من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

كانت عاقبة أولئك؟

(أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ)

أي خسرت أعمالهم الايجابية التي عملوها من أجل الدنيا أو من أجل الآخرة وذلك بسبب أفعالهم السيئة.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)

[٧٠] المنافق والكافر يشتركان في مصير واحد لأنهما يشتركان في اتباع الشهوات ، ومصير الكافرين في التاريخ عبرة كافية للمنافقين أيضا.

(أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ)

أي قوم شعيب الذين أهلكهم الله بعذاب يوم الظلة.

(وَالْمُؤْتَفِكاتِ)

أي المنقلبات وهي مدن قوم لوط.

(أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

ظلموا أنفسهم بترك البيّنات ، والكفر بالرسل.

صفات المؤمنين :

[٧١] وفي مقابل التيّار المنافق نجد التيّار المؤمن الذي يتماسك أبناؤه بآصرة

٢٢١

الولاء الواحد ، والثقافة المشتركة حيث يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)

كما ان الشعائر الواحدة تزيد ترابطهم كالصلاة التي يقيمونها فهي كما عمود مستطيل يرفع خيمتهم فهي ليست عبادة فقط ، بل وأيضا ظاهرة اجتماعية سياسية خصوصا حينما تقام جماعة أو في الأعياد والجمعات.

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ)

والزكاة بدورها فريضة الهية تقيم المجتمع ، وتحافظ على تماسكه ، وانتشار روح العدالة والمساواة ، والمجتمع المسلم ذو قيادة مشتركة ومتجذرة في نفوسهم.

(وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

أي ان رحمة الله تتنزل على المجتمع والله قوي شاهد في أحداث المجتمع ويعامل الناس بحكمته فيعطي الناس حسب أفعالهم وجهودهم ونياتهم.

[٧٢] والله سبحانه وعد أبناء هذا التيار المؤمن حياة سعيدة في الآخرة كما منعهم ذلك في الدنيا.

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ)

ليس لها خريف أو شتاء أو زوال.

ولكن أكبر من ذلك رضا الله.

٢٢٢

(وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ)

وهذا الرضوان دليل توافق أعمالهم في الدنيا مع تعاليم الشريعة.

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

٢٢٣

سورة التوبة

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤) وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨)

٢٢٤

هكذا امتحنهم الله بالثروة

هدى من الآيات :

لا يزال السياق القرآني في سورة التوبة المباركة يحدثنا عن صفات المنافقين ، فبعد ان يأمر الله رسوله الأكرم (ص ) بأن يبدأ جهادا دائما وصعبا مع الكفار والمنافقين وأن يغلظ عليهم لأن نهايتهم ليست الا النار التي ساءت مصيرا بعدئذ يبين لنا القرآن الحكيم صفات المنافقين ومن أبرزها حالة الازدواجية عندهم فهم يحلفون بالله بأنهم لم يقولوا كلمة الكفر بينما في الحقيقة إنهم قالوا هذه الكلمة منذ زمان. حيث أنهم كفروا واقعا بعد أن أسلموا ظاهرا كفروا حينما رأوا أن مسئوليات الإسلام كبيرة وانهم دونها.

وأمامهم الآن أحد الخيارين الرئيسيين فاما العودة الى احضان الإسلام واما انتظار عذاب اليم في الدنيا والآخرة من دون أن يكون لهم نصيرا أو ظهير في الأرض أو في السماء.

ومن المنافقين أولئك الذين يبحثون عن فرصة في الحياة و يدّعون بأنهم لو

٢٢٥

جاءتهم هذه الفرصة تراهم يعطون كل ما يملكون من أجل الله وأنهم يستغلون الفرصة هذه استغلالا حسنا. ولكن حينما يعطيهم الله ويوفر لهم هذه الفرصة تراهم بعكس ذلك تماما انما يحاربون الله ورسوله ويقاومون الرسالة وهكذا لا يسلب منهم الله تلك الفرصة فحسب وانما أيضا يزرع في قلوبهم حالة من النفاق تستمر معهم الى النهاية لأنهم لم يستغلوا فرصتهم الحسنة بل قاوموا وغيروا دين الله.

بينات من الآيات :

جاهد الكفار والمنافقين :

[٧٣] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)

أولا : يربط القرآن بين فئتي الكفار والمنافقين ويأمر الرسول بجهادهم جهادا مستمرا وأن يغلظ عليهم وأن لا تأخذه بهم في الله رأفة.

