من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

بإرسال الرسل ، ولكن لم يستغلوا فرصة الايمان وكانوا مجرمين.

ثم جعل الله الآخرين مكانهم ، لا لأنه ملّكهم ما في الأرض ، بل لمجرد امتحانهم.

بينات من الآيات :

العجلة من الشيطان :

[١١] لقد فطر البشر على البحث عن الخير العاجل ، وإذا قام بعمل حسن انتظر جزاءه فورا ، وقليل من الناس أولئك الذين يعملون الآن ليحقّقوا مكاسب في المستقبل البعيد.

ولكن الحياة ليست بأماني الأحياء ، لذلك تجد الجزاء قد يتأخر سنين عديدة ، ولو أن ربنا سبحانه خلق الحياة بحيث يجازي العاملين فيها فورا ، إذا انتهت فرصة اختبار الإنسان في هذه الحياة الدنيا.

إن جزاء من يرتكب المعاصي الكبيرة أن يهلك هلاكا ، فهل ترضى ان يحيط بك جزاء معاصيك فور ما تقوم بها ، ودون إعطائك فرصة للمراجعة والإصلاح؟! كلّا .. وهكذا عليك أن ترضى بهذا الوضع عموما ، وهو تأخر الجزاء خيرا كان أو شرا ، وليس من الصحيح أن تطالب بتأخير جزاء الشر ، وتستعجل الله في جزاء الخير ، فالحياة واحدة ، والسنن الحاكمة عليها واحدة ، في حقلي الخير والشر معا.

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ)

لقد أعطى الله للناس فرصا محدودة ، ولهم أن يختاروا خلالها طريقهم ، وفي نهاية المطاف سوف يأخذون جزاءهم الأوفى.

٣٤١

(فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)

أي يترك الله الذين لا يؤمنون به وباليوم الآخر حيث يلاقون فيه ربهم ليجازيهم بتركهم فاقدي الرؤية بسبب ظلام الطغيان الذي يحيط بهم.

الطغيان عمى البصيرة :

[١٢] الطغيان يفقد الرؤية ، والإسراف ينسي النعم ويبطر أصحابها ، ان المسرف يزعم أن النعم ملك موروث له ، ولذلك فهو لا ينتبه الى حقيقة عبوديته وضعفه وصغاره الّا بعد أن يفقد النعم ، فتراه يتضرع الى الله حتى يعيدها عليه ، فاذا انتهت محنته يعود الى سابق غروره ، كل ذلك بسبب الإسراف ، وبسبب الأعمال السيئة التي كان يقوم بها بدافع الإسراف ، فتطبع بها وأعتاد عليها.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً)

اي دعا ربه في كل الحالات ، أو في مختلف حالاته الصعبة.

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ)

فبدل الوقوف للشكر تراه يمشي من دون اعتناء ، وكأنه لم يصب أبدا بمصاب ولم يدع دعاء؟!

(كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

وعلى الإنسان أن يتحرر من سلبيات النعم التي ينزلها الله له ، ومن أخطرها حبه لنوع حياته ، واستئنافه بنمط معيشته ، اللذان قد يدفعانه الى الغرور والى ارتكاب معاصي كبيرة.

٣٤٢

الهلاك مصير المجرمين وسنة الحياة :

[١٣] الجزاء يتأخر وقد تطول المسافة بين العمل والجزاء ، بيد أن ذلك لا يعني أبدا أن الجزاء لا يأتي ، وعلى البشر أن يفهم هذه الحقيقة جيّدا : أن الجزاء حق لا ريب فيه ، وأن يذكر نفسه بمصير الهالكين من قبله ، الذين أخذهم الله بشدة بعد أن توافرت عوامل هلاكهم والتي تتلخص في ثلاث فلقد ظلموا ، فبعث الله لهم رسلا بالبيّنات فما آمنوا هنا لك أهلكهم الله.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)

إنها سنّة عامة تختص بالقرون السابقة ، فعلينا جميعا انتظار ذات المصير إذا أجرمنا.

