من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

كذلك لكانوا أول المبارزين ، ولكن الجهاد عمل شاق ولا يريدونه.

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ)

القاصد هو السبيل الذي يقصد لقربه وسهولته. بينما الشقة هي المسافة البعيدة أو الوعرة التي من الصعب تجاوزها والسير فيها. يتعلل المنافقون على ذلك بأنهم لا يقدرون القيام بالاسفار البعيدة.

(وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ)

وهكذا كلّ كسول يزعم انه لا يقدر على القيام بأيّ شيء.

(يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ)

سبب كسلهم وتقاعسهم عن الجهاد. إذ ان الكسل عن العمل يفقد صاحبه قدراته ومهاراته ، كما يفقده فوائد العمل ومكاسب الجهد الخارجية.

(وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)

وعلى البشر أن يسعى حتى لا يكون ممن يعلم الله كذبه ولا يكون ذلك إلّا بالإخلاص في العمل ، وزيادة الجهد والعمل قدر المستطاع.

تعرية الطبقات الفاسدة في المجتمع :

[٤٣] من فوائد الجهاد والأعمال الصعبة التي يكلف بها المؤمنون فرز العناصر الكسولة المتجمعة حول الرسالة طمعا في الجاه والمال. ذلك لان تواجد هؤلاء في مجتمع الرسالة يربك القيادة ، ويضعف المجتمع فلا تستطيع القيادة إعطاء أوامر حاسمة لعدم ايمانها بتنفيذها ، كما لا يستطيع المجتمع تنفيذ الخطط الطموحة ،

١٨١

وغالبا ما تكون هذه العناصر المتملقون الذين يشغلون المناصب الحاسمة في المجتمع ، فعن طريق تكليفهم بالواجبات الصعبة وعدم قيامهم بها يتم تعريتهم ومن ثم تصفيتهم. لذلك يعاتب الله رسوله على إعطاء هؤلاء إذنا بعدم الاشتراك في الجهاد حيث كان ذلك الاذن غطاء لعدم كشفهم على واقعهم أمام المجتمع.

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ)

[٤٤] ذلك لان المؤمنين لا يتركون الجهاد فيعرف المنافقون التاركون للجهاد تحت غطاء الاستئذان.

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ)

الذين يخشون الله لا يتركون الجهاد إلا بعذر حقيقي.

[٤٥] (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ)

ففي كثير من الأحيان يزعم الإنسان انه مؤمن بينما قلبه مرتاب يشك في الله واليوم الآخر.

والأعمال الصعبة كفيلة بكشف هذا الإنسان لنفسه وللآخرين ، والريب ينعكس في عدم القدرة على اتخاذ القرار الحاسم والتردد في الأمور.

(فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)

أي يقلبون الأمور ويذهبون ويعودون.

١٨٢

سورة التوبة

وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا َعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ

١٨٣

سورة التوبة

وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)

١٨٤

هكذا تقاعس المنافقون عن الجهاد

هدى من الآيات :

لا يزال الدرس هذا يبين لنا صفات المنافقين وتصرفاتهم في الحرب ، ويعطينا عدة مقاييس لتمييزهم وكشف كذبهم :

ألف : ان المنافقين لا يريدون الجهاد بدليل انهم لم يعدّوا له عدة ، ولو أرادوا الخروج للحرب لهيأوا وسائله سلفا ، لذلك ثبطهم الله وسلبهم عزيمتهم وجعلهم يقعدون مع الذين لا يملكون قدرة الخروج.

باء : ولو تحاملوا وخرجوا للحرب فلا يهدفون فعلا الجهاد ، بل كانوا كلّا وعناء للمسلمين.

جيم : وفي أرض المعركة يثيرون الفتنة ويفسدون علاقة المؤمنين ببعضهم باثارة النعرات الجاهلية ، والحساسيات الباطلة.

دال : وهم بالتالي جواسيس وعيون للأعداء على المؤمنين ، والله يعلمهم ويعلم

١٨٥

طبيعتهم الظالمة والدليل على هذه الحقائق تاريخهم السابق حيث كانوا من قبل يحاولون اثارة هذه النعرات ، وتغيير مسار الاحداث باتجاه مضاد للرسالة ، ولكن الله أظهر أمره باذنه وهم كارهون.

