من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

سورة يونس

ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧)

٣٦١

دار الفناء أم دار السلام

هدى من الآيات :

في الدرس السابق بيّن الله لنا أن الذين يمكرون في آيات الله بغيهم على أنفسهم ، لأن متاع الحياة الدنيا قليل.

وفي هذا الدرس يعطينا السياق رؤية عامة تجاه الحياة الدنيا ، ويضرب لنا مثلا ببعض ما نراه ظاهرا من تحولات طبيعية ، كالماء ينزل من السماء ويختلط به نبات الأرض من فواكه تأكلها الناس ، وأعشاب تأكلها الأنعام ، وتزدهر الأرض وتصبح بهيجة ومزينة ، حتى تصوّر أهل الأرض أنها أصبحت محكومة لهم ، وأنهم قادرون عليها ، وعلى أنواع التصرف فيها ، ولكن لا تبقى هذه الحالة إذ سرعان ما يأتيها أمر الله ليلا أو نهارا بعاصفة ثلجية ، أو سيول هادرة ، فاذا بها تحصد حصدا وكأنها لم تقم هكذا سابقا. هكذا يضرب الله لنا مثلا ، من ظواهر الدنيا التي هي آيات الله التي ينبغي أن نتفكر فيها.

وما دامت الحياة غير مأمونة العواقب ، فعلينا أن نفتش عن أمان ، والله يدعو الى

٣٦٢

ذلك ويهدي من يشاء الى صراط مستقيم ، يبلّغهم دار السلامة والأمن في الدنيا ، وفي الآخرة حيث يضمن للذين أحسنوا الفكر والعمل الحياة الحسنى وزيادة على فعلهم الحسن ، تلك الزيادة قد تكون في غناهم الروحي والمادي ، وأنهم أصحاب الجنة هم فيها خالدون.

بينما الذين عملوا السيئات يجازيهم الله بمثل ما فعلوا ، وتحلق بهم الذلة ، ولا يستطيع شيء أن يمنع عنهم عذاب الله ، ووجوههم مسودة كأنما قد أحاط بها الظلام ، وهم أصحاب النار فيها خالدون.

بينات من الآيات :

وحدانية الخلق والتدبير :

[٢٤] الذي خلق الطبيعة خلق الإنسان ، والذي يقلب ظواهر الطبيعة من حال لحال ، هو الذي يقلب حياة البشر ، ولو تفكر الإنسان في خلق الطبيعة لعرف الكثير من خلق البشر.

والمنهج القرآني الفريد يذكرنا بهذه الحقيقة من خلال الأمثال التي يضربها من واقع الطبيعة ويطبقها على واقع الإنسان ، فمثل حياتك في الدنيا وما فيها من طفولة وشباب وكهولة ، انما هو مثل الأرض شتاء وربيعا ثم خريفا فصيفا.

انك ترى الأرض هامدة فينزل الله عليها ماء من السماء ، ويكون الماء عاملا مساعدا لتفاعل ذرّات الأرض مع بعضها ، فالأملاح تدخل في قلب البذرة الحية ، فتنمو هذه الاخيرة وتصبح فاكهة لذيذة يتمتع بها الناس ، وعشبا غنيا يأكله الانعام ، وتفترش الأرض بساطا مزروعا فيه منافع الأرض وزينتها ، ويتصور الناس ان هذه الحالة دائمة لهم وأنه المسيطرون على خيرات الأرض ، ولكن سرعان ما يعصف

٣٦٣

بالزرع أمر الله في صورة عاصفة ثلجية فتصبح الأرض بلقعا ، وكأنه لم يكن عليها شيء قائم بالأمس.

وهكذا حياتك تبدء بالنشاط والزهو ، ويبارك الله فيها بالغنى والقدرة حتى تغتر بنفسك ، وتزعم أنك قادر على ما تشاء ، فاذا بك تحاصر من حولك بالمرض ، والعجز والفقر ، ولا تقدر على شيء ، إن علينا ان نتفكر مليّا في آيات الله في الحياة.

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ)

أي اختلط بسبب الماء نبات الأرض ببعضه ، وأنتج ما يأكله الناس وما يستفيد منه الأنعام.

(حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ)

يبدو أن الزخرف هي منافع الأرض ، وتزيين الأرض مباهجها الظاهرة.

(وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)

فالآيات الالهية سواء تلك التي يراها الإنسان على شاشة الطبيعة ، أو التي يسمعها من فم الرسالة ، انها واضحة المعالم لمن تفكّر فيها واعتبر بها.

