من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

لا للقيم المادية نعم للجهاد

هدى من الآيات :

لكي يكرس الإسلام قيم السماء في المجتمع ، ويحدد موقف الناس من الإفراد حسب مواقفهم من الرسالة ، ولكي يحطم الغنى كاساس لتقييم الناس منع الرسول (ص ) من الصلاة على منافق أو تكريمه بالقيام على قبره ما دام الرجل قد كفر بالله تعالى ورسوله (ص ) ومات فاسقا دون النظر الى غناه أو كثرة عشيرته ، لان الثروة والأنصار فتن يبتلي الله تعالى بهما البشر فاذا استخدمهما في الصلاح فهما خير ، والا فهما عذاب في الدنيا وسبب الكفر والعذاب في الآخرة.

ان الأغنياء من المنافقين يتمردون على فريضة الجهاد ، ويستأذنون الرسول (ص ) بان يمنح لهم اجازة البقاء مع ذوي الاعذار ـ كالنساء والصبيان والمرضى ـ دون ان يفقهوا ان ذلك اهانة بشأنهم ، وإخراج لهم من الساحة الاجتماعية.

اما الرسول (ص ) والمؤمنون من أصحابه فإنهم يجاهدون بأموالهم وأنفسهم ،

٢٤١

ويحصلون على الخيرات التي يخسرها القاعدون ، كما انهم يفلحون في الدنيا بالنصر والرفاه وفي الاخرة بجنات أعدها الله تعالى لهم تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك هو الفوز العظيم.

وهكذا يكرس هذا الدرس قيمة الايمان والجهاد ويضرب عرض الجدار القيم المادية الجاهلية التي تقوم على أساس الغنى والأنصار.

بينات من الآيات :

سحب الشرعية عن المنافقين :

[٨٤] صحيح ان الفرد الذي يموت يستقطب العطف والشفقة ، ولكن المنافق حين يموت يجب الا يحترم ، لان في ذلك تكريما لسيرته ولأعماله الفاسدة التي ارتكبها ، وبالتالي لخطه التحريفي ، لذلك نهى القرآن رسوله (ص ) عن إعطاء الشرعية لخط النفاق التحريفي في الامة عبر تكريمه للمنافقين بعد موتهم.

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ)

اي لا تجري عليه السنة التي كان الرسول (ص ) يجريها على قبور المؤمنين حيث يقف على قبر أمواتهم ساعة يستغفر لهم ، وعند ما جاء هذا الأمر الحاسم لم يصل النبي (ص ) على قبر منافق أبدا حتى قبض. (١)

(إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ)

اي انهم منحرفون فكريا بالله ورسوله ، وعمليا حيث انهم فاسقون لا يطبقون احكام الشريعة.

__________________

(١) المصدر ٥٧

٢٤٢

والصلاة والدعاء لمثل هؤلاء قد تعطي شرعية للكفر والفسق داخل المجتمع الاسلامي مما يعرض أساس هذا المجتمع لخطر كبير. ان وجود مثل هؤلاء داخل المجتمع قضية قد تفرضها واقعيات الحياة ، ولكن علينا الّا نساوي بينهم وبين المؤمنين الصالحين.

لا شرعية للعدة والعدد :

[٨٥] قد يستهوي القائد الاسلامي الذي يستهدف تجميع القوى داخل مجتمعة ، وتعبئة الطاقات من أجل بناء دولة الإسلام بعض المنافقين بما يملكونه من ثروة عريضة ومن مؤيدين ، ولكن القرآن الحكيم يحذّر من ذلك ويعطينا رؤية واضحة تجاه المال والأولاد (العدد والعدة ) هي ان كل ما في الحياة وسيلة الإنسان وأداته لتحقيق قيمه واهدافه فان كانت اهدافه وقيمه صالحة فأن الوسيلة سوف تصبح صالحة ونافعة والّا فهي وبال عليه.

