من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

سورة التوبة

وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)

٢٠١

كيف تصرف الصدقات؟

هدى من الآيات :

الانتماء الى القيادة الرسالية عند المنافقين انما هو انتماء مصلحي. فان أعطوا من الصدقات وبيت المال شيئا رضوا وإلّا فانّهم سوف يسخطون ، وهم يشيرون الى ذلك من خلال كلماتهم وتصرفاتهم!

بينما الانتماء السليم هو الانتماء الايماني الذي يسلم الفرد نفسه لله وللرسول وللقيادة الرسالية ويطمئن نفسيا بأوامر القيادة انتظارا لفضل الله الكبير المتمثل في الرخاء والرفاه لكل أبناء المجتمع ، وذلك لا يكون إلّا بعد الرغبة الى الله.

أما الصدقات وأموال بيت المال فهي ليست لمن أراد. انما هي للضعفاء من أبناء المجتمع ـ الفقراء والمساكين والموظفين العاملين على الصدقات. والجنود الذين يؤلف قلوبهم من سائر الأديان ليحاربوا الى جانب الدولة الاسلامية والعبيد المديونين الغارمين. و في سبيل المصالح العامة. ومنها الذين ينقطع بهم الطريق وتنتهي نفقاتهم وزادهم .. ـ هذه هي مصارف الصدقات والله عليم بالحاجات

٢٠٢

الحقيقية حكيم يأمر بما فيه المصلحة.

بينات من الآيات :

الانتماء المصلحي

[٥٨] الفرق بين تركيبة المجتمع المسلم الرسالي وبين المجتمعات الاخرى. أن الحبل الرابط بين أبناء المجتمع الرسالي هو المبدأ فالإيمان بالإسلام هو الذي يجعل مجموعة من البشر المختلفين (ثقافيا ـ طبقيا ـ عنصريا ـ ولونا ـ ولغة ـ وقوميا ) يذوبون في بوتقة الامة الواحدة ذات القيادة القويمة القوية.

وكل فرد يسلم عمليا ونفسيا لهذه القيادة ويجعل انتماءه إليها مشروطا بمدى تجسيد القيادة للقيم الرسالية وتنفيذها للواجبات الدينية.

لذلك ترى القيادة هنا متحررة من الضغط والأغلال فلا تخشى انهيار صرح قيادتها لو خالفتها طبقة أو سحقت امتيازا أو ألغت عادة عشائرية شاذة.

الانتماء الى القيادة ليس على أساس المصالح المادية حتى إذا فقدت القيادة الثروة ضعفت أو انهارت ، ولا هي قائمة على أساس عشائري أو قومي حتى تكون قائمة على ظلم سائر العشائر والقوميات ، وإعطاء المزيد من الامتيازات لهذا أو ذاك ، كلما شعرت بالضعف.

أما المنافقون فإنهم يريدون القيادة بقرة حلوب يحبونها ما دامت تعطيهم لبنا سائغا ، وإلّا فهم ينقلبون عليها.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ)

أي يتصرف بطريقة توحي باستعطائك من الصدقات. والصدقات ـ حسبما

٢٠٣

يبدو لي ـ كل الأموال التي ينفقها المؤمنون بوازع يماني.

(فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ)

على القيادة ويعارضونها.

[٥٩] بيد أن تشجيع العمل الصالح في المجتمع. انما يتم بتكافؤ الفرص الذي يضمنه القانون الاسلامي وتطبقه القيادة العادلة النابعة من ايمان الجماهير بالإسلام ، وتسليمهم النفسي للقيادة. ان هذا القانون هو الذي يدفع الجميع الى العمل البناء ويوفر الأمن والتقدم للجميع.

وهو بالتالي أنفع من أصحاب الامتيازات الباطلة الذين يحاولون تحريف المجتمع باتجاهها.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)

فحين تلغى الامتيازات يتقدم الجميع بسبب العمل البناء الذي ينعكس على كلّ حقول الحياة الاجتماعية والاقتصادية.

(إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ)

فحتى لو لم أحصل شخصيا على مكسب في الدنيا ، فان الجزاء في الآخرة سوف يتضاعف.

أين تصرف الصدقات؟

[٦٠] أما مصارف الصدقات فتكون في الطائفة الضعيفة وليس لأصحاب

٢٠٤

الامتيازات.

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ)

الفقراء هم الطبقات المحرومة التي لا يفي دخلها بمصارفها حسب المستوى الاجتماعي في ذلك العرف. أما المساكين فهم المعدمون الذين أسكنهم الفقر والعجز عن الاكتساب.

(وَالْعامِلِينَ عَلَيْها)

أي القائمون على الصدقات من الموظفين.

(وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ)

من الجنود الذين لم يدفعهم الايمان الى الانخراط في هذا السلك ، بل العوز وهم غالبا يكونون من غير المؤمنين.

