من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

فبدّل الفقر والاستضعاف الى غنى ورفاه.

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

ربكم على هذه النعم ، ومعنى الشكر هو المحافظة على تلك العوامل التي غيرت واقعكم الفاسد ومن أبرزها الوحدة وتجنب الفتنة عن طريق طاعة القيادة الرسالية التي تدعوكم أبدا الى ما فيه حياتكم ، كما ذكرت في الآية السابقة.

التجسس لصالح العدو خيانة :

[٢٧] ان التهاون في طاعة الرسول (ص ) يعتبر خيانة بعهدهم مع الرسول وبأمانة البيعة التي في أعناقهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

ومن ابرز مظاهر الخيانة التجسس لصالح العدو ، ونقل المعلومات الهامة الى مناهضي الرسالة كما فعل أبو لبابة في عصر الرسول حيث بعثه الرسول الى يهود بني قريظة وقد كانوا خانوا عهدهم مع رسول الله ، فأمرهم الرسول بالنزول على حكم سعد بن معاذ ، فقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحا لهم لان عياله وماله وولده كانت عندهم ، فبعثه رسول الله فأتاهم فقالوا له : يا أبا لبابة أ تنزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار ابو لبابة الى حلقه (انه الذبح فلا تفعلوا ) ، فأتاه جبرئيل يعني رسول الله فأخبره بذلك. قال ابو لبابة فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت اني خنت الله ورسوله ، فنزلت الآية فيه. فلما نزلت شد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ ، وهكذا بقي على ذلك سبعة أيام حتى تاب الله عليه فحلله رسول الله. (١)

__________________

(١) المصدر

٤١

[٢٨] ان ابرز أسباب الخيانة بالدولة الاسلامية وبالقيادة الرشيد هو حب المال والولد كما حدث لابي لبابة في القصة الانفة الذكر ، ولذلك يحذر ربنا من عاملي الفساد عند البشر المال والبنون ويقول :

(وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)

والفتنة هي كل ظاهرة يمتحن بها البشر ، ولكن إذا تجاوز الفرد عقبه الفتنة ، فان الله يعوضه عما خسره في لحظات الفتنة ويزيده عليه كثيرا.

٤٢

سورة الأنفال

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣)

____________________

٣٠ [ليثبتوك ] : الإثبات الحبس يقال رماه فأثبته اي حبسه مكانه واثبته في الحرب إذا جرحه جراحة مثقلة.

٤٣

التقوى بصيرة

والكفر ضلال وعذاب

هدى من الآيات :

بعد الحديث عن ضرورة الاستجابة للرسول والاعتصام بحبله من أجل الوحدة وتجنب الفتنة ، بين لنا القرآن ان التقوى تعطي البصيرة الاجتماعية التي يفرق بها المؤمن بين الحق والباطل ، والصالح عن الطالح. كما يكفّر الله بالتقوى السيئات ، ويزيل رواسبها ، ويزيد من نعمه على المتقين.

ومثل ظاهر لمنافع التقوى. ان الذين كفروا مكروا بالرسول ليخرجوه أو ليقتلوه ولكن الله دفع مكرهم وكان من مكرهم الاشاعات الباطلة التي أذاعوها بين الناس لكي يمنعوا الناس عن الاستجابة للرسول ، أو التحريض الكاذب لكلام الرسول ، واستعجالهم العذاب لو كان الرسول محقا. بينما العذاب يأتي حين يتوغل البشر في الكفر ، ولا يشعر بالندم والتوبة ، ولا يستغفر ربه منها ، ولكن العذاب بالتالي سيصيبهم بسبب صدهم عن المسجد الحرام ، واعتبار أنفسهم أصحابه بينما أصحابه هم المتقون فقط.

٤٤

بينات من الآيات :

آثار التقوى :

[٢٩] بين العقل والهوى يعيش قلب البشر ، بين الظلمات والجهل والفوضى ، وبين النور والهدى والالتزام ، وبقدر ما يحجب الهوى العقل فان مقاومة الهوى تزيد القلب نورا وهدى. انك حين تتحكم في علاقاتك وعواطفك وحساسياتك فهل تستطيع ان تميز الفرد الصالح عن الطالح؟! وإذا كانت الشهوات والحالات النفسية المتناقضة كالنشاط والكسل والأمل واليأس تحكم فيك أيضا ، فهل تتمكن من معرفة العمل الصالح؟

بلى حين تتعهد بتطبيق برامج الله ، ومقاومة ضغوط العواطف والشهوات والحالات النفسية فان عقلك يكمل ، وتصبح قادرا على تمييز الحق عن الباطل ، ويحصل لديك فرقان وميزان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً)

التقوى هي الالتزام برسالة الله ، وتحسس المسؤولية تجاهها وهي تعطينا الفرقان الذي يميز لنا الصواب عن الخطأ ، والصالح عن المفسد ، والهدى عن الشبهات ، والجادة عن المزالق.