(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا)

فالمال والولد ، وبتعبير أخر : العدة والعدد إذا لم يكونا وسيلتي خير وصلاح فهما عذاب وخبال ليس لصاحبهما فقط بل وأيضا لمن يتقرب اليه بسببهما ، فالذي يعجبه مال الأغنياء أو أولاد وأنصار الأقوياء ولا ينظر الى أعمالهم واهدافهم. فسوف يجر الى نفسه الويلات لأنه سوف يخضع لهم وسيرضيهم ويتنازل عن قيمه من أجلهم ، وإذا كان الحاكم الاسلامي هكذا وأراد مثلا استرضاء الاثرياء والأقوياء فعلى حساب من سيكون هذا الاسترضاء. أو ليس على حساب الفقراء والمستضعفين ، أو ليس يستدرجه الأغنياء والأقوياء الى التحيز لهم واعطائهم امتيازات غير قانونية؟! وبالتالي يجر المجتمع الى ذات العذاب الذي تورط فيه الأغنياء والأقوياء غير المؤمنين منهم بسبب المال والأنصار من غرور وفساد بسبب

٢٤٣

وجود الثروة والقوة من دون وجود قيم محددة وموجهة لهما.

ثم ان الثروة والقوة تكونان سببا لاستمرار الكفر حتى الموت ، وبالتالي للعذاب.

(وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ)

مواقف المجتمع من الجهاد :

١ ـ المنافقون

[٨٦] موقف هؤلاء الأغنياء من الجهاد وتحمل مسئوليتهم كأعضاء في المجتمع الاسلامي انما هو موقف اللامبالاة والميوعة ، فهم من جهة يريدون ميزات هذا المجتمع ، ولكنهم من جهة اخرى يرفضون اي عمل ايجابي من أجل هذا المجتمع. خصوصا في أيام الشدة.

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ)

فاغنياء المنافقين ـ أصحاب الطول ـ وهو المال والقوة ، يحاولون اضفاء صفة الشرعية على تقاعسهم عن الجهاد وبذلك يحاولون أخذ الاجازة من الرسول حتى يحسبهم الرسول من ذوي الاعذار ، والقاعدين عن الجهاد ، وهذا نوع من الامتياز الذي يطالب به أصحاب المال والقوة في المجتمع ، ولكن هل يمنحهم الإسلام ذلك؟ كلا.

[٨٧] قبل كل شيء يرفع الإسلام من قيمة الجهاد ويجعلها فوق قيمة الغنى والقوة ، ويذكرنا بان الذين يتقاعسون عن الجهاد لا يفقهون ما الذي يعملون

٢٤٤

بأنفسهم ، انهم يهبطون بأنفسهم الى مستوى الخوالف من النساء والضعفاء الذين اسقطوا من حساب المجتمع بسبب ضعفهم وعجزهم ، فكيف يريد هؤلاء الانتماء الى طائفة العجزة والضعفاء؟!

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ)

قال الزجاج : الخوالف النساء لتخلفهن عن الجهاد ويجوز ان يكون جمع خالفة في الرجال والخوالف والخالفة الذي هو غير نجيب. (١)

(وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ)

فلا يعرفون قدرهم الحقيقي ، وأنه مع الجهاد وتحمل المسؤولية يرتفع الفرد داخل المجتمع المسلم.

٢ ـ المؤمنون

[٨٨] وفي الطرف الاخر من الصورة نجد المؤمنين الذين يجاهدون بكل ما يملكون في سبيل الله ، وبذلك يرتفع شأنهم عند الله وعند الرسول (ص ) والناس في الدنيا والاخرة.

(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

فلهم المكاسب المادية التي ليست عذابا كما كانت عند المنافقين بل هي فلاح وسعادة ، ذلك لأن هذه الخيرات اكتسبت عن طريق عمل الخير ، وسوف تصرف في

__________________

(١) المصدر ٥٧

٢٤٥

سبيل المعروف والصلاح.

وبهذه الكلمة تكتمل رؤية الإسلام التي تحدث عنها القرآن في الآية السابقة حول المال والأنصار ، وهي انهما ان كانا قد اكتسبا بعمل صالح ووظفا من أجل اهداف صالحة فهما صالحان ويكونان سببا للسعادة والفلاح ، فالإسلام إذا لا يعطي حكما مطلقا وواحدا للثروة والقوة ، فلا يمجدهما مطلقا ولا يرفضهما مطلقا ، كما لا يصدر حكما كاسحا وواحدا على جميع الأغنياء والفقراء ، بل يربط حكمه على الثروة والقوة وأصحابهما بالأطار الذي وضعا فيه. فالحكم ايجابي إذا كانا نظيفين ، والا فهما عند الإسلام وبال وعذاب.

[٨٩] هكذا يرفع الإسلام قيمة العمل الصالح ، الذي يعتبر الجهاد القمة السامقة له داخل المجتمع المسلم ويربط سائر الظواهر به ، ويكمل الصورة ببيان عاقبة العمل الصالح في الاخرة ويقول :

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

فعلينا ان نبحث عن الفوز العظيم في الجهاد والعمل الصالح لا في المال والأولاد.

