من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

سورة يونس

وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ

____________________

٨٧ [تبوّء ] : تبؤا أي اتخذا يقال تبوأ لنفسه بيتا اي اتخذه وبوأت له بيتا اي اتخذته له.

٨٨ [اطمس ] : الطمس محو الأثر.

٩٠ [وجاوزنا ] : المجاوزة الخروج عن الحد من أحد الجهات الأربع.

[فأتبعهم ] : الاتباع طلب اللحاق بالأول وأريد به انه اقتدى بهم واتبع أثرهم.

[بغيا ] : البغي طلب الاستعلاء بغير حق.

[عدوا ] : العدو والعدوان الظلم.

٤٤١

سورة يونس

بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣)

٤٤٢

هكذا نصر الله رسوله

هدى من الآيات :

وبعد أن آمنت ذرية من قوم موسى بالرسالة ، اتخذ الصراع شكلا اجتماعيا ، وأمر الله رسوله أن يتخذ لقومه المؤمنين بيوتا متقاربة ومتقابلة ، وأن يقيموا الصلاة ، ويبشر المؤمنين ، وهكذا انفصل المؤمنون عن الكفار ، بيد أن زينة الدنيا ومباهجها وثرواتها كانت بأيدي الكفار ، فدعى موسى ربه الّا يدع فرعون وزبانيته يضلون عن سبيل الحق بسبب تلك الزينة ، والأموال ، بل يطمس على أموالهم ، ويشدد على قلوبهم فيسلبهم علمهم وعقلهم ، فلا يؤمنوا حتى يأتيهم العذاب ، فلا ينفع الايمان.

فاستجاب الله لدعوة موسى وهارون ، ولكنه أمرهما بالمقابل أن يستقيما والّا يخضعا للضغوط فيتبعان سبيل الجاهلين ، ولكن كيف تحقق دعاء موسى وهارون؟ومتى؟

حينما هيأ الله لبني إسرائيل البحر بطريقة غيبية ، فعبروه الى صحراء سيناء ، فلحقهم فرعون وجنوده ليفتكوا بهم ولكنهم أغرقوا ، وحين أحاط به الماء قال : آمنت

٤٤٣

انه لا اله الا الله ، بعد أن جاءه العذاب الأليم ، وناداه مناد هل تؤمن بعد أن عصيت الله وأفسدت في الأرض؟ ان الايمان لا ينفع الآن ، وان الله سوف ينجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وعبرة ، بيد أن كثيرا من الناس عن آيات الله غافلون.

ولقد هيأ الله لبني إسرائيل مقاما آمنا ، ورزقهم من الطيبات ، وما اختلفوا الّا من بعد أن جاءهم العلم ، فلم يقصّر الله سبحانه بحقهم ، وإن الله سوف يقضي بينهم يوم القيامة بالنسبة الى خلافاتهم.

بينات من الآيات :

ضرورة التجمع :

[٨٧] في بعض مراحل الصراع بين الإسلام والجاهلية ، تحتاج الفئة المؤمنة الى تجميع أفرادها في كتلة اجتماعية رصينة ، لكي يقاوموا الضغوط ولا يذوبوا في تيار الجاهلية الخادع ، ومن هنا أوحى الله الى موسى وهارون أن يبنيا لقومهما بيوتا مجتمعة الى بعضها ومتقابلة ، لمقاومة احتمالات الاعتداء ، وأن يقيموا الصلاة ، ويعطوا أمل الانتصار للناس.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)

واقامة الصلاة تزيد التلاحم الرسالي كما تزيد روح المقاومة ، كما أن روح الأمل وانتظار الفرج تحافظ على مستوى النشاط والحيوية في الرساليين ، وفي تلك الأجواء المنغلقة كانت اقامة الصلاة والبشارة ضرورة هامة ، لكي لا يفقد المؤمنون روح النشاط والترابط.

٤٤٤

الدعوة على الكافرين :

[٨٨] وبعد الفصل الاجتماعي بين الفئة المؤمنة والأغلبية الكافرة ، حانت المرحلة الثانية حيث دعا موسى ربه بأن يسلب من فرعون وملأه المفسدين ما أعطاهم من الثروة والسلطة.