لان مصير المنافقين النار ومن يكون مصيره الى نار جهنم لا يمكن ان يرحمه العباد أو يرحمه من يجسد ارادة الله في الأرض وهو الرسول والقيادة الرسالية.

ثم يبين أبرز صفات المنافقين وهي الازدواجية التي يقول عنها ربنا في هذه الآية :

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ)

ثانيا : أنهم حاولوا تغيير نظام الحكم عن طريق قتل الرّسول أو إخراجه أو إفساد الوضع السياسي.

ثالثا : لم يشكروا نعمة الأمن والرخاء التي وفرها الإسلام لهم ، وهؤلاء المنافقون ان تابوا الى الله قبلت توبتهم والا فان عذابا أليما ينتظرهم في الدنيا

٢٢٦

والآخرة ، ولا أحد يواليهم أو ينصرهم.

رابعا : النفاق صفة كامنة في النفس تظهرها النعمة ، فمن الناس من يتمنى الغنى ويتعهد مع الله ان لو أغناه الله لأعطى حق النعمة فتصدق وعمل عملا صالحا ، ولكن حين أتاه الله من فضله أمسى بخيلا بالنعمة ، وعمل عملا سيئا مما كرّس في ذاته حالة النفاق الى يوم القيامة وذلك بسبب خلفهم لوعدهم ونكثهم لعهدهم مع الله ، ولكن ذلك الوعد كان كاذبا منذ الأساس ، وكان الله عالما بقلوبهم ، كما ان تبريراتهم الجديدة كاذبة هي الاخرى مثل تسويف الإنفاق ليوم الحصاد أو ربح التجارة.

من صفات المنافقين :

[٧٤] ان من صفات المنافقين ، الحلف الكاذب بالله ذلك لأنهم يعرفون انهم متهمون.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ)

وقد يكون هؤلاء قد قالوا كلمة ضد السلطة الاسلامية وقيادة الرسول واعتبرها القرآن كلمة الكفر. بينما اعتبروها كلمة عاديّة ، وهكذا المنافقون في كل يوم يزعمون ان الكفر ينحصر فقط في سبّ الله تعالى ، وانكار وجوده سبحانه بينما ليس الأمر كذلك ، بل مناهضة سلطة الإسلام أو مخالفة ثورة المسلمين الصادقين ضد سلطات الطاغوت هي الاخرى كفر. لذلك أكد القرآن على ان كل ذلك يعتبر كفرا بعد إسلام.

(وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ)

والإسلام هنا ـ كما يبدو ـ هو التسليم لله وللرسول والخضوع للقيادة الرسالية

٢٢٧

لذلك جاء في بعض التفاسير «نزلت ـ هذه الآية ـ في عبد الله بن أبيّ بن سلول حين قال : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ))».

فبالرغم من ان هذه ليست سبّ لله أو الرسول ، ولكنها كلمة كفر لأنها تمرد على الإسلام لله وللرسول ، وفي الكلمة التالية اشارة الى هذه الحقيقة :

(وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا)

فلقد همّوا بإخراج الرسول ، وإفساد الناس ليقاوموا سلطة الرسالة عن طريق بثّ الإشاعات الباطلة مثل قول أحد المنافقين واسمه جلاس قال بعد خطاب الرسول وهو يثير رفاقه ضد الرسول : والله لئن كان محمد صادقا فيما يقول فنحن شرّ من الحمير.

ولقد حاول بعضهم قتل الرسول في قصة معروفة عرفت بليلة العقبة حيث أرادوا تنفير ناقة الرسول عند وصولها قريبا من العقبة وهي منعطف خطير في الجبل ، وبالطبع إذا نفرت الناقة في ذلك المكان بالذات أوقعت الرسول في الوادي.

كما حاول البعض إخراج الرسول مثل عبد الله بن أبيّ.

كما قام بعضهم بالفساد والتخريب.

ان كلّ هذه المحاولات كانت تهدف بالتالي شيئا واحدا هو تغيير نظام الحكم ، والتسلط على رقاب الناس ولكن لم يوفقّوا.

(وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ)

لماذا نافق هؤلاء ، ومتى؟

٢٢٨

السبب ان بعض الناس يكونون أشداء ضد من يحسبون انهم ضعفاء ، وضعفاء أمام الأقوياء.