كما وان للتقوى أثرا رجعيا فيما مضى من عمل البشر حيث يكّفر الله السيئات ، ويسترها حتى لا تظهر آثارها السلبية ، بل ويغفر الذنوب ويمحي آثارها عن النفس ، ذلك لان للذنب أثرا سلبيا على الحياة ، وأثرا سلبيا على نفسية مرتكبه في شكل عادة سيئة وموقف خاطئ.

(وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)

٤٥

وبفضله العظيم يسبغ النعم الكبيرة والآلاء العظيمة على المتقين في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

السبيل الى تأييد الله :

[٣٠] ان تقوى الله ، والاستجابة للرسول ، وتجنب الفتن الاجتماعية كل ذلك شروط تمهيدية للنصر على الأعداء ، وان ربنا يتفضل على المؤمنين بالتأييد بعد ان يوجدوا في واقعهم هذه الشروط ، ودليل تأييد الله نصره المؤمنين في بدر الذي سبق الحديث عنه ، وهذا دليل آخر يبينه الله حين خطط الكفار لإلقاء القبض على الرسول (ص ) أو اعدامه أو لا أقل نفيه ، ولكن مكر الله وخططه الحكيمة سبقتهم وأفشل خططهم الماكرة ، حيث امر الله ورسوله بالهجرة الى المدينة. فلما جاء الكفار وجدوا عليا (ع ) قد افتداه بنفسه وبات مكان قائده الرسول (ص ).

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ)

إذا نفذ المؤمنون خطط ربهم الرشيدة فهم الأعلون لان أهم بنود الخطة الرشيدة في الصراعات الاجتماعية هو النشاط والتعاون والاستعداد للتضحية ، والذوبان في بوتقة الخطة بعيدا عن الذاتيات والمحاور الخلافية. وكل هذه البنود توفرها التربية الايمانية ، كما ان الايمان يعطيك الفرقان والرؤية الصافية الى الاحداث ، ويزكي قلبك عن الأهواء والشهوات وردود الفعل التي تغشي رؤية المرء وتدفعه الى اتّخاذ مواقف خاطئة وهكذا ، وبفضل الله يصبح مكر المؤمنين أنفذ من مكر أعدائهم.

[٣١] وكان من مكر الكفار الفاشل وخطتهم الغبية ، انهم بثوا اشاعات ساذجة فقالوا : ان آيات القرآن ليست بتلك الدرجة من البلاغة والعلم ، فلقد سمعناها ووعيناها ولو شئنا لقلنا مثلها. ولكننا أناس تقدميون ، وهذه أفكار رجعية يتشبث

٤٦

بها الأولون المعتقدون بالخرافات.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)

[٣٢] وكان من خطط حربهم الاعلامية تظاهرهم بالتحدي والمباهلة فقالوا : يا رب لو كان كلام الرسول حقا فعجل بالعذاب علينا كأن تمطر السماء حجارة.

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ)

موعد العذاب :

[٣٣] ولكن هل الله يبعث العذاب حسب طلب الناس ، أم وفق الحكمة البالغة التي عنده؟ انه لا يعذب قوما حتى يستنفذوا كل فرص الهداية عندهم ، وحتى لا يبقى فيهم اثر من الايمان. ودليل ذلك انه ما دام الفرد يشعر بالندامة بعد الذنب و يستغفر الله ، فانه لا يعذب حتى ولو طلبه من ربه. وعدم نزول العذاب عليه ليس دليلا على صحة كل اعماله أو مجمل طريقته كلا بل هو دليل على وجود جوانب ايمانية في واقعة ، هي التي تمنع العذاب عنه.

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)

تدعوهم الى الهدى وربما يستمعون إليك ، ووجود نبي الرحمة وسيد الخلق كما وجود الصالحين في الامة سوف يمنع عنها العذاب لحين خروج أولئك عنهم.

(وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)

وفي آيات قرآنية اخرى دلالة على ان عذاب الله انما يهبط من السماء بعد فراغ

٤٧

قلوب المجتمع تماما عن الايمان ، وبعد خروج أو انعدام الصالحين فيه تماما.

لقد كان هذا جانبا من مكر الكفار الذي انتهى الى انتشار الرسالة أكثر فأكثر والحمد لله رب العالمين.

٤٨

سورة الأنفال

وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧)

٤٩

إنفاق الكفار : حسرة وهزيمة

هدى من الآيات :

في سياق الحديث القرآني حول مكر الكفار واشاعاتهم الباطلة التي بيّنها الدرس السابق. يذكرنا الله ببعض اعمال الكفار التي تكشف من جهة عن زيف ادعاءاتهم ، وتبين من جهة ثانية فلسفة النضال ضدهم. ان عذاب الله قد يأتي بطريق غيبي كصاعقة عاد وثمود أو على ايدي المؤمنين ، والقرآن يبين ان الله سوف يعذب الكفار لأنهم يمنعون الناس عن المسجد الحرام دون ان يكون لهم الحق لان المسجد الحرام انما هو مقام عبادة ، ويجب ان يكون المشرف عليه أكثر الناس عبادة وعبودية وتقوى لله ، وليس هؤلاء الجهلة الذين اتخذوا صلاتهم عند البيت هزوا. فبدل الصلاة والضراعة أخذوا يصفرون ويصفقون كفرا بالله وبرسالاته ، اما أموالهم فإنهم ينفقونها ليس في سبيل الإصلاح ونصرة المظلومين واغاثة المحرومين ، بل للصد عن سبيل الله ، وسوف يكون هذا الإنفاق حسرة عليهم حين يحشرون الى جهنم ، وفلسفة هذا الصراع القائم بين الناس والذي يجسده إنفاق المشركين أموالهم

٥٠

للصد عن سبيل الله انها امتحان الناس ، وتمييز صفوف الطيبين عن الخبثاء. ليجعل الله جزاء الخبثاء جهنم وساءت مستقرا.

بينات من الآيات :

سنة العذاب :

[٣٤] ربنا الحكيم لا يعذب أحدا حين يشتهي العذاب أو يتحدى قدرة الله أو رسالته ، بل عند ما يستوجب العقاب بعمل قبيح مثل صد الناس عن المسجد الحرام. وما هو المسجد الحرام؟ انه بقعة خصّها الله لنفسه لتكون دار سلام وأمن وحرية ، يقيم الناس فيها شعائرهم الدينية ، ويعبرون عن مشاعرهم الحقيقية ولكن حين يأتي فريق من المتجبرين ويفرضون قيادتهم على المسجد الحرام ويمنعون المؤمنين عن إقامة الشعائر فيه فسوف يستحقون العذاب لأنهم ليسوا بقيادة المسجد وولاته .. ان أولياء المسجد هم أولياء الله. لان المساجد لله ولا يجوز ان يرفع عليها الا راية الله والحق ، والذين بيدهم راية الحق هم المتقون ، وحين تطهر مساجد الله عن الدعوة لغير الله وعن الأصنام الحجرية وعن تبليغ رسالة الشيطان والدعاية لسلطان متجبر أو حزب ملحد أو سلطة قاهرة ، فان الناس سيجدون مصابيح يهتدون بها ، ومحاور قوة يلتفون حولها ، وبالتالي مراكز قدرة يلتجئون إليها في مقاومة شياطين الجن والانس.

(وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

ولا يعرفون فلسفة المساجد ودورها الحاسم في هداية الجماهير وتأييدهم ضد الظالمين.

[٣٥] اما هؤلاء الذين اتخذوا من المساجد مراكز لهو واستهزاء بالقيم فكانت صلاتهم عند البيت الحرام (وهو اقدس مكان على وجه الأرض ) التصفير

٥١

والتصفيق.

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً)

اي صفيرا وتصفيقا وعذاب الله الذي أنزل عليهم بيد المؤمنين كان بهذا السبب.

(فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)

وجاء في الحديث عن ابن عباس : كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون ، و روي ان النبي (ص ) كان إذا صلى في المسجد الحرام قام رجلان من بني عبد الدار عن يمينه فيصفران ورجلان عن يساره يصفقان بأيديهم فيخلطان عليه صلاته ، فقتلهم الله جميعا ببدر. ولهم يقول ولبقية بني عبد الدار «فَذُوقُوا الْعَذابَ».