[١٤] وبالذات على المجتمعات أن تدرك هذه الحقيقة الهامة ان وجود نسبة عالية من الفساد الخلقي أو الاقتصادي أو السياسي ، سوف تقضي عليها قضاء تاما ولو بعد حين ، لذلك ينبغي أن ينشط الجميع من أجل تقليل هذه النسبة حتى لا تنطبق عليهم صفة القوم المجرمين. لذلك ترى القرآن يذكّرنا بأننا خلائف أولئك الهالكين ، وتنطبق علينا ذات القوانين الفطرية.

(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)

فنحن خلفاء أولئك ، والهدف من إعطاء الفرصة لنا دونهم أن الله يريد أن يبتلينا ، فهل نعقل تجاربهم ولا نكرر اخطاءهم أم ماذا؟!

٣٤٣

سورة يونس

وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧)

٣٤٤

الكافر بالآخرة لا يفقه بآيات الله

هدى من الآيات :

حين يعيش البشر في حدود لحظته الحاضرة ، ولا ينظر بعيدا في مستقبله ، ولا يرجو لقاء الله في الآخرة ، فسوف يتّخذ من آيات الله موقفا خاطئا ، حيث تراه حين تتلى عليه آيات الله الواضحة يطالب الرسول بتغيير القرآن ، أو تبديل آياته ، وكأن الرّسول هو صاحب القرآن ، أو كأنّ الحقيقة تتبدّل وتتغيّر حسب أهواءه ، ولا يعلم أن الرسول نفسه يخشى ربّه ، فلو عصى ربه ولم يبلّغ رسالته ، أو لم يطبّقها فيكون جزاؤه عذابا في يوم القيامة ذلك اليوم العظيم. ومن هنا لم تكن الرسالة من صنع الرسول ، بل لو لم يشأ الله ما تلاها على الناس ولم يعلمهم ، والشاهد على هذه الحقيقة أن الرسول كان يعيش بين أظهرهم فترة طويلة ولم يبلّغهم شيئا من الرسالة ، والرسول يعرف أن افتراء الرسالة على الله جريمة كبيرة ، وأنه لا يفلح المجرمون ، فهو لا يقوم على هذا العمل بدافع الغفلة أو التهاون ، إذا فرسالته انما هي من الله سبحانه.

٣٤٥

بينات من الآيات :

الأيمان طريق المعرفة :

[١٥] الايمان بالآخرة يؤثر بصورة مباشرة في فهم الحقائق ، إذ أن الغرور والاستكبار ودواعي الشهوة والغضب قد يكون كل أولئك سببا في نكران الحقيقة ، أو عدم الانتباه إليها ، والتهاون بشأنها ، فاذا آمن البشر باليوم الآخر وعرف ما فيه من أهوال وعذاب أليم ، عاد الى رشده وأخذ يفكر في الحياة بواقعية لكي ينقذ نفسه من شرور ذلك اليوم.

من هنا تجد الذين لا يؤمنون ولا يرجون لقاء الله ، يستهينون بآيات الله الواضحة ، ويطالبون الرسول بتغيير القرآن جملة واحدة ، أو لا أقل تبديل تلك الآيات التي تمس مصالحهم وتخالف ثقافتهم ، فالمستكبرون مثلا يطالبون بقرآن يؤيد تسلطهم اللامشروع على المستضعفين ، والمسرفون يطالبون بقرآن يبرّر استغلال المحرومين .. وهكذا.

ولكن هل القرآن كتاب الرسول أم كتاب الله؟ وكيف يغيّر الرسول كتاب ربه ، وهو يؤمن بيوم القيامة ، ذلك اليوم العظيم الذي يجعل الولدان شيبا؟ إن ايمان الرسول بلقاء الله يمنعه من تبديل رسالة الله ، أو الخضوع لضغوط البشر الهادفة تغيير بنود القرآن.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ)

يبدو أن المعنى غيّره كله أو بعضه.

(قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي)

٣٤٦

فالكتاب كتاب حق وعلم وعقل ، ولا يداخله هوى النفس وشهواتها ومصالحها.