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)

قيل بأن الزينة هي الحلي والثياب ، وقال البعض انها الجمال وصحة البدن ، وأعتقد أن الكلمة (الزينة ) شاملة أيضا لحسن الذكر والهيبة الاجتماعية ، مما يكون جانبا من السلطة ، إذ السلطة تعتمد على عامل مادي هو المال ، وعامل معنوي هو تسليم الناس لها ، واعتبار المشرفين عليها أفضل من غيرهم.

(رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)

فالسلطة يجب أن تكون سببا لسعادة الناس ، وليس طريقا لضلالة الناس عن سبيل الله ، كما فعل فرعون وملأه فاستحقوا العذاب ، ويبدو لي أن لفظة (اللام ) في كلمة «لِيُضِلُّوا» لا تدل على العاقبة ، ولا على الهدف والغاية ، بل بمعنى الاستفهام ، اي هل كان المال والزينة بهدف ضلالة الناس أم بهدف هدايتهم واسعادهم؟! بالطبع الجواب أنه كان بهدف الهداية ، إذ ان فرعون وملأه كفروا بنعمة السلطة وينبغي أن يسلبها الله منهم.

(رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ)

أي اجعلها بحيث لا ينتفعون منها ، كما تطمس الديار بالرياح فتمحوا آثارها ، فمثلا مع انعدام الأرزاق ، وقلّة السلع ، وافتقاد الأمن في سبل التجارة لا

٤٤٥

ينفع المال شيئا ، ومع انتشار الأوبئة والأمراض السارية ، والجفاف وسوء الطقس لا ينفع المال شيئا ، ومع انتشار الإرهاب ، وتسلط الديكتاتورية ، والغلاء الفاحش لا ينفع المال شيئا ، وهكذا يفعل الله بمن لا يشكر نعمة المال فيسلب فائدته.

(وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ)

أي انزع اللين والانفتاح من قلوبهم حتى تصبح قلوبهم متحجرة ، ومنغلقة ، والتحجر يسبب فقدان العواطف والاحاسيس ، وبالتالي فقدان الترابط الاجتماعي بين أبناء الفئة الحاكمة ، كما أن الانغلاق يمنع التطوير والتقدم ، ويسبب الجمود على الأفكار السابقة ، وهكذا يزول حكم هؤلاء بسبب الشد على قلوبهم ، لأن السلطة التي عبّر عنها القرآن ـ فيما يبدو لي ـ بالزينة مستحيلة مع التفتت والجمود.

ومن أبرز مظاهر الجمود أن صاحبه لا يؤمن بالحقائق إلّا بعد فوات الأوان.

(فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ)

والسلطة المستمرة هي التي تحس بالتطورات القائمة وتحاول احتوائها ، وآل فرعون لم يؤمنوا بما حدث الّا بعد أن أدركهم الغرق.

استجابة الدعوة :

[٨٩] وكان ذلك بسبب دعاء موسى وهارون.

(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما)

ولكن هل الدعاء وحده كاف للقضاء على الجاهلية؟

٤٤٦

كلا .. بل يجب أن يلتزم صاحب الدعاء بدوره بمحتوى دعائه ، فحين يدعو المسلم على الطاغوت بزوال سلطانه ، فعليه الّا يخضع لهذا الطاغوت ، لأن خضوعه له نوع من الدعم له ، وبالتالي مخالف لوجهة دعائه ، وحين يلعن الثائر سلطة جائرة فان معنى اللعن ابتعادها عن رحمة الله ، وهكذا يجب عليه الّا يدعم هذه السلطة بل يحاربها أيضا ، كما يطلب من الله أن يحاربها ، لذلك أمر الله تعالى موسى وهارون في مقابل استجابة دعائهما أن يستقيما.

(فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)

والاستقامة تعني مقاومة ضغوط الطاغوت قبل سقوطه ، مثل : السجن ، والتعذيب ، والقتل ، والتجويع ، بيد أن محاربة الطاغوت بحاجة أيضا الى محاربة نهجه الفاسد ، فالفئة المؤمنة يجب أن تغير ذاتها سلوكيا ، ثم تتعهد بتطبيق برامج الله على نفسها في علاقاتها مع بعضها ، وفي اتباعها لقيادتها الرسالية ، وفي سلوكيات أبنائها الشخصية ، وهذا بعض معاني الكلمة الأخيرة في الآية.