ومن المنافقين من يقول للرسول : اعطني إذنا بالتخلف عن المعركة حتى لا أضطر الى ترك أمرك وعصيانك بينما هذا الاستئذان ذاته عصيان وتخلف عن الواجب ، وان جهنم محيطة بالكافرين ، فسواء خرجوا أو تخلّفوا فإنهم في النار لأنهم أساسا من الكافرين. والكافر لا يصلح عملا ولا يفلح مصيرا.

هاء : ومن علامات المنافقين انهم يفرحون كلما ينهزم المسلمون ويحزنون كلما ينتصرون. ويزعمون ان انفصالهم عن ركب الرسالة دليل على كمال عقلهم وحذرهم حيث لن يصيبهم ما أصاب المؤمنين ، ويقول ربنا ان المصائب مكتوبة على الإنسان ومقدرة من قبل الله سبحانه ، والمؤمنون لا يخشون المستقبل لأنهم يتوكلون على ربهم ، ونهاية ما يمكن ان يصيب المؤمنين هو القتل في سبيل الله وهو احدى الحسنيين ، اما الانتصار فهو عاقبة حسنى معروفة ، بينما المنافقون إما يموتون فيعذبون عند الله أو يبقون فيعذبون على يد المؤمنين. إذا الوقت في صالح المؤمنين والنهاية لهم على أية حال.

بينات من الآيات :

ما هو الجهاد؟

[٤٦] هناك جدل كبير في علم أصول الفقه حول هذا السؤال : هل يجب تهيئة الوسائل الضرورية لتنفيذ الواجبات أم لا؟ بيد ان العقل يحكم بأنك حين تريد الوصول الى القمة فعليك ان تتسلق الجبل ، ولا معنى أساسا لقرارك هذا إلّا الاندفاع في الطريق الذي يوصلك الى هدفك وهو بلوغ القمة ، وهل يعني ضرورة وجود

١٨٦

المسكن إلّا القيام عمليا ببناء البيت أو شرائه .. هل يعني الحصول على شهادة الماجستير إلا الدراسة المستمرة في الجامعة؟!

ان الواجب ليس نهاية السعي. بل ان الواجب هو السعي ذاته الذي ينتهي بالطبع الى النهاية أو يعذرك إذا لم تصل الى النهاية بسبب خارج عن إرادتك.

ويذكرنا القرآن بهذه الحقيقة الواضحة عقليا ويقول : ان الجهاد لا يعني إلّا توفير وسائله فالجهاد ليس فرضا موهوما أو تصورا جامدا. الجهاد هو مجموعة اجراءات عملية متدرجة ينبعث نحوها المؤمن يوميا ، وفيما يلي نذكر بعض هذه الاجراءات :

ـ ألف : الجهاد يعني الاستقلال عن الآخرين وعدم الخضوع لأوامرهم أو لضغوطهم ، وبالتالي إعلان الصراع معهم.

باء : ويعني توفير فائض من الجهد ليدخره المجتمع من أجل إدارة الصراع ، والقيام بضروراته. ذلك لان الاستقلال يعني المحاصرة الاقتصادية والضغوط السياسية ، ونقص الثمرات وعدم التبادل التجاري مع أطراف اخرى غير الأعداء وذلك بسبب عدم أمن الطرقات ، ويعني الاستقلال وبالتالي الاكتفاء الذاتي في كثير من الحقول. وهذا لا يكون إلا بجهد إضافي.

كما يعني الجهاد ادخار المؤن ، وصنع السلاح والذخيرة ، وتموين الجيش ، وتمويل المؤسسات العسكرية ، وكل ذلك بحاجة الى فائض من الجهد.

جيم : الجهاد يعني في بعض المراحل تطوير الاقتصاد لكي يكون اقتصاد حرب يستخدم كل شيء من أجل المعركة باستثناء الضرورات الحياتية.

دال : والجهاد يعني : التدريب المتواصل لكل القادرين على حمل السلاح أولا أقل للجيش المحارب ، والتدريب بدوره قد يطول سنينا وأعواما من تدريب القادة

١٨٧

والضباط والى تدريب الفرق الخاصة وحتى تدريب الجنود العاديين.

