من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

لأنهم لا يؤمنون فعلا بالمسجد وبدوره الرائد في المجتمع ، فهم انما بنوه لغرض فاذا بلغوا هدفهم تركوا المسجد وكانوا كمن قال فيه الشاعر :

صلى المصلي لأمر كان يطلبه

لما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما

٢٨١

سورة التوبة

إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)

٢٨٢

صفات المجاهدين

هدى من الآيات :

في سياق استعراض فئات الناس حسب مواقفهم من الرسالة ، يذكرنا القرآن بالمثل الأعلى للمؤمنين ، وهم الفئة التي اشترى الله منهم كل ما لديهم في الدنيا في مقابل الجنة في الآخرة ، لذلك تراهم يقاتلون في سبيل الله ولا فرق عندهم بين أن يقتلوا أو يقتلوا ، ولقد قطع الله معهم وعدا حقا ذكره في التوراة والإنجيل والقرآن ، وهل هناك من يفي بوعده بالطريقة التي يفي بها ربنا العزيز الحكيم؟! تلك إذا صفقة رابحة يستبشر بها المؤمنون وهي فوز عظيم.

ومن صفات هذه الفئة التوبة (إصلاح الذات ) والعبادة (التبتل الى الله في الدعاء والصّلاة ) والحمد (الرضا بما يقسم الله ، والاطمئنان الى رحمته الواسعة ) والسياحة (السير في الأرض اعتبارا أو جهادا ) والركوع والسجود ، والتسليم لله والخضوع له ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وصيانة حدود الله.

كل هذه الأعمال الكبيرة تجعلهم أعلى مثل للإنسان المسلم ، ولذلك يجب أن

٢٨٣

نبشّرهم ونهنيهم بها.

بينات من الآيات :

علاقة الله بالمؤمن بيع وشراء

[١١١] حين تدفع ألف دينار لتأخذ قطعة أرض من مالكها ، كيف تتعامل مع الألف دينار؟ بالطبع سوف تقطع علاقتك الخاصة بها وتنتظر صاحب الأرض متى يطالبك بها لتدفعها اليه. كما انه بدوره ينتظرك حتى يدفع إليك الأرض التي اشتريتها ، وهكذا حين اشترى ربّنا من المؤمنين ما هو لهم في الدنيا من مال ونفس ، ووعدهم الجنة وعد الصدق ، فانك أنت المؤمن البائع لا ترى لنفسك الحق في التصرف في نفسك أو مالك ، لأنك قد بعتها الى الله نعم المشتري بأفضل ثمن وهو الجنة ، ومن هنا يزداد شوقك الى الجنة كل لحظة لأنك قد امتلكتها بفضل الله.

هل تشك في أن الله سوف يدفع إليك ما وعدك؟. كلا بل هو أوفى من وعد لأنه غني حميد. مالك الجنان الواسعة التي عرضها السموات والأرض.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)

ولذلك تجد نفسك مشتاقة الى الجهاد لأنه طريقك الى الشهادة ، وهي سبيلك الى الجنة ، والى لقاء الله حبيب قلوب المؤمنين.

(يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ)

وفي كل عصر تجد المؤمنين الصادقين يتسابقون الى الجهاد. من أيام موسى الى عهد عيسى (ع ) ، الى عصر محمد (ص ).

٢٨٤

(وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ)

وفاء الله بعهده ثابت لأنه صادق وقادر وعزيز ، وهو أرحم الراحمين. يدفع إليك ما وعدك أضعافا مضاعفة.

(فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

صفات المؤمنين :

[١١٢] من مواصفات هذه الفئة أن كل جوانب حياتهم تتجلى بهذه الصفقة الرابحة ، فهم من أهل الجنة الذين لا علاقة لهم بالدنيا وحطامها ، لذلك نجدهم :

ألف : يتوبون الى الله في كل لحظة ، ومن كل ذنب يرتكبونه. غفلة أو جهلا أو جهالة ، وهكذا يصلحون أنفسهم كلما أفسدتها عوامل الشهوة وضغوط الحياة.

باء : ويعبدون الله ويتبتلون اليه ويتضرعون ليل نهار ، وبذلك يزدادون رسوخا في الايمان وصلابة في الجهاد.