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)

فالرسول يتبع الوحي ويدعو الناس الى إتباعه ، وهو يخشى ما ينبغي أن تخشاه ، وهو عذاب يوم القيامة ذا الأهوال.

دلائل إلهية الرسالة :

[١٦] ولو شاء الله سبحانه لمنع الوحي عن رسوله ، فلم يستطع تلاوته على الناس واعلامهم بما يحتويه ، والشاهد على ذلك أن الرسول بقي في قومه عمرا طويلا وزمنا ممتدا ، ولكنه لم يبيّن لنا شيئا من ذلك الشلّال الهادر من الهدى والبينات ، ولو كان الكتاب من نفسه وأفكاره وملاحظاته وتجاربه ، إذا لنشره في كل مناسبة خلال هذ الفترة الطويلة.

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ)

كما أن ربنا قادر على توقيف الوحي فلا يقدر الرسول على تلاوته.

(وَلا أَدْراكُمْ بِهِ)

أي لم أكن أكثركم دراية وعلما بالكتاب ، بل كنت كأحدكم ، أفكاري تشبه أفكار المجتمع الذي أعيش فيه ، والوسط الحضاري الذي ترعرعت فيه ، بينما لم تكن هذه الأفكار وتلك البينات والبصائر شبيهة أبدا بما كان في الجاهلية لا من قريب ولا من بعيد.

ان أعداء الرسالة حاولوا ربط أفكارها الجديدة بما لدى الفرس والروم ، أو

٣٤٧

بالسحر والقوى الغيبية الأخرى ، لأنهم وجدوا تناقضا حادا بينها وبين الأفكار الشائعة في وسطهم الثقافي ، كما أن فريقا من المستشرقين وأدعياء علم التاريخ يحالون ربط بينات القرآن بما كان عند الأحبار والرهبان من أفكار.

بيد أننا نرى تناقضا واضحا بين هدى وبينات وبصائر القرآن ، وبين الثقافة المسيحية الخليطة بالوثنية المانوية ، أو النيو أفلاطونية التي كانت شائعة آنئذ في عالم اليهود والنصارى.

من هنا كان واضحا أن ما جاء على لسان الرسول كان وحيا خارقا للعادات والقوانين السائدة ، طاهرا نقيا عن مؤثّرات الوسط الاجتماعي أو الثقافي للرسول ، ولذلك أكّد القرآن على هذه الحقيقة قائلا :

(فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ)

خلال ذلك العمر الذي بلغ الأربعين عاما تبلورت شخصية الرسول وأفكاره ، وكانت بمستوى الوحي الذي بدأ ينزل عليه متتاليا بنسق واحد وبأسلوب مختلف جدا.

ان المهندس يتعلم القراءة والكتابة ثم يعطى معلومات موجزة عن الرياضيات ، ومن ثم يتدرج في تعلم أوّليات الهندسة ، وكل يوم يزداد علمه حتى يتخرج من الكلية بصفته مهندسا ، لأنه قبلئذ كان يعلم كثيرا من المعلومات الهندسية ، ولكن إذا نام هذا الرجل واستيقظ مهندسا ، وكانت معلوماته كلها جديدة بالنسبة اليه ، أو ليس في ذلك دليل واضح على ان علمه كان غيبيا؟!

[١٧] والرسول كان يؤكد على هذه الحقيقة وهي أن نسبة فكرة أو رؤية الى الله جريمة نكراء ، وأن جزاءها العاجل هو عدم وصول صاحبها الى هدفه الذي رسمه

٣٤٨

لنفسه ، وبتعبير أوضح أنه لا يفلح ، من هنا لم يكن يقدم على هذه الجريمة ، ولم يكن ينسب الوحي الى الله لو لم يكن من عنده فعلا.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ)

وعادة ما يكون المفتري على الله كذبا هو ذاته الذي يكذب بآيات الله ، لأن البشر ينتمي الى مبدأ معين وذلك المبدء قد يكون رساليا ، وقد يكون جاهليا ، فاذا انتمى الى المبدء الجاهلي لا بد أن يبرر انتماءه فيفتري على الله كذبا ، ليدعي ان مبدءه حق وان المبادئ الأخرى باطلة.