هاء : والجهاد بحاجة الى تقوية الروح المعنوية ، وشحذ العزائم ، وإعداد النفوس لتحمل الصعاب.

وهكذا يكون شكل المجتمع المحارب مختلفا كليا عن شكل المجتمع السادر في غياهب الاستسلام والتخلف ، لذلك أكدّ القرآن على هذه الحقيقة بالنسبة الى المنافقين الذين يتشدقون بالمعركة دون أن يصدقوا لعدم القيام بالاعداد لها.

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً)

والدليل على صدق النية ، وسلامة العزيمة الاندفاع نحو الهدف.

(وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ)

أي اندفاعهم وتحريك الارادة لهم.

(فَثَبَّطَهُمْ)

أي أفقدهم إرادتهم وأقعدهم الأرض.

(وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ)

الذين لا حول لهم ولا قوة ولا فرق بين العاجز عن التحرك ، والمثبط الذي لا يملك ارادة التحرك.

وهكذا نجد اليوم العالم الاسلامي يتحدث عن الاستقلال دون أن يهيء وسائله أو يتحدث عن محاربة «إسرائيل» دون أن يعد نفسه جديا لهذه الحرب.

١٨٨

الطابور الخامس :

[٤٧] المنافقون لا يخرجون للحرب ، أما لو خرجوا فليس للحرب ضد العدو ، بل ضد المسلمين وذلك بطرق :

أولا : انهم سوف يطالبون القيادة أبدا بالسلاح والوسائل الرفاهية حتى يتعبوا القيادة ويكونوا زيادة عناء فوق عناء الحرب.

(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ)

أي في صفوفكم.

(ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً)

أي عناء ، يقول العرب : هو خبال على أهله. أي كلّ عليهم ، وكل عناء يفسد ولا يصلح لأنه يمتص الجهود دون أن يقدّم شيئا لذلك فسّر الخبال هنا بالفساد والعجز.

ثانيا : انهم مسارعون الى الفتنة ، والفرقة بين المسلمين ، بل انهم يسارعون بين الصفوف ينقلون لهذا كلاما ضد ذاك ، فاذا غضب وبدرت منه كلمة ضخموها وحملوها الى الآخرين.

انهم بالتالي يقومون بدور الطابور الخامس للعدو.

(وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ)

الكلمة مأخوذة من الإيضاع يقال : أوضع الإبل في سيره أي أسرع والخلال يعني في صفوفكم.

١٨٩

أي انهم يسرعون بين الصفوف بهدف الفتنة.

(يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ)

أي يريدونكم ان تتحولوا الى قطعة من الخلافات الداخلية والبرود عن المعركة.

ثالثا : ان هؤلاء جواسيس للأعداء عليكم.

(وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)

وكل ظالم ينتهي مصيره الى هذه العاقبة ، وهكذا علينا ألّا ننظر الى ظواهر الأشخاص ، بل نفكر في تاريخهم وسلوكهم السابق وكيف انهم كانوا يعملون سابقا فإنهم يعملون ذلك مستقبلا.

مراجعة السوابق :

[٤٨] يذكرنا القرآن بماضي المنافقين الأسود ، وكيف انهم كانوا في أيام السلم يقلبون الأمور لرسول الله (ص ) ، ويصورونها تصويرا مقلوبا.

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ)

جاء في التفاسير : وقلبوا لك الأمور : أي صرفوها من أمر الى أمر ، ودبروا لك الحيل والمكائد ، ومنه قول العرب حولّ قلّب ، إذا كان دائرا حول المكائد والحيل يدير الرأي فيها ويتدبره. (١)

وجاء : وقلبوا لك الأمور : أي احتالوا في توهين أمرك وإيقاع الاختلاف بين

__________________

(١) الفتح القديم ج ٣ / ٣٦٧

١٩٠

المؤمنين وفي قتلك بكل ما أمكنهم فلم يقدروا عليه ، وقيل : انهم كانوا يريدون في كيده وجها من التدبير فاذا لم يتم ذلك فيه تركوه وطلبوا المكيدة في غيره فهذا تقليب الأمور عن أبي مسلم. (١)

وأتصور ان تقليب الأمور للرسول (ص ) (ولم يأت عليه ) يعني : تبيانها بصورة غير صورتها الحقيقية وذلك للاشارة الى مدى كذب هؤلاء على الرسول (ص ) وتمرسهم في الاشاعات الباطلة والله العالم.

ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل فهذا الدين قد ظهر ، وذابت تلك الاشاعات في حرارة الانتصار وتحقق الرسالة.

(حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ)

كانوا يحاولون أبدا تحوير الحقائق بأقوالهم وإطفاء نور الله بما يخرج من أفواههم من ألفاظ فارغة لا تعني شيئا.

واقع المنافقين :

[٤٩] ان بعض المنافقين يريدون تطويع الدين لشهواتهم وأهوائهم ويطالبون القيادة الدينية بان تسمح لهم بارتكاب بعض المحرمات. زعما منهم ان لهم الحق في ذلك ويهددون القيادة بأنها لو لم تأذن لهم بمثل ذلك لتركوا الدين ولخالفوا أوامر الله ، وتكون الخطيئة على عاتق القيادة التي استصعبت عليهم الأمور. فهل هذا صحيح؟ كلا : إذ ان الدين هو المهيمن على تصرفات البشر ، والقائد لمسيرته لا العكس كما يريده المنافقون ، وبالتالي يجب أن يتّبع الدين لا ان يتّبع ، ومن جهة

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ / ٣٦.

١٩١

اخرى محاولة المنافقين بتطويع الدين لشهواتهم ومطالبتهم بالاذن لمخالفة تعاليم الدين. هذه المطالبة ذاتها خروج عن الدين وكفر به. إذ ليس بدين ذلك الدين الذي يتخذ مطية لأهواء المنافقين.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي)

ي لا تمتحني وتجبرني على ترك واجب الجهاد ، بل ائذن لي بتركه حتى يكون تركي للجهاد مسموحا شرعيا.

(أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)

وأي فتنة أكبر من الاستئذان بترك الجهاد.

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ)

فان سيئات أعمالهم وما كسبته قلوبهم وأنفسهم من الرذائل والخطايا هي بذاتها نيران كامنة في صورة نيران ملتهبة ، أو عقارب وحيات في يوم القيامة وما دام البشر قد اختار طريقا منحرفا فان كل أعماله ستكون وبالا عليه. كما إذا اتخذ قائد الجيش استراتيجية خاطئة فان أساليبه وعملياته ستكون كلها باطلة وغير نافعة.

معرفة المنافقين بعد الانتصار :

[٥٠] بسبب كفر المنافقين وعدم إيمانهم بالله وبالرسالة يرون أنفسهم منفصلين عن المجتمع الرسالي ، فاذا غنم المسلمون شيئا حزنوا لأنهم لم يكونوا معهم حتى يغنموا مثلهم ، وان خسر المسلمون المعركة وانهزموا فرحوا زاعمين ان تخلفهم عن المعركة كان بسبب صحة مواقفهم وسلامة عقولهم ، وازدادوا بذلك ابتعادا عن الجبهة الاسلامية.

١٩٢

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ)

أي كنّا عارفين بالعاقبة ، وقد اتخذنا الاحتياطات اللازمة لمواجهة الموقف وذلك بعدم الاشتراك في الجبهة.

(وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ)

لأنهم في زعمهم لم يخسروا شيئا.

وهكذا يعمل المؤمن ويجلس المنافق يراقب الموقف ليعلق على النتائج.

كيف نتصرف عند المصائب؟

[٥١] ولكن هل الخسائر التي تلحق الرساليين في ساحة المعركة كلها خسائر. أم انها أقدار كتبها الله عليهم لحكمة بالغة. فدماء الشهداء تكرس في المجتمع القيم الرسالية وإذا لم يقتل الشهداء فإنهم لا يخلدون في الحياة بل كانوا يموتون بسبب أو بآخر ولكن حين استشهدوا وأريقت دمائهم من أجل الرسالة جرت تلك الدماء الزكية في عروق الآخرين للتحول الى عزيمة راسخة وصلابة واستقامة.

وهكذا الخسائر المادية زكاة لأموال المسلمين ، والجهود المبذولة زكاة لابدانهم تطهرهم وتؤهلهم لمسؤولياتهم القيادية.

لذلك قال ربنا :

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا)

فلا حزن مما كتب الله.