جيم : ويحمدون الله سبحانه ، فهم أبدا راضون بما يعطيهم ربهم سبحانه ، وهكذا تكون شخصياتهم سليمة غير معقدة بتلك العقد التي تتراكم على قلوب أهل الدنيا بسبب الاحباطات النفسية التي يتعرضون لها ، وهكذا يزدادون قدرة على العطاء وتحملا للعناء وسلامة في الجسم.

دال : ويسيحون في الأرض لينظروا ما فيها من عبر التاريخ ويستخرجوا ما فيها من طاقات سخّرت لعمارة الأرض ، وليروا من فيها من بشر ينتظرون الهداية والبلاغ ، وبالتالي ليروّضوا أنفسهم على التعب من أجل الله.

هاء : يركعون ويسجدون لأنهما مظهران من مظاهر العبادة الصادقة والتبتل

٢٨٥

الى الله.

واو : (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) لأنهم قد هيأوا أنفسهم لهذه المسؤولية الكبيرة.

زاي : ويعتبرون أنفسهم شهداء على تطبيق النظام الاسلامي. وحدود الشريعة المقدسة ، لذلك فهم حافظون لحدود الله. سواء بأنفسهم فلا يعطون لأنفسهم الحق في تغيير حدود الشريعة باجتهادهم أو بسبب أنهم ثوار مجاهدون. كلا .. بل يلتزمون دائما قبل الآخرين بتفاصيل المناهج التي بينها لهم ربهم سبحانه ، ولذلك فان الله يبشّرهم برحمة واسعة منه.

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)

٢٨٦

سورة التوبة

ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)

____________________

١١٤ [لأواه ] : الاوّاه من التأوه وهو التوجع.

٢٨٧

الولاء للرسالة

هدى من الآيات :

لقد فصّلت آيات الدرس السابق مواقف الفئات من الرسالة ، وفي هذا الدرس والدروس القادمة يبيّن السياق القرآني جوانب من علاقات هذه الفئات ببعضها ، وبدئها بضرورة فصم الولاء بين المؤمنين والمشركين حتى ولو كانوا أقاربهم الأدنين.

فلا يجوز للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ، لان ذلك نوع من العلاقة الايجابية المحظورة شرعا ولأن الاستغفار لا ينفع أحدا إذا أصرّ على الشرك والعناد.

ولم يكن استغفارا إبراهيم (ع ) لأبيه وهو يعلم أنه مشرك الّا بسبب وعد بينهما ، وربما كان يرجو إبراهيم اهتداء أبيه ، بيد أنه لمّا علم أنه عدو لله تبرّأ منه ، وقد كان إبراهيم (ع ) ممحضا في التوحيد ومتبتّلا الى الله ، وكان في الوقت ذاته حليما.

ولقد هدى الله البشر بالفطرة ، وأرسل إليهم رسلا بيّنوا لهم شرائع الدين ، فلما خالفوا تلك الشرائع ـ وليس قبل ذلك ـ أضلّهم الله ، والله بكل شيء عليم.

٢٨٨

وهكذا ينهى الله سبحانه عن الاستغفار للمشركين لأنه هداهم فاستحبّوا العمى فاضلّهم وأبعدهم ، والله ولي البشر لأن له ملك السموات والأرض دون أسرة الإنسان وأقاربه.

بينات من الآيات :

شروط الاستغفار :

[١١٣] بعض الناس يذنب ويتمنى لو أن الرسول أو أحد الأولياء يشفع له ذنبه بمجرد أنه ابن ذلك الولي أو تابع للرسول.

وقد يكون ذلك التمني معقولا ولكن بشروط ثلاثة :

أولا : ـ الّا يكون مجرّد تمني بل يشفع بعمل وسعي ، يقول القرآن الحكيم في آية كريمة : «أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى» ، الى قوله سبحانه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) مما يدل على ان التمني لا يجدي نفعا لو بقي في حدود التمني.

ثانيا : ـ أن تكون علاقته بالولي ، أو بالرسول علاقة ايمان لا علاقة إعجاب عاطفي أو انتماء نسبي ، فالرسول (ص ) ليس أبا لأحد من الرجال بل هو قبل كل شيء رسول بعثه الله ليطاع باذنه ، فلو كانت العلاقة معه نابعة من الايمان بالله فانها تشفع له.