[٩٠] وجاوز الله تعالى ببني إسرائيل البحر بسبب استقامتهم ، واتباعهم نهج الرسالة ، وأغرق الله تعالى فرعون وجنوده استجابة لدعاء المؤمنين.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً)

أي لحقهم فرعون استعلاء في الأرض ، وطلبا للسلطة ، وظلما للناس.

(حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

وهكذا استمر فرعون كافرا حتى جاء العذاب الأليم ، فآمن في الوقت الذي لم ينفعه الايمان.

٤٤٧

[٩١] ولكن الايمان بعد حلول العذاب لا يجدي صاحبه شيئا ، لذلك خاطبه الحق.

(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)

أي أ تؤمن الآن ، بعد مشاهدة العذاب بينما عصيت قبل ذلك وأفسدت في الأرض؟

[٩٢] والتهمت الأمواج فرعون ، ولكنها قذفت بدنه خارجا ليكون آية لمن بعده ، كيف انتهت عاقبة ذلك الطاغوت الذي ادّعى أنه الرب الأعلى لبني إسرائيل؟ ولا يزال في متاحف مصر بعض أجساد فراعنتها.

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ)

الاختلاف بعد العلم :

[٩٣] وهكذا انتصرت الفئة المؤمنة بالرسالة ، المتوكلة على الله ، والمتحدية سلطان الجاهلية ، انتصرت بإذن الله على كيد الطاغوت ، ولكن انتصارهم لم يكن بالمكر والظلم بل بالعمل الصالح.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ)

أي مكّنهم الله مقاما آمنا بصدق.

(وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ)

فاختلافهم اللاحق لم يكن بسبب الرسالة ، بل بسبب أهوائهم ، وكان بعد

٤٤٨

وضوح السبيل أمامهم.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)

إذ الحق عند الله ، وغموضه عند طائفة من الناس انما هو بسبب اتباعهم للهوى والشهوات.

٤٤٩

سورة يونس

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨)

____________________

٩٤ [الممترين ] : طلب الشك مع ظهور الدليل.

٤٥٠

قوم يونس تابوا في الوقت المناسب

هدى من الآيات :

بعد أن استعرض السياق قصص الرسالات السابقة ، وكيف كفر بها الناس ، فتوكل المؤمنون بها على ربهم ، حتى نصرهم ، بيّن هذا الدرس عبرة تلك القصص فيما يخص الرسالة الخاتمة ، وأمر رسوله ومن ورائه كل من يقرأ الكتاب بأنه لو كان في شك من الرسالة أو من انتصارها ، فليسأل العارفين بالتاريخ ، وان هذا هو الحق من الله ، ولا يكونن من الشاكين ، ولا من الذين كذّبوا بآيات الله وخسروا ، فيكون مثلهم خاسرا.

بلى أن الذين ظلموا أنفسهم وانحرفوا سلوكيا ، إنهم حكموا من قبل الله بالضلالة ، فحقت عليهم كلمة ربك ، ولذلك فهم لا يؤمنون حتى ولو جاءتهم مختلف الآيات التي يطالبون بها ، والتي يعتقد انها لو جاءتهم آمنوا بها ، أجل انهم سوف يؤمنون في لحظة مشاهدة العذاب ، حين لا ينفعهم ايمانهم ، كما لم ينفع أيّة قرية من هذه القرى الظالم أهلها الذين أهلكهم الله بكفرهم وبذنوبهم فلم يؤمنوا

٤٥١

الّا في لحظة الهلاك ، إلّا قوم يونس لما آمنوا كشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا وأعطاهم مهلة الى فترة محددة.

بينات من الآيات :

بين الشك واليقين :

[٩٤] لم يشك الرسول في صحة رسالة الله التي أنزلت اليه ، ولكن خشية الرسول كانت من عدم تطبيق الرسالة بسبب جحود الكفار ، وبسبب حكمة الله البالغة التي قد تقتضي تأجيل نصر الله لرسالته ، كما كانت خشية موسى (ع ) حين ألقى السحرة حبالهم فسحرت أعين الناس ، كانت خشيته آنئذ من أن تشاء حكمة الله الّا ينصر رسالته في تلك اللحظة فتنة للناس ، وابتلاء للرسول.