٢٤٦

سورة التوبة

وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢)

٢٤٧

المعذّرون والمعتذرون

هدى من الآيات :

كما اعتذر أولوا الطول كذلك بعض الاعراب حاولوا انتحال العذر ليؤذن لهم فلا يخرجوا ، بينما قعد آخرون من دون اي انتحال للعذر ، والواقع ان الكافرين عمليا بقيادة الرسول (ص ) لهم عذاب اليم ، وهنا يبين القرآن الحكيم الاعذار الواقعية التي ليست كتلك الاعذار التي جاء بها المنافقون والتي منها : الضعف المعجز عن الاشتراك في المعركة ، والمرض المقعد ، والفقر المعجز ، ولكن هؤلاء بدورهم ينبغي ان ينصحوا لله ولرسوله (ص ) فلا يخالطوا أعمالهم خيانة أو غشا وكذبا ، وإنما سقط الخروج عن هذه الفئات لأنهم محسنون وما على المحسنين من سبيل.

وهكذا لا يؤاخذ أولئك الذين قدموا الى الرسول (ص ) لياخذهم معه الحرب فلم يجد الرسول (ص ) ما يكفيهم لمؤنة الخروج فعادوا وقد فاضت عيونهم من الدمع حزنا على عدم مشاركتهم في الجهاد ، وأنهم لا يملكون نفقة الجهاد. ان هذا مثل واحد للنصح لله وللرسول.

٢٤٨

بينات من الآيات :

المعذرون من الاعراب :

[٩٠] وفي سياق بيان القرآن لطوائف المنافقين أخذ يعدد الاعراب الذين لما يدخل الايمان في قلوبهم ، والذين يعرفون ظاهرا من الدين ، وهؤلاء جاؤوا الى الرسول (ص ) ليأذن لهم بالانصراف عن الحرب بعد ان انتحلوا عذرا ، ولم يكن الهدف من بيان عذرهم الا الفرار من الجهاد لذلك عبر القرآن الحكيم عنهم :

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ)

ويبدو من معنى كلمة (المعذّر ) انه الذي يتكلف عذرا ويختلقه ، والهدف من مجيئهم كان الاذن للانصراف لا الاستفهام الحقيقي عن واجبهم الديني ، وفسر بعض المفسرين هذه الاية بطريقة اخرى فقال : الظاهر ان المراد بالمعذّرين هم أهل العذر كالذي لا يجد نفقة ولا سلاحا بدليل قوله : «وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا» .. الآية ، والسياق يدل على ان في الكلام قياسا لإحدى الطائفتين الى الاخرى ليظهر به لؤم المنافقين وخستهم وفساد قلوبهم وشقاء نفوسهم حيث ان فريضة الجهاد الدينية والنصرة لله ورسوله هيّج لذلك المعذرين من الاعراب حيث جاؤوا الى النبي (ص ) يستأذنونه ، ولم يؤثر في هؤلاء الكاذبين شيئا. (١).

(وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ)

هؤلاء قعدوا عن الحرب دون استئذان وذلك بسبب كذبهم على الله ورسوله.

(سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

__________________

(١) تفسير الميزان ج ٩ / ٣٦١

٢٤٩

ان هؤلاء قد يكونون ممن تتكامل شخصيته ويضحي مسلما حقيقيا بعد ان كان أعرابيا جاهلا وكاذبا يتشرد من الواجبات مع أو بدون انتحال عذر ، فحسابه على الله تعالى ، وقد يكشف عن جهله وكفره في المستقبل فيكون له عذاب اليم.

ويبدو لي من ظاهر هذه الآية : ان الاعراب نوع خاص من المنافقين وهم الذين ينافقون بسبب جهلهم وعدم رسوخ الايمان في قلوبهم لحداثة عهدهم بالإسلام ، ولتراكم الرواسب الجاهلية على قلوبهم ، ويرجى لهؤلاء الهداية ولذلك خصّ القرآن العذاب ببعض الاعراب وهم الذين كفروا منهم (دون جميعهم ).