ثالثا : ـ الّا يكون الذنب هو الشرك بالله العظيم لأن الله يغفر كل الذنوب دون الشرك بالله تعالى.

ضمن هذه الشروط يقدر النبي أو الولي أن يشفع للمذنبين ، ولكن لا تعني الشفاعة أنه يفرض على الله غفران ذنوبهم ، بل أنه يدعو والله يستجيب دعاءه

٢٨٩

بفضله ، وهكذا تكون الشفاعة والاستغفار بمعنى واحد لان الاستغفار هو الدعاء بغفران ذنب المذنبين ، والآية التالية تؤكد على الشرط الأخير الذي هو الأهم من هذه الشروط الثلاث للشفاعة فتقول :

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)

فما دام الشخص مشركا فهو من أصحاب النار لا محالة فلما ذا طلب المغفرة له ، ولماذا أساسا الارتباط النفسي به. إنه من أمة ونحن من أمة ان صاحبه النار وصاحب المؤمنين الجنة.

[١١٤] نعم ان الاستغفار يجوز للمشرك وذلك بطلب الهداية له من الله سبحانه ، كما كان الرسول (ص ) يكرّر هذه الكلمة في المواقف الحرجة من حياته الرسالية (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون وكما كان إبراهيم (ع ) وعد أباه أن يستغفر له (قالَ : «سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا)».

ذلك لأنه كان يسعى آنئذ نحو هداية قومه وإخراجهم من ضلالتهم ، اما بعدئذ حينما تبيّن له أن أباه وقومه أعداء لله ، وان شركهم ليس لجهلهم بل للعناد والتحدي. هجرهم وتبرأ منهم.

(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)

[١١٥] والله كذلك لا يأمرنا بمقاطعة المشركين فورا ومن دون سابق تبشير وإنذار ، انما علينا أن ندعوهم الى الهدى بكل وسيلة ، ومنها الدعاء لهم بالهداية ، فاذا

٢٩٠

عاندوا تركناهم وتبرّأنا منهم ، كما أنه سبحانه لن يضل الناس بعد أن هداهم. وكشف لهم تفاصيل الشريعة.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ)

ان هدايته اما تكون بالفطرة حيث خلق الله الناس وأركز في أنفسهم معرفته وزوّدهم بالعقل ليعرفوا الحق ، أو تكون بالرسالة حيث بعث أنبياء ليهدوهم ، فلما اهتدوا وأنعم الله عليهم بالرخاء طغوا ونسوا ما ذكّروا به. هنالك يضلّهم الله ويسلب منهم نعمة الهداية التي سبق وأنعم بها عليهم فلم يراعوها حق الرعاية ، وأهملوا السنن التي بينها لهم ، وأهملوا المحرّمات التي أمرهم الله تعالى باتقائها واجتنابها.

(حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ)

أي الذنوب التي يجب اجتنابها.

(إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

فهو عليهم بأسباب شقاء الإنسان ، وكيف يجب اتقائها ، وعليم بواقع ذلك القوم الذي لم يجتنب الذنوب وأرتكب أسباب الشقاء ، لذلك فلما يضلّهم ، يضلّهم بعلم سبحانه.

[١١٦] كذلك يجب الّا ينتمي الإنسان الى قرابته بل الى الله ، فلا يستغفر للمشركين من أقاربه ، لأن الله له ملك السموات والأرض وأسرة الفرد لا تغني شيئا عن الله.

(إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)

٢٩١

سورة التوبة

لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)

٢٩٢

الطاعة في ساعة العسرة

هدى من الآيات :

ان الله تعالى يغفر الذنوب التي ارتكبها البشر تحت ضغط الظروف الصعبة مثل ساعة العسرة التي مرّ بها أصحاب الرسول (ص ) وكادت قلوبهم تصاب بالزيغ والانحراف بل الضلال ، فغفر الله لهم لأنه رؤف رحيم بهم ، ويعرف مدى ضعفهم ، كما غفر الله لأولئك الذين تخلّفوا عن المعركة ثم تابوا الى الله وعرفوا ألّا ملجأ من الله الا اليه ، فآنئذ تاب الله عليهم ، ليعودوا اليه والى مناهجه السماوية.