بيد أن هذا الشك وهذا الخوف يقل حينما نراجع التاريخ ، ونسأل الذين يقرءونه ، حيث ينصر ربنا سبحانه رسالته في لحظة الحرج وساعة العسرة.

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ)

ولا يعني السؤال هنا أن يذهب رسول الله أو المؤمنون به الى شخص مثل «عبد الله بن سلام» الذي آمن بالرسالة ، وكان عارفا بتاريخ الرسالات ، إنما جرى الحديث مجرى العموم ، أي مراجعة الخبراء والعارفين بالتاريخ من جميع الطوائف ، وطبيعي أن سؤالهم يؤيد الحقائق القرآنية ، ولكن بشرط أن يكونوا ثقاة ـ والثقة ـ شرط فطري وعقلي للعالم الذي يسأله الناس.

(لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ)

أي حين تراجع التاريخ وترى كيف نصر الله رسالاته آنئذ ابتعد عن الشك الى

٤٥٢

اليقين ، وهذه الآية توحي ببعض الحقائق التي نشير إليها فيما يلي :

ـ ألف : ان الخطابات القرآنية لا يجب أن تكون موجهة الى شخص الرسول ، لأن القرآن كتاب الله الى الناس جميعا ، وبذلك لا نحتاج الى التأويل كلما وجدنا خطابا في الآيات ، ولذلك قال الزجاج في هذه الآية كلاما نراه في كل الآيات المتشابهة تقريبا قال : «بأن هذه الآية قد كثر سؤال الناس عنها وخوضهم فيها ، وفي السورة ما يدل على بيانها ، فان الله سبحانه يخاطب النبي وذلك الخطاب شامل للخلق ، فالمعنى : «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ» والدليل على قوله في آخر السورة : «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (١) فأعلم الله سبحانه أن نبيه ليس في شك.

ويبقى أن نذكر أن عدم شك الرسول ومتانة يقينه انما جاء بسبب الوحي ، فلو لا الوحي ولولا روح القدس الذي كان يأتيه بالوحي ، أذا كان الرسول بشرا كسائر الخلق ، ولذلك ينبغي الّا نحاول فصل الرسول وعصمته ورفعة درجته عن القرآن وأثره فيه.

باء : ان الانتفاع بالعلم الحقيقي جزء من رسالة الدين ، ولا يقتصر هذا العلم بالفيزياء والكيمياء مما يتعلق بالعلوم التجريبية ، بل وأيضا التاريخ والاجتماع والتي تسمى بالعلوم الانسانية ، ولكن بشرط فصل الرواية عن الدراية ، وفصل المعلومات الحقيقية عن النظريات الاحتمالية.

جيم : ان الشك واليقين عملان من عمل البشر الذي يختارهما اختيارا ، ذلك

__________________

(١). ١٠٤ / يونس

٤٥٣

لأن الشك قد يكون بسبب انعدام العلم ، وهذا مفروض على البشر وموجود بسبب عجز البشر الطبيعي ، ولكن قد يكون الشك نابعا من الهوى واتباع الشهوات ، فكثير أولئك الذين يشكون في الحقائق ، لأنّهم قرّروا سلفا البقاء في شكهم ، ولأنهم لا يفكرون منطقيا ولا يبحثون عن المصادر السليمة للمعرفة ولأنهم بالتالي يخافون من مسئوليات العلم التي لا بد أن يتحملها كل عالم ، لذلك نهى ربنا عن أن يكون الفرد من الشاكين ، لأن الشك من عمل الإنسان.

كيف تخسر نفسك؟

[٩٥] كما أن الكفر والأيمان من عمل الإنسان ، لذلك نهى القرآن من أن يكون الفرد مكذبا بآيات الله ، بأن يتخذ موقفا سلبيا مسبقا من كل دليل علمي يدل على الحقيقة.

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ)

ولماذا يكذب الفرد بالحق ، أو ليس من أجل مصالحه وشهواته؟! ولكن عليه أن يعرف أن التكذيب بالحق يسبب له خسارة نفسه ومصيره.