(وَفِي الرِّقابِ)

وهم العبيد الذين يعتقون من بيت المال ليعاد لهم حريتهم السلبية بسبب الأسر.

(وَالْغارِمِينَ)

الذين لا يقدرون على الوفاء بديونهم.

(وَفِي سَبِيلِ اللهِ)

أي في كلّ مصلحة أمر بها الله من بناء الجسور ، وتعبيد الطرق ، وإقامة المشاريع

٢٠٥

الانمائية ، والخدمات الصحية .. وما أشبه.

(وَابْنِ السَّبِيلِ)

وهو المسافر الذي انقطع عن أهله ولا يملك ما يوصله إليهم ، فيدفع اليه زادا ونفقة كافية.

(فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

وتجديد مصارف الأموال العامة خصوصا بعد ذكر كلمة الحصر (إنّما ) ينقطع أمل المنافقين من الطفيليين وأصحاب الامتيازات ، فلا يطمعون في ابتزاز القيادة الاسلامية ، واننا نجد في سلوك الامام علي (عليه السلام ) مع أخيه عقيل ، ومع أصحاب الامتيازات الباطلة ما يجعلنا نفهم بعمق طبيعة القيادة الرسالية.

لقد جاء عقيل الى علي (عليه السلام ) وهو أمير المؤمنين يطالبه بزيادة في العطاء ـ وقد أملق إملاقا ـ فحمى علي (عليه السلام ) حديدة وقربها الى يده وكان عقيل ضريرا ، وكانت له عائلة كبيرة ، فمدّ يده ليأخذ المال بزعمه فاذا به يحس بحرارة الحديدة فقال له :

«ثكلتك الثواكل يا عقيل أ تئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه ، وتجرني الى نار سجرها جبارها لغضبه. أ تئن من الأذى ولا أئن من لظى»؟!

٢٠٦

سورة التوبة

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)

٢٠٧

المنافقون يحاددون الرسول

ويسترضون المؤمنين

هدى من الآيات :

بسبب تمرد المنافقين على القيادة الرسالية المتجسدة في شخص النبي (ص ) كان الناس ينظرون إليهم شزرا ، فكان المنافقون يحاولون تبرير مواقفهم.

أولا : بالادعاء الكاذب ان الرسول لا بأس به ولكن يحيط به رجال يغذونه بالاخبار والمواقف المضادة بنا ، ولهذا فنحن نخالفه لا لأنه ـ لا سمح الله ـ يكذب أو يتخذ مواقف باطلة ، وفضحهم القرآن بان الرسول يستمع فقط الاخبار التي هي في مصلحة المؤمنين ويعمل لهذه المصلحة ، وبالتالي فان موقفه من الناس لا يحدده الخبر ، بل قيمته المتجسدة في الايمان ، فلو كنتم مؤمنين لاستطعتم أن تفوزوا برحمة الرسول.

ثانيا : كانوا يحلفون بالله لتبرير نفاقهم ، ويدّعون بأن مخالفتهم لا تعني مخالفة المجتمع المسلم ، ويردهم القرآن بأن الله أحق أن يرضوه بصدق النية وإخلاص العمل ، وكذلك الرسول بالتسليم والطاعة.

٢٠٨

ويبين القرآن ان من يتجاوز حدود الله والرسول ، ويخالف أوامر الله فان جزاءه المعدّ له نار جهنم خالدا فيها.

بينات من الآيات :

القنوات الخبرية في الإسلام :

[٦١] كثيرا ما نجد المستكبرين الذين يخالفون القيادات الرسالية بسبب أو بآخر لا يجرءون على النيل من شخصية القائد ، ولو فعلوا لم يستمع إليهم أحد ، لذلك تراهم يتعرضون لمن حول القائد ، ويشككون في أجهزته وقنواته الخبرية ، ويدعون بان القائد بسيط وساذج أو أنه إنسان طيب يثق بكل الناس ، وأن من حوله يستغلون طيبه في إملاء المواقف الباطلة عليه ، وهكذا قال المنافقون عن الرسول ، ولكن نعلم سلفا ان هدف هؤلاء هو شخص القائد وانهم يحاربونه نفسيا ، ويتعمدون إيذاءه عن طريق مثل هذه الاشاعات حوله.

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ)

أي انه يسمع كل من يتحدث اليه ، ويقبل كلام الناس دون تمحيص أو نقد.

ولكن هل هذا صحيح؟ كلا .. ولعدة أسباب منها :

ان أي قائد هو مسئول عمن حوله وعن أجهزته ، والقائد الرسالي يختار اجهزته من بين أنقى الناس ، وحتى لو لم يقدر فهو لا يسلم نفسه لمن حوله ان كانوا انتهازيين ، وهكذا كان حول الرسول رجال صادقون اختبارهم بدقة ، أما غيرهم فلم يكن يتأثر بكلامهم الرسول (ص ).