وهكذا يأتي هذا الدرس مكملا لآيات الدرس السابق التي تبيّن لنا أن الاستغفار انما هو قبل بلوغ الذنب مستوى الشرك بالله ، فاذا بلغه فان الله لا يغفره أبدا ، أما قبلئذ فان الله سبحانه يغفر بعض الذنوب.

بينات من الآيات :

الشفاعة متى ولماذا؟

[١١٧] نعود ـ مرة اخرى ـ الى الشفاعة ، ومتى وكيف يشفع الرسول في أمته؟

٢٩٣

لنؤكد على حقيقتين :

الاولى : ان الشفاعة من عمل الإنسان وسعيه ، وليست من تمنياته وأحلامه.

الثانية : ان الهدف من الشفاعة تعميق الصلة بين الرسول (ص ) وقومه ، ونستوحي من الآية التالية كلتا الفكرتين : ولكن كيف؟

دعنا نتدّبر في الآية الكريمة :

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ)

توبة الله على النبي تعني المزيد من بركاته عليه ، ولكن بالنسبة الى المهاجرين والأنصار قد تعني أيضا غفران ذنوبهم ولكن بماذا وكيف غفرت ذنوبهم؟ بأنهم أتبعوا الرسول في ساعات الشدة ، ولأن ذلك كان عملا كبيرا والله سبحانه يغفر بسبب الحسنات الكبيرة الذنوب الصغيرة لذلك أكّدت الآية على هذه الحقيقة.

(الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ)

فالصبر في ساعة العسرة عمل عظيم يغفر الله تعالى بسببه سائر الأعمال الصغيرة ، ولكن أهم نقطة هي اتباع الرسول ، وعدم الخلاف معه ، وعدم الاسترسال مع حالة الزيغ ، الذي يصيب البشر في مثل هذه الحالات الصعبة.

(مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ)

وزيغ القلب هو انحرافه عن الايمان بالله والرسول ، وإذا اتبع المؤمن قيادته ولم يتشكك فيها بسبب الظروف الصعبة فان ذلك يشفع له ذنوبه ، لأن الرسول أو الولي الذي يمثل القيادة سوف يشفع له عند الله ، ويصلي له ويستغفر له ، وبهذا نعرف فلسفة الشفاعة فهي سبب لتمتين الارتباط بالرسول (ص ) أو بالقيادة السليمة.

٢٩٤

(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)

حين تضيق بنا الحياة!

[١١٨] وهناك حالة مفردة غفرها الله سبحانه وهي : أن ثلاثة من أصحاب الرسول (ص ) تخلّفوا عن الجهاد فغضب الله عليهم وأمر الرسول الّا يكلمهم المسلمون ، فشعروا بضيق كبير حتى ضاقت عليهم الأرض بالرغم من سعتها ورحبها.

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ)

ضيق الأرض بسبب مقاطعة المجتمع لهم ، وضيق أنفسهم بسبب شعورهم بالذنب ، لذلك توجهوا الى الله.

(وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ)

اي تصوروا هذه الحقيقة ماثلة أمامهم كأنهم يرونها بالرغم من ايمانهم المسبق بهذه الحقيقة وهي أن الكهف الحقيقي لا يوائهم في زحمة المشاكل هو حصن الله الحصين.

(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)

٢٩٥

سورة التوبة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ

____________________

١٢٠ [مخمصة ] : المخمصة المجاعة وأصله ضمور البطن للمجاعة يقال للرجل خميص البطن.

[يغيظ ] : الغيظ انتقاض الطبع بما يرى مما يسوؤه يقال غاظه يغيظه.

[نيلا ] : النيل الأمر ونيلا : أمرا.

١٢٥ [رجسا ] : الرجس هي النجاسة .. وانما سموا بذلك لأنّ الكفر والنفاق كالنجاسة.