إلى دار السلام :

[٢٥] وهكذا الحياة تتقلب حتى تبلغ نهايتها الصاعقة ، والله يدعو عباده الى دار السلام التي تصونهم من العواقب الوخيمة ، وذلك عن طريق هدايتهم الى صراط مستقيم يصلون عبره الى أهدافهم الصالحة.

٣٦٤

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

[٢٦] كيف يكون عند الله دار السلام التي يدعوا إليها ربنا عبر صراط مستقيم؟

إن دار السلام تعني في الدنيا تلك المناهج الالهية للأعمال الحسنة ، والتي تؤدي الى الحياة الحسنى.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ)

الله يضاعف لمن يفعل الحسنات ، لأن ربنا سبقت رحمته غضبه ، وهو أرحم الراحمين قبل أن يكون شديد العقاب ، ومن مظاهر الحياة الحسنى أن ظلام الشهوات والأهواء لا يحجب عقولهم ، وأن ذلّة السيئات لا تحيط بشخصياتهم ، فرؤيتهم واضحة ، ونفوسهم عزيزة.

(وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ)

أي لا يلحق وجوههم غبار ولا صغار.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

والشهوات في الدنيا ظلام في الآخرة ، كما أن الغرور والاستكبار ذلّة وصغار في الآخرة ، ولذلك جاء في الحديث المروي عن رسول الله :

«ما من عين ترقرقت بمائها الّا حرم الله ذلك الجسد على النار ، فان فاضت من خشية الله لم يرهق ذلك الوجه قتر ولا ذلة» (١)

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ / ١٠٤

٣٦٥

جزاء السيئات :

[٢٧] أما الذين عملوا السيئات فأصبحت ثقلا على ظهورهم ، فان جزاء كل سيئة تكون بقدرها تماما دون أن ينقص منها شيء ، وتلحقهم ذلة وصغار بسبب تلك السيئة ، وتحيط بهم ظلمات السيئات فتحجب عنهم الرؤية السليمة وكأنها قطع من الليل.

(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ)

فلا يفكر أحدهم أنه قادر على الخلاص من جزاء سيئاته من دون الله وعن طريق الشركاء كلا ..

(كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً)

أي كأنّ الله قد أغشى وستر وجوههم بقطع من الليل المظلم ، هكذا يحيط بهم السواد ، وهكذا تسبب الشهوات افتقاد النور والرؤية.

(أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

ان كل واحد منا معرض لان يكون من مصاديق هذه الآية ، الا أن يوفقه الله للتوبة من سيئاته والعمل بمناهج الله سبحانه.

٣٦٦

سورة يونس

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)

____________________

٢٨ [فزيّلنا ] : التنزيل التفريق مأخوذة من قولهم زلت الشيء عن مكانه أزيله وزيلته للكثرة وزايلت فلانا إذا فارقته هنا لك اي في ذلك المكان.

٣٦٧

هل ينفع الشركاء في اليوم الاخر؟

هدى من الآيات :

في الدروس السابقة ذكّرنا القرآن بأن الشركاء من دون الله لا يضرون ولا ينفعون ، ثم أعطانا رؤية متكاملة تجاه الحياة الدنيا ، والتي ينبغي أن تكون كافية للإنسان في توحيد الله ونبذ الشركاء.

وعاد السياق ليحدّثنا عن قضية الشركاء بتصوير مشهد من مشاهد يوم الحشر ، حيث يجمع الله الشركاء والمشركين جميعا ، ويفرز بينهما وينكر الشركاء أساسا أنهم كانوا يعبدون من دون الله ، ويشهدون الله أنهم كانوا غافلين عن عبادة المشركين لهم ، فما ذا ينتفع البشر من عبادة من هو غافل عن عبادته؟!

وهنالك تكشف لكل نفس ما أسلفت في الدنيا ، ويردون الى الله قائدهم ومولاهم الحقيقي ، بينما يتلاشى الشركاء الذين كانوا يجعلونهم شفعاء عند الله افتراء على الله والحق.

٣٦٨

بينات من الآيات :

وكشف الحجاب :

[٢٨] وفي يوم القيامة تتوضح الحقائق بحيث لا يقدر أحد على إنكارها ، وحين نتصور ـ ونحن في الدنيا ـ مشاهد ذلك اليوم ، يكفينا هذا التصور ، توضيحا للحقيقة ، وكشفا لمعالمها ، لماذا؟

لأن الذي يحول بيننا وبين فهم الحقيقة هو الغفلة ، أو الغرور والاستكبار ، وتصور مشاهد يوم الحشر يذوّب حجب الغفلة والغرور عن أنفسنا ، ويجعلنا نرى الحقيقة بلا حجاب ، ولذلك يرفع القرآن الستار لنرى مشهد الحوار بين المشركين وبين آلهتهم التي عبدوها دهرا زاعمين بأنها تنفعهم يوم القيامة.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً)

الشركاء المزعومين ومن عبدوهم.

(ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ)

أي انتظروا جميعا لكي تسألوا ، ثم فرّق الله بين الفريقين.

(فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ)

لقد أنكر الشركاء أنهم كانوا يعبدونهم إنكارا كاملا ، كما أنكرت الملائكة ذلك في آية أخرى ، وفي الواقع انهم أنكروا علمهم بهذه العبادة بدليل ما جاء في الآية القادمة.

التبري من المسؤولية :

[٢٩] واشهد الشركاء الله سبحانه على أنهم كانوا غافلين عن هذه العبادة.

٣٦٩

(فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ)

وسواء كان الشركاء الأصنام الحجرية ، أو الجن والملائكة ، أو حتى الأصنام البشرية ، فهي غافلة عن طاعة المشركين لها وغير مهتمة بذلك ، لأنها مشغولة عنها بقضاياها الخاصة.

[٣٠] وعند الله في يوم القيامة تظهر حقائق كل نفس وأعمالها التي أسلفتها في الدنيا ، وتقف أمام الله المولى الحق البشرية لتجيب عن تلك الأعمال.

(هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)

لقد افتروا على الله بأنه تعالى يخضع لضغط الشركاء ، وافتروا على الله بأنه سبحانه يسمع كلامهم ، أما الآن فليس بشيء من ذلك موجودا أمامهم ، لقد ابتعد عنهم وتلاشى كما يتلاشى السراب.

٣٧٠

سورة يونس

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)

٣٧١

التدبير آية الرب

والفسق حجاب البصيرة

هدى من الآيات :

من أجل اقتلاع جذر الشرك من قلب الإنسان الذي خلق ضعيفا ، يتابع السياق لحديث عن التوحيد ، ويتساءل عن الرزاق الذي ينزل الرزق من السماء ماءا وأشعة ، ويفجّر الأرض رزقا ورحمة ، أو ليس الله؟

ومن يعطينا أداة الرؤية والسماع أو ليس الله؟ ويخرج الميت من الحي وبالتالي من يدبّر أمر الكون ، ويستوي على عرش السموات والأرض وبيده ملكوتها؟ إذا سألتهم فسوف يقولون جميعا أنه الله ، وهنا يبرز السؤال التالي : إذا لماذا لا تتقون ربكم؟ ولماذا لا تخشونه؟

انه الله ربنا جميعا الحق الذي ليس بعده الّا الضلال ، فأين مكان الشركاء؟ وأين تصرفون أيها المشركون في أي واد واي سبيل منحرف؟!

وسؤال أخير : لماذا لا يؤمن هؤلاء جميعا برغم وضوح الآيات والجواب : هو أن

٣٧٢

هؤلاء قد فسقوا والفسق يحجب البصيرة.

بينات من الآيات :

رزق الأرض والسماء :

[٣١] يهبط من السماء الماء ، ولكن ليس بطريقة عشوائية ، بل بحكمة بالغة ، فالماء لا يسيل كما تنفتح القربة ، حتى يفسد الأرض ويخرب البيوت ، ويأتي مشفوعا بالمواد الضرورية للزرع ، وينزل معه فراتا سائغا ، ويأتي بقدر نافع لا يزيد ولا ينفص وبالتالي فهو رزق للإنسان متناسب مع حاجات البشر حجما ونوعا ، مما يدلنا على أن خالق الإنسان هو رازقه الماء من السماء ، والشمس تشع على الأرض ، فتغنى التربة موادا نافعة لرزق الإنسان كمية وكيفية ، مما يدلنا أيضا أن خالق الشمس هو خالق البشر وهكذا يرزق الله عباده من السماء.

ومخازن الرزق متواجدة في الأرض ، فالأحواض الطبيعية الضخمة داخل الأرض تستقبل مياه المطر لتخرجها في صورة ينابيع ، وقمم الجبال تجمد الماء من الشتاء الى الصيف ، والتربة تختزن المواد المفيدة ، وهكذا يرزق الله عباده من الأرض.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)

أو ليس هو ذلك القادر الحكيم الرحيم بالناس ، أو ليس هو الله؟!

