٩

الليل ساكنا هادئا يأوي فيه كل حيّ الى فراش النوم ، والراحة ، أما النهار فانه جعله مضيئا يساعد الأحياء على الأبصار ورؤية الأشياء ، مما يدفعهم الى النشاط والحركة.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً)

فهو الذي يملك أمر الناس ، ويدبّر شئونهم ، وعلينا الّا نخضع للناس من دون الله مالك شئونهم ، ولكن هذه الحقيقة البسيطة قد يغفل عنها بعض الناس بسبب افتقادهم لأبسط شروط القيم وهو السماع.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)

أما الذين يتّبعون الظن والخرص فلا يدعوهم احساسهم بالحاجة الى العلم ، ولا يدعوهم الى السماع ، وبالتالي الفهم.

لا والد ولا ولد!!

[٦٨] ليس هناك ما يوازي سلطان الله لا في العرض ولا في الطول ، أي لا يوجد هناك شريك لله يكون بمستوى علمه وقدرته سبحانه ، كما لا يوجد هناك ولد لله يستمد منه صفاته الألوهية سبحانه.

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ)

ولماذا يتخذ الله ولدا؟ هل لأنه سوف يموت فيستخلفه الولد؟ أم لأنه عاجز عن ادارة أموره فيساعده الولد؟ أم لأنه فقير فيعطيه الولد شيئا؟ كلا .. إن ربنا غني بذاته .. وسبب غناه انه يملك كلما يوجد في السموات والأرض من قوة وامكانية.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

أما الذين يزعمون أن لربنا ولدا فهم لا يعلمون شيئا من مقام الألوهية المقدس

٤٢٠