ولهذا حينما كان المنافقون في أوضاع شاذة ، يلفهم الفقر والتخلف والعذاب ، ويتحكم في رقابهم حفنة من الشيبة باسم القبلية ، أو حفنة من التجار اليهود. حينذاك لم يفكروا في الثورة ، ولم يحاولوا إنقاذ أنفسهم من براثن السلطة الفاسدة ، لأنهم حينذاك كانوا مشغولين عن كل ذلك بملاحقة لقمة الخبز ومعالجة آثار الفقر والمرض. اما اليوم وقد أغناهم الله من فضله واراحهم من شغلهم (بمطاردة لقمة العيش ) جاؤوا ينافسون السلطة الرسالية التي أنقذتهم.

فهل جزاء الإحسان إلّا الإحسان ، هل جزاء الرسول الذي حرّرهم من جاهليتهم إلّا الشكر له ، والتسليم لسلطته المباركة أم جزاؤه النقمة عليه ، والتخريب ضده؟!

(فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ)

وسوف يعودون في الدنيا الى سلطة الطغاة وما تعنيه هذه السلطة من فقر وعذاب ، أما في الآخرة فان الله الذي وفّر لهم الهداية سوف يأخذهم بأشد العذاب.

والجدير بالذكر : ان الطائفة من المنافقين الذين حسبوا إن دولة الإسلام ضعيفة وفكروا في مقاومتها سوف يتوبون حينما يكتشفون قوة النظام وصلابته ، وحينما يكتشفون انه لا أحد ينصرهم أو يدخل في حزبهم حينما يتعرضون للهجوم المضاد من قبل أنصار الرسالة.

(وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)

٢٢٩

الغنى سلّم الكفر :

[٧٥] تتجلى هذه الحالة النفاقية مرة اخرى عند ما ترى بعض الفقراء يتمنون الغنى ويزعمون انهم سوف يوفون بعهدهم مع الله ، ويتصدقون بفضل أموالهم ويعملون بها صالحا ، بيد انهم بعد الغنى يعملون العكس تماما ، لماذا؟

لان تظاهرهم بالايمان والهدى انما كان حين لم يتعرضوا للتجربة اما الآن فان حب المال وشح النفس وقضية العودة الى حالة الفقر تضغط عليهم باتجاه البخل وتغريهم بالفساد.

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ)

ان فضل الله ينبغي ان يدفع الفرد باتجاه الصدقة والصلاح لان الذي اعطى يقدر على ان يسلب العطاء ، ويعيد حالة الفقر. بيد ان ذوي النفوس الضعيفة والإرادات المهترئة تراهم يغترون بنعمة الله وفضله.

[٧٦] وقد يكون المنافق واحدا منا دون أن نشعر لأنه قد يستطيع الواحد ان يقاوم ضغط الفقر ، ولكنه ينهار أمام إغراء المال ، أو حتى يقاوم هذا الإغراء ولكنه ينهار أمام إغراء السلطة والجاه ، وهكذا على الإنسان أن يتزود بالايمان ويتسلح بالإرادة الصلبة والتوكل على الله حتى لا يصبح مثل الذين يقول عنهم القرآن :

(فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)

أي انهم بالاضافة الى عدم وفائهم بالعهد السابق الذي الزموا أنفسهم به من الصدقة ، بالاضافة الى ذلك تجدهم يقاومون شريعة الله وأوامر الرسول.

٢٣٠

جاء في التفاسير قصة طريفة بطلها شخص باسم (ثعلبة بن حاطب ) وكان من الأنصار فقال للنبي (ص ) : ادع الله أن يرزقني مالا ، فقال : «يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ـ أما لك في رسول الله أسوة حسنة ـ والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت» ، ثم أتاه بعد ذلك فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا ، والذي بعثك بالحق لان رزقني الله مالا لأعطين كلّ ذي حق حقه ، فقال (ص ) «اللهم ارزق ثعلبة مالا» ، قال فاتخذ غنما ، فنمت كما ينمو الدود ، فضاقت عليه المدينة ، فتنحّى عنها فنزل واديا من أوديتها ، ثم كثرت نموا حتى تباعدت عن المدينة فاشتغل لذلك عن الجمعة والجماعة فبعث رسول الله اليه المصدق ليأخذ الصدقة فأبى وبخل ، وقال ما هذه إلّا أخت الجزية ، فقال رسول الله : «يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة» وانزل الله الآيات.

و عن أمير المؤمنين (عليه السلام ) في قول له :

«من ملك استأثر»

وهكذا نجد كيف ان كل واحد منا قد يصبح منافقا في ظروف معينة.