من يجوز له التخلف؟

[٩١] ولكن من هو صاحب العذر الحقيقي ، الذي يجوز له التخلف عن واجب الجهاد؟

في الآيتين التاليتين توضيح لذلك :

الف : ـ ليس على الضعفاء الذين لا يتحملون جسديا مشاق الجهاد واجب الجهاد. وهؤلاء مثل المعوقين والمبتلين بالضعف العام ، والذين يبلغ ضعف بصرهم أو ضعف سمعهم أو ضعف اعصابهم أو ضعف قلبهم أو ما أشبه يبلغ حدا يمنعهم من الخروج للحرب فيجعلهم افراد غير صالحين للقتال أبدا.

باء : ـ وكذلك يسقط الجهاد عن المريض بأمراض خطيرة أو طويلة أو معدية ، أو مما يسبب منعا للخروج.

جيم : ـ وكذلك يسقط الجهاد عن الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقونه على أنفسهم أو على عوائلهم المفروض عليهم اعالتهم.

٢٥٠

دال : ـ كذلك يسقط الجهاد عمن لا تقدر الدولة الاسلامية تحمل نفقات خروجهم.

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ)

اي لا يكلفون فوق طاقتهم ، أو ما يسبب لهم الأذى والمشقة التي لا تحتمل.

جهاد المعذورين :

من هذه الكلمة يتبين : ان سقوط الجهاد عن الضعيف والمريض والفقير ليس مطلقا انما في صورة وجود الحرج والمشقة البالغة التي تختلف حسب اختلاف الظروف ، وحسب الأشخاص. من هنا كان الواجب ان يذكر القرآن المؤمنين بان الواجب النصيحة لله ولرسوله (ص ) حتى يكون كل فرد حسيب نفسه ورقيبها فيما يرتبط بوجود أو عدم وجود الحرج فربما يدعي الشخص انه مريض وحتى يبرهن على ذلك للناس ولكنه يعلم فيما بينه وبين الله انه ليس بمريض مرضا يمنعه عن الخروج لذلك أكد ربنا على هذه الحقيقة وقال :

(إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ)

والنصيحة هي خلوص النية والعمل الجدي ، وعلى الإنسان ان يخلص نيته لله فلا يدّعي كذبا انه معذور وهو ليس بمعذور. كما عليه ان يخلص عمله لله ، فاذا كان معذورا وقعد عن القتال فلا بد ان يقوم بدور معين من أجل المعركة ، ولو كان ذلك الدور هو الاعداد الحربي أو بث روح المقاومة في المجتمع أو محاربة اعمال الطابور الخامس مثل الاشاعات أو الأنباء الكاذبة.

٢٥١

انما الأعمال بالنيات :

إذا كان مجمل سلوك الفرد سليما وحسنا فان اشتراكه المباشر في المعركة أو تخلفه عنها بسبب عذر شرعي لا ينافي ايمانه وتقواه.

(ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ)

اي ليس على من كان محسنا وأراد فعل الخير فلم يقدر على القيام بكل الواجب سبيل المؤاخذة والعقاب ، والكلمة مطلقة ونستوحي منها : ان كل من أراد الخير وتحرك نحوه فسواء أصاب أو اخطأ. سدد في عمله أو لم يسدد. بلغ هدفه أو لم يبلغ فانه مجزي عند الله تعالى وليس عليه عقاب.

ومن هنا جاء في الحديث عن انس : ان رسول الله (ص ) لما قفل عن غزوة تبوك فأشرف على المدينة قال : «لقد تركتم في المدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم» قالوا : يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم في المدينة؟ قال : «حبسهم العذر» (١).

وانما أكد القرآن على هذه الحقيقة : «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ»

لأنه من الممكن ان يتكبر المقاتلون على العاجزين والمرضى فيؤذونهم بألسنتهم ، أو يحاولون منع بعض حقوقهم بحجة انهم لم يساهموا في المعركة ، فأكد القرآن على ان هؤلاء محسنون لأنهم أرادوا المشاركة فلم يقدروا ، ولذلك لا سبيل عليهم ، ولا تفوق أو استعلاء.

وقد يستبد بالمؤمنين ذوي الاعذار وسواس الشيطان فيوقعون أنفسهم في الحرج

__________________

(١) المصدر ٣٦٨

٢٥٢

الشديد لأنهم يخافون مثلا الا يكون الحرج قد بلغ حدا يمنعهم من الخروج واقعا ، وفي هذه الحالة لا سبيل على المحسنين ذوي النيات الصالحة ، والسلوك الاجمالي الصالح ، وأضاف سبحانه قائلا :

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

فحتى ولو كان هناك بعض التقصير فان غفران الله تعالى يجبره ويعوض المؤمن عن تقصيره.