وكلمة اخيرة : ان بعض الناس لا يفترون على الله الكذب بصورة مباشرة ، ولكنهم يعتبرون نيّات فكرهم وتخرصات أهوائهم هي الحق الذي لا ريب فيه ، وهذا بدون شك نوع من الاجرام بحق أنفسهم وبحق الفكر السليم ، وهو يؤدي حتما الى الفشل وعدم الفلاح.

٣٤٩

سورة يونس

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠)

٣٥٠

وحدانية الله سبحانه

هدى من الآيات :

عدم الايمان بالآخرة يجعل البشر يتخبّط في مواقفه ، فتارة لا يؤمن بالرسالة كما رأينا في الدرس السابق ، وتارة يتخذ من دون الله شفعاء يزعم بأنهم شركاء لله في سلطانه ، ولا يفقه هذه الحقيقة البسيطة وهي أن مقام الألوهية لا يحتمل التعدد ، فهو أرفع وأقدس من أن ينازعه شيء ، وأن الله لا يعلم لنفسه شريكا في عرض السموات والأرض ، وأن هذه العبادة المزدوجة لا تجديهم نفعا ، وأن هؤلاء الشركاء أو الشفعاء لا يقدرون على الحاق ضرر بهم لو تركوا عبادتهم.

والله سبحانه لم يخلق بعض الناس كفارا والبعض مسلمين بل خلقهم أمة واحدة ، الّا انهم كانوا مختارين ، فاختار طائفة منهم الهدى ، بينما ضلّ الآخرون. ولقد سبقت كلمة الله بتأجيل قضاء الحق بينهم الى أجل محدود ولولاها لقضي بينهم فيما اختلفوا فيه.

ويطالب البعض بان ينزّل الله آية على رسوله ، آية معينة حتى يضطروا للايمان

٣٥١

بالرسالة ، بينما جعل الله الدنيا دار اختبار وهو يعلم بالحكمة ، والنهاية سوف تكون للرسالة باذنه.

بينات من الآيات :

بمن نتشفع؟

[١٨] لماذا يعبد البشر غير الله؟ ولماذا يستسلم للأصنام كرمز للطبيعة أو للطاغوت ، كرمز للقوة أو للمستكبرين كرموز للقيم الزائفة؟ إنه يخضع لكل أولئك ويطيعها ، لزعمه أنها تضر وتنفع ، فيستسلم لها رهبا ورغبا ، ولكنها في الواقع لا تضر ولا تنفع ، الّا أن يشاء الله ، فهي محكومة بقدرة الله ، والقوة التي تملكها الطبيعة أو البشر انما هي مخولة إليها من قبل الله سبحانه وليست شريكة لله حتى يتخذها البشر شفعاء عند الله ، إذ أن الله لا يحتم عليه شيء ، والشفيع يجب أن يكون بحيث يستطيع الضغط على الله تعالى أو يكون قد اذن له الرب في الشفاعة.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ)

بلى .. لو أمر الله بطاعة أحد مثل الرسل وأولى الأمر الذين تتمثل فيهم القيادة الرسالية ، إذا لم تكن الطاعة من دون الله بل كانت بإذن الله وبأمره ، ولذلك تصبح طاعة الرسول وأولي الأمر من بعده شفيعة عند الله ، لأنها باذنه الله ولتحقيق مرضاته.

والسؤال الذي يطرحه القرآن على هؤلاء هو : هل هناك شريك لله أو شفيع عنده لا يعلم به الله؟!

(قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ)

٣٥٢

لو كانت هناك قوة غير الله حاكمة في السموات والأرض لعلم بها الله حتما ، ولكانت رسالته تكشف عنها وتأمرنا بالتقريب إليها.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)

فالله قدوس ومنزه عن أن يجد سلطانه الواسع شريك ، وهو أعلى من أن يصل الى مقامه الأسمى شريك.