[٧٧] ولكن ما هي عاقبة هذه الفعلة؟

يقول القرآن ان عاقبة ذلك تكريس حالة النفاق الى حين الموت ، والجزاء.

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ)

منذ البدء ، ويزعمون انهم مؤمنون صادقون ، وانهم سوف يقومون بعهد الله خير قيام.

٢٣١

[٧٨] ولكن على الإنسان أن يخلص نيته ، ويشهد الله على ما في قلبه ولا يقول ولا يتعهد إلّا بالحق الذي يعتقد به.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)

٢٣٢

سورة التوبة

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣)

٢٣٣

ويسخرون من المؤمنين

هدى من الآيات :

لان المنافقين لا يؤمنون حقا بالله والقيم ، فإنهم لا يمكنهم تصور إيمان الناس وتضحياتهم السخية بدافع الايمان ، ولذلك تجدهم يفسرون صدقات المطّوّعين بأنها رياء ليسقطوهم من أعين الناس ، كما يعيبون على الفقراء قلة ذات يدهم. والله يسخر من المنافقين ويعذبهم عذابا أليما.

وسواء استغفر الرسول لهم أم لم يستغفر فان كفرهم بالله والرسول الناشئ من فسقهم لا يدع مجالا لغفران الله ورضا المحرومين.

ويزعم المنافقون : ان تقاعسهم عن الجهاد خير لهم ولذلك فرحوا به وكرهوا الجهاد ، ونهوا الآخرين عنه. ولكن ما هي عاقبة ذلك .. أو ليس نار جهنم خالدين فيها ، ولكنهم لا يفقهون حقائق الأمور!!

وبسبب سوء اختيارهم سوف يلفهم العذاب النفسي والاجتماعي مما يجعلهم

٢٣٤

يضحكون قليلا ، ولكنهم يبكون بعدئذ كثيرا بسبب أعمالهم التي اكتسبوها.

وبعد عودة الرسول الى المدينة وانتهاء محنته الرسالية يحاول بعض المنافقين ، التقرب الى رسول الله ، ويستأذنون منه ليخرجوا معه الى الجهاد ولكن على الرسول ألّا يسمح لهم ثانية ولا يأخذهم معه الى القتال لأنهم رضوا بالقعود في أيام الشدة ، فعليهم أن يبقوا مع الفئة الضالة وهم المنافقون مفضوحين أمام الناس ومحرومين من العمل السياسي.

بينات من الآيات :

كلّ يرى الناس بعين طبعه :

[٧٩] كما الأعمى لا يفقه واقع النور ، فكيف يمشي على هداه البصير ، وكما الجاهل لا يحيط بواقع العلم فكيف يضيء درب السالكين ، وكذلك المنافق لا يصدق بواقع الايمان الذي يعمر قلوب الصادقين فكيف يدفعهم على القيام بالأعمال الكبيرة دون أن يريدوا جزاء أو شكورا.

ان المنافقين يفسرون أبدا أعمال الصالحين بمقاييسهم ، ويزعمون ان وراء كل عمل صالح مصلحة مادية عاجلة لا يظهرها صاحبه كما هم لا يفعلون الخير إلا رياء وطلبا للأجر العاجل ، لذلك تجدهم يعيبون على الذين يعملون وينفقون تطوعا لله وتصديقا بوعده دون أن يخالطهم رياء أو سمعة.

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ)

فيتهمون هذه الطائفة بالرياء. أما الطائفة الفقيرة من المؤمنين فترى هؤلاء المنافقين كيف يسخرون منهم لفقرهم ، وقلة عطائهم.

(وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ)

٢٣٥

لأنهم فقراء لا يملكون إلّا قوة البدن وعمل اليد فيرتزقون عليها ـ وإذا فقدوا العمل ـ فقدوا الرزق كما العمال والفلاحين فيسخر المنافقون الذين غالبا ما يكونون من الطبقة المترفة منهم.

(سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

حين يرون نتائج أعمالهم فتلك سخرية واقعية ، وهذه سخريتهم لفظية كلامية لا أثر لها ، وعلينا ألّا ننهزم أمام سخرية المنافقين ، ولا يفقد المؤمن إحساسه بشخصيته امام سخرية المنافق حتى ولو كان الأخير أغنى منه وأقدر ، كما يجب ألّا يستقل المؤمن عطاءه في الله ان لم يكن يملك غيره لان الله لا ينظر الى قدر العطاء بل الى قدر المعطي وسلامة نيته. من هنا سئل الرسول (ص ) عن أفضل الصدقات فقال : «جهد المقل». (١)

هل يجوز أن نستغفر للمنافق؟

[٨٠] لان المنافقين يلمزون ويسخرون من المؤمنين فان غناهم أو جاههم الظاهر يجب ألّا يدعونا الى احترامهم أو طلب الخير لهم ، فما داموا كافرين فكريا وفاسقين عمليا فان حدود الايمان تفصلهم عنا ، فهم أمة ونحن أمة برغم الاختلاط والقرابة بيننا وبينهم.