من الخالق؟

ونتساءل : من الذي يوفّر للإنسان فرصة الاتصال بالحياة رؤية أو سماعا ، بما يستلزم من أنظمة معقدة في مخ البشر وأعصابه ، والياف عينه ، وعظام أذنه ، وبما يحتاج من ضياء وهواء يحمل الى عيوننا وأسماعنا تموّجات النور على الأشياء

٣٧٣

وذبذبات الصوت على الهواء؟ أو ليس هو ذلك الخبير اللطيف ، أو ليس هو الله؟!

(أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ)

وأكثر من هذه جميعا هو التطور الهائل الذي يحدث في الأشياء صعودا من الموت الى الحياة ، ونزولا من الحياة الى الموت ، من الذي يدبر هذا التطور أو ليس مالك الموت والحياة؟!

(وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ)

ويبدو من هذه الكلمة أن الحياة هبة الهية تعطى لشيء فيصبح حيا ، وينفصل من واقع الأشياء الميّتة بعد أن يكتسب منها مواد ميّتة ، فالبشر ـ مثلا ـ كان نطفة أعطاها الله الحياة ، ثم تتغذى النطفة من المواد الميتة ، فتضاف إليها وتصبح تلك الميتة بدورها ذات حياة ، والعكس يحدث هكذا!!

(وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)

ان قيادة الكون منظمة ، وهي توحي إلينا بضرورة من يشرف عليها ويدبرها ، لا يكون غير الله ، وهذه الأسئلة لو وجهتها الى اي واحد من المشركين ..

(فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ)

لماذا الانحراف؟

فما دام الله هو فاعل كل ذلك فلما ذا لا نخشاه ونتقه؟ ونعمل بمناهجه؟ إن القرآن الحكيم يربط بين النظرة الشاملة الى الكون وبين البصيرة السلوكية الخاصة ، وهذا الربط هو الذي ينقص كثيرا من الناس ، حيث يجهلون أن سلوكهم يجب أن يكون منسجما مع مسيرة الكون كلها ، ومع الحقائق التي يهتدي إليها الإنسان من

٣٧٤

خلال تفكره في هذه المسيرة.

[٣٢] وإذا شذّ البشر عن المسيرة العامة للوجود فالى أين يشذ؟ أو ليس الى الضلال؟ هل هناك حقائق في هذه الحياة؟ هناك حق واحد يجب أن نفتش عنه ، ونطبقه على واقعنا.

(فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)

أي الى أي جهة تعدلون بعبادتكم ، الى الباطل أم أنكم تعملون من دون تفكر؟!

[٣٣] ويبقى تساؤل إذا كانت القضية بهذا الوضوح ، فلما ذا يتعمد البعض بتجاهلها وإهلاك أنفسهم؟

ويجيب القرآن الحكيم : إن السبب هو فسق هؤلاء الذي يمنعهم من الايمان ، هذه سنة الله في الحياة : أن الفاسق لا يؤمن.

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

ولا يدل ذلك على أن الله يمنعهم عن الايمان منعا ، بل على أنهم عادة لا يؤمنون ، وذلك بسبب تكاثف حجب الفسق على أعينهم وبصائرهم.

٣٧٥

سورة يونس

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦)

٣٧٦

البشر بين الظن والحق

هدى من الآيات :

يتساءل السياق القرآني : هل بمقدور أحد الشركاء أن يبدأ الخلق ، ثم يفنيه ثم يعيده ، كما يفعل الله؟ ويعلم المشركون أن الخلق بيد الله وحده ،فلما ذا يصرفون الى الافك؟

ويتساءل مرة أخرى من الذي يهدي الأحياء بعد أن يعطيهم خلقهم الى ما فيه صلاحهم ودوام حياتهم؟ الله أم الشركاء؟

ويجيب : أن الله هو الذي يهدينا ، فهو الذي وفّر لنا العقل والسمع والأبصار ، وزوّد الأحياء بالغرائز التي اهتدوا بها الى صلاحهم ، إذا فهل من الصحيح التسليم لله أم للشركاء الذين لا يهتدون الا بقدر ما يهديهم الله؟ فكيف يحكم المشركون باتباع من لا يهدي ، بل ولا يهتدي الّا بصعوبة؟!

نعم .. إن سبب ضلالة هؤلاء وحكمهم الفاسد هو أنهم يتبعون الظن

٣٧٧

والتصورات النابعة من خيالهم ، والظن لا يغني عن الحق شيئا ، والله عليم بما يفعلون ، نتيجة اتباعهم للظن من الأعمال السيئة.