٢٩٦

سورة التوبة

لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)

٢٩٧

خطوات المجاهدين عمل صالح

هدى من الآيات :

من أجل تحريض المؤمنين على الجهاد في سبيل الله ، أكدّ القرآن الحكيم على ضرورة التقوى والانسجام مع المؤمنين الصادقين ، وفي طليعتهم رسول الله (ص ) الذي لا ينبغي التخلّف عنه أو تفضيل حياتهم وراحتهم على حياته وراحته لأنه لا يصيب أحدا من الاعراب أو من أهل المدينة شيء من الأذى الّا كتب له بقدره عمل صالح يجازى به سواء كان ذلك الأذى عطشا أو تعبا أو مجاعة ، ولا يعملون عملا الّا سجّل بحسابهم سواء كان صغيرا أو كبيرا ، ومقياس العمل هو التحرك في سبيل الله ، أو مقاومة أعدائه ، و (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

كما أن أية نقطة صغيرة أو كبيرة محسوبة عند الله ، وكذلك قطع المسافات هو الآخر محسوب بقدر الجهد والعناء الذي يصيبهم بذلك ، والله سبحانه سوف يجازيهم خيرا عليه.

وعلى المؤمنين المنتشرين في أقطار الأرض أن تختار كل فرقة منهم طائفة لينفروا

٢٩٨

الى (المدينة ) مركز القيادة الاسلامية لكي يكونوا قريبين من الأحداث ، ويعرفوا تعاليم الدين ، ويتعمّقوا في فهم الرسالة ليقوموا بعد عودتهم بواجب الإنذار لقومهم بهدف تزكية وتعليم قومهم ، واعادتهم الى الصراط المستقيم.

بينات من الآيات :

واجبات وأولويات المؤمن

[١١٩] ثلاث واجبات متكاملة ينبغي أن يعقد المسلم عزمه على تحقيقها :

أولا : الايمان المستقر في قلبه.

ثانيا : التقوى وتنفيذ سائر الواجبات الاسلامية.

ثالثا : أن يكون مع الصادقين وهم التجمع الرسالي.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)

وأيّ واحد من هذه الواجبات الثلاث لا يكتمل من دون سائر الواجبات ، وبالذات الانتماء الى تجمع الصادقين ، والتفاعل معهم ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا ، ومشاركتهم الهموم والآمال. ذلك لأن هذا التجمع حصن الايمان والتقوى ولأن ضغط الحياة وتحدياتها كبيرة ولا يستطيع المؤمن أن يواجهها وحده.

صفات المجتمع الرسالي :

[١٢٠] المجتمع المستقر الراكد ليس مجتمعا رساليا ولا مسلما لأن الإسلام الحقيقي هو الاهتمام بشؤون الآخرين ، والدفاع عن حقوق المستضعفين الى درجة الجهاد من أجلهم ، والمجتمع الاسلامي لا يجمد في حدود اقليمية ضيّقة ، ولا يقول بناء الوطن أولا ، ثم الانطلاق لاصلاح الآخرين لأنه لا وطن للفضيلة والخير ، ولا

٢٩٩

حدود للعدالة والرفاه.

وهكذا كان الرسول (ص ) نذيرا للعالمين ، وهكذا كان يجب على أهل المدينة وهم أبناء المجتمع الاسلامي الأول ، أن يتّبعوا الرسول في حمل رسالته بلاغا وتنفيذا ، قولا وعملا.

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ)

فيقعدوا في بلدهم ويطبّقوا الإسلام ويقولوا علينا بإصلاح بلدنا وحده. كلّا .. كان عليهم أن يسيروا في الأرض كما كان يسير رسول الله (ص ) ، ويحملوا على أكتافهم مشعل الرسالة الى كل مكان. أو كانت نفوسهم أعز من نفس رسول الله (ص ) ، من يدعوا نفس رسول الله تتعرّض للمصاعب والأخطار بينما نفوسهم آمنة في المدينة؟

(وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ)

وبالتالي لا يصيبهم مكروه الّا وهو مسجل عند الله تعالى ويوفيهم جزاءهم كاملا.

(وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ)

فسواء بقوا أو اتبعوا العدو تضرّروا أو أضرّوا بالمخالفين.

(وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)

فهناك مقياسان للعمل الذي يجازيه ربنا الرحيم به :

٣٠٠