[٩٢] كذلك لا حرج على من يريد الخروج ويسجل اسمه في قائمة المتطوعين للحرب ولكن الدولة الاسلامية لا تجد وسائل الحرب له. من سلاح أو ذخيرة أو حتى وسائل المواصلات.

(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ)

انك تجد في هؤلاء مثلا رائعا لذوي الاعذار الناصحين لله تعالى ولرسوله والمحسنين الذين تحدثت عنهم الآية السابقة. انهم ممتلؤون اندفاعا نحو المعركة الى درجة انهم يتفجرون بكاء حين لا يقدرون على المشاركة فيها.

و قد جاء في التفسير(نزلت هذه السورة في البكائين وهم سبعة جاؤوا الى رسول الله (ص ) فقالوا يا رسول الله احملنا فانه ليس لنا ما نخرج عليه فقال : «لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» (١).

وربما تدل هذه الآيات على ان المفروض على المسلم ان يكون مستعدا للجهاد

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ج ٥ / ٦٠

٢٥٣

بكل وسيلة ممكنة. فأن عجز فلا أقل باستعداده النفسي ، و قد جاء في حديث مروي عن النبي (ص ) :

«من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية».

٢٥٤

سورة التوبة

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦)

٢٥٥

المنافقون

بين ذل القعود وذلة الاعتذار

هدى من الآيات :

بعد ان بين السياق ذوي الاعذار المشروعة عاد ليؤكد على العلاقة مع الأغنياء المتخلفين عن الجهاد الذين يستأذنون الرسول (ص ) بالرغم من غناهم وقدرتهم على الخروج وذلك بسبب جهلهم باهمية الجهاد.

ويحاول هؤلاء تبرير مواقفهم امام المسلمين العائدين من المعركة ، وينهى الله من قبول اي عذر منهم لان مستقبلهم سوف لا يكون أفضل من ماضيهم ، ولذلك فان الله سبحانه سيرى أعمالهم ، ثم يردون الى عالم الغيب والشهادة ويجازيهم على أعمالهم لا أقوالهم وتبريراتهم.

وهم يتشبثون بالحلف الكاذب لتغطية جبنهم وخيانتهم ، ولكي يتركهم المسلمون فلا يوبخونهم على تقاعسهم ، والقرآن يأمر بتركهم. ولكن ليس بدافع الرضا عنهم ، بل انطلاقا من واقع رجسهم وصغر شأنهم ، وان مأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون.

٢٥٦

وحتى لو استطاع هؤلاء جلب رضا المسلمين عن طريق الحلف الكاذب ، فان الله تعالى لن يرضى عنهم ، لأنهم قوم فاسقون ، أعمالهم سيئة ، وقلوبهم فاسدة.

بينات من الآيات :

على من يقع الحرج؟

[٩٣] لتكريس قيم الرسالة التي تدور حول محور الايمان والعمل الصالح ، وضرب قيم الجاهلية التي تقدس الثروة والاثرياء ففي القرآن الحكيم ـ في آيات سابقة ـ عفى الله عن الضعفاء وعن ابن السبيل ، والمؤاخذة انما هي على الأغنياء غير المساهمين في الجهاد.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ)

ولكنهم يتهربون من القيام بمسؤولية الدفاع عن الرسالة.

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ)

اي النساء والصبيان والعاجزين عن الخروج.

(وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

فاختاروا لجهلهم الناشئ بدوره عن فسقهم البقاء مع العجزة ، ويبدو لي : ان البقاء مع العجزة أسقط قيمتهم الاجتماعية بل والغى بعض حقوقهم المدنية.

النقمة الجماهيرية :

[٩٤] لأنهم تخلفوا عن القتال وسقطوا عن أعين الناس تعرضوا لهجمات الجماهير المستضعفة ، لذلك أخذوا يعتذرون الى الناس حتى يعيدوا ماء وجههم

٢٥٧

الصفيق ولكن هيهات.

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ)

فماضيكم الذي عرفناه عن طريق الوحي مباشرة ، أو بصورة بصائر ورؤي زودنا الوحي بها ، فاستطعنا عن طريقها ـ كشف المنافقين وطبيعة تحركاتهم ـ كل ذلك الماضي دليل كذبكم ودجلكم ، كما ان المستقبل هو الآخر دليل. كذبكم في الاعتذار فمن يتوب بصدق الى الله يصلح اعماله في المستقبل اما أنتم فلستم تائبين حقا.

(وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ)

فيعلم الماضي والمستقبل ويعلم خفيات القلوب ، وخلجات الصدور ، وبالتالي يعلم ما وراء كل عمل من نية حسنة أو سيئة كما يعلم بالأعمال الظاهرة ، وهكذا لا تقدرون على تبرير أعمالكم الفاسدة والاعتذار منها ببعض الكلمات الفارغة ..

(فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

الرؤية الرسالية

وهذه الآية تدل على ان المؤمنين الصادقين يتسلحون برؤية رسالية تمكنهم من كشف طبيعة المنافقين ، ومن مظاهر هذه الرؤية النظر الى الفرد من خلال تاريخه الماضي ، واعمال المستقبلية ، دون الاكتفاء فقط بأقواله وتبريراته.

وبما ان المنافق مجتث الجذور ، متلون حسب المتغيرات ، وانه لا يريد الاستمرار في خطه مستقبلا لذلك فهو يتستر تحت ستار كثيف من الكلمات الفارغة والأقوال

٢٥٨

الكاذبة ، المؤكّدة بالأيمان ليعوض عن عمله بقوله ، وعن تصرفاته المتغيرة بتبريراته الواحدة المؤكدة ، لذلك فان كثيرا من البسطاء ينخدعون بأقواله وتبريراته. انما المؤمن الصادق ينظر الى عمل المنافق لا الى قوله ، فيتخلص من خطر عظيم هو الانخداع بالمنافق ، ذلك الخطر الذي وقعت فيه ـ ومع الأسف ـ شعوبنا اليوم بالنسبة الى الطغاة ، والى جيش المنافقين من خدمهم وحشمهم الذين يبررون أبدا تصرفاتهم بشعارات عامة وأنيقة فاذا مال الطاغية الى الشرق ترى الصحفي المأجور يحمد باسم الشرق حتى يجعله كعبة الطموح ، وإذا اتجه الطاغية غربا تراه يقدس الغرب ويكيل التهم كيلا ضد الشرق كما فعل قديما خادم حاكم نيسابور حيث ينقل المؤرخون انه طلب من خادمه ان يطبخ له ال (باذنجان ) فأخذ الخادم يعدد لسيده فوائد ال (باذنجان ) ولكن ما لبث الحاكم ان غير رأيه ، فأخذ الخادم يبين مضاره وكأنه سم زعاف ، فنهره الحاكم وقال : كيف تقول هذا ، وقد عددت قبل لخطات فوائد الباذنجان حتى ظننت انه دواء لكل داء. فقال الخادم : فداك أمي وأبي إنك تعلم بانني خادم لحاكم نيسابور ولست خادما للباذنجان.

ولو تسلحت شعوبنا برؤية الإسلام وأخذت تقيم الأشخاص والحكومات بأعمالهم وتاريخ حياتهم وانتظرت حتى ترى انجازاتهم الحقيقية إذا لرفضت ان تدفع قرشا واحدا لشراء الصحف المنافقة التي تطبل لكل طاغية وتخدع الناس بترديد شعارات فارغة لا أول لها ولا آخر.

[٩٥] وهكذا تجد المنافقين يتقنون صناعة الكلام لأنهم لا يحسنون عملا ، وكلامهم أبدا مؤكد بالأيمان لأنهم لا يريدون تأكيد كلامهم بالأعمال الواقعية.

(سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ)

٢٥٩

انهم يريدون السكوت عن جرائمهم ، بتصغيرها وتقليل خطورتها في أعين الجماهير ، ولكن على المؤمنين ان يعرضوا عنهم ويسكتوا عن جرائمهم لأنها لا تصلح بالكلام ، ولأنهم قد سقطوا كليا عن أعين الناس وانفصلوا عن الجماهير وأصبحوا رجسا قذرا نجسا.

(وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)

[٩٦] وأكد القرآن على ان هدف المنافقين من أيمانهم هو استرضاء الناس ، وعلى الناس الا يكونوا طيبين مع المنافقين الخبثاء فلا يرضوا عنهم. لأنهم لو رضوا عنهم فان الله لا يرضى عنهم بسبب أعمالهم الإجرامية ، واستمرارهم على نهجهم السابق.

(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)

نعم إذا غيروا واقعهم وتابوا عن فسقهم فان الله تواب رحيم.

وكلمة اخيرة : المؤمن يرضى برضا الله تعالى ويسخط لسخطه. وإذا كان ربنا غير راض عن المنافقين فهل يسمح لنا بالرضا عنهم؟

٢٦٠