١٩٣

ثم ان الله الذي قدر علينا المصيبة هو صاحب النعمة التي سلبها فليس علينا ان نناقش ربنا فيما يكتبه ويقدره.

(هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)

لذلك فهم لا ينهزمون نفسيا مما يقدر الله عليهم من الهزائم ، بل يعلمون ان الهزيمة خطوة الى الوراء ، وخطوتان الى الامام بإذن الله ، وبفضل التوكل عليه.

النصر أو الشهادة :

[٥٢] وأسوأ الاحتمالات عند المنافقين يعتبر عند المؤمنين أحسن الاحتمالات ، أ وليس الموت آخر ما يخشاه المنافقون ، ولكنه أفضل ما يتمناه المؤمنون أما النصر فهو أمل الجميع وقد يبلغه المؤمنون.

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)

أما النصر أو الشهادة في سبيل الله.

(وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ)

وننتظر لكم واحدا من عذابين فاما العذاب في الدنيا بهزيمتكم ، وإما العذاب في الآخرة وذلك بالنصر الظاهر لكم في الدنيا وزيادة ذنوبكم وتحولها الى عقاب شديد في الآخرة.

(أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)

فالجميع ينتظر العاقبة ، والفارق ان الرساليين سير بحون الموقف أما الكفار والمنافقون فإنهم سوف يخسرونه لا محالة بإذن الله تعالى.

١٩٤

سورة التوبة

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)

____________________

٥٦ [يفرقون ] : الفرق إزعاج النفس بتوقّع وأصله من مفارقة الأموال حال الانزعاج.

٥٧ [مدّخلا ] : المدخل المسلك الذي يتدسس بالدخول فيه.

[يجمحون ] : الجماح مضي المار مسرعا.

١٩٥

المنافقون والتظاهر بالدين

هدى من الآيات :

استمرارا للحديث عن سلوك المنافقين في الحرب ، يبين هذا الدرس موقف المنافقين من المال وكيف انهم لا ينسون أنفسهم كما يفعل المؤمنون ، بل لا يزالون حريصين على المال فلا ينفقون منه ولا يتقبل الله منهم نفقاتهم ، لأنهم يعطونها رياء ، وأما أموالهم وأولادهم فهي عذاب لهم في الدنيا وغرور يدفعهم نحو الاستمرار في الكفر.

ان علاقة المنافقين بالمؤمنين تحددها مصالحهم الخاصة ، فاذا وجدوا مغانم ومكاسب بادروا الى تسجيل أسمائهم مع المؤمنين وإلا تهرّبوا من المجتمع المسلم وو ذهبوا الى شياطينهم ولكن مع كل ذلك تراهم يحلفون بالله أبدا أنهم من جماعتكم ، والواقع انهم مع مصالحهم وذلك تراهم كل يوم مع جماعة.

١٩٦

بينات من الآيات :

إنفاق المنافقين رياء أو خوفا :

[٥٣] جاء في بعض الأحاديث ، ان إبليس قال لربه بعد ان امره بالسجود لآدم : اعفني عن ذلك وسأقوم بسجدة لك طولها أربعة آلاف عام. قال له الله : اني أريد الطاعة ولا أريد العبادة.

وهكذا أحكام الشريعة ليست مطلوبة بذاتها بل انها في حدود الأوامر التي تفرضها فمثلا لو تركت صلاة الصبح وهي ركعتان عمدا ، ثم صليت بدلا عنها عشر ركعات في غير وقت الصبح فان ذلك لن يقبل منك وتكون آنئذ مثل من لا يحمل جوازا عند مروره على الحدود الخارجية للبلد ولكنه يظهر جوازه عند شراء الحاجيات من المحلات التجارية فهل ينفعه ذلك؟!

والمنافقون لا يطيعون الأوامر القيادية ثم يقومون ببعض العبادات التي لا تؤثر على مواقفهم فلا يقبل ذلك منهم ، فهم يتمردون على أمر القيادة بالجهاد ، ولكنهم يريدون تعويض ذلك بالإنفاق مكان حضورهم في الجبهة فان الله لا يتقبله.