[٩٦] والسؤال الذي يفرض نفسه لماذا يسبب الفرد خسارة نفسه عن طريق تكذيبه بآيات الحقيقة؟

الجواب : أن فريقا من الناس يكذّبون بالحق بسبب سوء أعمالهم وسلوكهم ، فمن اعتاد الظلم ، ومارس الجرائم يطبع الله على قلبه حتى لا يؤمن ، الّا في وقت لا ينفعه ايمانه.

(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ)

٤٥٤

[٩٧] وعدم ايمان هذا الفريق من الناس ليس بسبب نقص في الآيات ، بل بسبب انغلاق أنفسهم دون نور الايمان.

(وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ)

أجل انهم يؤمنون فقط حين يرون العذاب فلا ينفعهم ايمانهم.

(حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ)

التكذيب سنة اجتماعية :

[٩٨] يبقى أن نعرف أن ذلك ليس قدرا مقضيا عليهم بل سنة اجتماعية ، والفرق بين القدر والسنة ، أن القدر كطلوع الشمس من مشرقها في وقتها لا يخضع أبدا لارادة البشر ، بينما السنة كما الثورة ضد الظلم ، وسقوط الطاغوت ، قد يتقدم أو يتأخر ، أو حتى لا يقع إذا أراد الإنسان ، فقد لا يقرر الشعب المضطهد الثورة ضد جلاديه ، وقد يغير الطاغوت عاداته الظالمة في الوقت المناسب فيمدد في أجله ، وهكذا جحود الظالمين وكفر المكذبين بآيات الله ليس قدرا ، بل سنّة ، فمن الممكن عقلا أن يدور المرء مائة وثمانين درجة باتجاه الصلاح كما فعل قوم يونس ، ولكن لا يقع ذلك عادة بسبب تكبر الفاسقين وتعاليهم عن التوبة الّا بعد فوات الوقت.

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها)

أي لماذا لم يقدم هؤلاء ايمانهم في الوقت المناسب؟ لماذا لم يتب الطاغوت حين رأى تململا اجتماعيا ، بل أخذته العزة بالإثم ، حتى أصبح التململ ثورة عارمة؟ ولماذا لم يتب الشعب المتوغل في الفساد الخلقي ، وفي ظلم بعضهم لبعض ، حين رأوا قصا في الثمرات ، وتدهورا في الاقتصاد ، وفي الصحة العامة ، بل استمروا في غيّهم حتى أنهار اقتصادهم وصحتهم تماما؟!

٤٥٥

أنّ هذا التحريض القرآني الشديد يدل أولا : على امكانية تحول الفرد والمجتمع تحولا جذريا قبل فوات الأوان ، وثانيا : أنه يدل على الصعوبة البالغة لهذا التحول ، مما يقتضي التحريض بكلمة عنيفة وهي (لولا ).

أجل ان قوم يونس ضربوا مثلا رائعا في هذا التحول ، الذي ينبغي أن يكون قدوة للمجتمعات الضالة التي يعبّر عنها القرآن الحكيم عادة بكلمة (قرية ).

(إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)

الى أن انتهى أجلهم الطبيعي الذي حدّده الله لهم ، فالأمم كما الأفراد ينتهون بطريقتين : اما بصورة طبيعيّة كحالة الشيخوخة ، وأما بسوء أعمالهم كحالة القتل في الفرد ، والاضطراب في الأمة.

وقد سميت هذه السورة باسم يونس لأهمية التحول الاجتماعي الذي حدث عند قومه ، فليس من السهل أن يستيقظ مجتمع مسترسل في الفساد ، سادر في الميوعة واللامبالاة مرة واحدة ، ويعود الى رشده الأولي.