وكلمة اخيرة : ان هذه الآية والتي قبلها تدلان بوضوح أن على السلطات التي تصد عن المساجد ، وتعتدي على حرية الناس فيها ، وتتجاوز على حرماتها ، وتريد تحويل المساجد الى مراكز للفساد والمنكر يقام فيها الشعائر دون لبابها انها سلطات جائرة يجب مقاومتها حتى يعذبها الله بأيدي المؤمنين.

[٣٦] كان ذلك صورة عن الممارسة السياسية لهذه الفئة. اما الممارسة الاقتصادية فانها خاطئة أيضا ، إذ انها تخدم اهداف الطغاة وتصد عن سبيل الله ، وعن اقامة العدل واشاعة الرفاه.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ)

ينفقونها من أجل طبع الكتب الضالة ، وتمويل الصحف المسبحة للطاغوت ، وأشياع ادعياء العلم والدين من خدم السلطات المتجبرة ، أو ينفقونها لتمويل

٥٢

الحروب وتدعيم كيان اجهزة المخابرات.

بيد ان هذا الإنفاق سيكون حسرة عليهم إذ لا ينفعهم شيئا ، بل يضرهم كثيرا وسينتهون الى جهنم جميعا.

(فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)

[٣٧] ولكن كيف يسبب إنفاق هؤلاء للصد عن سبيل الله غلبة المؤمنين عليهم؟

يجيب القرآن على هذا السؤال :

أولا : لأن هذا المال يفصل الطيب عن الخبيث في واقع المجتمع ، فالطيّب لا تخدعه الثروة فيزداد طيبا. بينما الخبيث الذي كان يتظاهر بالايمان يظهر امره ويكتشف عند المجتمع.

ثانيا : ان العناصر الخبيثة يجد بعضها بعضها فيتكتلون ، فحين تثور الجماهير ضدهم لا ينقذون أنفسهم منهم جميعا.

(لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)

٥٣

سورة الأنفال

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)

٥٤

كيف نواجه الكفار

هدى من الآيات :

لقد ابلغنا الدرس السابق عن ممارسات الكفار السياسية الاقتصادية الخاطئة ، والتي تدل على كذب أقوالهم التبريرية التي تشبثوا بها لكفرهم ، ثم يأتي هذا الدرس ليبين لنا الموقف منهم المتمثل في تهديدهم اولا : بان سنة الله مضت في الأولين ، على ان الكفر لا يدوم ، وعليهم المبادرة الى التوبة ، ووضع حد لممارساتهم الخاطئة حتى يغفر الله ما قد سلف منهم ، وبعد هذا التهديد يأتي التهديد بالقتال تجنبا للفتنة والفساد في الأرض ولإقامة حكم الله فقط ، فاذا استسلموا بالقتال فسوف يعلم الله هل هم يحسنون صنعا أم ينافقون ، اما إذا استمروا فان المسلمين يستمرون بدورهم في الحرب اعتمادا على مولاهم الله نعم المولى ونعم النصير.

بينات من الآيات :

سنة الانتصار

[٣٨] ليس من العقل ان يختم على القديم بطابع الرجعية والاسطورة والخرافة ،

٥٥

كما قال الجاهليون آنفا ، ففي القديم دروس وعبر وقوانين اجتماعية ، علينا الانتفاع بها لحاضرنا ومنها سنة الله في الانتصار للحق وسحق الكفر والضلال ، وعلى الكفار ان يراجعوا التاريخ ليفهموا هذه السنة.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ)

وسنة الله لا تتحول «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً» (٤٣ / فاطر ).

الحكمة من القتال :

[٣٩] والحرب الاسلامية لا تهدف تسلط فريق مكان فريق آخر ، بل اقامة حكم الله ومنع الفتنة .. فما هي الفتنة؟ هل هي الشرك بالله ، أم هي الفساد في الأرض وظلم الناس بعضهم لبعض؟ أم هي تسلط فريق من الناس باسم أو بآخر على رقاب الناس ، واستعبادهم واستثمارهم وفرض ثقافة معينة عليهم؟

يبدو ان الفتنة في لغة القرآن هي التسلط اللامشروع ، كما ان الدين هو السلطة الشرعية المستمدة من الايمان بالله وبالحق ، وبحرية الإنسان ، وابرز معاني الشرك هذا التسلط اللامشروع أو الخضوع لمثل هذا التسلط.