سبب الاختلاف :

[١٩] هل أن ايمان طائفة من الناس وكفر أخرى مرتبطة بطينة الناس وفطرتهم؟ أو أن الله خلق هؤلاء كفارا وأولئك مسلمين؟ أم ماذا؟

يقول القرآن :

(وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً)

خلقهم الله بصورة واحدة ، وأعطاهم جميعا قدرا من العقل يكفيهم لهدايتهم الى الله ، ولكن بعضهم استفاد من عقله بينما غفل عنه الآخر ، وكان الاختلاف بفعلهم هم لا بسبب خلقتهم.

(فَاخْتَلَفُوا)

وأمهلهم الله حتى يتم اختبارهم.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)

تلك الكلمة ـ حسبما يبدو لي ـ هي أن الله جعل الدنيا دار ابتلاء ولم يجعلها دار جزاء.

٣٥٣

لا للجبر .. نعم للاختيار :

[٢٠] ولجهل الناس بحقيقة الدنيا ، فهم يزعمون انّ على الله أن يجبرهم على الهدى جبرا ، ولا يعلمون ان على أنفسهم مسئولية الاهتداء الى الحق ، وذلك بتشغيل عقولهم بحثا عن الحقيقة.

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)

ان الله يعلم الغيب ، ومن الغيب الحكمة البالغة التي يعلم بها ، أن أي قدر من الآيات يكفي الإنسان في بحثه عن الحقيقة لو استخدم عقله ، أما أن يريد تدخل الله في أمور الحياة مباشرة فذلك أمر يحتاج الى وقت ، حيث أنه بعد انقضاء مهلة هؤلاء سوف يأخذهم الله بعذاب عظيم.

٣٥٤

سورة يونس

وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)

٣٥٥

عند الخطر يجأر العبد الى الله

هدى من الآيات :

وفي سياق الحديث عن الذين يعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ، وللدلالة الفطرية على واقع هذه العبادة ، يبيّن لنا الله سبحانه موقف الناس من آيات الله ، وكيف يتبدل حسب اختلاف حالاتهم النفسية ، فاذا كانوا في شدّة وضرّاء ثم أسبغ الله عليهم نعمه ، وجعلهم يتحسسون برحمته ، تجدهم يحتالون على آيات الله ويناقشون فيها حتى لا يؤمنوا بها بكل وسيلة ممكنة ، بينما الله سريع الجزاء لما يفعلون ، وقد أوكل سبحانه أمر كتابة أعمالهم ومكرهم الى الملائكة المرسلين إليهم.

وكمثل على هذه الحالة أن الله يوفّر للإنسان أسباب السير في البر والبحر ، ويركب الناس السفن الشراعية ، ويهب عليها نسيم هادئ يفرحون به لأنه يؤنسهم ويسيّر سفينتهم ، ولكن بعدئذ تأتيهم ريح عاصف يهيج بها أمواج البحر حتى تحيط بهم من كل جانب ، ويظنّون أن الهلاك قد اقترب منهم هنالك ينسون الشركاء ويخلصون العبادة لله ، ويدعونه ويتعهدون انه لو أنجاهم يصبحون من

٣٥٦

الشاكرين.

بيد أنه حين يخلّصهم الله من ورطتهم تراهم يفسدون في الأرض ، ويرتكبون المعاصي ، بينما تلك المعاصي موجهة ضدهم ، لأنها بالتالي متاع الحياة الدنيا المحدودة ، وبعدها ينتقل البشر الى ربه ليجازيه.

بينات من الآيات :

المكر بعد الرحمة :

[٢١] الرحمة بعد الضرّاء ليست كالرحمة من دونها ، فحين تكون مريضا يستبد بك الألم والخوف ، فتنزل عليك رحمة السلامة والعافية ، وحين تكون فقيرا يضيق بك رحب الدنيا وتلاحقك أعين الناس ازدراء ، فتهبط عليك رحمة الغنى والعزة ، آنئذ تشعر عمق لذّة النعمة ، بذات الحساسية التي شعرت بألم الضّراء.