ومنها : ان هدف الرسالي هو تحقيق مصلحة الامة ، ولذلك فهو لا يسمع الاخبار المسيئة بشخصية هذا أو ذاك ، ولا يتأثر بالصراعات القائمة داخل المجتمع المسلم

٢٠٩

والتي يحاول كل طرف منها تجيير شخصية القائد لحسابه ، ولذلك فهو هدف مسبق.

ومنها : ان هدف الرسول وكل قائد رسالي هو اشاعة الرحمة والبركة لكل أبناء المجتمع القريب والبعيد ، وأشارت الآية الكريمة الى هذه الحقائق قائلة :

(قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ)

فهو لا يسمع الشائعات المضادة لمصلحة الناس.

(يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)

فالإيمان بالله يجعل القائد بعيدا عن التأثر بالأقوال الكاذبة.

(وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ)

فهو رحمة للجميع.

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

كيف يثبت المنافقين انتماءهم؟

[٦٢] ثم ان المنافقين يحاولون شق عصا المؤمنين وبناء جدار بين القيادة الرسالية والمجتمع ، لذلك ..

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ)

فان كانوا جزء من أبناء المجتمع المسلم فان عليهم ان يرضوا الله والقيادة الرسالية ، ومن يقاوم القيادة الرسالية فانه لا يمكنه الادعاء بأنه ليس بعدوّ للمجتمع المؤمن بالقيم ، والقائم على أساسها.

٢١٠

[٦٣] والذين يحاربون الله ورسوله والقيادة الرسالية ، ويحاولون تجاوز حدود الله فان الجزاء المعدّ لهم جهنم.

(أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ)

أن تنتهي حياة البشر التي هي الفرصة الوحيدة بنار خالدا فيها ، أو ليس ذلك خزي وذلّ عظيم.

٢١١

سورة التوبة

يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨)

٢١٢

يستهزئ المنافقون ،

ويعدهم الله نار جهنم

هدى من الآيات :

يذكرنا السياق القرآني ببعض مواصفات المنافقين الذين يشكلون الطابور الخامس للعدو وأبرزها حذرهم من الفضيحة ، وفي ذات الوقت استهزاءهم بالرسالة ، واتخاذ مجمل الحياة لعبا ولهوا ، ولكن هل يمكن اللعب بالحقيقة؟

ان أولئك الذين حوّلوا الاستهزاء الى مرحلة العمل الاجرامي ، انهم سوف ينتظرهم العذاب. اما غيرهم فقد يغفر لهم. بيد ان هذا لا يعني تقسيم هذه الطائفة إذ النفاق صفة مشتركة فيهم ، ولذلك بعضهم من بعض وبعضهم يؤثر سلبيا في البعض عن طريق الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف واثارة السلبيات. ان هؤلاء نسوا الله وغفلوا عن انه فعّال لما يريد وهو الذي يدبر حياة الناس. وانه سبحانه نسوا الله وغفلوا عن انه فعّال لما يريد وهو الذي يدبر حياة الناس. وانه سبحانه نسيهم لفسقهم وسوء أعمالهم ، ووعدهم هم والكفار نار جهنم خالدين فيها وهي تكفيهم عذابا وجزاء ، وأبعدهم عن نعمه ولهم عذاب مقيم في الدنيا.

٢١٣

بينات من الآيات :

خوف المنافقين من الفضيحة :

[٦٤] بالرغم من يقين المنافق بأن الوحي حق ، وخشيته من افتضاح أمره عن طريق نزول سورة قرآنية تكشف خططهم وربما أسمائهم بالرغم من ذلك فهم يستهزءون ولا يتخذون الرسالة أمرا جديا لخور عزيمتهم وضعف إرادتهم وعصف الشهوات بنفوسهم المنهارة ، ولكن الله سوف يخرج ما في قلوبهم وما يحذرون من نشره.

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ)

من الاستخفاف بالرسالة واتخاذها هزوا.

(قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ)

[٦٥] ولكن لماذا يستهزئ هؤلاء بالرسالة أو لا يؤمنون بأنها حق ، بلى ولكنهم يتخذون الحياة لعبا.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ)

فليست هذه الحقائق قابلة للاستهزاء لأنها حقائق حاسمة ذات خطوة كبيرة بالنسبة لمستقبل البشر.

متى يتحول المنافق الى مجرم؟

[٦٦] وحين يأتي عذاب الله وتنتقم هذه الحقائق من المنافقين يشرعون بالاعتذار.

٢١٤

(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ)

والمعذرة انما تنفع الغافل أو الجاهل. أما الذي استسلم لضغط الشهوات وكفر بالله بعد إيمانه فان ذلك لا ينفعه.

(إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ)

لصدق توبتهم وخفة جرمهم ، ولكن الطائفة الثانية المجرمة حقا لا بدّ ان تنال جزاءها العادل.

(نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ)

[٦٧] ولكن لا يعني هذا ان النفاق ذاته ليس جرما ، كلا .. إذ مجرد ظهور النفاق عند أحد يدخله في قائمة المنافقين ، ويجعله شريكا لتصرفاتهم لطبيعة التفاعل بين أعضاء الكتلة الواحدة فبعضهم يشجع البعض على الاستمرار في الطريق المنحرف.

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ)

فلا يقومون بعمل ايجابي في سبيل تقدم الامة وصلاحها ، وهذا وحده يكفي ظلما لحقوق الامة ومخالفة لواجبات الإسلام.

(نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ)

كيف ينسى البشر ربّه؟

انه يلاحظ فقط ظواهر الأمور ولا يتعمق فيما وراء الظواهر من سنن وأنظمة

٢١٥

وتقديرات ، وأن الله سبحانه هو الذي يجري أمور الحياة حسب علمه وحكمته ، وهكذا اغفلوا دور التدبير الالهي ومن ثم الرسالة الالهية في حياتهم فتجاوزهم التدبير الالهي فلم يحفل بهم وبتطلعاتهم وكرامتهم وصدقهم. والسبب ان نسيان الله واغفال تدبيره للحياة يشجع المنافق على ارتكاب المعاصي والفسق ، وعاقبة الفسق معروفة.

عاقبة النفاق النار :

[٦٨] ان عاقبة الفسق هي عاقبة النفاق عموما وعاقبة الكفر بصورة أعم .. فما هي؟

(وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ)

ولكن بالرغم من ان نار جهنم تكفيهم جزاء وألما فان لهم أيضا جزاء آخر هو : ابعادهم عن رحمة الله في الدنيا ، وأيضا العذاب الدائم الذي يقيمون فيه أبدا وهو العذاب النفسي وتناقضهم مع تيار المجتمع ومع أنظمة الحياة.

(وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)

٢١٦

سورة التوبة

كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ

٢١٧

سورة التوبة

جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)

٢١٨

هكذا كانت عاقبة المستهزئين

هدى من الآيات :

النفاق تيّار اجتماعي وليس عملا فرديا أو سلوكا منفصلا عن سلوك الآخرين وهو في ذات الوقت تيار تاريخي علينا أن ندرك علاقته من خلال عاقبة مثيلاته في الماضي ، فقد كان من قبل هؤلاء المنافقين من هو أشدّ منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا عدّة وعددا ولكنهم استهلكوا ما كانت لديهم من قوة ومتع ، وهؤلاء المنافقون يسيرون على ذات الخط وكانت عاقبة أولئك حبط أعمالهم في الدنيا والآخرة ، وخسارة فرصهم في الحياة الدنيا.

ومثل هؤلاء يتجسد في قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين وكذلك المؤتفكات الذين ظلموا أنفسهم وأهلكهم الله بعد أن أنذرهم بالرسل والبيّنات.

وكما ان المنافقين تيار اجتماعي تاريخي فكذلك المؤمنون بعضهم أولياء بعض ، وهم يتفاعلون مع بعضهم في القيم السامية حيث يأمرون بالمعروف وينهون عن

٢١٩

المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة كفرائض اجتماعية اقتصادية ، ويخضعون للقيادة الرسالية حيث يطيعون الله ورسوله ، وأولئك سيرحمهم الله ، وينزل عليهم الرخاء ان الله عزيز حكيم ، هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فقد وعدهم الله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وأكبر من ذلك هو الفوز العظيم.

بينات من الآيات :

دروس من التاريخ :

[٦٩] لكي يرتفع البشر عن حدود المؤثرات العاجلة في سلوكه فعليه أن يتمتع برؤية تاريخية ، وينظر الى حياته من خلال بصائر الماضي وسننه ، والمنافق إذا نظر الى نظرائه في التاريخ وكيف كانت عاقبتهم إذا لتراجع عن نفاقه ، ولذلك يذكر ربنا المنافقين بمن سبق من أسلافهم ويقول :

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً)

وهذا اكتملت فيهم أسباب القوة واغتروا بها فاستخدموا قوتهم في تحقيق مطامحهم الخاصة من دون اهتمام بواجباتهم الدينية. تماما كما يفعل المنافقون اليوم.

(فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ)

أي انهم استفادوا من نصيبهم في الحصول على المتعة كما تفعلون أنتم ، فعليكم ان تقيسوا أنفسكم بهم وتنظرون كيف كان مصيرهم.

(وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا)

أي كما انهم خاضوا في غمرات الشهوات دون أن يحددوا شهواتهم بالعقول ، أو يستلهموا في أعمالهم من الوحي ، فأنتم كذلك خضتم اتباعا لهم وتقليدا. فما

٢٢٠