و جاء في حديث الصادق (ع ) عن قصة قوم يونس :

(أنه كان فيهم رجل اسمه (مليخا ) عابد ، وآخر اسمه (روبيل ) عالم ، وكان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم ، وكان العالم ينهاه ويقول له لا تدع عليهم ، فان الله يستجيب لك ولا يحب هلاك عباده ، فقبل يونس قول العابد فدعا عليهم ، فأوحى الله اليه أنه يأتيهم العذاب في شهر كذا .. في يوم كذا .. فلما قرب ذلك الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد ، وبقي العالم فيهم فلما كان اليوم الذي نزل بهم العذاب فقال لهم العالم : أفزعوا الى الله فلعله يرحمكم ويرد العذاب

٤٥٦

عنكم ، فأخرجوا الى المغارة وفرّقوا بين النساء والأولاد ، وبين سائر الحيوان وأولادها ، ثم أبكوا وأدعوا ففعلوا فصرف عنهم العذاب ، وكان قد نزل بهم وقرب منهم ) (١).

وجاء في بعض التفاسير أن قوم يونس قد تابوا بعدئذ توبة نصوحا ، حتى ردّ كل ظالم ، حق المظلوم اليه ، حتى أن الحجر كان في أساس البناء وكان غصبا ، كان الفرد يهدم بناءه ويرده الى صاحبه.

وفي هذا الحديث اشارة واضحة الى السبب في توبة قوم يونس وهو : تواجد العلماء بينهم ، واحترامهم لمقام العلم.

__________________

(١) نور الثقلين ج ٢ ص ٣٢٨

٤٥٧

سورة يونس

وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)

٤٥٨

بصائر الاختيار السليم

هدى من الآيات :

يتساءل القارئ للآيات السابقة : لماذا وكيف يختار البشر طريق الايمان أو الكفر؟! فيجيب هذا الدرس عن هذا السؤال بإعطاء بصيرة ذات أبعاد أربع عن الايمان والكفر وهي :

١ ـ لا يتحقق الايمان بالإكراه ، لا من قبل الله ، ولا من قبل الرسول ، فلو شاء الله لآمن من في الأرض جميعا ، ولكنه لا يكره الناس على الايمان ، فهل يحق لبشر أن يكره الناس على الايمان وخالق البشر أحق بذلك ، لو كانت المصلحة تقتضيه؟.

٢ ـ ان الايمان نعمة كبيرة يتفضّل بها الله على الإنسان ، بعد توفير شرائطه من قبله وان الله يجعل الرجس وهو الكفر ومفاسده المترتبة عليه على أولئك الذين لا ينتفعون بنور عقولهم فلا يعقلون.

٣ ـ إذا فتح الإنسان عينه ، ونظر الى ما في السموات والأرض نظر اعتبار من

٤٥٩

دون حجاب ، فانه يوهب الايمان ، ولكن إذا قرّر الفرد عدم الايمان سلفا فكل الآيات والنذر لا تغنيه ولا تنفعه شيئا.

٤ ـ أن انتظار الكفار هو تحول الغيب الى شهود ، والحقيقة المبشر بها الى واقع قائم أمامهم ، مثل أن ينزل عليهم فعلا العذاب الذي يتوعدهم به الرسل ، وآنئذ لا ينفعهم الايمان كما لم ينفع الذين كذّبوا بالرسالات السابقة ، وانما نفع المؤمنين من قومهم الذين نجاهم الله ، وهذا وعد حق يقطعه الله على نفسه للمؤمنين عبر العصور أنه ينقذهم مما ينتظر الكفار من العذاب.

بينات من الآيات :

الأيمان مادة الاختبار :

[٩٩] لقد خلق الله الحياة ليختبر فيها الناس ، وجعل مادة الاختبار الايمان ، وقد منح ربنا للبشر حرية القرار فيما يخص الايمان ، وكان بإمكان ربنا القدير أن يهب الإنسان نعمة الايمان بمثل ما وهب له نعمة العين ، وأضاء له النهار ، ولكنه لم يفعل ، فعلينا الّا نحاول إجبار الناس على الايمان.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)

أي هل أنت تضغط عليهم باستمرار حتى يصبحوا مؤمنين ، فهذا أمر يتنافى مع حكمة الاختبار في الدنيا ، وهو لا يمكن عمليا لأنه بعيد عن سنة الحرية التي قرّرها الله للبشرية.

الأيمان ومشيئة الله :

[١٠٠] ثم ان الايمان ليس كأي عمل آخر يقوم به البشر ، بل ان جانبا منه

٤٦٠