وقد يستبد بالمؤمن الحنان البشري والعطف فيحاول هداية المنافقين ، فيدعوه ذلك الى التقرب منهم بدل منابذتهم العداء ، والقرآن ينهى عن ذلك ويقول : حتى لو فعلتم مثل ذلك فان الله قد اتخذ منهم موقفا شديدا بسبب كفرهم وفسقهم.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ / ٥٥.

٢٣٦

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)

ان الاستغفار هو قمة العطف الايماني لشخص ما ، ولكن ذلك منهي عنه بالنسبة الى المنافقين لان علينا أن نبني بيننا وبينهم حجابا ظاهره النور والايمان ووراءه ظلمات وجهالة.

التخلف عن سوح الجهاد :

[٨١] حين تتقاعس طائفة من أبناء المجتمع عن الجهاد والتضحية ، ويشيعون حولهم الأفكار السلبية. يخشى أن يتأثر الآخرون بهم لو لا إعطاء الناس رؤية واضحة تجاه هذه الطائفة المصلحية التي يجسدها المنافقون في المجتمعات المؤمنة التي كانت ترضى بالقعود برغم ان القائد الرسالي كان يقود المعركة.

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ)

ان قعود هؤلاء في الوقت الذي خرج رسول الله دليل على انهم لا يريدون الجهاد ، وان تبريرهم ببعض الأقوال لم يكن سوى غطاء لقعودهم.

(وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ)

ولكن السؤال : هل يستطيع المسلم أن يدرأ عن نفسه نار جهنم من دون اقتحام ساحات الجهاد؟

(قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ)

[٨٢] حتى مصاعب الدنيا لن تزول من دون تحمل بعض الصعاب ، فاذا

٢٣٧

هاجمك العدو في أيام الحر أو البرد فهل تستطيع أن تقول له انتظر الى أيام الربيع أو الخريف. أم ان ذلك مجرد حلم؟! ان الذين يهربون من المشاكل سوف تتضاعف عليهم المصائب والويلات ، وعليهم أن ينتظروا أياما حالكة فيبكوا كثيرا بعد أن ضحكوا قليلا.

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)

ان المؤمنين الصادقين يبادرون في أيام رخائهم وقدرتهم بالاعداد والعمل الجاد ليوم الشدّة ، وانهم مستعدون لخوض غمار المعركة في أشد الأيام لذلك فان أعداءهم يرهبون جانبهم وفي ظل القوة يستمرون في حياة آمنة كريمة.

الموقف الرسالي من المتخلفين :

[٨٣] وبعض المنافقين يحاولون العودة الى أحضان العالم الاسلامي لا ليكونوا مواطنين صالحين وصادقين ، بل ليستفيدوا من المكاسب بعد أن نصر الله عباده المجاهدين ، وليستغلوا نفوذهم المادي ، ويتسلطوا على رقاب المؤمنين ولكن باسم الدين هذه المرة كما فعلت بنو امية في التاريخ الاسلامي ، ولكن القرآن يحذر من ذلك وحكمته في ذلك قد تكون : ان أيام الشدة امتحنت النفوس المؤمنة فعلا وفرزتهم عن الجماعات الوصولية التي تميل مع القوة أينما مالت ، وتحاول أن تستفيد من كل وضع بما يتناسب وشعارات ذلك الوضع ، وأساسا فلسفة الجهاد في الإسلام هي إنقاذ الجماهير غير الواعية من شر هذه الجماعات الطفيلية النفعية ، لذلك يجب أن تكون القيادة الرسالية حذرة جدا فلا تسمح لهؤلاء بالعودة الى الساحة السياسية أبدا.

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ)

٢٣٨

فالمهم هو المواقف الاولى في أيام المحنة أما أيام الرضى فهي ليست دليلا على صدق النية بل نحسب هؤلاء ضمن المنافقين الأوائل.

٢٣٩

سورة التوبة

وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)

____________________

٨٦ [اولو الطول ] : أصحاب المال والقدرة والغنى.

٢٤٠