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

يعلم هل هم صادقون أم منافقون ، ولا يجوز الاستمرار في قتالهم بحجة انهم لا يزالون كفارا في الواقع برغم ايمانهم أو استسلامهم الظاهر.

٥٦

[٤٠] اما إذا تولوا ، واستمروا في القتال واشاعة الفساد ، فعليكم بالاستمرار أيضا من دون حزن أو وهن. لأنكم بالتالي منتصرون عليهم ، ولان الله مولاكم وقائدكم ، وأوامره ومناهجه وتعاليمه خير لكم ، كما انه ينصركم بقوته التي لا تقهر.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)

٥٧

سورة الأنفال

وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)

٥٨

الخمس وقضاء المواجهة

هدى من الآيات :

الاعداد للحرب أهم من القتال في الساحة ، والمال يقوم بدور فعال في الاعداد ، وتعرّض أحد الدروس السابقة الى دور المال السلبي حين ينفقه الذين كفروا للصد عن سبيل الله ، اما في هذا الدرس فيفرض علينا القرآن قدرا مقدورا من المال من أجل القضية وذلك هو خمس ما يغنمه ويستفيده المرء ، ولأهمية الإنفاق وللعصوبات التي أنزلت يوم التقى الجمعان ، حين نصر الله المؤمنين بفضل تلك الرسالة ، بالرغم من بعض المفارقات مثل : انكم كنتم في أسفل الوادي وهم في أعلاه .. وانكم مختلفون في مواعيدكم ، ولكن الله قدّر ان يتم حجته على خلقه ، يبعث برسالاته إليهم بينة وحجة ، ولو لا تقدير الله ذلك الذي أراد ان يحطم السد الذي صنعه الكفار امام انتشار الرسالة ، إذا لما وقعت الحرب إذ أن ربنا قلل كل فريق في عين الفريق الثاني حتى استهان كل بصاحبه فتحاربا فانتصرت الرسالة.

٥٩

بينات من الآيات :

الكيان المالي للإسلام :

[٤١] من دون وجود كيان مالي للمجتمع الاسلامي يفقد المجتمع توازنه وقدرته على الاستقامة والتصدي للأعداء ، والخمس واحد من المصادر المالية ، وحين نقول المجتمع المسلم نقصد بذلك الكيان الذي يقوم في حالة غياب الدولة ، أو ذلك الكيان الذي يفرض نفسه على الدولة فيحدد شكلها ومسيرتها ، كما تفرض الأحزاب السياسية وجماعات الضغط في الديمقراطيات الغربية شكلا معينا على الدول ، وكما تفرض التيارات على الدول ، بالرغم من عدم الاعتراف بها رسميا.

وهكذا فالمجتمع المسلم يمتلك كيانا مستقلا قائما بذاته أقوى من الدولة. حتى وإن كانت اسلامية ، هذا الكيان المستقبل يعتمد على الشعائر الدينية كالجماعة والجمعة والحج في تقوية صلات افرادها مع بعضهم ، ويعتمد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والدعوة وإرشاد الجاهل في تحصنه امام التيارات الدخيلة ، ويعتمد فريضة العلم وضرورة نشره ، وانفصال علماء الدين عن تبعية السلطات في الحقل الثقافي ، ويعتمد على الخمس والزكاة والصدقات في الجانب الاقتصادي.

وبالرغم من ان الخمس يدفع للإمام الذي ينوب مناب الرسول (ص ) في قيادة الامة ، ولكن لا يعني ذلك أبدا انه يدفع للدولة الا إذا كان رئيس الدولة هو الامام ذاته. هنالك يدفع اليه بدافع الايمان به ، وانه يمثل الكيان الاجتماعي لا بصفته رئيس الدولة كالذي يحدث الآن ـ مثلا ـ في الدولة الاسلامية القائمة في إيران حيث يعتبر القائد الأعلى لها هو امام الامة السيد الخميني (دام ظله ) بيد انه لا يستلم الحقوق الشرعية كالخمس والزكاة والصدقات والنذور بصفته رئيسا للدولة ، بل بصفته قائدا للأمة .. وانما يدفع الخمس من يشعر بإيمان واقعي بضرورته ووجوبه.

٦٠