والإنسان الذي تذوق الرحمة وأحس بمس الضراء ، عليه أن يعترف بأن الله هو مدبر الخير والشر ، وأنه لا يملك من ذاته شيئا ، ولكنه لا يفعل ذلك.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا)

يحاولون تفسير الآيات بما يتناسب وغرورهم ، أو يسعون في طمس معالم الحقيقة التي تخالف مصالحهم وأهواءهم ، أو حتى أنهم يتصرفون في نعم الله ، بغير الوجه السليم الذي يضمن استمرارها ، وآنئذ يأخذهم الله بعملهم السيء.

(قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ)

ان مكر الله هو تقليب الأمور وفق السنن التي يجريها في الحياة ، والتي تقضي بزوال النعم التي لا يشكرها الناس ، ولا يحافظون على عواملها السلوكية والنفسية.

٣٥٧

ان ملائكة الله يحصون على الإنسان كل صغيرة وكبيرة حتى لا يقدر على التحايل عليهم ، والادعاء بأنه قد عمل صالحا.

ويبدو أن هذه الآية تصدق على الحضارات البشرية التي تبدء بصعوبات كبيرة حتى تبلغ مرحلة النضج ويعم الرخاء ، ثم يمكر البشر في آيات الله فتنحدر الى الحضيض ، كما تنطبق على حياة كل واحد من البشر ، تحمل الصعاب حتى بلغ منيته ، ولكنه أغتّر بعئذ بنعم الله عليه فكفر بها ، فأزالها الله عنه.

[٢٢] وكمثل على هذه الحقيقة يبيّن ربنا سبحانه قصة راكبي البحر بالسفينة الشراعية التي وقفت في عرض البحر بسبب ركود الهواء ، ثم تهب عليها ريح طيبة فيستبشرون بها ، ولكنهم في ذات الوقت يفرحون بها ممّا ينسيهم شكر الله.

وبعد فترة من الوقت يحيط بهم الخطر بسبب تحول الريح الطيبة الى ريح عاصف تثير الأمواج العاتية حول السفينة ، فلما رأوا ذلك تضرعوا الى الله سبحانه لينقذهم من الخطر ، فلما نجاهم إذا هم يكفرون.

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ)

أي أحاط بهم الخطر بحيث أصبحوا محاصرين من كل مكان دون قدرة على الفرار ، وربما الظن هنا ـ كما في سائر الآيات ـ بمعنى التصور فهو أشد وقعا في النفس وتأثيرا.

(دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)

أي كان ادعاؤهم مختلفا عن دعائهم السابق ، ففي السابق كانوا يدعون الله

٣٥٨

والشركاء معا ، وكانت قلوبهم منقسمة بين الله والشركاء ، ولكن الآن أخلصوا التزامهم بالله ، وصفّوا قلوبهم من رجس الشرك.

(لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)

ماذا كانوا يعنون بالشكر؟ هل هو مجرد ترداد كلمة شكرا لله؟ أم فوق ذلك الالتزام بكل ما أمر الله من واجبات؟ من الواضح أن الشكر بالمفهوم الأول كان بسيطا وكانوا مستعدين له أبدا ، أما الذي لم يفعلوه فهو الشكر بالمعنى الثاني.

الكفر بعد الشكر :

[٢٣] وهكذا مكروا في آيات الله ، وأخذوا يظلمون بعضهم ويستغلون رحمة الله أداة للباطل ، وأخذوا يسرفون في نعم الله كما فعل قوم لوط ، وكانوا يفسدون في الأرض كما فعل فرعون وقومه ، وأخذوا يستكبرون في الأرض بالباطل كما فعل عاد وثمود وهكذا.

(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ)

أي ان هذا الظلم ، وهذا التحويل في طريقة الانتفاع من آيات الله ، ان ذلك سوف ينعكس عليكم ، ذلك لأنه

(مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

٣٥٩

سورة يونس

إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ

____________________

٢٤ [تغن ] : غني بالمكان اقام به والمغاني المنازل.

٢٦ [يرهق ] : الرهق اسم من الارهاق وهو ان يحمل الإنسان على مالا يطيقه ومنه سأرهقه صعودا.

[قتر ] : القتر الغبار والقتار الدخان.

٣٦٠