بينات من الآيات :

الكفر بعد المعرفة

[٣٤] الذي يتبع السلطان الجائر ، والذي يخضع للغني المستغل ، أو لصاحب الشهرة والنفوذ ، يعلم أن قائده لا يستطيع أن يهب الحياة ، أو يعيدها بعد أن يسلبها الله ، وهو يعلم يقينا أن موهب الخلق ومعيده بعد الفناء هو الله ، الواسع القدرة والعلم ، وهنا يتساءل القرآن إذا لماذا الخضوع للشركاء من دون الله؟!

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)

ويأتي الجواب : كلّا ..

(قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)

انه يبدأ الخلق من غير مثال سبقه اليه أحد ، ولا معالجة ولا لغوب ، فليس ربنا كما البشر يحتاج الى تجربة حتى يخلق الخلق بهذه الدقة المتناهية ، ولو احتاج الى التجربة لاحتاج الى بلايين التجارب من أجل خلق خلية حية واحدة ، كما يؤكد على ذلك العلم الحديث والله يعيد الخلق حتى يسوي بنان الإنسان بذلك الشكل الذي لا يتشابه مع بنان أحد في العالم!!

(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)

أي أين تصرف بكم الأهواء ، وتتحرك بكم الشهوات؟ ولماذا تتركون الخالق العظيم الى بعض المخلوقين الضعفاء؟!

٣٧٨

الصلاح من الله :

[٣٥] والله يعطي كل شيء خلقه ويهديه الى ما فيه صلاحه ، إنك تجد النملة كيف تفتش عن رزقها حتى تلتقطه وتحافظ عليه من الصيف للشتاء ، وتبني بيتها بطريقة هندسية غريبة ، وكما النملة تفعل النحلة ببيتها ، وتفتش عن رحيق الزهور ، وتنظم نفسها في خلاياها بأفضل تنظيم ، ثم تصنع عسلا وتحافظ عليه لرزقها أيام السنة ، فمن الذي أوحى إليها بذلك وهداها لصلاحها غير الله؟

وكما النمل والنحل فكذلك سائر الأحياء ، والنباتات تنشط باتجاه مصالحها في سبل متعددة وبأساليب شتى ، أو ليس الله الذي هداها الى ذلك ، كما هدى الإنسان طبيعيا وحضاريا؟!

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ)

فهو الذي خلق البشر والطبيعة وفق الأنظمة الفطرية ، وهو الذي علم الإنسان كيف يستفيد من الطبيعة وفق تلك الأنظمة دون أن يصطدم بها.

(أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى)

الشركاء لا يهتدون الّا إذا هداهم الله ، فهذا الطاغوت الذي يعبد من دون الله لو سلب الله منه هداه ، وسلب منه عقله وعلمه ، أو لا يصبح مجنونا يطرده أهله؟! وهذا الثري الموغل في الفخر والغرور ، لو سلب الله منه عقله وعلمه ، أو لا يصبح مثارا للسخرية؟! وهذا الصنم الحجري الذي يعبده الجاهلون هل يهدي أحدا؟!

(فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)

ولماذا تقيسون الشركاء بربّ العالمين؟ ويبدو لي أن الآية الكريمة تشير الى أولئك

٣٧٩

الشركاء الذين يتخذهم الناس أربابا فكريين ، ويأخذون منهم علومهم وثقافتهم من دون الله ، ومن دون تمحيص ، فقد جاء في حديث شريف :

«من استمع الى ناطق فقد عبده فان كان الناطق عن الله فقد عبد الله ، وان كان الناطق ينطق عن إبليس فقد عبد إبليس» (١)

و جاء في حديث آخر في تفسير الآية الكريمة :

«اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ» قال : «والله ما صلّوا لهم ولا صاموا ولكن أطاعوهم في معصية الله» (٢)

و جاء في حديث ثالث :

«من دان الله بغير سماع من عالم صادق ألزمه الله التيه الى الفناء ، ومن ادّعى سماعا من غير الباب الذي فتحه الله لخلقه فهو مشرك ، وذلك الباب هو الأمين المأمون على سر الله المكنون» (٣)

و في حديث آخر :

«من دان الله بغير سماع عن صادق ألزمه الله التيه الى يوم القيامة» (٤)

و جاء في تفسير قول الله عز وجل :

«(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) قال : عنّى الله بها من اتخذ دينه

__________________

(١) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ص ٩٤ الجزء الثاني.

(٢) المصدر ص ٩٧

(٣) المصدر ص ١٠٠

(٤) المصدر ص ٩٣

٣٨٠