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ)

فالفاسق الذي يرفض الانقياد لاوامر السلطة الشرعية لا تقبل منه نفقاته لان هذه النفقات ليست لله بل لتعزيز مكانته وشراء ذمة السلطة لئلا تضرب مصالحه ، ومثل هؤلاء في بلادنا مثل بعض الرأسماليين والاقطاعيين الكبار الذين يحاولون شراء ذمة الجهات الدينية والثورية بدفع بعض المال تحت واجهة التبرعات ، وما هي بتبرعات ولكنها رشوة (! ) وعلى تلك الجهات ان ترفض تلك التبرعات أو تقبلها دون أن تتقبلها بل تبقى في عدائها المستمر للاستغلال والابتزاز ، حتى بعض الدول

١٩٧

الغنية تقوم ظاهرا بدفع مبالغ لهذه الثورة أو تلك باسم خدمة الانسانية ، ولكنها تستغل جماهيرها وثروات بلدها لمصلحة شياطين الدنيا. ان على الثورات أن تتفهم دوافع النفقات التي يعطيها البعض وتتحذر من شرك الرشوة والفساد.

[٥٤] ويفصل القرآن دوافع المنافقين من الإنفاق والسبب الذي يرفض الله تقبل إنفاقهم من أجله.

(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ)

فلم يطبقوا واجبات التسليم للسلطة الشرعية.

(وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى)

فلم يتجذر الايمان في نفوسهم وانما يصلّون للعادة أو للرّياء.

(وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ)

إنفاقهم انما هو بسبب خوفهم من السلطة أو محاولتهم شراءها فحتى لو كان الإنفاق طوعا فان دافعه ليس الايمان بل الخوف ، فهو مثل من يخاف من الاقامة في بلد فيبيع بيته ليهرب بنفسه فالبيع ظاهرة طوعية. إذ انه يقدم عليها بلا إجبار ويتوسل بالناس أن يشتروا منه بيته ويفرح لو وجد من يشتريه منه بأي ثمن ، ولكن مجمل العملية يكون بالإكراه لان الدافع الأساس للبيع هو الخوف.

وربما كان في الآية الاولى دلالة على ان الدولة الاسلامية تجبر المنافقين على دفع الضرائب وخلافها ، ولكن الله لا يثيبهم عليها.

لماذا أعداء الرسالة منعّمين؟

[٥٥] قد يستهوي ظاهر المنافقين طائفة من المؤمنين والرساليين فيفكرون في

١٩٨

كسبهم لاستقطاب امكاناتهم المادية لمصلحة الرسالة وبذلك يقدمون تنازلات لهذه الطائفة الفاسدة ، والقرآن يحذر من ذلك بشدة ويبين ان امكانات هذه الطائفة لا تنفع الرسالة لأنها متصلة بسلوك فاسد وضمائر فاسدة وهي بالتالي نتيجة وضع فاسد ، وإفراز لوضع فاسد فهي تضر ولا تنفع.

(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ)

ان الثروة التي جمعت من الابتزاز والسرقة والاستغلال سحت وفساد وهي لا تصلح ان تكون في خدمة الرسالة كذلك الولد الناشئ في بيت الدلال والميوعة وبالتربية الفاسدة لا ينفع كسبه شيئا.

ولكن لماذا أعطاهم الله المال والولد؟

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)

فالمال السحت والولد الفاسد ليس نعمة بل نقمة يعذب بها صاحبها.

(وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ)

فالغنى والشرف الاجتماعي يعطيان الفرد غرور العظمة ، فيكفر بالله ولا ينتبه لواقعه الضعيف البائس إلا بعد الموت.

[٥٦] والمنافقون ليسوا من المجتمع المسلم ، لأنهم لا يشاطرون الامة مصاعبها ومصائبها.

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ)

فمن شدة خوفهم تراهم يتظاهرون بانّهم منكم ، ولكنهم قوم يفرقون أي يخافون

١٩٩

لا أكثر ولا أقل.

[٥٧] (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ)

والدليل على ان تظاهرهم بالدين إنّما هو من خوفهم : انهم لو وجدوا أي وجه للفرار منكم لأسرعوا اليه ، كما لو وجدوا قوما يلجأون إليهم. أو وجدوا كهوفا في الجبال ومغارات. أو حتى إنفاقا وأسرابا في الأرض لرأيتهم يتجهون إليها. وهم يسرعون من دون أن يمنعهم وفاء بالعهد. أو بقية ذمة أو ضمير.

٢٠٠